أ.د. محمد البخاري: التبادل الإعلامي والتفاهم الدولي 21 من كتابي "التبادل الإعلامي في ظروف العلاقات الدولية المعاصرة".
21
التبادل الإعلامي والتفاهم الدولي
ويتحدد الإطار المثالي للتفاهم الدولي من خلال التبادل الإعلامي الدولي عن طريق توخي الموضوعية المجردة، والدقة في إبراز الوقائع والصدق، ووضع الجوانب المختلفة للموضوع والابتعاد عن التشويه، والسعي نحو الحقيقة، وهو ما يصعب تحقيقه. وتعتبر هذه الصورة مثالية بحد ذاتها وترتبط في معظم الأحيان بالحديث عن السلام العالمي والتفاهم والتعاون الدولي، ونبذ الصراعات بكل أشكالها، واللجوء إلى التفاوض لحل المشاكل والخلافات المحلية والإقليمية والدولية، والسعي إلى ما فيه خير البشرية، بما فيها إقامة سلطة تتعدى سلطة الدول ! ! وهو ما نجده في بعض نصوص القانون الدولي وخاصة عندما توضع هذه الصورة المثالية في محك التطبيق العملي. كما ونصادفها في كتابات الفلاسفة على مر العصور عند تناولهم لمواضيع التفاهم الدولي والتعاون بين الأمم. وعلى كل حال فإن العلاقات الدولية والظواهر الاجتماعية المختلفة تتسم بالدينامكية وسرعة الحركة والتغيير، وما هو مثالي صعب التحقيق اليوم قد يصبح سهلاً وواقعياً في فترة لاحقة. وما كان مثالياً وضرباً من الخيال قبل انهيار المنظومة الاشتراكية التي كان يقودها الإتحاد السوفييتي السابق، أصبح واقعياً بعد انهيارهما السريع والمفاجئ، وانتهاء الحرب الباردة بين الشرق والغرب التي أعقبت الحرب العالمية الثانية.
اللغات القومية والتفاهم الدولي
ومن المعروف أن العالم المعاصر يستخدم نحو 2900 لغة، بالإضافة إلى اللهجات المحلية المنبثقة عن تلك اللغات، مما يجعل من عملية التفاهم الدولي المطلوبة للترجمة الفورية والتحريرية مهمة شاقة وصعبة وباهظة التكاليف، إن كان خلال المؤتمرات واللقاءات الدولية، أم في وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية الموجهة للمواطنين الأجانب. لأن التبادل الإعلامي يعد في كثير من الحالات معوقاً للتفاهم الدولي، عندما لا يلتزم بالموضوعية، ويشوه الوقائع ويبرز وجهة نظر دون أخرى، وكثيراً ما يضع جوانب الموضوع التي تفيده فقط، ويتعمد التشويه خدمة طرف واحد من أطراف الصراع، مهاجماً أو مواجهاً الطرف الآخر من الصراع الدائر. بطريقة يتم فيها احتكار تفكير الإنسان، وتوجيهه دون إرادة منه، لمفاهيم تحتوي على جانب واحد من الحقيقة، وبتكرارها بصور وأشكال مختلفة يصبح الإنسان مقتنعاً بها، معرضاً عن الجانب الآخر من الحقيقة حتى ولو اطلع عليها بطريقة أو أخرى. ويفسر ذلك بأن التبادل الإعلامي الدولي، بالأساس هو وسيلة من وسائل تنفيذ السياسات الخارجية للدول، وبالتالي فهو يسعى لخدمة هذه السياسات والتفاعل من أجل ذلك مع الوسائل الأخرى لخدمة تلك السياسات، ومن هنا فإن الموضوعية أو عدم تشويه الوقائع أو الكذب، الذي يصاغ بشكل يراعى فيه عدم إمكانية اكتشافه، واستخدامه ببراعة للهجوم على الخصم، من خلال وضع جوانب الموضوع بتكتيك معين يسير في إطار تحقيق أهداف السياسات الخارجية للدول. ومن هنا نفهم واقع سوء توزيع مصادر الأنباء في العالم، عندما توظف الدول المتقدمة إمكانياتها الاقتصادية، وتقدمها العلمي والتكنولوجي في خدمة سياساتها الخارجية، وهي الأكثر نضجاً من غيرها من الدول الأقل تطوراً. ويبرز الواقع أيضاً أن الدول المتقدمة والغنية، تتحكم بوكالات الأنباء المؤثرة والرئيسية المسيطرة على جمع وتوزيع الأنباء حول العالم، بالإضافة إلى محطات الإذاعة المسموعة والمرئية وشبكات الكمبيوتر العالمية، والصحف والمجلات المنتشرة على نطاق عالمي، ووسائل الاتصال الحديثة وشبكة الأقمار الصناعية المخصصة للإستشعار عن بعد وللإتصالات ونقل البث الإذاعي المسموع والمرئي، والتي مكنت تلك الدول من إيصال واستقبال المعلومات الفورية دون أية حواجز تذكر من وإلى أية نقطة في العالم.
وجعل التطور العلمي والتكنولوجي الهائل في مجال الاتصال، من وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية سلاحاً خطيراً في أيدي القوى الكبرى والدول المتقدمة والغنية، للتأثير على الرأي العام العالمي وتوجيهه، وخاصة فيما إذا استخدمت وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية القوية والمسيطرة تلك، للتحريض على الحرب وإثارة التعصب الديني والقومي والعنصري، كما هو جار اليوم دون الدعوة للسلام ونصرة الحقوق المشروعة والتعاون والتفاهم بين الشعوب، ونبذ أي نوع من التعصب مهما كان نوعه، خدمة للإنسانية وتقدمها.