11- الاتصال الشفهي.
نظريات الإعلام والاتصال الجماهيري.
يتناول هذا البحث بالإضافة للمقدمة، مفاهيم الاتصال، وتعريف
الإعلام،
وعملية الاتصال وعناصرها، ووظائف وسائل الإعلام، ونظريات الاتصال وتطورها،
ونظرية مارشال ماكلوهان، والاتجاه
الجديد للاتصال، والقائم بالاتصال ونظرية (حارس البوابة)،
ودراسات القائمين بالاتصال والنخبة الإجتماعية، وتكنولوجيا وسائل الأعلام وتأثيرها
على المجتمعات، نظرية (مارشال ماكلوهان)، والاتصال الشفهي،
والاتصال الكتابي، والاتصال الكتابي المطبوع، والعودة للاتصال الشفهي،
ونظريات الصحافة الدولية: نظرية
السلطة المطلقة، ونظرية الصحافة الحرة، والنظرية الاشتراكية للصحافة، ونظرية
المسؤولية الاجتماعية، ونظرية المسؤولية العالمية للصحافة، والخاتمة، وقائمة
بالمراجع.
11- الاتصال الشفهي
أشار ماكلوهان،
إلى أن الناس يتكيفون مع الظروف المحيطة بهم عن طريق الحواس الخمس "السمع، والبصر،
واللمس، والشم، والتذوق" وتوازنها مع بعضها البعض، وإلى أن كل اختراع تكنولوجي
جديد عمل على تغيير التوازن بين تلك الحواس، فقبل اختراع جوتنبرج
لحروف الطباعة المتحركة في القرن الخامس عشر، كان التوازن القبلي القديم يسيطر
على حواس البشر، وكانت حاسة السمع هي المسيطرة. وأن
الإنسان في مرحلة ما قبل التعلم كان يعيش في عالم يتضمن أشياء كثيرة في الوقت نفسه، وكانت حاسة السمع تفرض
نفسها على الواقع وعلى الفرد من جميع النواحي عن طريق
الأذن، ولم يكن لعنصر الزمن لا حدود ولا اتجاه ولا أفق، وعاش الإنسان في
غياهب عقله وفي عالم العاطفة معتمداً على عنصري الإلهام
البدائي والخوف، ولم يدرك عنصري الزمان والمسافة، بل كان يدركهما عن طريق حاسة
السمع، وكانت الأشعار المغناة من أكثر أدوات التحضر، وكان الاتصال الشفهي الرابط
الذي يربطه بالماضي، وكانت المعاني بمستويات متعددة كطابع عام، وكانت
قريبة جداً من الواقع الذي يعيشه، لأن الكلمات كانت لا تشير إلى الأشياء
فقط، بل كانت هي نفسها تلك الأشياء، وكانت كلمة الإنسان ملزمة، وكان الإنسان يتمتع
بذاكرة
قوية جداً "بالمقارنة مع المستويات الحديثة"، وكانت
الصور الذهنية تصاحب دائماً الأفكاره السمعية، باستخدام
الحواس جميعها، رغم اقتصارها على الصوت. وكان الناس في ظل
هذا النظام يحصلون على معلوماتهم أساساً عن طريق سماعها من الآخرين، وهذا يعني
ضرورة
اقتراب الناس من بعضهم البعض، على شكل قبلي لا يثير الخوف،
وفرض عليهم أسلوب الحصول على المعلومات، الإيمان بما يقوله
الآخرون بشكل عام، لأن تلك المعلومات كانت
الوحيدة المتوفرة لديهم، ولأن الاستماع كان يعني الإيمان لدى إنسان ذلك العصر.
وأثر أسلوب الاتصال الشفهي آنذاك على الناس وجعلهم عاطفيين أكثر من
اللازم، لأن الكلمة المنطوقة كما هو معروف عاطفية أكثر من الكلمة المكتوبة، لأنها تحمل عاطفة
بالإضافة للمعنى، وكانت صيغ نطق الكلمات تعبر عن الغضب والموافقة والرعب والسرور
والتهكم، الخ. وكانت ردة فعل الفرد القبلي تعتمد على حاسة السمع، وكان يتسم
بقدر أكبر من العواطف المستمدة من المعلومات التي حصل
عليها، وكانت الشائعات تضايقه بسرعة وبسهولة، لأن عواطفه كانت دائماً سطحية.
12-
الاتصال الكتابي
ومع دخول الاتصال عصر الكتابة وضع حداً
للإتصال الشفهي. وساعدت الكتابة على نقل التطور الحضاري ونقل ما توصلت إليه هندسة
بناء المدن وشق الطرق البرية وانتقال التجارة وجيوش الفاتحين، وشكلت نقطة البداية
لنشوء الدواوين والبيروقراطية وانتشارها. وهكذا أصبحت الكتابة وسيلة هامة لانتقال
الحضارة وتنوير العقول. وبالتدريح انتقلت الكتابة من النقوش الهيروغليفية
والمسمارية على الجدران والمسلات الحجرية والرقم الطينية والألواح الخشبية
والمعدنية إلى الكتابة على الجلود الحيوانية. وهكذا انتقل الإنسان من مرحلة
الاتصال عن طريق حاسة السمع إلى الاتصال عن طريق حاسة البصر. ومع اختراع الحروف
الأبجدية وصناعة الورق والطباعة غدا الاتصال يعتمد أكثر على حاسة البصر.
13-
الاتصال الكتابي المطبوع
من المعروف أن مجتمعات ما قبل تعلم
الكتابة والقراءة كانت تحتفظ بتراثها الثقافي المنطوق في الذاكرة للأجيال القادمة.
ولكن بعد اختراع الكتابة ومن ثم الحروف الأبجدية، حدث تطور في أسلوب خزن ونقل المعلومات
من جيل إلى جيل عن طريق الكتابة، وحلت حاسة البصر مكان حاسة السمع كوسيلة اتصال
لنقل المعرفة إلى الأجيال القادمة. وبقي الصوت من الوسائل الأساسية للاتصال عند
التخاطب أو القراءة الجهرية أو إملاء النصوص لكتابتها.
ومع اختراع جوتنبرج لحروف الطباعة
المتحركة في القرن الخامس عشر أصبح الاتصال المطبوع وسيلة اتصال جماهيرية واسعة
الانتشار تجاوزت فنون الاتصال عن طريق الخطابة أمام جمع من الجمهور متواجد في مكان
وزمان واحد مع الخطيب، لمخاطبة الإنسان دون اتصال مباشر عن طريق الكلمة المطبوعة
أينما كان وفي أي زمان. ومن الثابت أن العين لا تختار ما تراه، بل ترى كل ما يقع
أمامها، وأن الأذن لا تتوقف عن السماع أبداً، في الوقت الذي تستمر به الحواس
الأخرى لدى الإنسان بالعمل دون إرادة منه. ولكن الإنسان يحتاج لفترة من الزمن ليصف
ما يحس به من مشاعر لغوياً نطقاً أم كتابة، وعليه اختيار أصوات المفردات المعبرة
عن مشاعره للنطق ونقل معانيها لأسماع الآخرين، وكان الإتصال في هذه الحالة بين
مرسل ومستقبلين، بينما احتاج بالإضافة لذلك اختيار الحروف المناسبة لكتابة تلك
المفردات في حال وصفه لمشاعره كتابة لتوصيلها للآخرين لقراءتها وفهم معانيها. وكان
الإتصال في هذه الحالة بين مرسل ومستقبلين يجيدون الكتابة والقراءة.
وجاء إختراع غوتينبيرغ ليحدث ثورة
في عام الإتصال، أخرجته من الاتصال الجماهيري المباشر إلى الاتصال الجماهيري غير
المباشر. ومع تعدد النسخ المطبوعة المتطابقة تطور التعليم والتعلم بالإعتماد على
الذات، واصبح عاملاً من عوامل العزلة بعد أن أصبح الإتصال يتم ولأول مرة بين البشر
عن بعد، فالكاتب يكتب أفكارة وتتولى المطبعة طباعتها بنسخ كثيرة تأخذ طريقها
للقراء أينما وجدوا. وتبعته الصحف المطبوعة لتحدث تغييرات جذرية في أحاسيس البشر وانتقالهم
مما كانوا يشعرون به عن طريق حاستي البصر والسمع بمشاركة الحواس الأخرى، إلى تصور
تلك المشاعر عن طريق قراءة الحروف والمفردات والجمل المكتوبة وتحويلها إلى رموز
مفهومة تصور له تلك المشاعر المكتوبة. ورافقها ظهور الصحافة الدورية ومهن حديثة
ارتبطت بها، وأدت كلها إلى ظهور اقتصاد الصحافة المطبوعة.
وأشار ماكلوهان في كتابه "عالم
غوتنبيرغ" الذي صدر عام 1962 إلى أن اختراع الطباعة بالحروف المتحركة
ساعد على تشكل الثقافة الجماهيرية في أوروبا خلال الفترة الممتدة ما بين الأعوام 1500
و1900، وأسهمت بإنتشار الثقافة الجماهيرية على المستوى القومي، وأعادت تشكيل مشاعر
الإنسان القادر على الإستمرار بعصر النهضة. وجاء الكتاب المطبوع ليصبح أحد عوامل انتشار
الأفكار الدينية. وأضاف ماكلوهان أن كل الأشكال الميكانيكية رافقت ظهور
الحروف المتحركة التي كانت نموذجاً للآلة، التي أحدثت ثورة حقيقية فصلت بين العقل
والمشاعر، وفرضت المنطق لتسيطر التكنولوجيا الحديثة في عالم الاتصال الجماهيري.
14-
العودة للاتصال الشفهي
أطلق ماكلوهان على المرحلة التي
نعيشها اليوم عصر "الدوائر الإلكترونية" وتمثلها الإذاعة المرئية
وشبكات الحاسب الإلكتروني، لأن تكنولوجيا الاتصال الإلكترونية بتوسعها أصبحت تشبه
ما يدور في العقل البشري، ووضعت حداً لأسلوب تجريد الواقع وأعادت الإنسان مرة أخرى
للعلاقات التي سبقت ظهور وسائل الإتصال الجماهيرية، وخلقت نتاجاً ثقافياً واسعاً. وذكر
ماكلوهان أن أنماط الاتصال الإلكترونية مثل: البرقيات، والإذاعتين المسموعة
والمرئية، والسينما، والهاتف، والعقل الإلكتروني، شكلت الوجه الحضاري للقرن
العشرين وأنها ستستمر في القرون القادمة. وأن الإنسان الذي شاهد في عصر النهضة
ظهور الطباعة، شاهد تسلسلاً متصلاً لسطر الحروف شاركت فيها وسائل الاتصال الجماهيرية
الحديثة، وتغيرت معها عادات المطالعة لتصبح مطالعة الكتب تختلف عن مطالعة الصحف
التي تنتقل من خلال العين وبشكل مستمر بين مجموعة من العناوين الرئيسية والفرعية
والفقرات التي تقدم من خلالها الموضوعات، بالإضافة للصور والإعلانات التجارية وغير
التجارية. وأشار ماكلوهان إلى أن "الناس فعلاً لا يقرأون الصحيفة، بل
يقتنونها كل صباح كأخذهم الحمام الصباحي الساخن"، إما عن طريق الشراء المباشر
أو عن طريق الإشتراك، وتعرض الصحيفة القارئ لشتى الموضوعات المنقولة من أنحاء
العالم نقلاً عن وكالات الأنباء أو المراسلين، وطبعاً القارئ لا يعرف الكثير عن
تلك العملية المعقدة لنقل الأنباء، ويصعب عليه فهم معظم تلك الأنباء بسبب بعده عن
مواقع الأحداث. وذكر ماكلوهان أن العالم الذي سبق عصر الكهرباء كان مجرداً
ومتخصصاً حتى في الجزئيات.
15- نظريات الصحافة الدولية
مجموعة العوامل
التي تشترك في تأسيس منطق النظرية العلمية في المجالات الإنسانية والحياتية
المختلفة، هي في حقيقتها نابعة من بيئة الإنسان ومجموعة المنبهات والاستجابات التي
تتكون وفقاً لها. وقد عرف الإنسان إنسانيته فعلاً، واستطاع تشخيص تلك العوامل
البيئية والاجتماعية والنفسية بعد أن عرف اللغة ومفرداتها، إذ أن اللغة في شكلها
الأول وبطبيعتها البسيطة البدائية، كانت ضرورية لحياة الجماعة وأساساً لتكوين
العلاقات بين الإنسان وأخيه الإنسان، وبمرور الزمن تطورت اللغة لتصبح ذاكرة
المجتمع ومكنت الإنسان من تنسيق جهوده وتوحيدها في مجرى مشترك عام، وجعلت تداول
الخبرة ممكناً بين الأفراد والأجيال والمجتمعات. وهي في هذا المعنى الواسع أصبحت
أداة اتصال رئيسية بين بني البشر، كما أنها في الجانب الثاني أصبحت أداة فكر وأداة
لتبادل الآراء والأفكار بين الناس. وقد جاءت المطبعة لتفتح الطريق أمام الثورة
الصناعية بعد أن مهدت لها الثورة العلمية، وما أن دخلنا القرن العشرين حتى صار
العالم يعيش ثورة شاملة في الاتصال والإعلام الجماهيري. وانحسرت المسافات
الجغرافية أمام القدرات التكنولوجية لوسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية. ومن أجل
تسخير هذه القدرات وتوظيفها لخدمة المعلومات وتبادلها بين المجتمعات، أخضعتها
الحكومات والدول إلى نظرياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. مما دفع علماء الاتصال
والإعلام الجماهيري لتأسيس نظريات إعلامية مستمدة من تلك النظريات السياسية الأوسع
وتطبيقاتها العملية في المجتمعات المختلفة من رأسمالية أو اشتراكية أو هجينه أو
خاصة، وغيرها.
ولا غرابة أن
يكون لإعلام الدول النامية قولٌ في هذا المجال لاسيما وأنها ابتليت بالأوضاع التي
فرضتها عليها السياسات الإستعمارية، وما تعانيه من شدة الخلافات السياسية التي
انعكست بالنتيجة على فعالياتها الإعلامية. ورغم أن العالم يعيش اليوم القرن الحادي
والعشرين، ودخوله عصر المعلوماتية ووسائل الاتصال المتطورة فإننا نلاحظ استمرار
تخبط الدول النامية في مشاكلها الإعلامية والاتصالية التي ازدادت صعوبة وتعقيداً.
إذ أن الإعلام هو ظل السياسة في الحركة الاتصالية اليومية والتطبيق للمنهج السياسي
والاقتصادي والفكري والتربوي والتعليمي والثقافي، في هذا البلد أو ذاك. وأن وعي
الإنسان لمثل هذه العوامل والتكوينات الاجتماعية وتقديره للظروف الموضوعية
والذاتية التي تحيط به، يرتبط ارتباطاً مباشراً بلغته القومية، لاسيما وأنها "أي
اللغة" هي التعبير عن تقديرنا للواقع الموضوعي، وقد ظهر الوعي واللغة في
مرحلة محدد من التطور الاجتماعي للبشرية، ليتمكن بنو البشر من التواصل والاتصال
ببعضهم البعض.
واللغة تمنح
الإنسان بالإضافة إلى وراثته البيولوجية فرصة كغيره للاستثمار الأمثل للثقافة
والمعرفة. وقد أتاح العلم الحديث للغة ممكنات ووسائل متعددة للتعبير عن دقائق
الأحكام الفعلية في صورها النظرية والتطبيقية ولمختلف الحاجات الإنسانية. ونظراً
لتعدد خصوصيات تلك الحاجات الإنسانية وأساليب إشباعها من الوجهة الاتصالية
والإعلامية الجماهيرية فقد عمد رجال الإعلام إلى إتباع النظرية المناسبة لهم في
الخطاب الاتصالي والإعلامي لتجسيد المستويات الإعلامية الوظيفية المطلوبة، وهي: المستوى
المعلوماتي: الذي يتوسل باللغة لتوصيل المعلومات إلى المتلقي بأسلوب مباشر
وبصياغة واضحة ودقيقة. والمستوى الإقناعي: وهو الذي يقصد إقناع المتلقي
ودعوته إلى الالتزام الأولي ومن ثم التبني للمضمون المطروح أو الفكرة المقصودة أو
الرأي المراد إيصاله ومن ثم تدعيمه عن طريق خلق القناعات لدى مجموع الجماهير. والمستوى
التعبيري: الذي يدخل في باب فن الأدب المستخدم في وسائل الاتصال والإعلام
الجماهيرية السمعية والمرئية والمقروءة لاسيما المستندة منها على استعمال الصورة
المتحركة أو الثابتة.
وسنتناول هنا
عرض أولي لبعض النظريات الإعلامية السائدة في العالم، التي أصبح لابد من تطويرها
بما يتلائم ومتطلبات العولمة والمجتمع المعلوماتي الآخذ بالإنتشار والتوسع، لتلبي
حاجة المجتمع الإنساني للمعرفة في عالم أصبح فيه حوار الحضارات والثقافات واقعاً
وضرورة ملحة للعيش في مجتمع تسود فيه العقلانية، ومعها حق الحياة للرأي والرأي
الآخر. ومن هذه النظريات:
16- نظرية السلطة المطلقة
السلطة المطلقة
هي من أنظمة الحكم وتتمثل في حكم القياصرة والأباطرة الديكتاتوريين غير المؤمنين
بالحرية أو الديمقراطية ولا يسمحوا بمشاركة الشعب في الحكم على الإطلاق، وتستند
السلطة باعتبارها نظاماً من أنظمة الحكم على فكرة "الحق الإلهي المقدس"
وعلى الفكرة القائلة "بأن الحاكم ظل الله وخليفته في الأرض".
مدخل نظرية
السلطة المطلقة:
من المتفق عليه أن عام 1450 كان تاريخ ولادة الاتصال والإعلام المطبوع حيث تشير
المصادر إلى أنه كان تاريخ ظهور الطباعة، وقد كان الاتصال والإعلام المطبوع خاضعاً
للسلطة، ومقدار هذا الخضوع مرتبط بطبيعة المجتمع الذي يتواجد فيه. فإما أن يكون
المجتمع خاضعاً للسلطة المطلقة، أو أن الفلسفة التي تحكم هذا المجتمع تدعو إلى
ذلك. وقد شهد العالم من هذه الفلسفات شتى أنواع السلطة المطلقة. وعلى سبيل المثال:
سيطرة الكنيسة ورجال الدين في المجتمع الأوروبي، التي خلقت من النظام السائد
مجتمعاً خاضعاً للسلطة المطلقة، واحتلت فيه الدولة درجة أعلى من الفرد في سلم
القيم الاجتماعية ولا يستطيع الفرد في مثل هذا المجتمع أن يحقق أهدافه أو ينمي
قدراته وملكاته إلا عن طريق خضوعه للدولة خضوع الخانع الذليل. وأن يكون أسمى تفكير
عنده التفكير التابعي الذي يلغي الوعي والعقل والشخصية.
وفي دولة
السلطة المطلقة، يشغل رجل أو رجال قليلون مراكز القيادة، ويتمتعون بسلطات مطلقة،
وعلى الآخرين الطاعة والخنوع لها، ولا وجود للتمثيل الشعبي في مثل هذه الدول. ولكن
ما هو مصدر الحقيقة في مجتمع السلطة المطلقة ؟ وللجواب على هذا السؤال يمكن أن
نعتمد على حقيقة التفويض الإلهي أو على الإدعاء العنصري في مثل هذا المجتمع أو
ذاك. الذي يقول بوجود جنس معين يعتبر نفسه أعلى من الأجناس الأخرى ويتمتع بحكمة أكثر
منهم. وباختصار فالحقيقة تتمثل في قدرة القائد أو الجماعة المعينة على تقدير
الظروف وتفهم المخاطر وتشخيص إمكانيات تخطيها. وتعتبر الحقيقة في هذا المجتمع
حكراً لهذه القلة التي تعتبر نفسها حكيمة، وترى أن من حقها أن توجه الجماهير
الغفيرة. أي أن الحقيقة تتمركز حول مراكز القوة والسلطة، وليس من المهم في هذه
الحالة البحث عن مصدر الحقيقة التي تستمد منها الدولة المتسلطة فلسفتها وسياستها.
إذ أنها مقصورة على فئة محدودة من الناس، ولا يحق لأي فرد من الأفراد أن يتخذ
إليها سبيلاً، لأن من أهداف الدولة المتسلطة الحفاظ على وحدة الفكر والعمل حسب
اجتهادات السلطة، لإبقاء الجماهير في حالة معينة حسبما تشاء.
أسس نظرية
السلطة المطلقة:
- مذهب الحق
الإلهي: وهو مذهب أعتمد من قبل القياصرة والأباطرة في الحكم، وتوارثه النبلاء
للاحتفاظ بأوضاعهم ومراكزهم وامتيازاتهم في السياسة والحكم، وترجع هذه النظرية إلى
أقدم عصور التاريخ. وقد يرجع سيادة هذه الفلسفة أو النظرة إلى الممالك
والإمبراطوريات الشرقية والغربية على حد سواء ما عدا بعض الاختلافات الجزئية
الطفيفة التي تحدث بين كل حاكم وآخر في ممارسة السلطة على المجتمع. إذ لا ينكر أن
بعضهم كان يؤمن بالحق والفضيلة وتبادل الرأي والمشورة، كما كان نقيضه يمارس
الاستبداد والقسوة تحت تعبير أو فلسفة "ظل الله وخليفته في الأرض"، وقد
كانت أوروبا تحت هذا الحكم خلال العصور الوسطى، الذي تحول خلاله الشعب إلى عبيد
أقنان خاضعين بصورة مطلقة لهذا الحاكم أو ذاك.
- الصحافة والسلطة
المطلقة: لم تستطع الصحافة وأساليبها من تغيير شئ في نظرية السلطة المطلقة، بل
على العكس ازدادت سطوة هذه النظرية وظلت تمارس تسلطاً جوهرياً على الصحافة
وعلاقتها بالمجتمع ووظيفتها الإعلامية التي مارستها تحت سيطرة الحكم المطلق، ودأبت
السلطة على تعزيز نظرية السلطة المطلقة للحفاظ على سلطانها المطلق وأخذت تحيط
نفسها، بالعقلاء والحكماء أصحاب الامتيازات الفكرية، القادرين على إدراك أهداف
الدولة في السيطرة والاستقرار. وأخذت تمنحهم المناصب المرموقة في المجتمع ليعملون
كمستشارين للقادة الحاكمين ويحتكرون كل الحقائق الفكرية لأنفسهم وليسخروا فلسفاتهم
وأفكارهم لخدمة الطبقة المسيطرة على جهاز الدولة. التي تعطيهم حق مخاطبة الشعب وأن
يكونوا ألسنة للحكام تتصل بالجماهير عن طريق وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية
المتاحة، ومنها الصحافة المطبوعة التي حظروا عليها كل الآراء التي توقظ الشعب من
سباته العميق، للإبقاء على الأوضاع القائمة.
وقد ارتبطت هذه
النظرية في العصر الحديث ارتباطاً وثيقاً بأنظمة الحكم الفاشية والنازية
والصهيونية، كنظام هتلر النازي في ألمانيا، ونظام موسوليني الفاشي
في إيطاليا، والنظام الفاشي في إسبانيا والبرتغال، والنظام الإستعماري الإستيطاني
التوسعي في إسرائيل. حيث سيطرت الدولة المستبدة سيطرة تامة على أجهزة ووسائل
الإعلام الجماهيرية وفرضت عليها تعبئة الشعب تعبئة عدوانية خدمة للأهداف التوسعية
التي رسمتها لنفسها وتسببت في قيام الحروب العالمية والإقليمية، والحروب في الشرق
الأوسط التي أزهقت ملايين الأرواح البريئة لبني البشر.
- الرقابة
وسيطرة أجهزة السلطة على الصحافة: تعتبر الرقابة من الركائز الهامة في نظرية
السلطة المطلقة. ويمكن أن نرجع تاريخها إلى الرقابة الدينية في العصور الوسطى
بأوروبا عندما كانت الكنيسة الرومانية في أوج قوتها. وكانت مصدر التفويض الإلهي.
واستطاعت الكنيسة أن تسيطر في بلاد كثيرة، على الرأي العام وعلى حرية التعبير لعدة
قرون. فالكنيسة سيطرت واستفادت من اختراع الطباعة، إلى أن قامت الحكومات بالسيطرة
على وسيلة الاتصال والإعلام الجديدة. وكانت السيطرة عن طريق إصدار التراخيص
للطابعين والناشرين، ومن ثم تحكمت الحكومات على من مارس هذه المهنة بشكل عام. وقد
كان الترخيص آنذاك يعتبر امتيازاً يلزم الناشر بطبع وتوزيع ما يرغبه الحاكم. غير
أن هذا الأسلوب لم يجد نفعاً، مما أدى إلى فرض الرقابة المسبقة وفحص جميع الأصول
المخطوطة من قبل ممثلي الحكومة قبل الطبع والنشر لإصدار الترخيص بالطبع، بقصد
السيطرة على ما تنشره الصحف ودور النشر بشكل محكم.
وأخضعت
الحكومات الاستبدادية دائرة الاتصال بالجماهير لقيود وعقبات ومعوقات كثيرة جعلت
الطريق مفتوحاً أمام الدولة فقط، وأغلقته في وجه الأفراد لاغية بذلك أي نوع من
أنواع حرية الإعلام. بحجة تحقيق أمن وسلامة الدولة. وبهذه الذريعة ألغت كل
الحريات، وهو ما استقت منه الفلسفات الفاشية والعنصرية كل المبررات لإهدار حقوق
الإنسان.
- التاريخ
الطويل للإيديولوجية السياسية لنظرية السلطة المطلقة: يرى أفلاطون أن تقسيم
السلطة بالتساوي داخل الدولة يعتبر بداية تفكك وانهيار تلك الدولة. وكانت حجة أفلاطون
في ذلك أنه مادام الإنسان يتحكم بغرائزه وشهواته عن طريق العقل، فإنه على الحكام
في الدولة بالمقابل أن يمنعوا المصالح المادية والعواطف الأنانية للجماهير من أن
تسيطر على المجتمع. وأكد أكثر الفلاسفة في العصور اللاحقة على قوة السلطة كميكافيلي
الذي دعى إلى إخضاع كل شيء لأمن الدولة. وبرروا الأعمال اللا أخلاقية التي يمارسها
القادة السياسيون والرقابة الصارمة على الحوار والمناقشة، وعلى نشر المعلومات في
المجتمع. معتبرين أن لها ما يبررها مادامت تخدم مصالح الدولة وسلطة الحاكم، أي أن
الغاية تبرر الوسيلة. أما جورج هيجل الذي لقب بأبو الفاشية الحديثة
والشيوعية الحديثة، فقد أعطى فلسفة السلطة المطلقة لمساتها النهائية حين قال: أن الدولة
هي: روح الأخلاق وهي الإرادة وهي العقل. والدولة كحكم أو سلطة تعتبر هدفاً في حد
ذاته، وبالتالي فهي تتمتع بأكبر قدر من الحقوق وهي فوق المواطنين والأفراد.
وهكذا فرضت
نظرية السلطة المطلقة وجوهاً فكرية صارمة، نبعت من الإسهام الفكري للحكماء شريطة
أن تخدم نظرياتهم الإجتماعية، التي تسهر عليها الدولة بالرعاية والإرشاد واليقظة
والرقابة. وهو ما صاغه الفلاسفة الأقدمون أمثال: سقراط وأفلاطون وأرسطو
من نظريات فلسفية تخدم السلطة الاستبدادية، بدليل أن أفلاطون خلع صفة
المثالية على الشكل الأرستقراطي للدولة معتقداً أن طبيعة الإنسان واهتماماته
المادية وعواطفه الأنانية تتسبب في تدهور الحكم من الأرستقراطية إلى الديمقراطية،
أي إلى التفتت والانحلال. واعتبر أن الدولة لا تجد الأمان إلا في أيدي الحكماء من
رجالها، ورجال القانون من أنصارها، أصحاب المثل الأخلاقية العليا التي يتم فرضها
على كل عناصر المجتمع، ليظلوا على الطريق القويم الذي رسموه لهم. معتبراً أن هذه
الصفوة من البشر تجعل العقل يسيطر على عواطف القلب وغرائز الجسم.
17- نظرية
الصحافة الحرة
سميت هذه
النظرية بنظرية الصحافة الحرة كونها تؤمن بالفرد أساساً لها، وتعتبر أن الفرد يولد
وهو مزود بحقوق طبيعية، وتؤمن وتفترض أن الفرد كائن عقلاني وأخلاقي، وأن أخلاقياته
تحدد له ما يجب المحافظة عليه دون قانون، أي تمتعه بالحرية المطلقة في حياته،
وآرائه، والدعوة إلى العيش الكريم دون أي تدخل من السلطة. ويرى أصحاب هذه النظرية
أن الفرد أسمى من الحكومة، ومن الدولة. وأن الدولة هي وسيلة فقط، أو واسطة يمارس
من خلالها الفرد نشاطه، وحين تقف الدولة في وجهه عليه محاربة تلك القوة التي تمنع
تحقيق أهدافه التي يرغب الوصول إليها. وقد ولدت هذه النظرية من صلب نظرية السلطة
المطلقة، والاستبداد والعبودية للإنسان متمثلة بسلطة: - طبقة النبلاء؛ - وطبقة
الإقطاع؛ - وسلطة الكنيسة. التي عانت منها الشرائح الاجتماعية على اختلاف أنواعها
بالاضطهاد السياسي والاقتصادي والنفسي وحتى الديني، وكان الظلم المتمثل بنظام
الأقنان من أقسى أنواع الظلم البشري، ولذلك فقد تمتع النظام الحر أو الليبرالي في
بعض التسميات، بمسحة سحرية تمتع بها الفرد ومن ثم المجتمع بالديمقراطية الليبرالية
والتقدم بمعايير ذلك الزمن.
- مبادئ
النظرية الحرة: تعتمد النظرية الحرة على مبدأين أساسيين هما: - مبدأ الفردية؛
- ومبدأ المنافسة. ويرتبط هذان المبدءآن ارتباطا وثيقاً بالنظريات الاقتصادية
والسياسية. ويعتبر مبدأ الفردية أو الحرية الفردية من المبادئ الواضحة في مفهوم
النظرية الحرة ويرتكز أساساً على حرية النشاط الفردي في المجالات الاقتصادية
والسياسية، كرد فعل لما ظل سائداً لقرون طويلة من اضطهاد للفرد من قبل الإقطاع. حين
ناضل الرواد الأوائل لهذه النظرية من أجل أن تظل الحكومات بمنأى عن التدخل في شؤون
الأفراد ونشاطاتهم الاقتصادية والفكرية. وفي شؤون وسائل الاتصال والإعلام أيضاً.
- إيديولوجية
نظرية الصحافة الحرة: كان ظهور نظرية الصحافة الحرة نتيجة للتطورات الفكرية
والأحداث السياسية الاجتماعية التي مر بها المجتمع الأوروبي. ومن أهم تلك الأحداث في
التاريخ الأوروبي الحديث كان: اندلاع الثورة الفرنسية عام 1789م التي أعلنت حقوق
الإنسان وطرحت مبادئ كان لها تأثير كبير في التاريخ الإنساني، وسمحت للفرد بالتحرر
ومزاولة نشاطاته الاقتصادية والفكرية دون أي نوع من أنواع التدخل من جانب الدولة. واعتبرت
الدولة مسؤولة عن وظائف محددة هي: - المحافظة على القضاء والأمن في الداخل؛ - والدفاع
عن الوطن ضد أي اعتداء خارجي؛ - واحترام حقوق المواطن في التفكير والعمل الاقتصادي
والاجتماعي والفكري والسياسي.
وساعد ظهور
نظرية الحرية، التي ترتكز على الإيمان المطلق بالإنسان على ظهور الديمقراطيات
الرأسمالية، ومن ثم ظهور الاحتكارات بأوسع معانيها، على عكس نظرية السلطة المطلقة
التي تنظر إلى الإنسان على أنه جزء من المجتمع تنحصر قيمته وفقاً لفهم السلطة.
بحيث كان مذهب الحرية يرى أن سعادة الفرد هي الغاية من وجود المجتمع، بينما رأى
أنصار مذهب السلطة المطلقة أن سعادة المجتمع هي الغاية من وجود الفرد حتى وإن كانت
تلك السعادة على حساب حياته الخاصة.
وحقق مفهوم
نظرية الحرية انتصارات كبيرة على صعيد المجتمع وعلى صعيد الفرد فتوسع التعليم الذي
لم يكن متيسراً كما هو معروف الآن قياساً بما تحقق بعد زوال العهد الإقطاعي
الاستبدادي، ومنح حق الانتخاب لأكثر المواطنين ومنها حق الفرد في ممارسة نشاطاته
الاجتماعية، والتنافس للحصول على أكبر قدر ممكن من الربح المادي، وزيادة الإنتاج
مما حقق للمجتمعات الرفاهية والتقدم. وظهر مفهوم الحرية بادئ الأمر في أوساط
الطبقة الوسطى في المجتمعات الأوروبية، التي طالبت بالحرية، وضمان حقوق الأكثرية
في المجتمع. وتجلى هذا الأمر بالوضوح عندما تبنت الحركات السياسية مبدأ المناشدة
بالحرية.
وكان لظهور
الفيلسوف جون لوك أثر كبير على تطور نظرية الحرية، عندما قال: بأن الشعب هو
مصدر السلطات. وفسر هذا القول بأن الشعب يمكنه أن يسحب السلطة متى شعر بأن الحكومة
لا تعمل لصالحه. وجاء جون ملتون عام 1644 ليقول: أن الحقيقة لا تضمن لنفسها
البقاء إلا إذا أتيحت لها الفرصة لأن تتقابل وجهاً لوجه مع غيرها من الحقائق في
طرح كامل وبحرية تامة. بينما رآى جون رسكين: أن كل إنسان يسعى لتنوير
الآخرين، لا إلى تضليلهم، ومن حقه أن ينشر كل مايدور بعقله وما يختلج ضميره سواء
أكان في الموضوعات الحكومية أم في الموضوعات الخاصة. أما جون ستيوارت فقال:
أن من حق الفرد الناضج في المجتمع أن يفكر ويتصرف كما يشاء مادام لايؤذي أحداً
بتفكيره أو تصرفه. وما دام هذا التفكير والتصرف يؤدي إلى منفعة الآخرين. وانتشرت
هذه الطروحات الفلسفية في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، وكانت ترمي في
الأساس إلى ما يلي: - تطبيق الحرية بمعناها الواسع؛ - واحترام الإنسانية وحفظ قيمة
الفرد؛ - وضمان مستقبل الفرد؛ - وتحقيق الرفاهية والسعادة للمجتمع. ولم تجد تلك
المبادئ طريقها إلى التطبيق إلا في العقود الأخيرة من القرن العشرين، في ظل هيمنة
الدول الصناعية المتقدمة وسيطرتها على الاقتصاد ووسائل الاتصال والإعلام
الجماهيرية.
- الصحافة
الحرة ووسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية: لكل نظرية من النظريات شكلها
المعين ومفاهيمها المعينة التي تسيطر من خلالها على أساليب وأنماط الإعلام. وتنبع
فلسفة الإعلام عادة من فلسفة الدولة، فالإعلام في نظرية السلطة المطلقة هو إعلام
استبدادي إستعاضي، أي أن الدولة كما ذكرنا تحل محل الشعب عن طريق كتابها وألسنتها
الناطقة باسمها، ولا تسمح إطلاقاً إلا بما يراعي مصالحها وتوجهاتها. إضافة لفرضها
رقابة قسرية على وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية.
وقد أدى ظهور
نظرية الحرية إلى صراع تمثل بين المفهوم الغربي للحرية، والمفهوم السوفييتي
للحرية، إبان الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي بقيادة الولايات المتحدة
الأمريكية، والشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي، والاختلاف المطروح كان: أيّ
المفهومين أصدق أو أقرب أو أنفع للفرد والمجتمع ؟ فكلا الجانبين اتهما بعضهما
باضطهاد الإنسان واستغلاله وكل منهما طرح أسلوبه وأفكاره وفلسفته على الجماهير
وروج لها بين الشعوب. وقد سَخِرَ الماركسيون من الحرية النظرية التي عرفها العالم
الغربي عندما أعلن ستالين: "إنه لا معنى مطلقاً للحرية بالنسبة
للمتعطلين عن العمل، ولا معنى للحرية بالنسبة للجائعين، لأن الحرية لا توجد إلا
عندما يختفي الاستغلال والتسول والخوف أو يختفي شبح البطالة من المجتمع اختفاء
تاماً". وهذا كلام واضح لا يحتاج إلى تعليق. فالسخرية تبدو رافضة تماماً لهذه
النظرية.
بينما أعلن
الغربيون أن صحافتهم تتمتع بالحرية المطلقة وأن الصحافة السوفييتية تنوء تحت وطأة
السلطة، وأنها تخضع كل الخضوع للرقابة الحكومية أو رقابة الحزب الواحد. بينما أعلن
السوفيت أن صحافتهم غير مأجورة كالصحافة الأمريكية التي اتهموها بأنها مأجورة، وأن
الصحافة السوفييتية ليست خاضعة لسيطرة رأس المال والاحتكار كما هو الحال في الغرب.
ووصفت الصحافة الأمريكية نفسها بأنها صحافة الخبر وأنها تساير في ذلك التطور
الصحفي في البلاد المتقدمة، وأنها قادرة على نشر الأخبار بسرعة فائقة، وأنها أقدر
من سواها على تسلية القارئ وإمتاعه وتزويده بالمعلومات النافعة. بينما ردت الصحافة
السوفييتية بقولها أن السبق الصحفي في الأخبار وتسلية القراء لا يعتبران جزءاً من
الخدمة العامة التي تقدمها الصحافة الرشيدة للشعب. كون خبر التسلية والترفيه عن
القراء كثيراً ما يكون منافياً للشرف الصحفي وفقاً للمفهوم السوفييتي. وعلى العموم
فإن الغرب يضع الحرية في المرتبة الأولى والمسؤولية في المرتبة الثانية بينما
السوفييت قبل الانفتاح الغورباتشوفي كانوا يضعون المسؤولية أولاً والحرية بعد ذلك.
وتغيرت الظروف
والطروحات بعد انهيار المنظومة الاشتراكية والاتحاد السوفييتي، ولاحت تباشير
الانفتاح على المفهوم الغربي للحرية والديمقراطية في وسائل الاتصال والإعلام
الجماهيرية للدول المستقلة التي قامت على أنقاض الاتحاد السوفييتي السابق، وأنقاض
المنظومة الاشتراكية السابقة التي كان يقودها الاتحاد السوفييتي السابق. وراحت تلك
الدول تبحث عن مكان لها في النظام العالمي الجديد، منفتحة على العالم بعد سنوات
طويلة من العزلة والمواجهة.
18- النظرية
الاشتراكية للصحافة
ظهر مفهوم
النظرية الاشتراكية في أوروبا مع بداية عام 1830 واستمر في تطوره حتى عام 1948.
وخلال هذه الفترة الطويلة التي دامت أكثر من قرن، ظهرت الكثير من المفاهيم
والمذاهب الفلسفية والأفكار السياسية المكملة لمفهوم الاشتراكية. وكان أولها ما
ظهر في فرنسا إبان الثورة الفرنسية التي اعتمدت على المنشور والمطبوع في نشر
أفكارها. وظهر مصطلح الاشتراكية بمعناه السياسي الحديث الدال على نظام اجتماعي
واقتصادي في الصحافة لأول مرة عندما نشرت صحيفة كلوب عام 1832 مقالة عنها
كتبها بيير ليرو أحد أتباع مدرسة سان سيمون الفلسفية. وأطلق تعبير
الاشتراكية للتعبير عن الفلسفة الاجتماعية الإصلاحية التي آمن بها أتباع هذه
المدرسة المؤمنة بالنظرة الإنسانية نحو الطبقات المعدمة. وسرعان ما اتسع مدلول
الاشتراكية بفضل فورييه، وبرودون، ولويس بلان، لتعبر عن
التطلع إلى نوع جديد من النظم الاجتماعية.
- التيارات
الاشتراكية: وتبلورت في أوروبا ثلاثة تيارات اشتراكية، وهي تيارات تمثل خلاصة
للصراع الإنساني ضد الاحتكار الرأسمالي وفق المفهوم الاشتراكي، وهي:
- الاشتراكية
الإنتاجية: التي تتبنى مشاريع تنمية الثروة القومية، وإطلاق طاقات رأس المال
في المشروعات الإقليمية والعالمية. داعية الناس القادرين على الإنتاج والبذل. وفق
مفهوم "الكل منتج دون تدخل من الدولة"، تاركين الأمر للتجار والصناعيين
والمثقفين والعلماء والفنيين لتحقيق الكفاية، وتزعم هذه المدرسة الفيلسوف سان
سيمون وأتباعه.
- الاشتراكية
التعاونية: وتزعم هذا الاتجاه في إنكلترا الفيلسوف ورجل الصناعة روبيرت
أوين، وفي فرنسا شارل فورييه، واعتبر أوين أن حل المشكلة يتوقف
على خلق النموذج الاشتراكي الإنساني الذي يجذب أصحاب النوايا الطيبة من الأغنياء
ورجال المال والصناعة. وأعطى المثال بنفسه عندما أسس مستعمرة اشتراكية على أساس
المساواة المطلقة والمشاركة في الجهود والأرباح، وانتفاء الأسلوب الرأسمالي
الاستغلالي في التعامل.
- الاشتراكية
العلمية: الذي صاغ نظريتها الفلسفية والاجتماعية والاقتصادية كارل ماركس،
بعد استيعابه للفلسفة الجدلية لهيجل، ومذهب آدم سميث في الاقتصاد
الحر، والدراسات الفلسفية الاجتماعية لسان سيمون وتلاميذه.
- دعائم
النظرية الاشتراكية للصحافة: تقوم النظرية الاشتراكية للإعلام على دعائم
أساسية هي: - ملكية الشعب لوسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية؛ - وربط مؤسسات
ووسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية بالمجتمع الاشتراكي، ربطاً وثيقاً، وتحديد دور
إيجابي يلتزم به جميع العاملين في الميدان الإعلامي. وبهذا الوضع وتطبيقاً لهذه
الأفكار فإن الصحافة التي تؤمن بهذه الفلسفة هي صحافة واقعية لا عناية لها إلا
بالموضوع أو الموضوعية الأكاديمية، لذلك فهي تؤمن بالواقع الملموس من المكاسب التي
حصلت عليها الطبقة الكادحة. ووضعت المسؤولية العامة اتجاه الطبقة أولاً والحرية
ثانياً. وعلى هذا الأساس أصبح للحرية الصحفية في النظام الاشتراكي معنى مخالفاً
تماماً لمعناها في النظام الرأسمالي، ووفقاً لمصالح الطبقة الكادحة فإن النظام
الإعلامي الاشتراكي يؤمن: - بحرية القول في إطار الفكر السائد؛ - وحرية الاجتماع
بما في ذلك الاجتماعات الشعبية لمساندة نظام الحكم القائم؛ - وحرية التجمع أو
المواكبة أو التظاهرات لتحقيق غرض القيادة السياسية.
ولم يعد
بالإمكان التحدث عن نظرية إعلامية اشتراكية بعد انهيار المنظومة الاشتراكية
والاتحاد السوفييتي السابق، وتفكك الجمهوريات السوفييتية إلى جمهوريات مستقلة ذات
سيادة واستقلال وطني، وتحول أغلبية دول المنظومة الاشتراكية إلى أنظمة ديمقراطية
لها أساليبها السياسية والإعلامية الخاصة بها وعلاقاتها الدولية المبنية على
مفاهيم ديمقراطية جديدة. بل أن بعض هذه الجمهوريات الجديدة أخذت تعمل على تكييف
نظرية الإعلام الحر لممارساتها الإعلامية الفعلية.
يتبع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق