القائم بالاتصال
القائم
بالاتصال
كتبها: أ.د. محمد البخاري.
القائم بالاتصال:
في
ظروف العولمة التي أحاطت بالعالم مع نهاية القرن العشرين أصبحت المؤسسات الإعلامية
عبارة عن شبكات عالمية ضخمة، تتصارع داخلها المصالح الحيوية للدول الغنية المهيمنة
من خلال إمكانياتها الاقتصادية والتقنية والتكنولوجية. وتحولت كل مؤسسة إعلامية
إلى نظام شديد التعقيد.
فشبكات
الإنترنيت التي تجمع وتوزع معلومات مكثفة من جميع أنحاء العالم، رغم المسافات
الشاسعة التي تفصل بينها، وتضعها في متناول الراغبين أينما كانوا، تعاني من
محدودية الطلب على موادها الإعلامية مقارنة بالعرض الذي يتزايد كل دقيقة. وقد لا
ينطبق هذا الوضع على الولايات المتحدة الأمريكية والدول الصناعية المتقدمة. لأن
التقدم التكنولوجي المتلاحق في هذه الدول قد غير مسار الإنتاج ونشر المواد
الإعلامية من خلال استخدام أجهزة الحاسب الإلكتروني "الكمبيوتر"،
والأقمار الصناعية، ووسائل الاتصال المتطورة لجمع ونشر المعلومات التي تطالعنا بها
الأخبار اليوم بالحرف والصوت والصورة. وأصبح تدفق المعلومات في وضع يصعب مقاومته
مهما بلغت قوة الدولة التي تسعى لاحتواء هذه المعلومات أو مصادرتها.
ولكن
هذا الكم الهائل من المعلومات لا يجعلنا نصدق أن كل سكان العالم يستقبلون
المعلومات من خلال شبكات الاتصال العالمية. مثل شبكة التلفزيون العالمية CNN، التي تستوعب عمل 35 مراسلاً
أجنبياً في 23 وكالة أجنبية، مقابل 500 مراسل لـ 100 وكالة أنباء مدعمة بالمحطات
السلكية الرئيسية. وتصل أخبارها إلى 3% من سكان العالم فقط، لأن أربعة أخماس سكان
العالم لا يملكون أجهزة استقبال للإذاعة المرئية.
ورغم
النبوءة بزيادة عدد الذين يستخدمون شبكة المعلومات الإلكترونية الانترنيت من خلال
أجهزة الكمبيوتر إلى ستة ملايين نسمة حتى مطلع القرن الحادي والعشرين. إلا أن
التقرير السنوي للأخبار السلكية سجل نقصاً في عدد المراسلين والصحفيين في وكالات
الأنباء المحلية والعالمية، وحتى في أكبر الشبكات الإخبارية العالمية كرويترز،
و CNN،
و AFP لتغطية
أنباء جميع أنحاء العالم.
ومن
الملاحظ أيضاً أن ظهور الإعلام المرئي قد أدى إلى هبوط الطلب على الإعلام المطبوع.
فقد ظل عدد نسخ الصحف في الولايات المتحدة الأمريكية مثلاً من عام 1965 وحتى عام
1995 على حاله 59 مليون نسخة، رغم زيادة عدد السكان من 185 مليون نسمة إلى 260
مليون نسمة. أما بالنسبة للمادة الإخبارية ومحتوياتها، فإن التحول من الكلمة
المطبوعة إلى الكلمة المرئية قد أصبح ظاهرة أكبر من كونها مجرد تغيير في وسيلة
الاتصال الجماهيرية. والكل يعلم بأن جهاز استقبال الإذاعة المرئية قد احدث تغييراً
جذرياً في طريقة تفاعل الجمهور الإعلامي مع الأحداث. وأن السياسيين والدبلوماسيين
فهموا أن الإذاعة المرئية أكثر ملامسة للمشاعر والأحاسيس من غيرها. وأن لها تأثير
فعال على صناعة السياسة الخارجية أكثر من أي وسيلة اتصال وإعلام جماهيرية أخرى.
وعلى
سبيل المثال حذر السياسيون عبر القنوات الإذاعة المرئية السياسة الخارجية
الأمريكية من التورط بأي تدخل عسكري خارجي بعد التدخل العسكري الأمريكي في حرب
فيتنام، والهجوم الشرس الذي شنه الرأي العام داخل الولايات المتحدة الأمريكية، على
الإدارة الأمريكية. وهي الأسباب نفسها التي دفعت بالرئيس جورج بوش الأب لوقف
العمليات العسكرية الناجحة ضد العراق عام 1991 خشية تصاعد سخط الشعب الأمريكي إذا
ما تورط أكثر من اللازم في حرب الخليج، وهو الموقف الذي اعتمد عليه الرئيس كلينتون
في الامتناع عن ما أقدم علية الرئيس جورج بوش الابن عام 2003 بعد التعاطف الذي حصل
عليه نتيجة للأحداث الإرهابية التي حدثت في الولايات المتحدة الأمريكية عام 2001
وصدمت الشعب الأمريكي ليؤيد بمعظمه اجتياح القوات الأمريكية وقوات التحالف الدولي
بموافقة الشرعية الدولية لأفغانستان في نفس العام والعراق رغم اعتراضات الشرعية
الدولية عام 2003 وما رافقها حتى من مخالفات صريحة لمبادئ الحقوق الدولية التي
تعتبر الولايات المتحدة الأمريكية نفسها المدافع الأول عنها.
والصورة
الإعلامية اليوم تختلف كثيراً عنها بالأمس، بعد انتهاء الحرب الباردة بين الولايات
المتحدة الأمريكية والإتحاد السوفييتي السابق. والتي تعتبر نقطة التحول في تحول
الاستهلاك الإعلامي الأجنبي حتى في الولايات المتحدة الأمريكية نفسها. فقد كانت
وسائل اتصالها الإعلامية الجماهيرية تركز في السابق على قطبي الحرب الباردة، وكان
الجانب الذي تمثله الولايات المتحدة الأمريكية يعتبر الجانب الطيب في مضمونها،
بينما مثل الإتحاد السوفييتي السابق الجانب الشرير في مضمونها. وكانت الصورة في
مضمون المادة الإعلامية تمثل أن الولايات المتحدة الأمريكية تدعو إلى الحرية
والديمقراطية وزيادة الثروة والرخاء، وأن التحالف معها إيجابي. بينما انعكست صور
الإتحاد السوفييتي السابق في مضمون تلك المادة الإعلامية كمثال لمساوئ النظم
الشمولية والقمع والحرمان. وأن التحالف معه سيء.
وأنهى
انهيار الإتحاد السوفييتي السابق قضية التحيز في مضمون المادة الإعلامية لوسائل
الإعلام الجماهيرية الأمريكية. وفتر حماس الجمهور الإعلامي داخل الولايات المتحدة
الأمريكية نحو أخبار وأحداث الشعوب الأخرى، مع زوال التهديد النووي السوفييتي ضد
الولايات المتحدة الأمريكية. وهو ما أثبتته الدراسات العلمية التي نفذتها المنظمات
المهنية والعلمية، وتناولت تأثير انتهاء الحرب الباردة على شبكات التلفزيون
العالمية، وأظهرت انخفاض كمية المواضيع والأخبار الأجنبية من 35% إلى 23%.
بينما
كانت هذه الشبكات تخصص خلال سبعينات القرن العشرين 40% من الوقت المتاح لتغطية
الأنباء الأجنبية. وانخفض هذا الوقت عام 1995 إلى 13,5%، كما وتراجعت بعض الشبكات
الإخبارية الرئيسية في الولايات المتحدة كـ NBC، و CBS، و ABC عن تسجيل وتغطية الأخبار
والأحداث الجارية في الدول الأجنبية، بينما استمرت شبكة CNN في محاولتها تغطية الأنباء
العالمية. رغم تزايد عدد الأقمار الصناعية ووسائل الاتصال المتطورة تكنولوجياً.
وعندما
ندرس ما يحدث داخل المؤسسات الإعلامية نشعر بمدى تعقد وتشابك أعمالها. ففي داخل
تلك المؤسسات الإعلامية تتخذ كل دقيقة قرارات هامة وخطيرة. ونظراً لأهمية تلك
القرارات فلابد أن نعرف الأسلوب الذي يتم من خلاله اتخاذ تلك القرارات، ومن يتخذها
فعلاً، وطبيعة القائم بالاتصال في تلك المؤسسات، والعوامل التي تؤثر على اختياره
للمواد الإعلامية.
المقالة التالية نطرية حارس البوابة