دراسة عن ميرزة أولوغ بيك
ميرزه محمد بن شاه روح بن تيمور أولوغ بيك غوراغان (1394-1449م) هو عالم فلك ورياضيات عظيم، كان من أبرز علماء
عصره، ورجل الدولة وحفيد الحاكم والقائد العسكري الشهير الأمير تيمور. والذي
حكم ما وراء النهر من عام 1411م وحتى عام 1449م.
السيرة الذاتية
ولد
أولوغ بيك (محمد طراغاي) بتاريخ 22/3/1394م بمدينة السلطانية على الأراضي
الأذربيجانية اليوم.
وبعد وفاة صاحب قيران العظيم في عام 1405م الذي أسس دولة
مترامية الأطراف، ضمت إلى جانب آسيا المركزية كل أراضي الشرقين الأدنى والأوسط من
البحر الأبض المتوسط وحتى شمال الهند ضمناً، انتقلت أملاكه من بعده إلى ورثته، وهم
أبنائه وأحفاده. وانتقلت زعامة أسرة التيموريين إلى شاه روح بن تيمور الذي
اختار هيرات عاصمة لحكمه.
وسلمت إدارة ماوراء النهر لإبن شاه روح الأكبر ألوغ
بيك حفيد الأمير تيمور. وفي عام 1409م أعلن ألوغ بيك حاكماً
لسمرقند، وبعد وفاة أبيه شاه روح في عام 1447م تولى ألوغ بيك زعامة
أسرة التيموريين.
ومنذ الصغر أظهر ألوغ بيك ميولاً كبيرة نحو
العلوم والفنون، وخاصة الرياضيات وعلم الفلك. وأسهمت المكتبة الضخمة التي جمعها
جده وأبيه في توسيع آفاقه الفكرية والعلمية، وكان يمضى فيها الكثير من أوقاته.
وحصل ألوغ بيك على تعليم متميز بمقاييس تلك
الأيام. وتمتع بذاكرة رائعة، وأتقن اللغات العربية والفارسية، وتمكن جيداً من
الشعر التركي (باللعة الأوزبكية القديمة)، وأجاد النظريات والأساليب الأدبية وشارك
في المناظرات الأدبية، ومارس كتابة الشعر. ودرس على أيدي أبرز العلماء المشهورين
في بلاط الأمير تيمور، آنذاك، وكان من بينهم: عالم الرياضيات والفلك كاظم
زاده رومي، الذي أطلع ألوغ بيك وهو في سن التاسعة على بقايا المرصد
الفلكي الشهير في ماراغ (جنوب أذربيجان). ويمكن أن يكون ذلك التصرف هو ما حدد
خياره المستقبلي لعلم الفلك.
وتحولت سمرقند أثناء حياة ألوغ بيك إلى أحد
المراكز العالمية للعلوم في القرون الوسطى. وفي سمرقند نشأت حول ألوغ بيك
مدرسة علمية كاملة في النصف الأول من القرن الخامس عشر ميلادي، جمعت أبرز علماء
الفلك والرياضيات، ومن بينهم: غياث الدين جمشيد كاشي، وقاضي زاده رومي،
وعلي كوتشي. وفي تلك الأيام عاش في سمرقند المؤرخ حافظي أبرو، الذي
ألف فيها مؤلفه الشهير عن تاريخ آسيا الوسطى، والطبيب الشهير مولانا نيفيس،
والشعراء سيراج الدين سمرقندي، وساكاكي، ولطفي، وباداخشي،
وغيرهم. وكانوا كلهم من أبرز شخصيات ذلك الزمان وآمنوا بقوة العقل الإنساني، وقوة
العلوم.
ريغستان
وخلال الأعوام الممتدة من عام 1417 إلى عام 1420م شيد ألوغ
بيك مدرسة في سمرقند، وكانت أول مجموعة معمارية تشيد في ريغستان. ودعى ألوغ
بيك لهذه المدرسة عدد كبير من علماء الفلك والرياضيات في العالم الإسلامي.
وشيد مدرستين في غيجدوان وبخارى. وشغلت المدارس التي شيدها ألوغ بيك وظيفة جامعات
اليوم. ولم تزل على واجهة مدرسة ألوغ بيك في بخارى كتابات تذكر أن:
"السعي للعلم من واجب كل مسلم ومسلمة".
وتركز شغف ألوغ بيك على علم الفلك، الذي شغل
حياته وحياة معاصريه من علماء الفلك أمثال: قاضي زاده رومي، وجمشيد غياث
الدين الكاشي،وعلي كوشتشي، وغيرهم. وكان من ثمرته بناء المرصد الفلكي
في سمرقند.
المرصد الفلكي في سمرقند
ويعتبر العلماء والباحثون أن تشييد المرصد الفلكي انتهى
خلال الفترة من عام 1428م وحتى عام 1429م. وكان المرصد الفلكي بناء فريد في ذلك
العصر. ومن أجل تأمين المبنى من الهزات الأرضية اختير لبنائه موضع حجري على سفح تل
كوخاك.
ووجهت الأداة الرئيسية مقياس السدس نحو خط الأفق من
الجنوب نحو الشمال. وبالإضافة للأداة الرئيسية أضيفت للمرصد غيرها من الأدوات
الفلكية.
وحجم مقياس السدس وتصميمه الناجح ساعد على تحديده معارف ألوغ
بيك العلمية ومعارف زملائه حيث تمكنوا من الرصد الفلكي بدقة. وبقيادة ومشاركة
عالم الفلك الكبير ألوغ بيك وضعت أهم المؤلفات في المرصد "زيجي
غوراغان"، "قوائم ألوغ بيك للنجوم". وتضمن الكاتالوك
مواقع 1018 نجماً، حددت بدقة متناهية في المرصد الفلكي بسمرقند ولأول مرة بعد هيبارهوس.
واعتبر وضع الكاتالوك الفلكي إسهاماً كبيراً ضمن كنوز علوم الفلك العالمية.
وبالإضافة لذلك جرت في المرصد الفلكي أعمال لتحديد ميل مسير
الشمس من خط الاستواء وطول السنة النجمية؛ عن طريق حساب قيم جيب الدرجة الواحدة، وهي
ثابتة في العلوم الفلكية الهامة، وتصل إلى المنازل العشرية الثامنة عشرة!
ودقق ألوغ بيك معلوماته أكثر من مرة وخرج بنتيجة مفادها أن أرقامه دقيقة. وفي عام
1437م حدد طول السنة النجمية: 365 يوماً و6 ساعات و10 دقائق و8 ثواني. وفسر لاحقاً
أن الخطأ في القياس كان بـ 58 ثانية فقط. وإذا أخذنا بعين الإعتبار أن طول السنة النجمية
تبلغ 31 مليون و558 ألف و150 ثانية، فتصبح واضحة الدقة العالية التي توصلت إليها
قياسات ألوغ بيك.
وكان العالم العظيم ألوغ بيك ضعيفاً في القيادة
العسكرية. وأمضى معظم وقته في المرصد الفلكي، وخصص وقتاً قليلاً لأعمال الدولة
والحكم. وكان إبن ألوغ بيك الأكبر عبد اللطيف، تحت تأثير القسم
المتزمت من رجال الدين، وأعلن الحرب ضد أبيه. وعرض على أبيه الحج إلى مكة المكرمة.
وفي الطريق إلى مكة المكرمة قتل ألوغ بيك على يد أحد الخونة بقرار من
المحكمة الشرعية.
وبعد مأساة مقتل ألوغ بيك العظيم دعت فئة متخلفة
من رجال الدين للقيام بتخريب المرصد الفلكي. وجرى طرد العلماء الذين عملوا في هذا
المركز العلمي الهام. وسرقت محتويات مكتبته القيمة، وخربت محتويات المبنى. وحتى
نهاية القرن الـ 17 الميلادي لم يبق منه أي شيء.
المرصد في مطلع القرن العشرين
ولكن وفاة عالم الفلك العظيم لم تطفئ نجمه الساطع. واضطر
تلميذ ألوغ بيك الوفي علي كوشتشي، على مغادرة موطنه سمرقند، وأخذ
معه كتاب "زيجي غوراغان" إلى أوروبا، ليصبح في متناول أجيال
عديدة من العلماء. وليشتهر اسم وأعمال ألوغ بيك في أوساط علماء أوروبا
وآسيا. وتضمن "كاتالوك نجوم السماء" الذي صدر في أوروبا في القرن
السابع عشر الميلادي صورة رسمها يان غيفيليه جمعت رمزياً بين علماء الفلك
العظام في العالم الذين عاشوا في مختلف بلدان العالم بمختلف العصور، وهم يجلسون
خلف طاولة على جانبيها كبار علماء الفلك، وبينهم صورة ألوغ بيك التي رسمها
الرسام دون أن يطلع على صورة له.
مؤلفاته
يعتبر كتاب "زيجي جديدي غوراغاني"
أو "غوراغاني القوائم الفلكية الجديدة" وبحق من أهم مؤلفات ألوغ
بيك العلمية، وهي التي انتهى من كتابتها في عام 1444م بعد ثلاثين عاماً من
العمل الدؤوب في الرصد الفلكي. وسرعان ما ترجم مرجع علم الفلك إلى اللغة اللاتينية
إلى جانب "المجسطي" لكلاوديوس بطليموس والقوائم الفلكية لملك قشتاله
ألفونسو الخامس عشر التي كانت من المراجع العلمية لعلماء الفلك في كل
المراصد الفلكية في أوروبا.
والأكثر صحة أن هذه القوائم تفوقت على كل المنجزات
المحققة في الشرق وفي أوروبا. وفي القرن السابع عشر الميلادي فقط تمكن تايكو برايي
من رصد كان أقرب بدقته من مقارنة الرصد الذي جرى في سمرقند، وبعد ذلك تمكن من
تجاوزه. ولا غرابة أن "زيجي أولوغ بيك" جذبت اهتمام علماء الفلك
في الشرق وفي أوروبا.
وتتألف "زيجي أولوغ بيك" من أربع أجزاء
كبيرة. حمل الجزء الأول منها اسم مشاهدات، وتضمن طرق حساب السنوات، المستخدمة عند
مختلف الشعوب الشرقية. وتضمن الجزء الثاني مسائل في علم الفلك التطبيقية، و تضمن الجزء
الثالث معلومات عن حركة المجرات المرئية من خلال نظام مركز الأرض في العالم، وخصص الجزء
الرابع لعلم النجوم وفق تصورات علماء القرون الوسطى.
وتضمن الكاتالوك 1018 نجمة رصدها أولوغ بيك وشكلت
بوصلة لعلماء الفلك والتاريخ، الذين يدرسون المدونات القديمة. وتؤكد جداول أولوغ
بيك للنجوم صحة أطلس بطليموس للنجوم الذي ترجم في "المجسطي".
وفي عام 1648م نشر في اكسفورد أحد مهود العلوم والثقافة الأكثر
قدماً في إنجلترا، وللمرة الأولى جزئياً المؤلف الرئيسي، الذي أنجزه أولوغ بيك
في المرصد الفلكي الشهير بسمرقند. وأعد الكتاب للنشر وعلق عليه جون غريوس
(1602-1652م)، بروفيسور وعالم الفلك في جامعة أكسفورد. ولاحقاً صدرت مقتطفات من
الكاتالوك في إنكلترة عدة مرات.
وبعد 17 عاماً من إصدار إكسفورد الأول، قام العالم وحارس
مكتبة بودليانسك في أكسفورد، والمستشرق الإنكليزي والمترجم توماس هايد (1636-1703م)
بإعداد وطباعة باللغتين الفارسية واللاتينية إصدار جديد لكاتالوك سمرقند تحت اسم "Tabulae Long,
ас Lat. Stellarum Fixarum, ex observatione Ulugh Beighi"،
Oxonii،
1665.
وصادف نشر كتالوك أولوغ بيك في أوروبا العصر الذي
زاد فيه الطلب على الكتالوكات الفلكية للقيام بأعمال رصد وحسابات دؤوبة، وحسبت
الأجزاء وكان تقدير رصاد السماء آنذاك عالياً. وتمتعوا بأهمية عملية كبيرة، لأنه ومنذ
العهود القديمة اعتمد التوجه على الطرق على سطح الأرض على رصد النجوم. وكان تحديد
الموقع ضروري جداً للتطور السريع الذي شهدته الملاحة البحرية، التي جاءت بعد
الإكتشافات الجغرافية العظيمة.
وبعد مرور 25 عاماً على ما أصدره هايد في إكسفورد،
أخذت معلومات قوائم أولوغ بيك مكاناً لها على صفحات كتاب "Prodromus Astronomiae"
الذي نشره في جدانسك عالم الفلك البولوني البارز يان غيفيليا (1611-1687م).
وأجريت فيه مقارنة بين المعلومات التي أوردها أولوغ بيك مع غيرها من
المعلومات التي توفرت في كتالوكات ذلك الوقت: بطليموس، وتايكو برايي،
وريتشيولي، والأمير غاس، وغاليلي.
وفي عام 1839م نشر المستشرق الفرنسي ل.أ. سيديو
(1808-1876م) جزء من قوائم أولوغ بيك تحت اسم "Tables astronomigue d'Oloug Beg, commentees et publiees avec le texte en regard"،
Tome I، I fascicule،
Paris،
1839.
وفي النهاية جاء تحليل مفصل
لكاتالوك أولوغ بيك للنجوم، بني على دراسة 8 مخطوطات
محفوظة في مكتبات بريطانيا العظمى، ونشرها إ.ب. نوبل في الولايات المتحدة
الأمريكية عام 1917 تحت اسم "Ulugh Beg's Catalogue of Stars. Revised from all Persian Manuscripts Existing in Great Britain".
والجدير بالذكر أن خزائن الكتب في
أوروبا وآسيا تضم عشرات النسخ المخطوطة لـ"زيجي". وهكذا غدت
قوائم أولوغ بيك للنجوم الكلمة الأخيرة في علم
الفلك في القرون الوسطى قبل اختراع التلسكوب.
وتراث أولوغ بيك العلمي الغني يشهد على أنه كان ليس ابناً عظيماً للشعوب
الإسلامية فقط، بل وموهبة إبداعية قدمت إسهاماً قيماً لتطوير العلوم والحضارة الإنسانية.
ولهذا وبعد مرور عدة قرون وحتى الآن بقي اسم أولوغ بيك رمزاً يوحد شعوب الشرق والغرب من أجل الأهداف النبيلة.
ويدرس تراث أولوغ بيك العلمي والمعنوي في الوقت الراهن في أبرز المؤسسات
التعليمية والمراكز العلمية في العالم. وبمبادرة من رئيس جمهورية أوزبكستان إسلام
كريموف أطلق اسم هذا العالم البارز على الجامعة القومية في أوزبكستان، وهو ما
يشهد على المقدرات العلمية والتربوية العالية التي تتمتع بها جمهورية أوزبكستان.
واحتفلت الساحة الدولية في عام
1994م بذكرى مرور 600 عاماً على ميلاد هذا العالم، وبهذه المناسبة جرت عدة نشاطات
بمشاركة علماء ومتخصصين وشخصيات إجتماعية أجنبية.
ونظم في باريس عام 2009 مؤتمراً
علمياً دولياً صادف الذكرى 615 لميلاد ميرزه أولوغ بيك. وشارك في أعمال المؤتمر أكثر من
130 عالم ومندوب عن مختلف المنظمات الدولية.
وأثبت هذا المؤتمر مرة أخرى عظمة
الإهتمام بتراث ميرزه أولوغ بيك المعنوي والعلمي في كل العالم. خاصة
وأنه في "كاتالوك
نجوم السماء" الذي صدر في أوروبا في القرن السابع عشر الميلادي صورة
رسمها يان غيفيليه جمعت رمزياً بين علماء الفلك العظام في العالم الذين
عاشوا في مختلف بلدان العالم وبمختلف العصور، وبينهم صورة لابن الشعب الأوزبكي
العالم العظيم ألوغ بيك.
كتبها: أ.د. محمد البخاري
بتاريخ 4/9/2013