المصالح
المشتركة في العلاقات العربية الأوزبكستانية
تأليف: أ.د. محمد البخاري: صحفي عربي مقيم في جمهورية أوزبكستان مستشار في العلاقات الدولية وأستاذ في كلية العلاقات الدولية والاقتصاد بمعهد طشقند الحكومي العالي للدراسات الشرقية
طشقند
– 2002
الفهرس: تمهيد؛ الفصل الأول: أوزبكستان، الأمة
والدولة والتاريخ: الجذور التاريخية للشعب الأوزبكي؛ أوزبكستان من الاحتلال الروسي
إلى الاستعمار السوفييتي. الفصل الثاني: أوزبكستان بناء السيادة والاستقلال: بناء
الدولة الحديثة وتوفير الشروط اللازمة لبنائها؛ تحقيق التنمية بوصفها الهدف
الأساسي من بناء الدولة الحديثة. الفصل الثالث: تدعيم التجربة الديمقراطية
الأوزبكستانية: القاعدة القانونية للانتخابات في جمهورية أوزبكستان؛ الانتخابات
البرلمانية الأوزبكستانية؛ القوى السياسية على الساحة الأوزبكستانية؛ سطور من حياة
إسلام كريموف. الفصل الرابع: سياسة أوزبكستان الخارجية: فلسفة السياسة الخارجية
الأوزبكستانية؛ إستراتيجية التكامل مع المجتمع الدولي؛ وظيفة السياسة الخارجية
ووسائلها؛ السياسة الأوزبكستانية مع جمهوريات رابطة الدول المستقلة؛ السياسة
الأوزبكستانية مع الدول المجاورة لآسيا المركزية؛ السياسة الأوزبكستانية مع دول
أوروبا الغربية وشمال أمريكا؛ منظمة الأمم المتحدة في السياسة الخارجية
الأوزبكستانية؛ السياسة الخارجية الأوزبكستانية، وتشجيع الاستثمار الأجنبي؛
إستراتيجية الأمن الإقليمي في السياسة الخارجية الأوزبكستانية. الفصل الخامس:
العلاقات العربية الأوزبكستانية: الجذور التاريخية المشتركة للعرب والأوزبك؛
المصالح الأوزبكستانية العربية؛ دور أوزبكستان في إبراز الوجه المعتدل للإسلام في
مواجهة التطرف الديني؛ الدول العربية ميدان لتنوع البدائل في السياسة الخارجية
الأوزبكستانية؛ العلاقات الثنائية العربية الأوزبكستانية. الفصل السادس: العرب في
ما وراء النهر: أصول عرب آسيا المركزية؛ العرب في عصر الأمير تيمور؛ موقف
الاستشراق الروسي من عرب آسيا المركزية؛ الاستثمارات العربية في مشاريع التنمية
الاقتصادية الإنتاجية تعزز الشخصية العربية داخل المجتمع الأوزبكستاني؛ إنتاج
الذهب في أوزبكستان: الواقع والآفاق. الخاتمة. المراجع المستخدمة في الكتاب. الدول
الأجنبية حسب تاريخ اعترافها باستقلال جمهورية أوزبكستان. عضوية أوزبكستان في
المنظمات والهيئات الدولية.
تمهيد: طريق جمهورية أوزبكستان نحو الاستقلال
امتد لفترة زمنية طويلة عبر قرون عدة، مرت خلالها بعدد من المراحل التي بحث خلالها
الشعب الأوزبكي عن هويته القومية المتميزة عن سواه من شعوب العالم. ويطالعنا
التاريخ بمدى التضحيات الجسام التي قدمها الشعب الأوزبكي، على الأرض التي عاش
ويعيش عليها منذ القدم، للتخلص من شتى أنواع الغزو الخارجي والتسلط الاستعماري
الذي تعرض له خلال حقب متتالية من التاريخ الإنساني.
وأوزبكستان المستقلة اليوم هي دولة فتية تعددت
فيها القوميات وتداخلت بشكل عجيب، الأمر الذي فرض على الشعب الأوزبكستاني واجب
التخلي عن رابطة قومية محددة، والتمسك بالولاء للدولة كأساس، والهوية الإنسانية
التي تجمع اليوم كل الشعوب التي تعيش على أرضها العريقة. وهو ما سمح لهذا الشعب
الخير المعطاء شعوراً خاصاً من الانتماء لأمة عظيمة يمتد تواجدها الجغرافي على
مساحات شاسعة تتجاوز وتفوق الحدود السياسية لدولة واحدة في المنطقة التي عرفت في
أحقاب تاريخية متلاحقة بأسماء عدة، منها بكتيريا، وخوارزم، وبرثي، والصغد، وما
وراء النهر، وتركستان، وتركستان الروسية، وآسيا الوسطى وقازاقستان السوفييتية،
وأخيراً آسيا المركزية التي تضم اليوم خمسة جمهوريات مستقلة شقيقة هي: أوزبكستان،
وقازاقستان، وتركمانستان، وقرغيزستان، وطاجكستان.
وأوزبكستان منذ القرن السادس عشر الميلادي
عاشت مرحلة ممتدة ضمن عالم بحثت فيه عن أسباب تدعيم مفهوم الدولة القومية، واستمر
الأوزبك منذ ذلك الحين في البحث عن هوية خاصة متميزة تجمع شملهم مع أبناء القوميات
الأخرى الذين يعيشون على أرض أوزبكستان المعاصرة، دون أن يفقدوا هويتهم القومية
وانتمائهم الشامل الذي يؤكد الانتماء للوطن الواحد، وهو ما نجحت به جمهورية
أوزبكستان بعد استقلالها الفتي الذي تجاوز العقد الواحد بقليل من التاريخ المعاصر.
وجاء نجاح جمهورية أوزبكستان في حل معضلة
الانتماء للوطن، محققة الاستقرار الذي تحتاجه لإنجاز خطط التنمية والإصلاحات
الجذرية والمستمرة فيها منذ اللحظات الأولى للاستقلال. وجاء هذا النجاح في مصلحة
الجمهوريات الأخرى أيضاً المجاورة والمستقلة حديثاً في آسيا المركزية، خاصة وأن
أوزبكستان تعتبر أكبر تلك الجمهوريات من حيث عدد السكان، وتملك من التراث الثقافي
والتاريخي العريق، ومن الموارد الطبيعية والقدرات البشرية المؤهلة، ما يرشحها للعب
الدور القيادي الهام في المنطقة، ويرسخ من موقعها الهام بين الدول المجاورة، ويعزز
من شخصيتها داخل المجتمع الدولي.
والحديث عن الاستقلال الذي جاء بالطرق الديمقراطية
ودون إراقة للدماء في الحادي والثلاثين من شهر آب/أغسطس عام 1991م، إثر القرار
التاريخي الهام الذي اتخذه بالطرق الديمقراطية الشرعية، المجلس الأعلى
الأوزبكستاني (البرلمان)، ونص على إعلان استقلال جمهورية أوزبكستان عما كان يعرف
بالاتحاد السوفييتي.
وهذا الحديث لابد أن يمر عبر ذكريات الشعب
الأوزبكستاني عن فترة النضال التي اعتمد خلالها على النفس والصبر والأناة أساساً
في مواجهة مستعمر جبار قوي. ربط مصير الشعب الأوزبكستاني بموسكو طيلة فترة زادت عن
المائة والستة والعشرين عاماً، منذ اجتياح جيوش الإمبراطورية الروسية لمدينة طشقند
في حزيران/يونيو عام 1865م، واستمرار تلك الجيوش بالتهام المزيد من أراضي تركستان
بالتدريج مبتدئة من إمارة قوقند، فإمارة خيوة، إلى أن أكمل البلاشفة ما بدأه
الأباطرة الروس، عندما أطبقت جيوشهم الجرارة والمجهزة بأحدث الأسلحة والعتاد
الحربي، على عاصمة إمارة بخارى في 2/9/1920م.
ولم يزل التاريخ المعاصر يذكر النضال العنيد
للشعب الأوزبكستاني للتصدي لحملات الاستيطان وفرض اللغة والثقافة الروسية، التي
استمرت حتى عشية إعلان الاستقلال. وجاء قرار الاستقلال التاريخي، في وسط أجواء
اتسمت بالتوتر الشديد داخل الاتحاد السوفييتي السابق، خلال الفترة الأخيرة من حكم
أول وآخر رئيس لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية ميخائيل غورباتشوف. فترة
إعادة البناء "البريسترويكا" التي اتصفت بحالة شديدة من الغليان السياسي
والاجتماعي والاقتصادي، إلى أن وقع المارد السوفييتي في دوامة الصراعات القومية
والعرقية التي نالت من الاستقرار السياسي الذي كان يتمتع به في الصميم، وفقد
نهائياً قدرته الفائقة على الضبط والحل والربط والحفاظ على الأمن في الإمبراطورية
مترامية الأطراف التي شغلت حوالي سدس اليابسة من الكرة الأرضية. وعجزت الحكومة المركزية
والشعارات الماركسية في الحيلولة دون اشتعال الفتنة القومية والعرقية والطائفية في
أنحاء متفرقة من البلاد. مما ترتب عنه خلق حالة من الفراغ السياسي. لم تجد معه
جمهورية أوزبكستان سوى مخرجاً واحداً، كغيرها من جمهوريات الاتحاد السوفييتي
السابق، وهو إعلان الاستقلال والخروج من الدوامة الرهيبة المنذرة باشتعال نار
يستحيل إطفاؤها لو تأخر إعلانه. بعد أن عجزت الأجهزة الأمنية المركزية السوفييتية
تماماً عن حماية أمن واستقرار المواطن السوفييتي.
ومن الخطأ الأخذ بما يعتقد به البعض من
المحللين السياسيين الغربيين، الذين يقولون بأن الاستقلال قدم لأوزبكستان ولغيرها
من دول آسيا المركزية على طبق من ذهب، وأنه فرض عليها فرضاً. مستندين في ذلك إلى
غياب حركات المقاومة الثورية، وموجات المقاومة الشعبية للوجود الروسي في المنطقة،
وحصولهم على الاستقلال بالطرق السلمية والديمقراطية ودون إراقة للدماء. وما شاع من
أن روسيا التي قضت على حرية شعوب المنطقة خلال القرن التاسع عشر، عادت ومنحتهم
الحرية والاستقلال في العقد الأخير من القرن العشرين. وما روجه البعض الآخر من أن
جمهوريات آسيا المركزية كانت تعيش على حساب موسكو، وأن الاستقلال ليس من مصلحتها. وهذا
الاعتقاد خاطئ تماماً، لأنه يتجاهل المنطق والحقائق التاريخية الثابتة والمعاصرة.
ولأن غياب العنف المسلح وإراقة الدماء أثناء النضال ضد الاحتلال الأجنبي، لا يعني
البتة أن تلك الشعوب لم تسعى للاستقلال والحرية. ولا يعني عدم وجود أساليب أخرى
للنضال ضد الاحتلال الأجنبي، ينتهي بالحصول على الحرية والاستقلال، والأمثلة على
ذلك كثيرة ولعل تجربة المهاتما غاندي التي أدت إلى استقلال الهند في أواسط القرن
العشرين بعد المقاومة البعيدة عن العنف في مواجه الشعب الهندي الأعزل من السلاح،
لإمبراطورية عاتية لا تغيب عن ممتلكاتها الشمس آنذاك، خير مثال على ذلك.
والحقيقة الثابتة التي يجب أن يعرفها الجميع
اليوم أن أوزبكستان كغيرها من شعوب آسيا المركزية، لم تكن في يوم من الأيام عبئاً
اقتصاديا على موسكو. بل كانت مخزناً ضخماً من الموارد الطبيعية والثروات الطبيعية
الهائلة التي استنزفتها موسكو بطريقة فظة لفترة امتدت لأكثر من قرن من الزمن. وما
نتج عن نهب ثروات أوزبكستان من آثار بيئية خطيرة تعاني منها دول المنطقة اليوم،
ومشكلة حوض بحر الأورال هي أسطع مثال عليها. هذا إذا لم نتحدث عن الآثار السلبية
لتحويل الأراضي الزراعية في أوزبكستان إلى مصدر لزراعة القطن الخام للآلة الصناعية
الروسية، وما نتج عنه من آثار مدمرة للدورة الزراعية فيها.
وجمهورية أوزبكستان تمتعت دائماً بموارد
طبيعية، وثروات غنية، وموارد بشرية هائلة تكفيها للاعتماد على الذات، والاستغناء
عن معونة الآخرين. وأن تلك الموارد والثروات كانت السبب الأول للأطماع
الإمبراطورية الروسية ومن ثم البلاشفة الماركسيون للاستيلاء عليها واغتصابها
بالقوة المسلحة. وجاء الاستقلال ليمنحها حقها الطبيعي في استغلال ثرواتها وتطوير
مواردها الوطنية بما يلبي مصالحها القومية العليا.
ولا يمكن لأحد أن يتجاهل السجل الحافل للشعب
الأوزبكي في مقاومته للاستيطان والسيطرة وفرض الثقافة الروسية عليه طيلة فترة
الاحتلال الروسي، بدأً بعهد الإمبراطورية الروسية، وانتهاءً بالعهد السوفييتي. ذلك
النضال الذي تمثل بالدفاع عن الذات الثقافية، والتمسك بالتقاليد القومية
الأوزبكية، والعادات والتقاليد المستمدة من الدين الإسلامي الحنيف. ولم يزل
التاريخ يذكر حتى اليوم ضحايا المقاومة المسلحة الباسلة، التي قدمها الشعب
الأوزبكي وشعوب آسيا الوسطى الأخرى ضد الاحتلال الروسي. وبلغت قمتها في العشرينات
والثلاثينات من القرن العشرين وراح ضحيتها آلاف الشهداء، على درب الحرية
والاستقلال، وآلاف، آلاف المشردين الذين انتشروا في المشرق العربي خاصة، وفي بعض
الدول المجاورة وعرفوا بالبخاريين نسبة لإمارة بخارى التي سقطت في أيدي البلاشفة
الروس عام 1920، كما سبق وذكرنا، وقبلها عرفوا بالتركستانيين.
ولم يكن الاستقلال صدفة على طريق الشعب
الأوزبكي الذي تطلع دائماً نحو الحرية. بل تابع نضاله العادل بشتى الصور، حتى جاءت
اللحظة المناسبة مع بروز الضعف والوهن في تركيبة الدولة السوفييتية. والعبرة
بالحصول على السيادة والاستقلال، لا بإراقة الدماء الذكية، والتي أثبت النضال
السلمي للشعب الأوزبكي إمكانية تجنبها لبلوغ النتيجة السامية وهي السيادة
والاستقلال بأقل الخسائر.
وقد مهد لاستقلال أوزبكستان القرار التاريخي
الذي اتخذه المجلس الأعلى لجمهورية أوزبكستان السوفييتية الاشتراكية في آذار/مارس
عام 1990، بإحداث منصب رئيس الجمهورية. كقاعدة يمكن أن تتفق عليها كل القوى
السياسية على الساحة الأوزبكستانية لتحقيق الاستقلال والسيادة بالطرق السلمية،
والانتقال الهادئ من الحكم السوفييتي، إلى بناء الدولة الديمقراطية المستقلة ذات
السيادة. وتجنبت أوزبكستان بهذا القرار التاريخي المرور بمرحلة الانتقال الصعبة ضمن
إطار النظام الجديد الذي اختارته لنفسها. وتبعه القرار التاريخي الحاسم للمجلس
الأعلى (البرلمان) الأوزبكستاني بإعلان استقلال جمهورية أوزبكستان عن الاتحاد
السوفييتي السابق في 31 آب/أغسطس عام 1991، وإعلان اليوم الأول من أيلول/سبتمبر
عيداً وطنياً يحتفل به الشعب الأوزبكي وقيادته كل عام.
الفصل الأول: أوزبكستان الأمة والدولة
والتاريخ: تقع جمهورية أوزبكستان من الناحية الجغرافية في قلب جمهوريات آسيا
المركزية. ولها حدوداً مشتركة يبلغ طولها 2203 كم مع قازاقستان من الشمال والغرب،
ومع قرغيزستان بطول 1099 كم من الشرق، ومع طاجكستان بطول 1161 كم من الشرق والجنوب
الشرقي، ومع تركمانستان بطول 1621 كم من الجنوب الغربي، ومع أفغانستان بطول 137 كم
من الجنوب. وبذلك يبلغ طول حدودها الدولية مع دول الجوار 6221 كم. ولهذا حرصت
جمهورية أوزبكستان منذ اللحظة الأولى لاستقلالها الفتي على إتباع سياسة التعايش
السلمي وحسن الجوار وعدم التدخل بالشؤون الداخلية للدول المجاورة. حرصاً منها على
سلامة حدودها القومية مع تلك الدول. وتبلغ مساحة جمهورية أوزبكستان 447,400 كم2،
منها 425,400 كم2 يابسة والبقية عبارة عن مسطحات مائية مختلفة بين أنهار وسدود
وبحيرات إضافة للجزء الخاص بها من بحر الأورال. وبذلك تزيد مساحتها عن مساحة كلاً
من بريطانيا وبلجيكا والدانمرك وسويسرا والنمسا مجتمعة. وأوزبكستان من الناحية
الطبوغرافية مناطق صحراوية منبسطة، يخترقها مجرى حوضي نهري أموداريا (جيحون)،
وسيرداريا (سيحون) الخصيبين بالأراضي الزراعية الغنية، إضافة للمرتفعات الجبلية في
المناطق الشرقية من الجمهورية والتي تصل أعلى قمة لها داخل الأراضي الأوزبكستانية
4663 متراً. وكلها كانت من العوامل الهامة لإيجاد مجتمع مستقر ومتحضر عبر القرون،
على المساحة التي تشغلها أوزبكستان من آسيا المركزية اليوم. وتبلغ مساحة الأراضي
الزراعية الصالحة فيها 27,6 مليون هكتاراً، ويبلغ إنتاجها من القطن الخام 1,4
مليون طن، ومن الحبوب 4,1 مليون طن، ويبلغ إنتاجها من الكهرباء 47,5 مليار كيلو
وات ساعي، ومن النفط 7,6 مليون طن، والغاز الطبيعي 48،6 مليار متر مكعب. وتتألف جمهورية
أوزبكستان إدارياً من جمهورية قره قلباقستان، و 12 ولاية تضم 163 منطقة ريفية و
119 مدينة. ويبلغ عدد سكان جمهورية أوزبكستان اليوم أكثر من 24 مليون نسمة، وتأتي
بالمرتبة الثالثة بعد روسيا وأوكرانيا في رابطة الدول المستقلة. وتتوزع الفئات
العمرية للسكان فيها على الشكل التالي: 40% حتى سن 14 عاماً، 55 % مابين الـ 15 و
64 عاماً، 5 % فوق الـ 65 عاماً. ومن معطيات إحصاءات عام 1996 نرى أن معدل
المواليد كان 29,86 بالألف ومعدل الوفيات 8,02 بالألف. ومن هذا نستنتج مدى الثروة
البشرية التي تتمتع بها جمهورية أوزبكستان، لتحقيق خطط التنمية الإنتاجية الطموحة
الماضية في تحقيقها منذ الاستقلال. إضافة لميزة هامة تتمتع بها القاعدة السكانية
المتميزة بارتفاع مستوى التعليم المتوسط، الذي يبلغ مستواه 99,15 % وفق معطيات عام
1998. مما يضع أوزبكستان في مقدمة الدول الأكثر نجاحاً في القضاء على الأمية بين
مواطنيها في العالم.
وأوزبكستان عكس الكثير من دول العالم الأخرى،
تتميز بتركز السكان في الأرياف حيث يصل نسبتهم هناك إلى 61,6 % من عدد السكان،
بينما يعيش في المناطق الحضرية 38,4 % فقط. مما يخفف من أعباء خطط التنمية القومية
التي تتطلبها الحياة في المدن الكبيرة. ومن ناحية التركيبة الديموغرافية للسكان في
جمهورية أوزبكستان التي تضم حوالي 130 قومية، تصل نسبة الأوزبك بينهم إلى أكثر من
75 %، معظمهم عدا (القره قلباق، ويهود بخارى) جاؤا إلى أوزبكستان نتيجة لسياسة
تهجير السكان وتغيير البنية الديموغرافية للمناطق المحتلة، التي اتبعتها السلطات
الإمبراطورية الروسية، ومن ثم السلطات السوفييتية طيلة فترة الاحتلال. ومن الجدول
التالي نتبين التركيبة الديموغرافية للسكان في الجمهورية الفتية قبل الاستقلال عام
1989، والذي تطلب من القيادة الأوزبكستانية منذ الأيام الأولى للاستقلال إتباع
سياسة ثابتة وإستراتيجية خاصة لصهر هذه التركيبة في بوتقة الانتماء للدولة الواحدة:
توزع السكان حسب الانتماء القومي في جمهورية
أوزبكستان: أوزبك 14,142,500 نسمة أو 71,4% من عدد السكان؛ روس 1,653,500 نسمة أو
8,3%؛ طاجيك 933,600 نسمة أو 4,7%؛ قازاق 802,200 نسمة أو 4,1%؛ تتر 656,600 نسمة
أو 3,3%؛ قره قلباق 411,900 نسمة أو 2,1%؛ قرغيز 174,900 نسمة أو 0,9%؛ كوريون
183,100 نسمة أو 0,9%؛ أوكرانيين 153,200 نسمة أو 0,8%؛ تركمان 121,600 نسمة أو
0,6%؛ أتراك 106,300 نسمة أو 0,5%؛ يهود 93,900 نسمة أو 0,5%؛ أرمن 50,500 نسمة أو
0,3%؛ أذربيجان 44,400 نسمة أو 0,2%؛ ويغور 35,800 نسمة أو 0,2%؛ بيلاروس 29,400
نسمة أو 0,1%؛ فرس 24,800 نسمة أو 0,1%؛ ألمان 0,1%؛ آخرون 191,900 نسمة أو 1,0%؛
المجموع 19,810,100 نسمة.
وقد تبدل الوضع بعد استقلال جمهورية أوزبكستان
وبدأت تظهر أرقام واضحة عن توزع السكان حسب القومية التي يحددها المواطن لنفسه عند
بلوغه سن الرشد، في مختلف ولايات الجمهورية دون أية ضغوط، وعادت القومية العربية
إلى الظهور في الإحصائيات الرسمية المنشورة، كما هي الحال في ولاية قشقاداريا وهو
ما أوضحته نتائج تعداد السكان لعام 1995 الواردة في التالي: مدينة طشقند: 2109 ألف
نسمة أو 9,4 % منهم: أوزبك 44,2؛ روس 34؛ تتر 6,3؛ أوكرانيون 2,9؛ يهود * 2,1؛
قازاق 1,2؛ آخرون 1,2. ولاية طشقند: 2240 ألف نسمة أو 9,9 % منهم: أوزبك 50,2؛ روس
14,6؛ قازاق 12,4؛ كوريون 3,6؛ تتر 5؛ أوكرانيون 1,2؛ قرغيز 0,5؛ يهود * 5؛ طاجيك
4,2؛ ويغور 0,4؛ أتراك 2؛ ألمان 0,9. جمهورية قره قلباقستان: 1397 ألف نسمة أو 6,2
% منهم: أوزبك 32,3؛ قره قلباق 32,1؛ قازاق 26,3؛ تركمان 5؛ روس 1,6؛ كوريون 0,8؛
تتر 0,7؛ أوكرانيون 0.2؛ قرغيز 0,1. ولاية خوارزم:
جمهورية قره قلباقستان وولاية خوارزم: 1198
ألف نسمة أو 5,3 % منهم: أوزبك 95؛ قره قلباق 0,07؛ قازاق 1,4؛ روس 1,6؛ كوريون
0,6؛ تتر 0,8. ولاية أنديجان: 1993 ألف نسمة أو 8,8 % منهم: أوزبك 85؛ روس 3,9؛
كوريون +؛ تتر 2,9؛ قرغيز 4,2؛ طاجيك +؛ ويغور +. ولاية نمنغان: 1741 ألف نسمة أو
7,7 % منهم: أوزبك 85,1؛ روس 1,9؛ كوريون 0,3؛ تتر 1؛ أوكرانيون 0,2؛ قرغيز 1,1؛
طاجيك 8,8؛ أتراك 0,2؛ تتر القرم 0,8. ولاية فرغانة: 2444 ألف نسمة أو 10,8 %
منهم: أوزبك 83,6؛ روس 4,9؛ تتر 1,8؛ قرغيز 2,1؛ طاجيك 5,5. ولاية بخارى: 1315 ألف
نسمة أو 5,8% منهم: أوزبك 85,4؛ قره قلباق 0,9؛ قازاق 1,6؛ روس 4؛ كوريون 0,2؛ تتر
1,8؛ أوكرانيون 0,4؛ يهود * 0,5؛ طاجيك 4؛ تركمان 0,7؛ أذربيجان 0,2؛ بيلاروس 0,1.
ولاية سورخان داريا: 1536 ألف نسمة أو 6,8 % منهم: أوزبك 79,9؛ قازاق 0,3؛ روس
2,7؛ كوريون 0,2؛ تتر 1,2؛ أوكرانيون 0,5؛ طاجيك 13,3؛ تركمان 1,3. ولاية
قشقاداريا: 1918 ألف نسمة أو 8,5 % منهم: أوزبك 87,7؛ روس +؛ كوريون +؛ أوكرانيون
+؛ طاجيك +؛ تركمان +؛ أذربيجان +؛ أتراك +؛ عرب +؛ لولي +. ولاية جيزاخ: 871 ألف
نسمة أو 3,9 % منهم: أوزبك 81,8؛ قازاق 6,4؛ روس 2,8؛ تتر 1,8؛ أوكرانيون 0,24؛
قرغيز 2,4؛ طاجيك 2,5؛ أتراك 0,01؛ ألمان 0,1؛ فرس 0,23؛ أرمن 0,28. ولاية نوائي:
734 ألف نسمة أو 3,3% منهم: أوزبك 63,3؛ قره قلباق 1,4؛ قازاق 11,5؛ روس 13,5؛ تتر
3,6؛ أوكرانيون 1,4؛ طاجيك 1,3؛ أذربيجان 0,9؛ بيلاروس 0,3. ولاية سمرقند: 2432
ألف نسمة أو 10,8% منهم: أوزبك 76؛ قازاق 0,3؛ روس 5,3؛ كوريون 0,4؛ تتر 3,3؛
أوكرانيون 0,7؛ قرغيز 0,1؛ يهود * 0,3؛ طاجيك 9,7؛ ويغور 0,3؛ أتراك 0,8؛ ألمان
0,1. ولاية سرداريا: 626 ألف نسمة أو 2,8% منهم: أوزبك 62؛ قازاق 3,8؛ روس 10؛
كوريون 2,3؛ تتر 3,2؛ طاجيك 7,8.
( * ) الأرقام
تتحدث عن اليهود الشرقيين المعروفين بيهود بخارى (السفرديم)، واليهود الأوروبيين
الذين قدموا للمنطقة مع جيوش الاحتلال الروسي والبلشفي من بعده (الأشكيناز)؛ ( + )
واردة في الإحصاء دون أرقام.
وتتمتع جمهورية أوزبكستان بثروات طبيعية
هائلة، ظلت مخفية عن العالم الخارجي. وراء الستار الحديدي الذي فرضه الاتحاد
السوفييتي عليها، ليتمتع وحده بخيراتها. ومن المؤكد اليوم أن أوزبكستان تملك رابع
أكبر احتياطي عالمي من الذهب (الإنتاج السنوي 70 طن تقريباً)، وعاشر أكبر احتياطي
من النحاس. إضافة لاحتياطي ضخم من الغاز الطبيعي يصل إلى 5 ترليون متر مكعب، وإلى
أكثر من 4 بليون طن من النفط، وأكثر من 2 بليون طن من الفحم الحجري.
ومن حيث الثروة الزراعية تنتج جمهورية
أوزبكستان سنوياً حوالي 1,3 مليون طن من القطن المحبوب، و5 مليون طن من الخضار
والفواكه، وأكثر من 20 ألف طن من الحرير الطبيعي الخام.
إضافة لشبكة مواصلات عصرية تمتد مابين أبعد
نقطة شرق الجمهورية وأبعد نقطة إلى غربها والبالغ البعد بينهما 1425 كم، وما بين
أبعد نقطة شمالاً وأبعد نقطة جنوباً والبالغ البعد بينهما 930 كم، ممثلة بشبكة
حديثة من السكك الحديدية يبلغ مجموع طولها 6700 كم، إضافة إلى 80 ألف كم من الطرق
البرية المعبدة، و261 ميناءً جوياً، ثلاثون منها مزودة بمدارج للإقلاع والهبوط
يتراوح طولها مابين 1524 إلى 3047 متراً، مما يجعلها قادرة على تلبية حاجات
الانفتاح على العالم الخارجي وهبوط وإقلاع كل أنواع الطائرات.
كل هذه الإمكانيات الاقتصادية الضخمة، إضافة
للإمكانيات البشرية الماهرة والمدربة، سمحت لأوزبكستان رغم حداثة استقلالها من
الانفتاح على العالم، وشجعت على جذب المستثمرين الأجانب، وجذب رؤوس الأموال
الأجنبية التي وصل مجموع استثماراتها عام 1995 فقط إلى بليون دولار أمريكي.
الجذور التاريخية للشعب الأوزبكي: يعتبر تاريخ
الشعب الأوزبكي جزءاً لا يتجزأ من تاريخ شعوب آسيا المركزية، ويمتد في جذوره إلى
الألف الأولى قبل الميلاد. عندما بدأت بالظهور مجتمعات مستقرة ذات تنظيم إداري
وسياسي واضح المعالم، وهو ما يعتبر إحدى الأشكال المبكرة لتكون الدولة بمفهومها
الحديث. وتكونت تلك المجتمعات على ضفاف الأنهار وفي الواحات الخصبة المنتشرة في
المنطقة التي تشغلها اليوم أوزبكستان المعاصرة. وشكلت أولى دولها كالدولة
البكتيرية، والدولة الخوارزمية، والدولة البرثية، والدولة الصغدية. ومنذ ذلك الوقت
بدأت أطماع الجوار تتجه نحو تلك الدول الغنية، طمعاً بخيراتها وثرواتها. وتتالت
موجات الغزو على المنطقة تارة تحت راية الدين، وتارة تحت راية البحث عن الثروة،
وتارة لبناء مجد إمبراطوري على حساب الشعوب المقهورة والمغلوبة على أمرها. ففي
القرن السادس قبل الميلاد ضمت الإمبراطورية الفارسية مناطق واسعة من آسيا المركزية
إلى دولتها مترامية الأطراف. واستمرت تلك الحال حتى هزيمة الفرس على يد الإسكندر
المقدوني في القرن الرابع قبل الميلاد. وفي الفترة الممتدة مابين عامي 312 - 64
قبل الميلاد فرض السلوقيين سيطرتهم على المنطقة، إلى أن بدأ النفوذ الصيني خلال
الفترة الممتدة مابين عامي 138 - 52 قبل الميلاد ينتشر فيها. وكان هدف الصينيين
آنذاك السيطرة على آسيا المركزية الذي يعني السيطرة على طريق الحرير العظيمة التي
تمر عبر المنطقة، لأن طريق الحرير كانت تعني للصين آنذاك الشريان التجاري الهام
والضروري لرخائها وازدهار تجارتها. وعاد الساسانيون الفرس ليربطوا المنطقة
بمصالحهم خلال الفترة الممتدة مابين عامي 226 - 641 م.
ووصل العرب إلى آسيا المركزية التي عرفت في
المراجع الإسلامية باسم "ما وراء النهر"، حاملين معهم الدين الإسلامي
الحنيف عام 651م. ورغم قصر المدة التي حكم بها الخلفاء العرب ما وراء النهر، إلا
أن الديانة الإسلامية بقيت وضربت جذورها عميقاً في وجدان شعوب المنطقة، وبقيت
ماثلة للعيون حتى يومنا هذا. وكان العامل الديني الإسلامي الحافز القوي ومصدر
الإلهام الروحي للشعب الأوزبكستاني، وشعوب آسيا المركزية الأخرى للدفاع عن ذاتهم
القومية أمام حملات فرض الثقافة واللغة الروسية والاستيطان السلافي خلال العهدين
الإمبراطوريين الروسي، والسوفييتي في المنطقة. وتعاقبت الدول الإسلامية في المنطقة
بعد زوال الحكم العربي فيها، فجاءت الدولة السامانية خلال الفترة مابين عامي 700 -
999م، التي عملت على تجديد روابط المنطقة ببلاد فارس. وأدت هجرات القبائل التركية
من المناطق المتاخمة لمنغوليا، واستقرارها في الواحات وعلى ضفاف الأنهار في آسيا
المركزية خلال القرن العاشر، واختلاطها بالسكان المحليين واندماجها بهم، إلى
اعتناقها للدين الإسلامي الحنيف، وإضفاء الطابع التركي على المنطقة، التي أطلق
عليها آنذاك تسمية تركستان (بلاد الترك)، وهو الطابع المستمر في معظم أنحاء آسيا
المركزية حتى اليوم. وفي العام 999م تمكنت قبيلة قره خان (الملك الأسود) التركية
من انتزاع السلطة من أيدي السامانيين، واستولوا على عاصمتهم بخارى، وغيرها من
المدن في آسيا المركزية. متخذين من سمرقند عاصمة لحكمهم، وعملوا على إبعاد المنطقة
عن النفوذ الفارسي. وتمكن القره خانيون أثناء فترة حكمهم من حمل لواء الإسلام
بعيداً عن المنطقة نحو الشرق حتى مشارف الصين. وحال الصراع بين القبائل التركية دون
بسط سلطة القره خانيين على كافة أراضي المنطقة، إلى أن نجح السلاجقة الأتراك من
انتزاع السلطة منهم في مطلع القرن الحادي عشر الميلادي. الذين تمكنوا من بسط
سلطتهم على مناطق شاسعة من العالم الإسلامي، شملت بلاد الأناضول، وبلاد فارس،
والعراق، وبلاد الشام. وسرعان ما تعرضت سلطة السلاجقة لتحدي قبائل قره كيتاي
(الصينيون السود) القادمين من منغوليا خلال الفترة الممتدة مابين عامي 1125 -
1210م، وحاولت قبائل قره كيتاي فرض نمط الحكم الصيني في المنطقة، ولكن الذي حدث
كان عكس ذلك، فقد تأثر القادمون الجدد بنمط الحياة التركية الإسلامية داخل الدولة
الخوارزمية آنذاك وانصهروا داخلها.
وأدت الصراعات والحروب المحلية في آسيا
المركزية خلال القرن الثالث عشر، إلى قيام إمبراطور المغول جينغيز خان بغزو
المنطقة خلال الفترة الممتدة مابين عامي 1219 - 1221م، مما أدى إلى تمتع المنطقة
بفترة هدوء نسبية. وبعد وفاة جينغيز خان عام 1227م عادت الصراعات والحروب المحلية
لتعصف بالمنطقة مرة أخرى، إلى أن نجح الأمير تيمور (الشهير بتيمور لانك، أي تيمور
الأعرج)، بفرض سلطته على المنطقة في عام 1371م، متخذاً من سمرقند عاصمة لحكمه الذي
استمر من بعده في السلالة التيمورية. واستمر حكم السلالة التيمورية في آسيا
المركزية، إلى أن استطاعت بعض القبائل المنحدرة من سلالة أوزبك خان (1281-1342م)،
تحت قيادة شيباني خان من انتزاع مناطق شاسعة في آسيا المركزية ضمت مدناً هامة
كبخارى وخيوة وقوقند وغيرها من المدن الكبيرة، مع نهاية القرن الخامس عشر، معلنة
عن مولد الدولة الشيبانية التي استمرت في الحكم إلى أن تفرقت مناطق سكن العشائر
الأوزبكية إلى ثلاث دويلات هي: إمارة بخارى، ودولة خيوة، وخانية قوقند، مع نهاية
القرن السادس عشر، وهي الفترة التي بدأت تتوجه فيها الأطماع الروسية نحو التوسع والسيطرة
على تركستان للاستيلاء على خيراتها ضمن لعبة السباق الروسية البريطانية للحصول على
المزيد من المستعمرات في المناطق الإسلامية الآسيوية الداخلية. وامتداداً للحروب
الروسية العثمانية الدائرة رحاها آنذاك في آسيا الصغرى وعلى سواحل البحر الأسود
وشرق أوروبا.
وبعد سلسلة طويلة من التوسعات الروسية داخل
المناطق الإسلامية في حوض نهر الفولغا وقازاقستان. بدأت الحملات العسكرية الروسية
على تركستان بين كر وفر إلى أن تمكنت الجيوش الروسية بقيادة الجنرال تشيرنياييف من
الاستيلاء على مدينة طشقند التي كانت تابعة آنذاك لخانية قوقند في 15/6/1865م.
وبعد معارك شرسة وغير متكافئة بين جيوش الأمراء المنقسمين على أنفسهم، والجيش
الروسي المجهز بأحدث الأسلحة والعتاد العسكري، تمكن الروس من فرض حمايتهم على
بخارى عام 1868م، وخيوة عام 1873، ومن القضاء نهائياً على خانية قوقند عام 1876م،
بعد تدمير العديد من مدنها وقراها وقتل وتشريد المتبقي من سكانها.
وقد كان الهدف من الاحتلال الروسي لتركستان
واضحاً، وتمثل في: إخضاع العشائر الأوزبكية كثيرة العدد والتي كانت تمثل حجر عثرة
أمام التوسع الروسي جنوباً في تركستان؛ القضاء على حركات التحرر في المناطق الإسلامية
الخاضعة للاحتلال الروسي والحيلولة دون حصولها على مساعدة من العشائر الأوزبكية؛
والسيطرة على المناطق الإستراتيجية والحيوية والهامة اللازمة لخطط التوسع الروسي
في تركستان، والتمركز في المدن الرئيسية للانطلاق منها لاحتلال وضم المزيد من
الأراضي في المنطقة؛ والسيطرة على الأراضي الزراعية الخصبة التي بحوزة الأوزبك،
والسيطرة على محاصيل القطن الهامة للصناعة الروسية، بعد تأثر وارداتها إلى أوروبا
خلال الثورة الأمريكية التي امتدت مابين عامي 1862 - 1865م.
ومنذ اللحظة الأولى للتواجد الروسي على
الأراضي الأوزبكية، قاوم الأوزبك الاحتلال بشتى الصور. من المقاومة المسلحة، إلى
تشكيل الجمعيات السرية المناهضة للاحتلال الروسي، إلى إصدار الصحف والمنشورات التي
تندد بالاحتلال والاستيطان وفرض اللغة والثقافة الروسية، إلى دعوة الأوزبك للحفاظ
على لغتهم وثقافتهم وتقاليدهم القومية.
ومن الصور الساطعة التي يحملها تاريخ الشعب
الأوزبكي عن مقاومة الاحتلال والوجود الروسي. الحركة التي قادها محمد علي دهشة
إيشان عام 1898م، والتي انطلقت من مدينة أنديجان وانتشرت إلى مدن أوش ومرغيلان في
وادي فرعانة، وقامت الجيوش الروسية بقمعها بوحشية بالغة ودمرت وأحرقت كل شيء
صادفته في طريقها لزرع الرهبة في قلوب الأوزبك العزل من السلاح.
كما ولعبت المدارس الدينية الكثيرة المنتشرة
في المنطقة، دوراً كبيرة في إثارة الوعي القومي والأحاسيس الوطنية ضد الاحتلال
والاستيطان الروسي. وكان من أبرزها المدارس الدينية في إمارة بخارى التي كانت
آنذاك مستقلة وفرضت عليها الحماية الروسية، وكانت قمة في إثارة الوعي والإحساس
الديني والوطني والثقافي ضد الاحتلال والسيطرة الروسية في المنطقة.
وقامت الصحف الوطنية الصادرة آنذاك بدور بارز
في مقاومة السيطرة الروسية. فأصدر محمود خوجه بيه بودي صحيفتي "سمرقند"
و "آوينه" (النافذة)، من سمرقند. وأصدر عاشور علي زهيري صحيفة "صدى
فرغانة" التي صدر منها 123 عدداً من مدينة قوقند. كما وأصدر عبد الرشيد قاري
خان أوغلي، وعثمان خوجه أوغلي صحيفة "صدى تركستان" التي صدرت في طشقند
مابين عامي 1914 - 1915م.
وسارت حركة المقاومة الوطنية للاحتلال الروسي
في أوزبكستان مع مطلع القرن العشرين ضمن إطار فكري شامل عرف بحركة
"مجددي" (التجديد)، التي عاصرت حركة الدعوة للتجديد في مصر وبلاد الشام،
وأخذت على عاتقها مهمة تجديد المفاهيم الدينية، بعيداً عن التصلب الجمود، والأخذ
بأسباب التطور الحديث في أوروبا، وكان من أبرز دعاتها عبد الرشيد قاري.
كما وحملت صحف حركة مجددي كصحف
"خورشيد" و"شهرت" و"جديدي" على صفحاتها المفاهيم
التنويرية والإصلاحية عن الدين الإسلامي، وحثت على مكافحة التعصب والجمود الديني،
واللحاق بركب الحضارة الإنسانية المتقدمة.
وتحت ستار التعليم والتجارة شكل المثقفون
الأوزبك جمعيات سرية لمقاومة الاحتلال منذ مطلع القرن العشرين، ومن تلك الجمعيات:
"جمعية تعليم الصبية" وجمعية "بركة" التجارية وغيرها من
الجمعيات. وكانت تلك الجمعيات تلقى الدعم والتأييد من الجميع وخاصة من الطبقة
الثرية في الأوساط الأوزبكية.
أوزبكستان من الاحتلال والضم الروسي إلى
الاستعمار السوفييتي: استيلاء البلاشفة على السلطة في روسيا لم يكن عامل تغيير قد
يبشر بتخلص تركستان من نير الاحتلال. بل على العكس قام البلاشفة فور استيلائهم على
السلطة في روسيا بتشديد قبضتهم على تركستان، وتوسيع أملاكهم الإمبراطورية فيها
باحتلالهم لإمارة بخارى وإلغاء استقلالها فور استيلائهم على مدينة بخارى في
2/9/1920. حيث شرعوا بتطبيق سياسة جديدة حيال المنطقة منذ تأسيسهم للاتحاد
السوفييتي في كانون الأول/ديسمبر 1922. وقضت تلك السياسة التي قادها مسؤول الشؤون القومية
في الحكومة السوفييتية آنذاك جوزيف ستالين، بتقسيم تركستان وتقطيع أوصالها بشكل
تصبح معه لقمة صائغة لأية خطط قادمة لنهب واستغلال خيرات المنطقة. واستمرت عملية
التقسيم هذه لفترة طويلة بدأت مع مطلع العشرينات وانتهت عام 1936، عندما تم تكوين
جمهورية قازاقستان السوفييتية الاشتراكية، وجمهورية قرغيزستان السوفييتية
الاشتراكية، ليبلغ بذلك عدد جمهوريات آسيا المركزية خمس جمهوريات كما هي الحال
اليوم.
وكانت جمهورية أوزبكستان بحدودها الحالية قد
أحدثت بقرار فرض من موسكو في 17/10/1924، إثر إعادة تقسيم جمهورية تركستان، وجمهورية
بخارى، وجمهورية خيوة، على أساس قومي. ومنذ ذلك التاريخ عاشت جمهورية أوزبكستان
وراء الستار الحديدي الذي فرض عليها، وحرمها من الانفتاح على العالم الخارجي،
وأصبحت الإطلالة الوحيدة لأوزبكستان على العالم الخارجي تمر عبر موسكو فقط. وتحولت
مواردها وخيراتها لخدمة التطور الصناعي في مجموعة الدول السلافية داخل الاتحاد
السوفييتي السابق، وأسواقها فتحت لترويج البضائع الرديئة المنتجة في مصانع تلك
المجموعة. كما هي الحال في أية مستعمرة من المستعمرات الأوروبية في التاريخ الحديث.
وبقيت جمهورية أوزبكستان ولمدة تزيد عن السبعين
عاماً مرتبطة بعلاقة "استعمار هيكلي" مع موسكو التي احتكرت كل نواحي
التطور والتنمية في أوزبكستان لصالحها وصالح المجموعة السلافية. ولم يتجاوز إسهام
موسكو في تطوير الاقتصاد والعلوم والثقافة في أوزبكستان وعلى مدار نحو سبعة عقود
من الزمن، أكثر من كونه مثابة إسهام في تحويل أوزبكستان إلى مزرعة ضخمة منتجة
للقطن الذي تحتاجه مصانع الغزل والنسيج في المجموعة السلافية، رغم الآثار الضارة
المتوقعة على الاقتصاد الأوزبكي، وعلى القوة البشرية والثروة الحيوانية والتربة من
جراء استخدام المواد الكيماوية الضارة لزيادة المحاصيل، وهو ما حدثت فعلاً في
نهاية العهد السوفييتي. وإلى مصدر رخيص للمواد الخام والمعادن الثمينة، التي كانت
تستخرج بطرق لم تراعى فيها أية قواعد لحماية الطبيعة والبيئة المحيطة بمناطق
الاستخراج. وإلى تابع سياسي وإيديولوجي احتاجته موسكو لأغراض الدعاية للسياسة الخارجية
السوفييتية.
وكل تلك العوامل وغيرها ساعدت على نضوج فكرة
الاستقلال التام للحفاظ على الهوية القومية وعلى الموارد الاقتصادية، والسعي
للتخلص من سياسة الابتلاع الثقافي والاقتصادي الذي استمرت عليه روسيا طيلة فترة
احتلالها لأوزبكستان. وبرز واضحاً خلال السنوات الأخيرة من الحكم السوفييتي، وخاصة
فيما عرف بلجنة غيدلان وإيفانوف سيئة الصيت التي شكلتها موسكو في ثمانينات القرن
العشرين للإساءة لبعض الشخصيات الوطنية الأوزبكية التي لا ترتاح لها.
ولم تكن الحالة بأفضل منها لا في عهد
المتشددين من القادة السوفييت أمثال ستالين وبريجنيف، ولا في عهد الإصلاحيين أمثال
خروتشوف وغورباتشوف. فالهدف غير المعلن كان واحداً وهو الاستغلال الاقتصادي والفرض
الثقافي، وقمع أي تطلع قومي أو إسلامي في المدن الهامة الأوزبكستانية، التي تتمتع
بتأثير كبير في المنطقة والعالم الإسلامي، كبخارى، وسمرقند، وطشقند التي تحولت
إبان الحكم السوفييتي إلى العاصمة الثقافية والعلمية لآسيا الوسطى وقازاقستان
السوفييتية. وأدارت من خلالها موسكو عملية السيطرة الثقافية والاقتصادية في
المنطقة بأسرها منذ العشرينات من القرن العشرين. إضافة إلى جعلها مقراً لقيادة
قوات الاحتلال الروسية ("تركستانسكي فاييني أوكروك" قطاع تركستان الحربي
! والاسم لم يتغير من أيام الإمبراطورية الروسية وحتى انسحاب هذه القيادة والقوات
السوفييتية بعد إعلان استقلال أوزبكستان).
ويمكن الجزم بأن فترة الاستعمار الروسي خلال
العهد الإمبراطوري كانت أقل وطأة على الذات الثقافية للشعب الأوزبكي، مما كان عليه
أثناء الحكم البلشفي. فقد وعد القادة البلاشفة عام 1917م شعوب المنطقة باحترام
حقوقهم الثقافية، وحماية حقهم بممارسة عقائدهم الدينية، وتقاليدهم وعاداتهم
القومية وعدم المساس بها. ذلك الوعد الذي قامت الصحف الأوزبكية الصادرة في 7 تشرين
ثاني/نوفمبر 1969، بنشره والتذكير به أثناء الاحتفال بالذكرى السنوية للثورة
البلشفية، عندما نشرت نص الرسالة التي بعث بها زعيم البلاشفة فلاديمير إيليتش
لينين منذ خمسين عاماً، إلى لجنة شؤون تركستان، يطالبهم فيها بالقضاء على السياسة
الشوفينية الروسية في تركستان. ولكن الذي حدث بالفعل كان على العكس تماماً، فقد
كانت السلطة السوفييتية تخطط للقضاء على الثقافة القومية في المنطقة، وإحلال
الثقافة الروسية مكانها.
فقد أقدم البلاشفة أولاً على تجزئة تركستان
كما سبق وذكرنا، تحت حجة حماية حقوق القوميات والأقليات، وهي الحجة التي اتخذتها
ذريعة لخلق الأسباب المشجعة لسياسة الاستيطان الروسي والسلافي فيها. ومن ثم إتباع
سياسة الاستيطان والتخريب الديموغرافي من قبل السلطات السوفييتية المتمثل في
التهجير القسري لشعوب بأكملها من مناطق سكنها الأصلية إلى آسيا المركزية، ولعل تتر
القرم والشيشان والكوريين وغيرهم خير مثال على ذلك.
وراح البلاشفة أبعد من ذلك في سياسة طمس
المعالم الثقافية لشعب كان حتى الاحتلال منارة علمية وثقافية في المنطقة وفي
العالم الإسلامي. فأغلقت المساجد ومؤسسات التعليم الإسلامية بكل مستوياتها وألغت
تعليم اللغة العربية في كل أنحاء المنطقة، واستبدلت الحرف العربي المستخدم آنذاك
في الكتابة بالحرف اللاتيني أولاً في عام 1927 كفترة انتقالية لتخفي أهدافها
الحقيقية التي نضجت في عام 1940 فاستبدلته مرة أخرى بالحرف الروسي. بعد أن نجحت في
تحويل اللهجات المحلية غير المكتوبة إلى لغات وضعت لها الأبجديات السلافية، بعد أن
نجحت في خلق الحواجز القومية بين الأشقاء من أبناء تركستان. ولنتصور معاً وضع شعب
بأكمله حوِّل إلى شعب أمي لا يعرف القراءة والكتابة بلغة أجداده مرتين خلال فترة
تجاوزت العشر سنوات بقليل. وبني سد منيع يحول بينه وبين التراث المكتوب لأجداده
العظام أمثال: الخوارزمي والبيروني وابن سينا والبخاري والترمذي والنقشبندي ونوائي
والكثيرون الكثيرون غيرهم. الذين أبدعوا نتاجهم الفكري الشهير في العالم أجمع
وكتبوه باللغة العربية وبلغتهم الأصلية بالحرف العربي. ليتحول هذا التراث مادة فقط
للمستشرقين الروس وتلاميذهم يأخذون منه أسباب السيطرة الثقافية على الشعوب
الإسلامية الرازحة تحت حكمهم، والتخطيط لإخضاع غيرهم من الشعوب.
وفي إطار سياسة مدروسة لطمس المعالم الثقافية
لشعب بأكمله. لم يكتفي البلاشفة بإغلاق المساجد والمدارس وهدمها وحسب، بل حولوا ما
بقي منها إلى دور سينما، وأماكن للتسلية وتعاطي ما يحرمه الدين الإسلامي الحنيف،
في حملة القصد منها التمادي في إذلال شعب بأكمله، وفرض غسل الأدمغة عليه بالقوة
والإرهاب.
ومع كل ذلك صمد الشعب الأوزبكي أمام كل
الحملات التي حاولت روسيا من خلالها طمس ملامحه الثقافية. وتمسك بتقاليده الأصيلة
رغم حملات الترويع والتخويف والضغط التي كانت تمارسها السلطات السوفييتية في
المنطقة. وحافظ على لغته وعاداته في الزواج والختان ودفن الموتى والأعياد
والمناسبات القومية والدينية، بفضل روح الجماعة والترابط الاجتماعي الذي تمتع ويتمتع
به الشعب الأوزبكي دائماً، وهو ما يفتقر إليه المستوطنون السلافيون الذين استوطنوا
المنطقة في مراحل وظروف مختلفة منذ بداية الاحتلال.
وما يثبت قوة الروح القومية ومتانة العلاقات
الاجتماعية للشعب الأوزبكي خلال الحكم السوفييتي. أن الأجيال الصاعدة التي ولدت وترعرعت
وتربت وتعلمت في ظل نظام تعليمي وثقافي سوفييتي متكامل من كل النواحي. لم يتأثروا
به إلا شكلاً، ولم ينقطعوا عن جذورهم القومية والثقافية، والأكثر من ذلك ما حدث في
الستينات من القرن العشرين، عندما بدأ الشباب الأوزبكي يتطلع ويبحث عن جذوره
القومية والثقافية والدينية، وواجهتها السلطات السوفييتية بالقمع والبطش الشديد.
وقد جاء تأسيس الإدارة الدينية لآسيا الوسطى
وقازاقستان السوفييتية في الأربعينات من القرن العشرين، بقرار من قيادة الحزب
الشيوعي السوفييتي، كمحاولة للسيطرة على الشؤون الدينية من خلال تلك الإدارة التي
اتخذت من العاصمة الثقافية لآسيا المركزية طشقند مقراً لها. وعلى العكس من الآمال
الرسمية التي عولت عليها، فقد لعبت تلك الإدارة دوراً ملحوظاً في بعث الروح
الدينية بين الشباب وعززت من الشعور الديني لدى المواطنين، وشدتهم أكثر إلى جذورهم
الثقافية والاجتماعية. وهو ما اعترفت به القيادة السوفييتية على لسان أحد
المسؤولين الكبار في الحزب الشيوعي السوفييتي، الذي قال: "أن الحملات
الدعائية المضادة للدين أو التعويل على الإدارة الرسمية للدين قد فشلت في القضاء
على حماسة الشباب الأوزبكي للعودة إلى جذورهم من جديد".
ولم تخف القيادة السوفييتية يوماً من الأيام
تخوفها من البعث الثقافي في أوزبكستان، لهذا كانت تتصدى لها دائماً بالعنف
والقسوة. لأنها عرفت تماماً أهمية أوزبكستان في آسيا المركزية برمتها، وأن الصحوة
القومية أو الصحوة الدينية فيها ستمتد حتماً إلى الجمهوريات الأربع الأخرى في
المنطقة، إن لم تمتد أبعد من ذلك إلى المناطق الإسلامية الأخرى داخل الاتحاد
السوفييتي السابق.
وفي محاولة لتطويق هذا الخطر أعاد ليونيد
بريجينيف الأمين العام للحزب الشيوعي السوفييتي تقييمه لجدوى الاستمرار المكثف
لحملات مكافحة الدين في أوزبكستان وغيرها من جمهوريات آسيا المركزية. وأعلن أمام
المؤتمر الثالث والعشرين للحزب الشيوعي السوفييتي "أن اندماج شعوب الاتحاد
السوفييتي في بوتقة واحدة يقتضي أيضاً تفهم ما لكل شعب من الشعوب السوفييتية من
عادات وتقاليد مميزة". وطبعاً هذا لم يعكس تماماً القناعات السياسية للقيادة
السوفييتية آنذاك، والتي كانت تسير في اتجاه الحفاظ على استقرار الاتحاد السوفييتي
بكل الوسائل المتاحة.
وقد استفادت موسكو من الزلزال المدمر الذي
تعرضت له مدينة طشقند في 22/4/1966 للتوسع بالاستيطان السلافي في المدينة المنكوبة
أولاً، وتهدئة المشاعر في أوزبكستان حيال الحملات الإلحادية وفرض الثقافة واللغة
الروسية ثانياً. وسارعت إلى إعلان خطة حكومية لإعادة إعمار المساجد التي دمرها
الزلزال، والأكثر من ذلك عبرت عن استعدادها للمضي في بناء مساجد جديدة، وكخطوة
عملية وافقت على إصدار مجلة "المسلمون في الاتحاد السوفييتي" من طشقند
باللغات الروسية والأوزبكية والعربية والفارسية والإنجليزية والفرنسية. في محاولة
لإظهار مرونتها حيال مطالب الأوزبك الثقافية وتهدئة لمشاعرهم الثقافية. واستغلال
الوزن الحضاري للشعب الأوزبكي لتحسين صورة الاتحاد السوفييتي أمام العالمين
الإسلامي والعربي اللذان كانت موسكو تبذل قصارى جهودها آنذاك للتقرب منهما.
وهنا لابد من الإشارة للتركة الاستعمارية
الثقيلة التي خلفها الاتحاد السوفييتي السابق لجمهورية أوزبكستان بعد استقلالها،
والتي هي أخطر من المشاكل العرقية والدينية. ألا وهي المشكلات البيئية الكثيرة
والصعبة الحل ومنها مشكلة بحر الأورال التي تشترك بها مع قازاقستان. إذ تمتد
الشواطئ الأوزبكية عليه مسافة 420 كم. وتمثلت الكارثة البيئية التي خلفتها السياسة
الزراعية الرعناء التي اتبعتها موسكو بانخفاض منسوب المياه في هذا البحر المغلق
بشكل كبير، وأدى ذلك إلى ابتعاد شواطئه لعشرات الكيلو مترات، وارتفاع ملوحة
الأراضي حوله في حوض الأورال، وتلوث الثروة السمكية نتيجة لانخفاض منسوب مياهه
واستخدام بعض جزره في تجارب الأسلحة الكيميائية والجرثومية كما توضح على لسان
المسؤولين بعد الاستقلال. وأدت كلها إلى تعريض صحة سكان حوض بحر الأورال لآثار
كارثية تمثلت بانتشار الأمراض الفتاكة بين البالغين وارتفاع نسبة وفيات وأمراض
الأطفال الرضع.
وما هذا إلا نتيجة لسياسة "الاستعمار
الزراعي" التي جعلت أوزبكستان مزرعة للقطن، واعتماد الزراعة على إنتاج
المحصول الواحد واستخدام الأسمدة الكيميائية والمبيدات الحشرية لزيادة المحاصيل،
الذي أدى بدوره إلى اختلال تركيب التربة وتلوث المياه والبيئة والإضرار بصحة
المواطنين.
ففي عام 1928 كانت مساحة الأراضي المزودة
بشبكة ري حديثة 1,360,700 هكتاراً، خصصت 44,7% منها لزراعة القمح، و38,9% لزراعة
القطن، و16,4% لزراعة الخضار والفواكه والمحاصيل الزراعية الأخرى.وتوسعت تلك
الأراضي عام 1932م لتبلغ 1,776,500 هكتاراً خصصت 55,9% منها لزراعة القطن، بحيث
أصبحت أوزبكستان توفر 61% من إجمالي محاصيل القطن في الاتحاد السوفييتي السابق.
تنفيذاً لمساعي موسكو للاستغناء عن استيراد القطن من الخارج، فقد كان الاتحاد
السوفييتي يستورد خلال العشرينات 41% من احتياجاته القطنية من الخارج، وانخفضت تلك
النسبة في عام 1933 إلى 2,6% فقط.
وأدى فرض زراعة القطن في أوزبكستان إلى إجراء
تغييرات جذرية في نظام الري والصرف يتفق واحتياجات إنتاج هذا المحصول الإستراتيجي.
وشهدت مناطق أوزبكستان المختلفة توسعاً ملحوظاً في بناء شبكات الري، ولكن بنفس
الأسلوب الاستعماري الذي اتبعه المستعمر الأوروبي في أنحاء مختلفة من العالم
الثالث. فقد تم في عام 1939م إنشاء قناة لاغان البالغ طولها 19 كم خلال فترة
قياسية لذلك الوقت بلغت سبعة عشر يوماً فقط. استخدمت فيه السلطات السوفييتية أربعة
عشر ألف مواطن أوزبكي بنظام السخرة. وفي نفس العام تم تشييد 45 قناة للري بنفس
أسلوب السخرة السيئ، من بينها قناة فرغانة الكبرى بطول 18 ميلاً، وسخر بالمجان
لبنائها أكثر من ستة عشر ألف أوزبكي وعشرين ألف طاجيكي خلال 45 يوماً. وأشرف عليهم
حوالي ألف مهندس من العناصر السلافية وخاصة الروسية التي كانت تحتكر لها المراكز
القيادية في النشاطات الصناعية والسكنية في المدن الكبرى في أوزبكستان. مما ولد
شعور الاضطهاد الجماعي لدى الأوزبك في بلادهم.
وإضافة إلى كل ذلك فقد كانت موسكو تتبع سياسة
مزدوجة حيال التنمية في مختلف المناطق الخاضعة للسلطة السوفييتية. فكانت في الوقت
الذي تفرض فيه على طشقند بناء مشروعات ري ضخمة تستنزف وتبدد مواردها من المياه،
وتعرضها للكارثة البيئية، كانت تعارض أية مقترحات أوزبكية لتحويل المياه من مناطق أخرى
في الاتحاد السوفييتي وخاصة من الأراضي الروسية في سيبيريا لدعم مشاريع التوسع
بزراعة القطن الذي تحتاجه روسيا نفسها. ومن بين تلك المقترحات كان الاقتراح الذي
قدمته القيادة الأوزبكية خلال السبعينات والثمانينات من القرن العشرين لتوفير
مصادر مياه للري من خارج أوزبكستان لتعويض المياه المحلية التي استنفذت وأدت
لانحسار مياه بحر الأورال المغلق، ولتفادي الأخطار البيئية التي بدت واضحة حينها.
اقترحت القيادة الأوزبكية تحويل جزء من مياه نهري إرتش وأوب السيبيريين عبر قناة
طولها 2550 كم عبر نهر سرداريا لتصب في بحر الأورال. وقد رفضت موسكو هذا الاقتراح
في كانون الأول/ديسمبر عام 1983 جملة وتفصيلاً لأنه ينطوي على نتائج تهدد البيئة
في الجزء الشمالي من الاتحاد السوفييتي السابق، وأن تكاليفه المالية ضخمة. وفي هذا
مثال فاضح لسياسة التمييز الاقتصادي وإتباع سياستين بيئيتين الأولى ضد المصالح
الأوزبكية ودول آسيا المركزية الأخرى، والثانية تحمي البيئة في روسيا من أي خطر قد
يلحق بها.
وعند الحديث عن البنية السياسية في جمهورية
أوزبكستان خلال العهد السوفييتي فإننا نرى أنها تعرضت للضغوط والتبعية لروسيا
مثلها مثل البنية الاقتصادية. وبدت تلك الضغوط واضحة منذ ترسيم الحدود السياسية
والديموغرافية لأوزبكستان بعد إنهاء القوات البلشفية احتلال إمارة بخارى في
2/9/1920، والطريقة التي تعامل بها لينين مع التقرير الذي رفعته له لجنة شؤون
تركستان. فقد كان رأي لينين تقسيم تركستان إلى ثلاث كيانات، هي: أوزبكستان،
وقرغيزستان، وتركمانستان. إلا أن مؤتمر السوفييتيات الذي انعقد في موسكو في نهاية
عام 1922م تبنى معاهدة الاتحاد التي تعتبر تركستان إحدى جمهوريات الاتحاد
السوفييتي.
ولكن المكتب السياسي للحزب الشيوعي الروسي عاد
مرة أخرى في 12/6/1924 وأصدر مرسوماً قسم بموجبه المنطقة على أساس قومي. وفي
27/10/1924 أصدرت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي مرسوماً آخر قسم
المنطقة وفق مبدأ تقرير المصير؟، وأحدث جمهورية أوزبكستان السوفييتية الاشتراكية،
وضمت حينها جمهورية طاجكستان السوفييتية الاشتراكية ذات الحكم الذاتي، ومن ثم فصلت
عن أوزبكستان وأصبحت جمهورية اتحادية في عام 1929. وصدق مجلس السوفييت الأعلى
لجمهورية أوزبكستان في شباط/فبراير 1925 على المرسوم وأعلن قيام جمهورية أوزبكستان
السوفييتية الاشتراكية. وتبعه اختيار أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي
الأوزبكي، وأعضاء مجلس قوميساري الشعب (مجلس الوزراء).
ونجحت روسيا بذلك ولأول مرة في إضفاء الشرعية
على تقسيم تركستان الروسية إلى دول قومية غير واضحة المعالم لأن الكثير من الأوزبك
كانوا يعيشون في الجمهوريات الأخرى، وأبناء القوميات الأخرى يعيشون داخل
أوزبكستان. وهو الوضع غير المتجانس الذي خلقته موسكو في المنطقة، ويخدم مصالحها
ومخططاتها الاستعمارية الضيقة فقط، وهو ما تعاني منه الجمهوريات المستقلة في آسيا
المركزية حتى اليوم. وتواجهها جمهورية أوزبكستان بعد استقلالها بجهود مخلصة لخلق
روح التضامن الوطني، بين أبناء كل القوميات التي تسكن الجمهورية، وإزكاء الشعور
بالانتماء للوطن الذي يجمعهم جميعاً متساوين بالحقوق الواجبات.
وسخرية القدر أن السلطات السوفييتية في موسكو
نفسها، كانت غير مقتنعة تماماً بما تفعله، والدليل على ذلك تخلصها من الكوادر
القيادية الأوزبكية في السلطتين الحزبية المسيطرة، والتنفيذية. وقامت باستبعاد
فايز الله حجاييف رئيس مجلس الوزراء عن السلطة بقرار من المؤتمر السابع للحزب
الشيوعي الأوزبكي في حزيران/يونيو عام 1937، بتهمة دفن أخيه وفق التقاليد
الإسلامية. وتبعه إقصاء أكمال إكراموف السكرتير الأول للحزب الشيوعي الأوزبكي،
بتهمة ميوله القومية وسعيه للمحافظة على التقاليد القومية الأوزبكية أكثر من
الالتزام بالخط الرسمي للحزب، ومن ثم إعدامهما عام 1938 بعد تجريدهما من عضوية
الحزب الشيوعي. ولم تهدأ سياسة الإقصاء والإبعاد عن السلطة في أوزبكستان التي
اتبعتها السلطة المركزية في موسكو ضد القيادات من أبناء القومية الأوزبكية طيلة
الحكم السوفييتي، بل راحت أكثر من ذلك عندما طاردت الزعيم الأوزبكي شرف رشيدوف
الذي قضى في السلطة زهاء ربع القرن، حتى بعد وفاته عام 1983، في قضية الفساد التي
قادها المركز في موسكو للنيل من القيادات الوطنية الأوزبكية وإضعاف الروح القومية
لدى الأوزبك، وتسليم السلطة لعناصر غير أوزبكية كما حدث فعلاً أثناء ما كان يعرف
آنذاك بقضية "القطن"، استغلتها موسكو للتخلص من القيادات الأوزبكية
وإضعاف ثقة الأوزبك برموزهم القيادية داخل الحزب الشيوعي، فتخلصت من 143 عضواً من
أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الأوزبكي من أصل 177 عضواً، تبعها إلقاء
القبض على نحو 2600 شخصية قيادية أوزبكية في أوزبكستان وموسكو بتهمة المشاركة
بالتلاعب بحسابات القطن.
وقد أدت الحملة الشعواء التي شنتها موسكو
السوفييتية ضد القيادات الأوزبكية إلى عكس النتائج المرجوة تماماً، فبدلاً من
إضعاف الثقة بالقيادات الوطنية الأوزبكية، ضعفت ثقة الأوزبك بالنظام السوفييتي
برمته، وخاصة بقياداته القابعة في موسكو. مما مهد السبيل للنهضة القومية والصحوة
الدينية اللتان كانتا كرد فعل على تصرفات موسكو السوفييتية غير المسؤولة.
وقضية المشاعر القومية والدينية في أوزبكستان
كانت الشغل الشاغل لموسكو الإمبراطورية والسوفييتية على السواء. فالمنطقة التي
أقيمت عليها جمهورية أوزبكستان بقرار من موسكو كانت قلعة الإسلام دائماً، بسبب عدد
سكانها وتاريخها الإسلامي العريق، وامتلاكها لثلثي العدد الإجمالي من المساجد العاملة
في الاتحاد السوفييتي السابق، والتي كان يقدر عددها بنحو 230 مسجداً. وكان عودة
الروح القومية والصحوة الدينية في أوزبكستان نذير بعودتها لآسيا الوسطى وقازاقستان
السوفييتية برمتها، لأن القيادة الإسلامية الرسمية في المنطقة كانت في طشقند. مما
دعى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي إلى مناقشة الموضوع في الاجتماع
الكامل الذي عقدته في أيلول/سبتمبر 1986، حيث أشار بعض المتحدثين إلى الوضع الديني
المتأزم في أوزبكستان. تبعته حملة شنتها صحيفة الحزب المركزية "برافدا -
الحقيقة" وجهت من خلالها اللوم إلى الحزب الشيوعي الأوزبكي لتقصيره في محاربة
المد القومي والصحو الدينية الآخذة بالانتشار داخل أوزبكستان.
وفشلت حتى المساعي التي بذلها زعيم الحزب
الشيوعي السوفييتي آنذاك ميخائيل غورباتشوف في هذا المجال، وخاصة في مطالبته للحزب
الشيوعي الأوزبكي بالعمل الجدي لمحاربة كافة مظاهر الصحوة الدينية، وزيادة جهود
العاملين على نشر الدعوة "الإلحادية" داخل الجمهورية، في كلمته التي
ألقاها في طشقند أثناء توقفه فيها في طريقه إلى الهند عام 1986. تبعتها حملة
إعلامية شنتها الصحيفة الأدبية الموسكوفية "ليتيراتورنايا غازييتا" القصد
منها النيل من القيادات الأوزبكية، منها ما نشرته عن أن "مدير مركز الاتصالات
بمدينة طشقند، وأحد القيادات الشبابية في الجمهورية، كانا ضالعان في النشاطات
الدينية، وتحديداً في حلقات تلاوة القرآن الكريم".
وتحت الضغوط التي مارستها موسكو السوفييتية
اضطرت قيادة الحزب الشيوعي الأوزبكي إلى اتخاذ بعض الإجراءات ضد صور التعبير
الديني في الجمهورية. وتم استبعاد كل من ثبت عدم التزامه بالخط الإيديولوجي للحزب
الشيوعي السوفييتي، وخاصة الموقف الديني من صفوف الحزب. وخلال الأشهر الستة الأولى
من عام 1987 تم فصل 53 عضواً من الحزب بتهمة تنظيم أو المشاركة في النشاطات
الدينية، التي لم تتعدى كونها الالتزام بالتقاليد الإسلامية من ختان الأولاد
والزواج والدفن. ووجه اللوم إلى أعضاء الحزب في محافظة جيزاك، مسقط رأس شرف رشيدوف
لتبرعهم بمبلغ نصف مليون روبل لترميم دور العبادة. ووجهت التهمة لأمين سر اللجنة
الحزبية في مدينة بخارى لتشجيعه على بناء مسجد ومقبرة للمسلمين فيها.
ولكن سرعان ما تبدل تشدد غورباتشوف تحت تأثير
سياسة إعادة البناء "البريسترويكا"، والعلنية "غلاسنوست" التي
اتبعها، وتغاضت موسكو السوفييتية بموجبها عن حرية التعبير في الجمهوريات
الاتحادية. وهو ما استفادت منه روسيا الاتحادية للاحتفال بالذكرى الألفية الأولى
لدخول المسيحية إلى روسيا عام 1989، الأمر الذي أدى إلى إزكاء المشاعر الدينية
والقومية للأوزبك وخاصة عندما لجأت الصحف السوفييتية إلى الربط الوثيق بين الثقافة
الروسية وتقاليد الدين المسيحي، والدور التاريخي للكنيسة الأرثوذكسية في ذلك،
بينما كانت الأوساط الصحفية والفكرية الروسية تهاجم الدين الإسلامي وتعتبره
مسؤولاً عن الجمود والتخلف في المناطق الإسلامية من الاتحاد السوفييتي السابق. مما
دعى بعض المثقفين الأوزبك للرد على هذا التحيز الموجه ضد الإسلام، مطالبين بوقف
تلك الحملات الإعلامية المتحيزة وغير المبررة ضد الإسلام، داعين إلى تبني موقف
متوازن وعادل حيال كل الأديان يقيم من خلالها السلبيات والإيجابيات لكل الأديان
بغض النظر عن تسمياتها.
وتحت ضغط من النهضة القومية والدينية في
أوزبكستان، والإصرار على أن يكون للتقاليد والثقافة الإسلامية مكانها الطبيعي في
الثقافة الأوزبكية، وتحت تأثير تبدل المواقف الدولية، بعد توقيع الاتحاد السوفييتي
السابق في شباط/فبراير عام 1989، على اتفاقية انسحاب قوات الاحتلال السوفييتية من
أفغانستان، تراجع غورباتشوف عن موقفه الذي أعلنه في طشقند عام 1987 تحسباً من
الهجوم المتوقع للمجاهدين الأفغان على نظام الحكم الذي خلفته قوات الاحتلال
السوفييتية وراءها في كابول، وهو ما سيزيد من أخطار الضغوط المتوقعة ضد جمهوريات
آسيا الوسطى وقازاقستان السوفييتية بعد ذلك الانسحاب. وتبنى غورباتشوف سياسة أقل
تشدداً ضد الصحوة الدينية والقومية في آسيا الوسطى وقازاقستان السوفييتية، وتحدث
أثناء زيارته لطشقند عام 1988 عن الوجه الإيجابي للدين الإسلامي مناقضاً لموقفه
المعلن السابق.
ومع حالة عدم الاستقرار القيادية التي شهدتها
أوزبكستان ونتيجة لحملات التطهير المتوالية التي أعقبت فضيحة "القطن"،
ومثلت قمة مظاهر العصبية التي انتابت القيادة السوفييتية في السنوات الأخيرة من
عمر الاتحاد السوفييتي السابق، وكانت من الأسباب الرئيسية لإضعاف مصداقية الحزب
الشيوعي في المجتمع الأوزبكي، وتراجع شرعيته في الحكم. بحثت موسكو السوفييتية عن
قيادات جديدة للحزب تكون قادرة على تحقيق الاستقرار ومواجهة أحداث العنف التي أخذت
بالظهور ليس في أوزبكستان وحدها بل وفي المنطقة بأسرها. ولكن حسابات موسكو
السوفييتية جاءت خاطئة مرة أخرى، لأن القيادة الجديدة التي وصلت لسدة الحكم في
طشقند كان همها الأول ليس الحفاظ على الحزب الشيوعي كواجهة تاريخية لقيادة
متداعية، بل قيادة أوزبكستان لمرحلة جديدة من تاريخها، والسير بها نحو الاستقلال.
تلك المرحلة التي قادها وبجدارة الأمين الأول الجديد للحزب الشيوعي الأوزبكي إسلام
كريموف.
فقد وجد الأوزبك بشخصية إسلام كريموف الذي
أنتخب أميناً أولاً للجنة المركزية للحزب الشيوعي في جمهورية أوزبكستان آنذاك،
الشخصية التي تستطيع تحقيق الاستقرار، وتلتف حولها القوى السياسية والاجتماعية
الأوزبكية. وهكذا جاء انتخابه تلبية لرغبة الرئيس السوفييتي السابق ميخائيل
غورباتشوف، لأن كريموف كان القائد الشاب الذي لا يختلف أحد في نزاهته، وملبياً
لتطلعات القيادات والقوى السياسية والفكرية والاجتماعية الأوزبكية، ولخلفيته
العلمية والمهنية وميوله الإصلاحية وحرصه على احترام التقاليد القومية الأوزبكية.
ونجح إسلام كريموف منذ توليه مقاليد الحكم في
أوزبكستان بتحقيق الاستقرار، واقتلاع أسباب الفتنة التي شهدتها فرغانة أثناء عهد
القيادة السابقة، ومنع انتشارها لمناطق أخرى في الجمهورية. لتحدثه بالمنطق الذي
يفهمه ويحتاجه المجتمع الأوزبكي الغاضب من السياسات التي اتبعتها موسكو السوفييتية
حيال الفتنة. من خلال استجابته للمطالب الشعبية باحترام السيادة الأوزبكية،
انطلاقاً من قناعته الراسخة بضرورة إعادة الأمور إلى نصابها، بعد سنوات طويلة من
التبعية لموسكو السوفييتية. وإثباته بأنه قائد جاء لموقع القيادة ليلبي مطالب
الجميع، وليس فئة على حساب فئة أخرى. مركزاً على الحفاظ على الشخصية القومية
الأوزبكية وتطويرها، والدفاع عن مفهوم أوزبكستان المستقلة.
ودأب منذ الأيام الأولى لتوليه السلطة على
إبراز كل أشكال التمييز التي اتبعتها موسكو السوفييتية مع الأوزبك اقتصاديا
وثقافياً. ولأول مرة أعلن ومن على منبر اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الأوزبكي
السابق وجود مليون عاطل عن العمل في أوزبكستان، وحمل موسكو السوفييتية المسؤولية
عن انخفاض مستوى دخل 45% من الأوزبك إلى مادون حد الكفاية السائد في الاتحاد
السوفييتي آنذاك وهو 78 روبلاً في الشهر.
وقد حظي برنامج إسلام كريموف لإعادة بناء
الهوية القومية الأوزبكية بدعم مختلف القوى على الساحة الأوزبكستانية، ومن أبرزها
دعم سماحة مفتي آسيا الوسطى وقازاقستان السوفييتية آنذاك محمد يوسف، لما دعى إليه
إسلام كريموف في برنامجه من ضرورة محاربة مظاهر العنف والتطرف الديني، والسماح
لكافة مظاهر الدين الإسلامي السمحة بالتعبير عن نفسها بحرية، بعد سنوات طويلة من
القمع والتشويه تحت تأثير آلة الدعوة الإلحادية السوفييتية.
ولكن تختلف التجربة العلمانية الأوزبكستانية
عن غيرها في دول العالم، وتتمثل في التعايش السلمي بين الدين والدولة. فالدولة
تصون الدين وتمنحه حرية الدعوة وممارسة عقائده الدينية، ويوفر رجال الدين للدولة
فرصة العمل على تصريف شؤون البلاد في ظل من الوئام الوطني والاستقرار، فلا أحد
يفرض رأيه على أحد، والجميع يعملون في ظل دستور البلاد وقوانينها الصادرة بالطرق
الديمقراطية والملزمة للجميع. وعن التسامح الديني في جمهورية أوزبكستان يتحدث تقرير
مكتب منظمة الأمم المتحدة في طشقند عن التطور الإنساني في أوزبكستان عام 1999 الذي
أورد أرقام عن عدد المنظمات الدينية المسجلة والعاملة في الجمهورية والبالغة 1671
منها 1555 إسلامية، و8 بهائية، و8 يهودية والبقية مراكز مسيحية منها 26 للكنيسة
الروسية الأرثوذكسية، و44 للكنيسة البروتستانتية الكورية. بالإضافة إلى 10 مؤسسات
تعليمية إسلامية تأسس 8 منها بعد الاستقلال، ويدرس فيها 994 طالباً ويعمل فيها 169
مدرساً منهم 78 يحملون مؤهلات التعليم العالي، ومؤسسة تعليمية مسيحية واحدة تأسست
عام 1998، تابعة للكنيسة الروسية الأرثوذكسية يدرس فيها 13 طالباً، ويعمل فيها 13
مدرساً يحملون جميعاً مؤهلات التعليم العالي. وعن الموقع الإسلامي الهام للجمهورية
يتحدث التقرير نفسه فيذكر المقدسات الإسلامية الـ 160، والأكثر من 2000 مسجد
الموزعة في أنحاء مختلفة من الجمهورية. ويذكر أيضاً أنه خلال سنوات الاستقلال
الثمانية فقط أدى فريضة الحج أكثر من 30000 حاج مسلم، والعمرة أكثر من 50000 مسلم،
ونعتقد أن هذا لا يحتاج لأي تعليق.
وكان من قمة المواقف الوطنية والجريئة التي
أعلنها الرئيس إسلام كريموف منذ توليه السلطة في أوزبكستان، إعلانه أمام المؤتمر
العشرين للحزب الشيوعي الأوزبكي في حزيران/يونيو 1990، إلى أن كل ما تمر به
أوزبكستان من صعوبات مختلفة، كانت من خلق قوى وعوامل خارجية، ملمحاً بذلك إلى دور
موسكو السوفييتية. واعتبر أن حل كل تلك المشكلات يكمن في حصول أوزبكستان على
سيادتها كاملة غير منقوصة. ووافق المؤتمر ولأول مرة في تاريخ أوزبكستان المعاصر،
وبناء على اقتراح تقدم به الرئيس كريموف، على اعتبار اللغة الأوزبكية اللغة
الرسمية في الدولة، وحث المؤتمر على اتخاذ إجراءات تنال الكوادر القيادية للحزب،
وتكفل الوصول إلى هدف السيادة الكاملة.
وفتح المجال واسعاً أمام وسائل الإعلام
الجماهيرية الأوزبكستانية لإعادة تاريخ "فضيحة القطن"، وتصحيح الصورة
السلبية المتعمدة التي خلقتها الصحافة السوفييتية عن أوزبكستان، ورد الاعتبار
لأوزبكستان. وتواصلت جهوده الداعمة للنهضة الوطنية في أوزبكستان، وشملت المجال
العسكري. تلبية للأصوات التي نددت منذ آذار/مارس 1990 بالمعاملة القاسية التي
يتعرض لها المجندون الأوزبك على يد القيادات العسكرية السلافية، وإلحاق معظم
المجندين الأوزبك بقطعات التشييد والبناء. وهو ما سبب حدوث حالات وفاة للعديد من
المجندين الأوزبك، وأدى إلى إثارة المشاعر القومية إلى حد اضطرت معه الحكومة إلى
خفض نسبة المجندين الأوزبك المرسلين للخدمة في قطعات التشييد والبناء.
واستفادت أوزبكستان من الظروف التي كانت تعصف
بالاتحاد السوفييتي السابق خلال عام 1990، واستغلت فرصة إعلان البرلمان الروسي في
حزيران/يونيو 1990 أولوية القوانين الروسية على القوانين السوفييتية، وانتخاب
باريس يلتسن رئيساً لجمهورية روسيا الاتحادية. فقام مجلس السوفييت الأعلى في
جمهورية أوزبكستان، بإعلان السيادة وأولوية القوانين الأوزبكية عن القوانين
السوفييتية، وانتخب إسلام كريموف رئيساً للجمهورية. وكان هذا دعماً للخط الذي سار
عليه منذ توليه للسلطة في أوزبكستان، لتصفية القواعد السياسية لتبعية أوزبكستان
لموسكو السوفييتية. والمضي قدماً نحو تحقيق الاستقلال والسيادة، وهو ما تبناه
وأعلنه البرلمان الأوزبكي في 31/8/1991. وتبعه إعلان الحزب الشيوعي الأوزبكي في
4/9/1991 عن حل نفسه طواعية. لتدشن مرحلة جديدة من حياة الشعب الأوزبكي، التي
طالما انتظرها، وهي مرحلة بناء الدولة المستقلة المتمتعة بكامل السيادة على ترابها
الوطني.
الفصل الثاني: أوزبكستان بناء السيادة
والاستقلال: جاء استقلال جمهورية أوزبكستان في مطلع تسعينات القرن العشرين، في ظل
العولمة، التي جاءت نتيجة للتشابك الإقليمي والدولي الشديد. العولمة التي أخذت
تتحدى الشخصية القومية للدولة، وتفرض عليها التعايش مع ظروف العولمة المتسارعة وهي
تخترق الحدود السياسية والقومية والجغرافية لجميع دول العالم. مما فرض على الدول
الفتية إضافة لبناء سيادتها كدولة ناشئة، تحدي وضع الضوابط اللازمة للحفاظ على
سيادتها الوطنية. الأمر الذي فرض على أوزبكستان بعد أن تخلصت للتو من استعمار
واستغلال طويل امتد لأكثر من قرن.
وبغض النظر عن العوامل الخارجية، تعتبر عملية
بناء الدولة الحديثة من أكثر عمليات التغيير السياسي والاجتماعي تعقيداً وصعوبة.
فهي تتطلب بناء مؤسسات جديدة، وتغيير قيم وعادات قديمة تأثرت بالمرحلة الاستعمارية
ليحل مكانها عادات وقيم معاصرة، وبناء كوادر متخصصة قادرة على النهوض بالدولة
الناشئة، إضافة إلى تحقيق التماسك الوطني، وترسيخ الإحساس بهوية وطنية واحدة.
وكلها يجب أن تتم بمعزل عن أي ضغط أو تدخل خارجي.
ويمكن التسليم بمقولة تأثير العولمة على
السيادة القومية للدول المستقلة، ولكن ما هي حال الدول التي تبنى في عصر العولمة ؟
فالعولمة أساساً جاءت على أرضية الدول القومية المنخرطة أو غير المنخرطة بالنظام
الدولي وقواعده من خلال التأثيرات الخارجية على تلك الدول، لما لذلك التأثير من
ضغط يؤدي إلى تغيير حتى في السياسة الداخلية للدول المستقلة. وللعولمة تأثير مباشر
على عملية بناء الدولة، وينعكس في اتجاهين اثنين، هما:
الأول: أن عملية العولمة فرضت من خلال زخمها
المعاصر تهديداً لعملية بناء الدولة المعاصرة، ليس فقط لأنها تأتي من الخارج، بل
لأنها تفتح بتأثيراتها الخارجية الباب أما ظهور تحديات داخلية. لأن للعولمة تأثير
"ابتلاعي" لا يقبل أن يعيش في الظل، أو أن يتوارى حتى أمام أكثر مفاهيم
علم السياسة رسوخاً، كمفهوم الدولة. نتيجة الترابط الوثيق بين مكونات النظام
الدولي المعاصر، وتدافع عملية الاعتماد المتبادل بين الدول، وخاصة في المجال
الاقتصادي واتساع حركة رؤوس الأموال والهجرة الدولية للسكان. بحيث أصبحت سيادة
الدولة، بمعنى الحق المطلق بالتصرف في الشؤون الخاصة مجال شك. وينطلق هذا الاتجاه
من أن العولمة تفرض على الدولة القومية تحديات لا يمكن مواجهتها إلا بتضحيات كبيرة
تصل إلى المساس بحقها في إدارة عملية بناء الدولة وفق التصور الذي تحدده الدولة
بنفسها. ومن بين ما يراه دعاة هذا التيار، أن العولمة فرضت جملة من الحقائق
والعمليات على مسار بناء الدولة في العالم النامي يمكن إيجازها بالتالي:
المحلية الدولية: وهو مفهوم يشير إلى دور
العولمة في بعث الروح المحلية سياسياً واقتصاديا داخل الدولة القومية. لأن العولمة
بتأكيدها على أهمية البناء الديمقراطي، تشجع على التوسع في اللامركزية. وبما أن
اللامركزية هي التطبيق الإداري للديمقراطية السياسية، فإن مركز الحكم في الدولة
التي تمر بمرحلة التحول الديمقراطي، تقدم تنازلات للمجتمع المحلي الذي يوظف تلك
التنازلات لإعادة إحياء الرموز الثقافية الوطنية، وتفعيل وزنها السياسي النسبي على
الساحة القومية للدولة.
تلاشي الوسط الاجتماعي: بسبب التأثير السلبي
للعولمة على الروابط التي تجمع كل فئات الشعب وطبقاته في إطار واحد. فقبل العولمة
كانت الوحدة الوطنية تقرب الفوارق، وتخلق قطاع اجتماعي عريض. أما مع العولمة فقد
ازدادت الهوة داخل الدولة بين الشرائح الاقتصادية، بشكل أخذ يهدد مفهوم الوسط
الاجتماعي المحلي بالتلاشي والهامشية.
الخارج داخلي: لأن العولمة نجحت في وضع
العوامل الخارجية في قلب دائرة العوامل المشكلة للتطور السياسي الداخلي في الدولة
أكثر من أي وقت مضى. فبناء الدولة لم يعد مرهوناً في ظل العولمة، بتوافر الشروط
والمقومات الداخلية اللازمة لذلك، وإنما يمكن تحقيقه من خلال الدور الذي يلعبه
فاعلون خارجيين. فالعولمة اليوم تعطي دولاً أجنبية، وخاصة الكبرى منها، غطاءً
للتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، تحت ستار ضمان حقوق الإنسان التي لم تعد
هماً وطنياً بل شأناً دولياً.
الحجم الطبيعي للحكومة: وهذا يعني تقليص حجم
الحكومة، لأن عملية بناء الدولة في ظل العولمة، أصبحت تستدعي تفويض السلطة
للمستويات الأدنى، وبالتالي البحث عن الحجم المناسب للحكومة من خلال تقليصها،
وتحديد نشاطها في مجالات بعينها، على أن يترك للمجتمع الاضطلاع بغيرها.
أما الاتجاه الثاني: فيرى أن العولمة تقوي ولا
تضعف عملية بناء الدولة، بل على العكس تتيح فرصاً فريدة أمام النخب السياسية،
لتحقيق نجاح لا محدود في إتمام عملية بناء الدولة. ويستند هذا التيار على جملة من
الحجج، أهمها:
- أن
العولمة تفرض على الدول النامية، ضرورة تطوير قدراتها الذاتية الاقتصادية
والاجتماعية والثقافية، من أجل الوصول إلى مستوى الأهلية الدولية الذي تحتاجه
عملية العولمة. وللوصول إلى ذلك تشرع النخب السياسية بالتوسع في عملية بناء
الدولة، وتقوية البنى التحتية بمختلف مكوناتها.
- أن
العولمة قدمت تكنولوجيا اتصال حديثة ربطت بقوة بين الدول، وأن تلك التكنولوجيا
نفسها أفادت الدول القومية ومكنتها من ربط مكوناتها، ومراقبتها على نحو أكثر
فاعلية، وبتكاليف أقل.
- أن
مشروع العولمة يستلزم تقوية، وليس إضعاف الدول القومية. فالعولمة بما تنادي به من
تحرير رأس المال، وبناء آليات فعالة للسوق تحتاج إلى توفير ضمانات قاطعة لحقوق
الملكية. والدولة لم تزل هي المؤسسة الأكثر قدرة على ضمان، وكفالة تلك الحقوق،
وبالتالي فإن من مصلحة المهتمين بنجاح العولمة تحفيز وتشجيع عملية بناء الدولة،
وليس إعاقتها.
وعلى الرغم من اختلاف هذين الاتجاهين، فإنه من
الثابت أن الدولة القومية الحديثة العهد كأوزبكستان لابد وأن تراعي الاعتبارات
الخارجية في مشروعها لبناء الذات، كما هي تراعي الاعتبارات الداخلية وليس أقل. لأن
بناء الدولة في ظل العولمة لا يقتصر على مجرد بناء مؤسسات جديدة تتعامل بكفاءة مع
المشكلات الداخلية، بل وفي بناء وتطوير مؤسسات وأساليب تتعامل بحذر مع الضغوط
الناتجة عن العولمة. خاصة وأن بناء الدولة لم يعد اليوم تهدده التحديات الداخلية
فقط، بل وتحديات وتهديدات نابعة من الخارج، وتفرضها بشدة عملية العولمة.
ومن تلك المقدمة نرى حجم الصعوبات التي تواجه
أوزبكستان في عملية بناء الدولة بعد الاستقلال. ومن دراسة متأنية للخطاب السياسي
للقيادة الأوزبكستانية، نرى أن مفهومها عن عملية بناء الدولة، ومشروعها لبناء دولة
مستقلة ذات سيادة تتماشى مع روح العصر يتمتع بمرونة تواجه التحديات الداخلية
والخارجية معاً.
فنرى من تحليل الخطاب السياسي لرئيس جمهورية
أوزبكستان إسلام كريموف في مشروعه الجريء لبناء الدولة الحديثة، أنه قد تم في
إطارين لازمين لانطلاقة عملية بناء الدولة:
الأول: بناء الدولة الحديثة وتوفير الشروط
اللازمة لبنائها: فبناء الدول ليس نوعاً من التمنيات، بل هو ثمرة عمل منهجي ومدروس،
ينطلق من أهداف محددة، مع التأكيد على توافر الشروط اللازمة لتحقيق الأهداف
المرسومة. وليس من المبالغة القول بأن توفير تلك الشروط هو أصعب بكثير من رسم
الأهداف. فمهما كانت الأهداف واضحة ومقبولة اجتماعيا، فهي مرتبطة بتوافر الظروف
الملائمة والبيئة المناسبة، التي يمكن أن تترجم الأهداف إلى عمل ملموس.
ومن أول تلك الشروط تحقيق الاستقلال الحقيقي،
لأن عملية بناء الدولة يسبقها إزالة قواعد النظام الاستعماري القديم، لإتاحة
الفرصة أمام تيارات التغيير لتعمل بنجاح، وأهمها قرار إعلان الاستقلال. وكما أشار
اثنان من أساتذة العلوم الاجتماعية الأوزبك وهما: عضو مجمع العلوم الأوزبكستاني
بوري باي أحميدوف رئيس صندوق الأمير تيمور، والبروفيسور زاهد الله منواروف رئيس
صندوق الإمام البخاري الدولي، في كتابهما: "العرب والإسلام في أوزبكستان:
تاريخ آسيا الوسطى من أيام الأسر الحاكمة حتى اليوم"، فإن إعلان الاستقلال لم
يكن سوى الخطوة الأولى على الدرب الشائك، لبناء سيادة الدولة. فقد كانت المركزية
المفرطة، وملكية الدولة غير المحدودة لوسائل الإنتاج، واستنزاف الثروات الطبيعية
وتوجيهها إلى خارج الجمهورية، من المظاهر السلبية التي يجب القضاء عليها، من أجل
فتح الباب أمام إعادة بناء الدولة على أسس سليمة.
وبمجرد إعلان استقلال جمهورية أوزبكستان، بدأت
قيادة البلاد بوضع تصورها النظري للمبادئ التي تتحكم بعملية بناء الدولة. لأن من
الشروط الأساسية لبناء الدولة على أسس سليمة، امتلاك القيادة لرؤية واضحة تحدد من
خلالها توقعات المجتمع، وترسم صورة المستقبل التي يجب أن تكون بحد ذاتها حافزاً
لها لإتمام عملية بناء الدولة.
وانطلقت رؤية الرئيس إسلام كريموف للمبادئ
التي تتحكم بعملية بناء الدولة، من أنها لابد وأن تنطلق من الظروف الخاصة للدولة.
فأوزبكستان لا تستطيع، ولا يمكنها التضحية بالوظيفة الاجتماعية للدولة والتي تحتم
حماية المواطنين اقتصاديا قبل كل شيء. لأن رب الأسرة الأوزبكية المتوسطة يعول
وسطياً سبعة أشخاص، إضافة لعامل زيادة السكان المضطردة فقد بلغت زيادة السكان في
أوزبكستان عام 1992 فقط نحو 550 ألف نسمة. في الوقت التي كانت غيرها من جمهوريات
الاتحاد السوفييتي السابق تعاني من نقص في عدد السكان بلغ في روسيا مثلاً 70 ألف
نسمة خلال نفس العام.
وحتم هذا على أوزبكستان وهي تبني الدولة
الحديثة والمستقلة، أن تراعي خصوصياتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وأن
تنتج نموذجها الخاص، الذي لابد وأن يستفيد من تجارب الدول الأخرى. ومن هذا المنطلق
حدد الرئيس إسلام كريموف خمسة مبادئ أساسية تتحكم بعملية بناء الدولة، وهي: تقديم
الاعتبارات الاقتصادية على الاعتبارات السياسية؛ التأكيد على دور الدولة في برامج
الإصلاح؛ سيادة القانون؛ الضمان الاجتماعي لأصحاب الدخل المحدود؛ التدرج في
الانتقال إلى اقتصاد السوق الحر. (أنظر الفصل الرابع)
ومثلت هذه المبادئ الخمسة الأساس الذي استندت
إليه عملية بناء الدولة، وارتكز عليها مشروع التنمية الشاملة الأوزبكستاني لفترة
ما بعد الاستقلال. إلا أن تحقيق تلك المبادئ لابد وأن يرتبط بتلبية الشروط
البديهية اللازمة لنجاح العمل السياسي. والتي حددتها القيادة الأوزبكية وخاصة
الرئيس إسلام كريموف بتسعة شروط يمكن تلخيصها بالتالي:
مواجهة أخطار التطرف الديني: ففي أعقاب انهيار
الاتحاد السوفييتي السابق، نشأ فراغ إيديولوجي سافر شمل كل الجمهوريات الخمس عشرة
التي كونت الاتحاد السابق، ومن بينها طبعاً جمهورية أوزبكستان. وفي ظل ظروف الفراغ
تلك، سعت بعض التيارات الإسلامية المتشددة إلى التسلل إلى داخل أوزبكستان لسد ذلك
الفراغ، عن طريق طرح بديل ديني متشدد اصطدم مع توجهات الدولة، نحو بث روح التسامح
الديني وثقافة التحديث. ولا تكمن خطورة تلك الحركات في الأفكار المتشددة التي
طرحتها، بل بجذبها لبعض قطاعات الشعب، وخاصة الشباب الذين يفتقرون للوعي الديني
الأصيل. والخطورة الأكبر في أنها نشأت على أرضية الصعوبات الاقتصادية التي برزت
بعد الاستقلال وانهيار الاتحاد السوفييتي السابق، وأخذت شعاراتها البراقة طريقها
لأوساط اجتماعية معينة. ومن هذا المنطلق حرصت الحكومة الأوزبكستانية على مواجهة كل
تعبير مشوه عن الدين الإسلامي الحنيف، قد تلجأ إليه القوى المتطرفة. ومواجهة
التخريب الذي أخذت تمارسه تلك القوى المتطرفة، لعرقلة عملية بناء الدولة المستقلة
وزعزعة استقرارها وأمنها الداخلي وسلامة حدودها الخارجية، والنيل من أمن وسلامة
المواطنين.
ولم تقتصر جهود الحكومة بمواجهة تيارات التطرف
والعنف الديني، التي بدأت حتى في الفترة التي سبقت الاستقلال (خلال ما عرف بمرحلة
البريسترويكا قبل انهيار الاتحاد السوفييتي)، باستخدام القوة المشروعة ضد تلك
التيارات المتطرفة، بل شملت أساليب أخرى كالاحتواء عن طريق طرح بدائل معتدلة سمحت
لمؤسسات الدولة أن تكون أكثر جاذبية للشباب والأوساط الاجتماعية المختلفة، وقاية
وحماية لها من السقوط فريسة سهلة لقوى التطرف الديني. فقامت بتأسيس المركز الدولي
للدراسات الإسلامية بطشقند في ربيع عام 1994، تأكيداً من الدولة على الدور الهام
الذي يلعبه الدين في الحياة الاجتماعية والعلمية. وليكون هذا المركز، مركزاً
للإشعاع تطل منه الدراسات الإسلامية التي تتحدث عن الماضي العريق للشعب
الأوزبكستاني، وفي نفس الوقت ليقوم علماء الدين الإسلامي أنفسهم بتعرية التطرف
الديني وتوضيح أخطاره السلبية على الدين والمجتمع. وأتبعته في خريف عام 1999
بافتتاح الجامعة الإسلامية الحكومية بطشقند ليكون منبراً للتعليم الديني الإسلامي
للشباب الأوزبكي بعيداً عن التطرف والتعصب الأعمى والتزمت الديني الذي لا يفيد سوى
أعداء الدين الإسلامي الحنيف. وليأخذ الإسلام مكانته الرفيعة ويكون الأسوة الحسنة
داخل المجتمع الأوزبكستاني متعدد الأديان والمذاهب الدينية. وجاء إصدار الجامعة
الإسلامية في طشقند عام 2001، لأول مصحف شريف باللغة العربية، مع شرح معانيه
الكريمة باللغة الأوزبكية، قام بوضعه جملة من رحال الدين والمستعربين الأوزبك
المعروفين في الأوساط الدينية والاجتماعية، من بينهم سماحة المفتي عبد الرشيد قاري
بهراموف، والشيخ عبد العزيز منصور، والبروفيسور حميد الله كرماتوف رئيس الجامعة
الإسلامية بطشقند، والدكتور زهر الدين حسن الدينوف، والبروفيسور نعمة الله
إبراهيموف رئيس معهد طشقند الحكومي العالي للدراسات الشرقية، والدكتور الشيخ رحمة
الله قاري عبيدوف، والبروفيسور زاهد جان إسلاموف مدير المركز الدولي للدراسات
الإسلامية بطشقند، والبروفيسور نجم الدين كاميلوف، والبروفيسور باطر بيك حسانوف
تأكيداً واضحاً للسياسة الحكومية المتبعة لحماية أصول الدين الحنيف من التشويه،
والعمل على نشر الرسالة الإسلامية بوجهها الصحيح.
التصدي للتناقضات العرقية والقومية: التي
خلفتها المرحلة السوفييتية من تاريخ أوزبكستان، فقد أكدت التجربة السوفييتية فشل
التصورات التي سعت من خلالها إلى تحقيق صهر الجميع في بوتقة القالب السوفييتي،
وأثبتت أنه لا يمكن توحيد جميع البشر في هوية واحدة تنسيهم أصولهم العرقية
والقومية والثقافية والدينية، وأثبت فشل التجربة السوفييتية أن ذلك ما هو إلا محض
خيال وجري حثيث نهو الوهم والسراب. لهذا أعلنت القيادة الأوزبكستانية منذ الأيام
الأولى للاستقلال صراحة على لسان رئيس الجمهورية إسلام كريموف في كتابه
//أوزبكستان على عتبة القرن الحادي والعشرين، الذي نشر باللغة العربية في بيروت//
بأن "طموح أية أمة من الأمم لتحقيق حاجاتها ومصالحها، لا ينبغي أن يتم على
حساب الانتقاص من تطلعات أمة أخرى، أو على حساب مصالح ممثلي الشعوب الأخرى. ومن
الضروري إلغاء كل أرضية لبروز العلاقة الفوقية والمستخفة بممثلي أمة من الأمم من
قبل ممثلي الأمم الأخرى".
القضاء على الرشوة والجريمة: انطلاقا من إدراك
الحكومة بأن بناء الدولة يمكن أن يفشل لو تفشت مثل تلك الأمراض الاجتماعية. ولهذا
أعلن إسلام كريموف أن الرشوة تكتسب خطورتها على عملية بناء الدولة، من أنها ترتبط
بظاهرة تسخير الجهاز الحكومي لخدمة أغراض الجريمة المنظمة، وتعتبر صورة موجزة
للفساد بكافة أشكاله وأنواعه. وأن الرشوة ما هي إلا تعبير عن مقاومة الإصلاحات
الجارية، وللحافظ على مصالح النظام الإداري التعسفي الذي استنفذ ذاته، وعلى مصالح
اقتصاد الظل المتطلع نحو عرقلة العلاقات الاقتصادية الجديدة، لأنها تشكل تهديداً
مباشراً لوجودهما معاً.
ومن ناحية أخرى اعتبرت الحكومة الأوزبكستانية
أن انتشار الرشوة والفساد، ينسف الأسس الدستورية للدولة من جذورها، ويقوض الدعائم
التي قام عليها دستور البلاد. وبدون التصدي لمثل تلك الجرائم سيتحول الدستور إلى
وثيقة عديمة الجدوى، وأن حدوث مثل تلك الجرائم سيعرض بناء الدولة لانتكاسات لا يحمد
عقباها، لأن عملية بناء الدولة يجب أن تتم على قاعدة قانونية ثابتة ومحترمة من
الجميع، ولا يسمح لأحد بتخطيها أو انتهاكها. ومن ناحية أخرى فإن جرائم الرشوة لابد
وأن تقوض الأسس الأخلاقية للمجتمع، وتضعف الروح المعنوية للكثير من قطاعاته
والأخطر من ذلك أنها تزيد من تطلعات أصحاب الأموال غير المشروعة للحصول على
المناصب السياسية، وهو ما اعتبرته القيادة الأوزبكستانية مسألة شديدة الخطورة،
لأنه ليس من الصعب تصور الأساليب التي ستدار بها الدولة لو وصل أصحاب الأموال غير
المشروعة إلى مؤسسات وأجهزة الحكم.
مقاومة النزعات الإقليمية والقبلية
والعشائرية: انطلاقا من مفهوم المواطنة في عملية بناء الدولة، بحيث يصبح جميع
أفراد المجتمع سواسية، بصرف النظر عن الجذور العرقية والإقليمية والقبلية
والعشائرية التي ينتمون إليها. فالولاء الذي تنشده الدولة الأوزبكستانية هو الولاء
للكيان القومي الذي تجسده الدولة بكاملها، وليس الولاء لفئة قليلة من البشر ضد
فئات أخرى يشكلون بمجموعهم المجتمع الأوزبكستاني بأسره. لهذا دعت القيادة
الأوزبكستانية للحفاظ على التراث الخاص والمميز لكل جماعة عرقية داخل لحمة النسيج
الاجتماعي المتكامل للشعب الأوزبكستاني، ومكافحة كل ظواهر التقوقع العشائري
والقبلي والإقليمي الذي يهدد أمن واستقرار المجتمع بأسره.
بعث القيم الاجتماعية والوعي القومي: لأن
عملية بناء أية دول مستقلة يتطلب تضحيات جسام، لا يمكن أن يقدم عليها الأفراد في
المجتمع دون غاية نبيلة يقتنعون فيها ويضحون من أجلها. لهذا أكد الرئيس إسلام
كريموف على أن نمو الوعي القومي لدى الشعب الأوزبكي، ورده لمنابعه وجذوره
التاريخية، مسألة هامة لنجاح خطط التنمية للنهوض بأوزبكستان المستقلة. لهذا أولت
القيادة الأوزبكستانية مسألة إحياء التاريخ الحقيقي اهتماماً خاصاً، لإخراج
التاريخ الأوزبكي من محبسه الطويل، وشحذ الهمم والعزائم والنهوض بالروح المعنوية
لجميع المواطنين. لأن بناء الدولة ليس في رفع مستوى الإنتاج والتصنيع والمتطلبات
الاقتصادية وحدها، بل قبل كل شيء لابد من بناء المواطن نفسه الذي تقع على عاتقه
مهام بناء الدولة المستقلة.
ومن هذا المنطلق أخذت أوزبكستان منذ استقلالها
تركز على الدور التاريخي الذي لعبته شخصيات تاريخية بارزة كان لها دوراً هاماً في
تاريخ البشرية جمعاء كالإمام إسماعيل البخاري، والإمام الترمذي والعلامة بهاء
الدين نقشبندي والحاج أحمد يسوي والمعلم الطبيب حسين ابن سينا والأمير تيمور
وحفيده ألوغ بيك… وغيرهم، لبناء شخصية الإنسان الأوزبكستاني المعاصر. ولم تقف تلك
الجهود عند الخدمات الجليلة التي قدمها أولئك العظام لأمتهم فقط، بل تعدتها لإحياء
التقاليد النبيلة في التراث التاريخي الإسلامي، ليقوم على أساسها النموذج
الأوزبكستاني الخاص المبني على التسامح ورفض مبدأ "استيراد الإسلام" من
الخارج، والتأكيد على ما للدين الإسلامي الحنيف من قيم في بناء الشخصية
الأوزبكستانية، والحفاظ عليها بعد موجات طويلة من التدخل الأجنبي في مصير الشعب
الأوزبكي. ولهذا وازنت القيادة الأوزبكستانية بين التصدي لقوى التطرف الديني،
والدفاع عن المكانة الهامة للدين الإسلامي في عملية إحياء الروح الوطنية اللازمة
لنجاح عملية بناء الدولة المستقلة.
وهو ما أشار إليه الرئيس كريموف بقوله:
"لا يمكن تصور قوميتنا بمعزل عن الدين الحنيف أبداً، لأن حياتنا تشبعت بالقيم
الدينية والمفاهيم الإسلامية إلى درجة أننا نفقد هويتنا القومية من دون تلك القيم
والمفاهيم … والدين لم يزل يحفظ القيم الثقافية والقومية والإنسانية، وينقلها من
جيل إلى جيل. ولدينا من البراهين ما يؤكد بأن الإسلام هو دين آبائنا
وأجدادنا". وكانت الترجمة العملية لهذا الاتجاه، بإعادة عيدي الفطر السعيد،
والأضحى المبارك للشعب الأوزبكي، واعتبارهما أيام عطلة رسمية في أول قانون عمل صدر
في عهد حكم الرئيس كريموف بعد الاستقلال.
تعزيز القدرة الدفاعية للبلاد: لأن بناء
الدولة المستقلة يحتاج لإطار أمني يحقق لها الاستقرار الذي تحتاجه عملية التنمية
الشاملة، ومن ضمن هذا الإطار القدرة على التصدي لأي تهديد محتمل داخلياً وخارجياً.
وقد تبنت القيادة الأوزبكستانية مفهوماً خاصاً للقدرات الدفاعية، لم يقتصر على
مجرد الاحتياجات العسكرية اللازمة للدفاع عن الدولة وتحقيق الأمن القومي المطلوب،
بل تعدته ليشمل البعد السياسي أيضاً، بهدف إقامة القواعد والضوابط السياسية
اللازمة لضمان عدم الانحراف عن الخط السليم المرسوم لعملية بناء الدولة المستقلة.
وجاء الدستور لإرساء القواعد الفاصلة بين السلطات الدستورية، للتخلص وإلى الأبد من
الموروثات السياسية الآمرة للعهد السوفييتي البائد. وأعطي للمحلة (الحي)، وهي
الخلية الأساسية للتجمعات السكانية في جمهورية أوزبكستان، أهمية خاصة في تطوير
الحياة الاجتماعية، وإرساء أسس البناء الديمقراطي، مكانها الملائم لتحقيق الشروط
السياسية الموضوعية اللازمة لتعزيز قدرات الدفاع عن مشروع بناء الدولة الحديثة
داخلياً.
وتم تحويل مجلس السوفييت الأعلى الأوزبكي
المؤسسة التشريعية الشكلية والمتضخمة (كان عدد أعضاء المجلس حتى 25 كانون
أول/ديسمبر 1994 حوالي 500 عضواً) التي ورثتها جمهورية أوزبكستان عن العهد
السوفييتي، إلى سلطة تشريعية دستورية منتخبة تعبر عن الواقع الفعلي والمصالح
الديمقراطية للشعب الأوزبكستاني بعد الاستقلال، وحدد عدد مقاعده بـ 250 مقعداً.
(أنظر الفصل الثالث)
كما وأولت القيادة الأوزبكستانية ذات الاهتمام
لتعزيز القدرات العسكرية الدفاعية للدولة المستقلة. وبدأت الحكومة ببناء جيش وطني
محترف، أناطت به مهام حماية الحدود المعترف بها للدولة، والحفاظ على وحدة أراضيها،
وحماية وضمان الأمن القومي للبلاد. ومن ضمن هذا الإطار تم إنشاء المؤسسات اللازمة
لإعداد كوادر وضباط الجيش الوطني وتدريبهم، وافتتح لذلك أربعة معاهد عسكرية
متوسطة، وكلية حربية عليا فتحت أبوابها عام 1991 لتدريب وإعداد المتخصصين لسلاح
الإشارة، وتبعها افتتاح أكاديمية القوات المسلحة عام 1994. رافقه تفعيل دور مجلس
الأمن القومي ليلعب دوراً بارزاً في تعزيز القدرات الدفاعية والأمنية للدولة
المستقلة.
إرساء القواعد الديمقراطية، وسيادة القانون:
وانطلقت من فهم قيادة الدولة ما للديمقراطية من دور في إرساء القاعدة المتينة التي
يمكن أن ينطلق منها بناء الدولة المستقلة الحديثة. واستفادت في ذلك من التجربة
التي عاشتها أوزبكستان في المرحلة السوفييتية. وجاء تصور الرئيس كريموف بأن
الديمقراطية ممكنة فقط في ظل سيادة القانون الذي يحمي الأفراد ويدافع عن حقوقهم
وحرياتهم. ومن هنا جاء النموذج الديمقراطي الأوزبكستاني الخاص، والبعيد عن
الأساليب الثورية والراديكالية.
فقد اعتبر الرئيس كريموف أن الديمقراطية
وسيادة القانون هما من شروط بناء الدولة الحديثة، وتحقيق تنمية ناجحة. إلا أنه لا
يجب استعارتها من الخارج، خاصة بعد أن تشكلت قناعة ثابتة لدى القيادة
الأوزبكستانية، بأن تدمير كل شيء دون حساب أو تقدير سيهدد لا محال استقلال الدولة
ومصيرها. لهذا وضع الرئيس كريموف هدف عدم إضاعة شيء مما بنته الأجيال السابقة،
والحفاظ على الجيد منها، وإعادة ترتيب كل ما لم يعد يتلاءم والمبادئ الديمقراطية
والمصالح القومية والاستقلال. ولهذا حرصت التجربة الديمقراطية الأوزبكستانية على
البناء التدريجي لمؤسسات المجتمع المدني، وأن تكون الأحزاب السياسية المحصلة
الأخيرة التي تمضي بالمجتمع نحو الهدف المنشود وهو تحقيق التنمية. (أنظر الفصل
الثالث)
التأكيد على دور الدولة في الإصلاحات الجارية:
لأنه على عاتقها يقع أساساً واجب النهوض بعملية التغيير والتنمية الشاملة، ولا
يمكن بحال من الأحوال أن ترفع الدولة يدها تماماً عن عملية التنمية الشاملة،
تمشياً مع الظروف الموضوعية التي خلفها العهد السوفييتي حيث حلت الدولة مكان الفرد
في تحمل كل شيء. والتحول المفاجئ عن دور الدولة قد ينطوي على مخاطر جسيمة، وإلى
تسيب عملية إدارة التنمية، واتساع الهوة الاقتصادية بين الأفراد بشكل يهدد الأمن
والاستقرار الاجتماعي. ومن هذا المنطلق حرصت القيادة الأوزبكستانية على أن يكون
للدولة تدخل محدد لضمان التحول من الاقتصاد المخطط إلى اقتصاد السوق الحر بشكل
سلمي وعلى مراحل، يرافقه سياسة اجتماعية متينة تتبعها الدولة لحماية أصحاب الدخل
المنخفض.
التكامل مع المجتمع الدولي: وفي هذا الإطار حددت القيادة الأوزبكستانية ثلاثة اتجاهات متكاملة تحقق معاً بناء الدولة والتكامل مع المجتمع العالمي، وهي:
التكامل مع المجتمع الدولي: وفي هذا الإطار حددت القيادة الأوزبكستانية ثلاثة اتجاهات متكاملة تحقق معاً بناء الدولة والتكامل مع المجتمع العالمي، وهي:
أولاً: تأمين الحدود المشتركة لأوزبكستان مع
جارتيها أفغانستان التي تعاني من صراع مستمر منذ سنوات طويلة،(أنظر الفصل الرابع)
وطاجكستان التي عانت من صراع سياسي. وتعتبر القيادة الأوزبكستانية أن الضمانة
الحقيقية للأمن القومي الأوزبكستاني يكمن في حل الصراع الدائر بطريقة سلمية تتيح
الاستقرار للمنطقة بأكملها. وهو ما أشار إليه الرئيس كريموف أكثر من مرة، مؤكداً
أن أوزبكستان لا يمكنها بحال من الأحوال تجاهل ما يجري في المنطقة، ونوه إلى أن
تجاهله سيقود إلى أزمة تخرج عن إطار السيطرة وتؤدي إلى كارثة مدمرة في المنطقة
بأكملها، فيما لو خرجت من حدود الدولتين الجارتين وانتشرت في دول الجوار، وأثبتته
الأحداث الدامية التي جرت جنوب قرغيزستان في صيف عام 1999، بعد تسلل عناصر مسلحة
متطرفة للمنطقة من أفغانستان وطاجكستان المجاورتين، وتم طرد المتسللين من هناك
بالتعاون والتنسيق بين القوات المسلحة للدول المعنية ومن بينها أوزبكستان. وعادت
لتتكرر صيف عام 2000 في جنوب أوزبكستان وقرغيزستان من جديد. وانطلاقا من الإيمان
بخطورة الصراعات الإقليمية على الأمن القومي حرصت القيادة الأوزبكستانية على إيجاد
السبل السلمية لحل تلك الصراعات عن طريق تقديم المبادرات، ودعم المبادرات التي
يقدمها الغير ودعم مواقف منظمة الأمم المتحدة حول الصراع الدائر في تلك الدولتين.
وكان آخرها تعاون أوزبكستان مع التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب الذي تشكل بعد أحداث
11 أيلول/سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة الأمريكية.
ثانياً: مواجهة التعصب القومي الإمبراطوري،
والعداء القومي المتمثل بالشوفينية الروسية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق،
واستقلال جمهورياته الخمس عشرة. فلم تزل في روسيا تيارات سياسية تحن إلى الماضي، وتدعوا
إلى إعادة بناء الإمبراطورية الروسية، وهو ما يهدد السلامة الإقليمية، وسيادة دول
رابطة الدول المستقلة، ومن ضمنها أوزبكستان.
وقد أكد الرئيس كريموف في أكثر من موقف
معارضته لإعادة فرض الهيمنة الروسية على الدول المستقلة، وعارض أي توسع في
اختصاصات رابطة الدول المستقلة، أو محاولة تحويلها سياسياً إلى مركز جديد في موسكو
يلوح بإعادة علاقة التبعية التي كانت قائمة بين الدول المستقلة وروسيا. وأكد على
أن أوزبكستان ترفض التعصب القومي الروسي الإمبراطوري، الموجه ضدها بمختلف صوره
وأشكاله، وأن أوزبكستان ستدافع عن سيادتها، وتقاوم أية محاولة لفرض قيود عليها
تحول دون تطوير علاقاتها السياسية والاقتصادية الخارجية، أو فرض أي حصار إعلامي أو
فكري ضدها، أو زرع الشقاق والفرقة بين أبناء القوميات المختلفة التي تشكل بمجموعها
المجتمع الأوزبكستاني المعاصر.
ثالثاً: ربط بناء الدولة في ظل العولمة
بالتكامل البناء مع العالم الخارجي بكل دوله ومنظماته الدولية ومؤسساته الاقتصادية
الكبرى بغض النظر عن التوجهات الإيديولوجية. ولهذا اتجهت السياسة الخارجية
الأوزبكستانية نحو تبني مبدأ أسلوب تعدد الشركاء الخارجيين، وبدأت بالتفاعل مع
أكثر من ساحة إقليمية، وأخذت تبني صلات اقتصادية وسياسية مع دول ذات توجهات
متباينة، رغبة منها في توظيف شبكة متسعة من العلاقات الخارجية في خدمة أهداف
التنمية الشاملة وبناء الدولة الحديثة.
وقد نجحت أوزبكستان بالفعل منذ استقلالها بالحصول على اعتراف أكثر من 170 دولة من دول العالم، وأقامت علاقات دبلوماسية مع أكثر من 120 دولة، فتحت أكثر من أربعين منها سفارات لها في طشقند، منها ست دول عربية هي: مصر، والأردن، وفلسطين، والجزائر، والسعودية، والكويت إضافة لافتتاح أكثر من 90 ممثلية أجنبية، وفروع لأربعة وعشرين منظمة حكومية دولية، وثلاث عشرة منظمة غير حكومية، من بينها فرع هيئة الإغاثة الإسلامية الكويتية. ومن ضمن هذا الاتجاه انضمت أوزبكستان في آذار/مارس 1992 إلى عضوية منظمة الأمم المتحدة، وشرعت بإقامة علاقات وطيدة مع العديد من المنظمات الدولية والإقليمية الهامة من بينها منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، ومنظمة المؤتمر الإسلامي. (أنظر الملاحق) وكل ذلك حرصاً من القيادة الأوزبكستانية على الانفتاح على العالم الخارجي، وتسخير الإمكانيات والموارد الخارجية في عملية تعميق بناء الدولة الحديثة.
وقد نجحت أوزبكستان بالفعل منذ استقلالها بالحصول على اعتراف أكثر من 170 دولة من دول العالم، وأقامت علاقات دبلوماسية مع أكثر من 120 دولة، فتحت أكثر من أربعين منها سفارات لها في طشقند، منها ست دول عربية هي: مصر، والأردن، وفلسطين، والجزائر، والسعودية، والكويت إضافة لافتتاح أكثر من 90 ممثلية أجنبية، وفروع لأربعة وعشرين منظمة حكومية دولية، وثلاث عشرة منظمة غير حكومية، من بينها فرع هيئة الإغاثة الإسلامية الكويتية. ومن ضمن هذا الاتجاه انضمت أوزبكستان في آذار/مارس 1992 إلى عضوية منظمة الأمم المتحدة، وشرعت بإقامة علاقات وطيدة مع العديد من المنظمات الدولية والإقليمية الهامة من بينها منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، ومنظمة المؤتمر الإسلامي. (أنظر الملاحق) وكل ذلك حرصاً من القيادة الأوزبكستانية على الانفتاح على العالم الخارجي، وتسخير الإمكانيات والموارد الخارجية في عملية تعميق بناء الدولة الحديثة.
والثاني: تحقيق التنمية بوصفها الهدف الأساسي
من بناء الدولة الحديثة: ربطت القيادة الأوزبكستانية في مشروعها التنموي لبناء
الدولة المستقلة الحديثة، بين مفهومي الديمقراطية أي عملية التنمية السياسية،
واقتصاد السوق أي مسألة التنمية الاقتصادية. ومما يسترعي الانتباه أن القيادة
الأوزبكستانية بنت علاقة عضوية ومتبادلة بين التنمية الاقتصادية والتنمية
السياسية. واعتبرت أن نجاح برامج الإصلاح الاقتصادي من شأنه فتح الطريق أمام توسيع
قاعدة المشاركة السياسية، وتقنع كل القوى السياسية بالمشاركة من خلال القنوات
الدستورية للحفاظ على المنجزات الاقتصادية المحققة. دون أن يخل التحول الديمقراطي التدريجي
بدور رأس المال الخاص وإفساح المجال أمامه ليلعب دوره في عملية التنمية الاقتصادية.
وانطلقت عملية التنمية الاقتصادية، والتنمية
السياسية في أوزبكستان بعد الاستقلال من مبدأ أولوية الاعتبارات الاقتصادية على
الاعتبارات السياسية والأيديولوجية. وهذا لا يجب تفسيره بأن بناء الديمقراطية سيتم
تأجيله حتى تتم عملية بناء الاقتصاد الوطني السليم. فالقصد هو أن تكون عملية بناء
الاقتصاد الوطني المستقل بعيداً عن أية اعتبارات إيديولوجية سواء أكانت مستمدة من
النموذج الماركسي الذي عاشته أوزبكستان في ظل الاتحاد السوفييتي السابق، أو أية
إيديولوجية مفروضة من خلال نظرة أحادية ضيقة لمفهوم اقتصاد السوق الذي تسعى إليه
جمهورية أوزبكستان المستقلة. فالمركزية الاقتصادية المفرطة، وسيطرة الدولة بالكامل
على أدوات الإنتاج، وتحديد علاقات الإنتاج من خلال الخطة لم تعد صالحة البتة في
مفهوم القيادة الأوزبكستانية للتقدم الذي تنشده في بناء الدولة الحديثة بعد
الاستقلال. فقد تحملت من التجربة السوفييتية الكثير من أوجه القصور الاقتصادي،
التي تحتم على أوزبكستان بعد الاستقلال إزالتها والقضاء عليها. وقد بدأت مرحلة
الانطلاق الاقتصادي في أوزبكستان بعد الاستقلال من تحقيق: الاستقلال المالي؛ إقامة
نظام ضرائبي متكامل؛ الخصخصة وإلغاء ملكية الدولة؛ تعميق دور الاستثمارات الأجنبية.
وكان الاستقلال المالي ضرورياً لاستكمال عملية
الاستقلال السياسي، خاصة وأن ارتباط أوزبكستان بمنطقة الروبل قد أصبح منذ منتصف
عام 1993 غير منطقي، عقب التقلبات الاقتصادية الهائلة التي شهدتها دول ما كان يعرف
بالاتحاد السوفييتي السابق، وبعد الشروط التعسفية التي حاولت روسيا فرضها على
أوزبكستان وغيرها من دول رابطة الدول المستقلة، وتعارض تلك الشروط مع مبدأ سيادة
الدولة، والتي جاء فيها: اعتبار الروبلات الجديدة المرسلة من روسيا إلى أوزبكستان
بمثابة سلفة؛ وأن ترصد أوزبكستان نحو 40 طن من الذهب كغطاء لضمان نصف قيمة تلك
السلفة؛ وتحديد سعر صرف الروبلات القديمة المسحوبة من التداول بالروبلات الجديدة
بمعادل 1:3؛ وأن يصبح البنك المركزي الأوزبكستاني فرعاً من فروع البنك المركزي
الروسي.
وهي كلها تحول أوزبكستان المستقلة إلى دولة
تابعة اقتصادياً، فأعلن مجلس وزراء جمهورية أوزبكستان قراره رقم 550 يوم
12/11/1993 بالتحول عن تداول الروبل مستعيضاً عنه بالصوم كوبون كمرحلة انتقالية.
ورفضت أوزبكستان رفضاً قاطعاً البقاء في منطقة الروبل، إلى درجة دفعت بالرئيس
كريموف لتوجيه الاتهام إلى روسيا واصفاً سلوكها هذا بالدكتاتورية الاقتصادية.
وبذل مجلس الوزراء الأوزبكستاني جهوداً ملموسة
لرفع القوة الشرائية للصوم كوبون منذ بدأ التعامل به في عام 1993، وكان يجري تحديد
قيمة صرفه مقابل العملات الأجنبية في بورصة بنوك أوزبكستان المرخصة. ومع دخول
العملة الوطنية "الصوم" التداول في تموز/يوليو 1994 تمكن الاقتصاد
الأوزبكستاني من الحد من العجز في الميزانية الذي أصبح لا يتجاوز 3,5 % من إجمالي
الناتج القومي، وتمكنت الدولة من التحكم في سعر صرف العملة الوطنية، وكبح جماح
التضخم من 1200 % عام 1994 إلى 33 % في عام 1998.
ومع البدء في تحرير الأسعار بقرار لجنة الدولة
للأسعار الصادر في 23/1/1992، بدأ وبالتوازي إصلاح النظام الضريبي، لضمان عدم تحول
الأسعار الجديدة المحررة إلى وسيلة لتحقيق أرباح طائلة للأفراد والجماعات الذين لا
يتحملون أية مسؤولية تجاه موازنة الدولة. ووضع ضوابط ضريبية تنظم حقوق ومسؤوليات
وحوافز الاستثمارات الأجنبية التي أخذت تتدفق على أوزبكستان. وأحدثت لجنة الدولة
للضرائب لتضطلع بمسؤولية وضع سياسة ضريبية وجمركية موحدة. وانطلاقاً من متطلبات
اقتصاد السوق، ومن خبرة العديد من دول العالم بدأت اللجنة تطبق جملة من الإجراءات
الضريبية منها:
ضريبة الدخل على المشروعات، ووضعت لتنفذ بشكل
مرن لتشجيع المشروعات الإنتاجية، سواء أكانت برؤوس مال وطنية أو مشتركة مع
مستثمرين أجانب. وبلغ معدل هذه الضريبة 18,5 % يمكن تخفيضها إلى 3 % أو رفعها إلى
60 % حسب القطاع الاقتصادي للمشروع. وتصل هذه الضريبة إلى 10 % في المشروعات
المشتركة التي يصل فيها نسبة الاستثمار الأجنبي 30 % ، مع إمكانية الإعفاء من هذه
الضريبة في حال ارتباطها بمشروعات تحسين البنية الأساسية لفترة تصل إلى خمس سنوات كما
هي الحال في المشاريع الزراعية، والسلع الاستهلاكية، والمنشآت الطبية، والميكنة
الزراعية … الخ.
ضريبة القيمة المضافة، ويبلغ معدلها 18 %
يدفعها الممولون عن المشروعات والمؤسسات الاعتبارية والشركات التابعة لها، وتحتفظ
بحسابات مصرفية ودفاتر حسابات خاصة بها.
ضريبة الإنتاج، وتفرض بالدرجة الأولى على
السلع الكمالية، وتتفاوت نسبتها وفق المادة المنتجة، وتشمل: المشروبات الكحولية،
والغازولين والسجائر والسجاد والكريستال. وتعفى من الضريبة المنتجات المصدرة منها.
وقد أوضحت بعض التقديرات أن حجم الاستثمار
الأجنبي في أوزبكستان وصل إلى 5 بليون دولار أمريكي، وظف في 3061 مشروعاً
استثماريا، بينها 30 مشروعاً ضخماً. ومن أجل الاستمرار في جذب الاستثمارات
الأجنبية وتبسيط إجراءات دخول واستثمار رؤوس الأموال الأجنبية تم تأسيس الهيئة
القومية للاستثمار لتقديم الدعم والمشورة للمستثمرين الأجانب.
كما وتلعب وزارة العلاقات الاقتصادية الخارجية
منذ إعادة هيكلتها في عام 1997 دوراً كبيراً في دعم وتشجيع الاستثمارات الأجنبية،
ومنذ عام 1995 أصبح تسجيل تراخيص المشاريع الاستثمارية المشتركة من واجب وزارتي
المالية والعدل. ولم تغفل الإجراءات المشجعة للاستثمار الأجنبي المؤسسات المساعدة
فتم تشكيل الشركة الوطنية للتأمين ضد المخاطر السياسية والتجارية إضافة للعديد من
المكاتب الاستشارية المتخصصة.
ومن الحوافز التي شجعت رؤوس الأموال الأجنبية
للاستثمار في أوزبكستان: منح المؤسسات التي تزيد نسبة صادراتها على 30 % من إنتاجها
الإجمالي إعفاءات ضريبية تصل إلى 50 %؛ وإعفاء المؤسسات والمشاريع الداخلة ضمن
برنامج الدولة الاستثماري من الضرائب لمدة خمسة أعوام؛ وضمان تصدير الإنتاج إلى
الخارج دون عوائق؛ وإعفاء مستوردات الشركات المشتركة اللازمة للعمل من الضرائب؛
وإعطاء الأجانب سواء أكانوا أشخاصاً طبيعيين أم اعتباريين، فرصة الاشتراك في
الخصخصة والملكية العقارية؛ وضمان حقوق المستثمرين الأجانب ضد المصادرة أو
الاضطرابات السياسية، والحق في تحويل الأرباح إلى الخارج، وتحويل العملة المحلية
إلى عملات أجنبية وفق الأنظمة المالية المتبعة دون قيود أو عقبات.
وفي مجال إلغاء ملكية الدولة والخصخصة، اعتبرت
الحكومية الأوزبكستانية أن "حل مشكلة الملكية يعتبر حجر الزاوية في مجمل
الإجراءات الهادفة إلى إقامة اقتصاد السوق". وابتعدت عن علاج الصدمة وأخذت
بالخصخصة على مراحل بدأت على نطاق محدود في عام 1993، أطلق عليها الرئيس كريموف
تسمية "الخصخصة الصغرى" وانتهت عام 1994، وتبعتها "الخصخصة
الكبرى" المتواصلة حتى اليوم. وكان الهدف من ذلك تثبيت مفهوم الخصخصة في
الوعي الاقتصادي لدى الفرد الأوزبكستاني، كمفتاح لبناء اقتصاد السوق الحر. وتميزت
مرحلة الخصخصة الصغرى ببعض السمات، نذكر منها:
إقامة المؤسسات الدستورية المعنية بإدارة
عملية الاقتصاد، وانتقال الملكية من الدولة إلى أشكال جديدة غير تلك التي كانت
سائدة خلال الحكم السوفييتي. حيث أصدرت الدولة جملة من القوانين التي تضمن حقوق
المشاركين في عملية التنمية، وضمان الانتقال من الاقتصاد الموجه إلى اقتصاد السوق.
كما أكد الرئيس كريموف على أن: "الضمانة مهمة جداً للتطور الاقتصادي، ولحماية
الاستثمارات الموظفة. وهي استقرار قاعدتنا التشريعية"؛
اعتماد مبدأ الانتقال التدريجي، من ملكية
الدولة إلى ملكية القطاع الخاص. لأن الخصخصة وانتقال الملكية في البلدان
الاشتراكية السابقة تحتاج إلى طريق خاصة للوصول إلى الهدف المنشود، يراعى فيه
الميراث المتميز بعد خضوعها الطويل للجمود واحتكار الدولة لكل أوجه الاقتصاد. لهذا
كانت المرحلة الأولى، مرحلة تمهيدية لإزالة احتكار الدولة لملكية وسائل الإنتاج؛
وتمت الخصخصة عن طريق نقل الملكية من الدولة
إلى المالك الحقيقي عن طريق طرح أسهم الاكتتاب العام، ليتمكن المالك الحقيقي من
إدارة ملكيته الجديدة على نحو أكثر فعالية ومسؤولية؛
كما ركزت مرحلة الخصخصة الصغرى على نقل ملكية
المساكن والمؤسسات التجارية والصناعات المحلية وخدمات الإنتاج الزراعي؛
وتمت الخصخصة في ظروف تحمل الدولة لمسؤولياتها
عن طريق توفير الضمانات القانونية المشجعة للمواطنين، تلافياً لأية آثار سلبية قد
تبرز من خلال التحول من ملكية الدولية إلى الملكية الخاصة غير المألوفة للمواطنين.
وهكذا تم خلال مرحلة الخصخصة الصغرى نقل ملكية
نحو مليون وحدة سكنية أي 95 % تقريباً من مساكن الدولة إلى المواطنين. وأخذ البعد
الاجتماعي في الاعتبار خلال عملية الخصخصة، فقد تم منح ثلث المساكن للمواطنين إما
مجاناً أو وفق شروط ميسرة. تقديراً من الدولة للخدمات التي قدمتها فئات اجتماعية
معينة كالمحاربين القدماء والعلماء والمربين والأطباء وغيرهم من الفئات، فقد تم
نقل الملكية لتلك الفئات مجاناً، بينما قدمت تسهيلات كبيرة للمعوقين وغيرهم. وأدى
نقل الملكية إلى تغيير نظام الخدمات البلدية وأصبحت الإدارة المحلية أكثر
استقلالية وباتت تتحمل مسؤولية أكبر تجاه المواطنين. وأثبتت نتائج تلك المرحلة
صواب قرار بيع مساكن الدولة لمالكيها الحقيقيين، وأدى ذلك لارتفاع مستوى رعاية
المساكن التي تم نقل ملكيتها. كما وشهدت تلك المرحلة أيضاً نقل ملكية المؤسسات
التجارية والخدمية والترفيهية والصناعات المحلية من القطاع العام إلى القطاعين
الخاص والمشترك، ومنها ما أخذ شكل تعاونيات. وهكذا أصبحت ملكية 82 % منها حصة
القطاع الخاص حتى مطلع عام 1995.
وبدأت مرحلة الخصخصة الكبرى في منتصف عام
1994، وأعطت الدولة فيها مجالاً واسعاً للقطاع الخاص لتولي مسؤولياته في عملية
تطوير الاقتصاد الوطني. وصدر من أجل ذلك مرسوم تشريعي حول تعميق الإصلاح الاقتصادي
بتاريخ 21/1/1994 وتبعه مرسوم آخر حول الخطوط العامة لتطوير اللامركزية والخصخصة
في 16/3/1994 من نفس العام، تضمنا: تحويل الشركات ذات المسؤولية المحدودة،
والمساهمة المغلقة إلى شركات مساهمة، يملك العاملون فيها القسم الأكبر من الأسهم،
بهدف السماح لقاعدة أوسع من المستثمرين بما فيهم الأجانب للمشاركة في ملكية
القاعدة الاقتصادية؛ وتوسيع نطاق عمليات الخصخصة لتضم قطاعات اقتصادية هامة مثل
الصناعات الكيماوية وبناء الآلات؛ وإنشاء بورصة وطنية للعقارات، لبيع ما تعرضه
الدولة من ملكيتها على القطاع الخاص؛ وإنشاء بورصة وطنية لطرح أسهم المشروعات
المملوكة للدولة، للاكتتاب العام؛ ورفع القيود عن مؤسسات الأراضي والخدمات
المملوكة للدولة، والسماح ببيع تلك الأراضي للملاك من المواطنين والأجانب على
السواء.
وبذلك انتقلت الحكومة الأوزبكية خلال مرحلة
الخصخصة الكبرى من مجرد طرح المشروعات الصغيرة على القطاع الخاص، إلى وضع تصور
جديد ومتكامل للخصخصة. يقوم على أساس تنمية وتطوير عملية إقامة الشركات المختلطة،
واجتذاب المواطنين والمستثمرين الأجانب للمساهمة فيها. كما وجرى التفكير في تخفيض
حصة الدولة في تلك المؤسسات إلى حد كبير، بهدف دفع المزيد من المساهمين للمشاركة
في عملية الخصخصة. وتم بالفعل خصخصة المؤسسات الكبيرة، ومتوسطة الحجم في قطاعات
الهندسة المدنية والصناعة والنقل والمواد الغذائية ومحالج القطن.
ونتيجة لسياسة المراحل في تطبيق الخصخصة، بدأت
صورة الاقتصاد الأوزبكستاني بالتبدل اعتبارا من نهاية عام 1992، ومع نهاية هذا
العام بلغ عدد المشاريع التي شملتها عملية الخصخصة أكثر من 54 ألف مشروع ومؤسسة،
نقلت ملكية 18400 منها إلى الأفراد، 26100 إلى الشركات المساهمة، و 8700 إلى
المؤسسات التعاونية. وبذلك أصبحت ملكية ثلث المؤسسات الحكومية في الاقتصاد القومي
الأوزبكستاني ملكاً للقطاع الخاص، وأخذت بدورها تساهم في نصف الناتج القومي
الأوزبكستاني منذ عام 1994. وتابعت الحكومة الأوزبكستانية جهودها في دفع عمليات
الخصخصة، بدخولها في مجالات هامة. حيث تم الإعلان عن توسيع عمليات الخصخصة لتشمل
المشروعات الكبيرة والمتوسطة في القطاعات الإستراتيجية بما في ذلك 1300 مشروعاً،
في قطاعات المعادن الحديدية وغير الحديدية والثمينة والنادرة و 412 مؤسسة زراعية.
وأصبح من المألوف مطالعة الإعلان عن مزايدات الخصخصة المفتوحة للمواطنين والمستثمرين
الأجانب في الصحف المحلية.
ومن الملاحظ أن الحكومة الأوزبكستانية قد
اختارت أن يكون برنامج الخصخصة متوازناً من الناحية الجغرافية. فلم تعطي أية ميزة
أو أفضلية لمشروعات ولاية على حساب ولاية أخرى. بل فضلت أن تكون عمليات الخصخصة
قاسماً مشتركاً لكل ولايات الجمهورية، وتوافق المجال الاقتصادي الذي تتميز به كل
ولاية. فعلى سبيل المثال كان نصيب المدن التاريخية بخارى وسمرقند وخيوة وطشقند في
المجال السياحي أكثر من غيرها لوضعها السياحي المتميز. ولكن كل ذلك لا يخرج عن
إطار الخط الخاص الذي تميزت به أوزبكستان، وهدفه الأساسي التكامل مع الاقتصاد
العالمي. لهذا شجعت الحكومة الأوزبكستانية في المرحلة الثانية مشاركة رأس المال
الأجنبي، وأعطت الضمانات الكافية للمستثمرين الأجانب ليساهموا في تعزيز قدرات
الاقتصاد الوطني الأوزبكستاني، وتوفير فرص نجاح عمليات التحول الكبيرة في الاقتصاد
الوطني.
ولهذا الغرض تعاونت الحكومة الأوزبكستانية مع
عدة منظمات دولية، كمنظمة الاستثمار والتنمية التابعة لمنظمة الأمم المتحدة
(اليونيدو) التي قامت بتأسيس ثلاث مراكز لجذب الاستثمارات الأجنبية إلى أوزبكستان.
والمفوضية الأوروبية التي أقامت مركزاً للعلاقات التجارية لتنشيط الاستثمارات
الأوروبية ودعم التجارة في أوزبكستان. وأتاحت الفرصة للصندوق البريطاني
للاستثمارات، ومنظمة التجارة الأمريكية، لتقديم الاستشارات والمساعدة على تدريب
الكوادر المتخصصة، للتجاوب مع متطلبات توسع حصة الاستثمارات الأجنبية في الاقتصاد
الوطني الأوزبكستاني. وشجعت من خلال القنوات الثنائية على دخول رؤوس الأموال
الأجنبية ومن بينها رؤوس الأموال العربية التي لم تزل ضئيلة جداً بالمقارنة مع
غيرها من الاستثمارات. (أنظر الفصل السادس)
ونعتقد أن السبب الرئيسي لاهتمام المستثمرين
الأجانب، في الاستثمار في أوزبكستان يعود لقدرتها على تنفيذ مشروعاتها الاقتصادية،
بفضل توافر المواد الخام المتنوعة، ومصادر الطاقة، بشكل يتوافق واحتياجات
الاستثمارات الكبيرة وتوسيع قاعدة الاقتصاد الوطني. ففي جمهورية أوزبكستان على
سبيل المثال لا الحصر 37 محطة كهربائية بطاقة إجمالية تبلغ 11,2 مليون كيلو وات
ساعي سنوياً، مما سمح لأوزبكستان بتوفير مصدر مستقر للطاقة الكهربائية لأكثر من
119 ألف مشروع صناعي، و80 ألف مشروع زراعي، و17 ألف مشروع محلي، وأيضاً بتزويد
الدول المجاورة بفائض الكهرباء لديها. ويصل عدد العاملين في قطاع الطاقة الكهربائية
في أوزبكستان حوالي 58 ألف فرداً. ومما يعزز قدرات التنمية في الاقتصاد الوطني
الأوزبكستاني، توفر احتياطات كبيرة من النفط والغاز الطبيعي. حيث يصل احتياطي
أوزبكستان من النفط إلى حوالي 300 مليون طن قابل للزيادة. وتحاول أوزبكستان اليوم
من خلال توسعها في إنتاج البترول وتكريره الاستغناء عن استيراد المنتجات البترولية
من الخارج مع مطلع القرن الحادي والعشرين. إضافة للاحتياطي الضخم من الغاز الطبيعي
والبالغ 1883 بليون متر مكعب تكفي لاحتياجاتها لمدة لا تقل عن أربعة عقود، بل
وتصديره للخارج أيضاً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق