في ذكرى وفاة المفكر والباحث السوري برهان بخاري
(1941-2010)
كتبها: أ.د. محمد
البخاري
ولد المفكر والباحث السوري
الكبير برهان بخاري في دمشق عام 1941 وتوفي فيها عام 2010، وساهم في جميع
الأحداث السياسية والفكرية التي عصفت بالمنطقة، ويمكننا تقسيم نشاطاته قبل عام
1979 إلى قسمين رئيسيين:
القسم الأول: ويتعلق بالتعليم، فلقد ابتكر عدداً من الوسائل التعليمية
لطلاب المدارس، ثم قام بتنفيذ مشروعه الخاص بمحو الأمية وتعليم الكبار، وأعدّ بعد
ذلك منهاجه لتعليم اللغة العربية للأجانب، وتعليم اللغات الأجنبية للعرب، ووضع
عدداً كبيراً من الكتب والأبحاث في هذا الميدان.
القسم الثاني: وله علاقة بالفكر والأدب حيث مارس كتابة المقال الصحفي
والنقد الأدبي والقصة القصيرة والرواية والشعر والمسرح، وكتب للصحف والمجلات
والإذاعة والتلفزيون والسينما والمسرح.
وفي عام 1979 دعته
جمعية وطن للعلاقات الثقافية مع المواطنين الأجانب من أصول أوزبكية إلى طشقند
عاصمة جمهورية أوزبكستان السوفييتية الإشتراكية للاشتراك في العيد الألفي لابن
سينا، وکانت هذه الدعوة وراء دخوله الواسع الى العالم الأكاديمي، حيث ترجم
لأوّل مرة قطعاً أدبية من الأوزبكية الى العربية مباشرة – فقد كانت الترجمة قبل
ذلك تمرّ عبر اللغة الروسية - ثم وضع الأسس العلمية لأوّل معجم أوزبكي- عربي،
وعربي- أوزبكي، وكتب عدداً ضخماَ من الدراسات حول بنيوية اللغة الأوزبكية وعلاقتها
التاريخية مع اللغة العربية، ونال عدداً من شهادات التقدير والألقاب الأكاديمية.
ولقد تعززت جهوده
الأكاديمية باستضافة جامعة الكويت له كأستاذ زائر عام 1983، حيث ساهم في تطوير بحث
حول الصوتيات العربية بما يعرف بالكلام المركب صناعياً والكمبيوتر، ولقد مهدت
الأبحاث الطريق له لانتقاله إلى العالمية حيث قام بتصميم برنامج لجهاز كمبيوتر
قادر على تنضيد جميع أبجديات العالم والتعامل معها، ولقد قامت بتنفيذه شركة
"مونوتايب" البريطانية، حيث عرف عالمياً بلوحة مفاتيح البخاري.
ولقد أمضى الباحث البخاري
ثلاث سنوات في أوروبا من عام 1984 إلى 1986 في مراكزها العلمية وجامعاتها، وشارك
في عدد من المؤتمرات والمعارض الدولية الخاصة بالترجمة الآلية، ووضع أسس نظريته
الخاصة بالترجمة الآلية، والتي عرفت فيما بعد بنظرية اللغة العليا "السوبر لينغوا"
والقادرة على الترجمة الفورية إلى جميع لغات العالم دفعة واحدة.
وبعد عام 1986 عاد إلى
"دمشق" واعتكف لإنجاز مشروعه الضخم المعروف بإعادة بناء التراث العربي
والإسلامي على الكمبيوتر، والذي يتألف بشكل أساسي من عشر موسوعات، أهمها:
موسوعة الحديث النبوي
الشريف والتي يربو عدد أجزائها على مئة جزء، قام بطباعة الجزء الأول منها والباقي
قيد النشر، وقام بشرح مشروعه في عدد من اللقاءات الصحفية والتلفزيونية والإذاعية
باللغة العربية والإنكليزية.
وفي تشرين الأول عام
1995 بدأ بكتابة سلسلة مقالات في صحيفة تشرين الدمشقية واسعة الانتشار صباح كل
أحد، ولقد أثارت مقالاته ضجة واسعة في جميع الأوساط السورية والدولية، نظراً
للجرأة الفكرية والعلمية ولعمق التحليل المدعم بالبيانات الأكاديمية التي اتصفت
بها.
وقد حملت تلك
المقالات عناوين صارخة مثل:
- لماذا نعيد كتابة
التاريخ؟
- مؤرخ دمشق الكبير
ليس مؤرخاً.
- الديمقراطية ورقعة
الهوامش.
- القفز في الماء
البارد.
- هل نحالف الشيطان.
- رسالة مفتوحة إلى بل
كلينتون... وغيرها.
ويعتبر مقال
"الصادق" من أهم وأجرأ المقالات التي كتبها متجاهلاً جميع الحساسيات
المذهبية والطائفية، حيث أظهر فيه عملية التزوير والتعتيم التي تجري على تراثنا.
وقد أورد في زاويته
في جريدة الثورة "معاً على الطريق" تحت عنوان "دمشق عاصمة
الثقافة" ما يلي:
"بداية أقول إن
اختيار مدينة كعاصمة للثقافة لا يكون بسبب عراقتها التاريخية فقط وإلا لجرى اختيار
الأقصر أو تدمر أو البتراء أو مدائن صالح عواصم للثقافة لكن السبب وراء الاختيار
هو دراسة ما تجمّع في بوتقة أي مدينة عريقة حية من تراكمات ثقافية تفيد الراهن
والمستقبل ضمن إطار إنساني شمولي.... في عام 1979 دعيت إلى "طشقند"
للمشاركة في العيد الألفي لابن سينا وكان احتفال أوزبكستان يمثل ذروة
الاحتفالات التي جرت في مختلف جمهوريات الاتحاد السوفييتي بحكم كون "ابن
سينا" أوزبكياً وقد حضر الاحتفال رئيس الجمهورية ومختلف القيادات الحزبية
والسياسية والفكرية والإبداعية، لكن ذروة الاحتفالات الحقيقية كانت في مدينة بخارى
التي كانت إحدى قراها والتي تدعى "أفشنة" مسقط رأس "ابن سينا"،
ولو كان كتاب غينيس للأرقام القياسية موجوداً أو متابعاً آنذاك لسجل أكبر مائدة في
التاريخ بطول عشرات أو مئات الكيلومترات، فكل بيت وضع مائدة على حصته من الرصيف
متصلة بمائدة جاره، وهكذا امتدت الموائد على مختلف أرصفة "بخارى"، وكان
كل صاحب بيت يتوسل المارين أن يذوقوا لقمة واحدة من طعامه وعلمت أنه قد جرى
التحضير لهذا الأمر فردياً وطوعياً قبل بضعة أشهر. طبعاً نحن لا نحلم بقيام مثل
هذه الأمور لكننا نؤكد أن الدور الشعبي شيء فاعل وحاسم ولا يمكن إقناع الشعب بلعب
دوره بشكل فوقي واستعلائي، بل بإقناعه أنه شريك أساسي في العملية بأسرها...".
برهان بخاري، العالم النشيط والحالم الكبير، كان بيته أشبه ما يكون
بمركز ثقافي يمور بالنشاط، حيث كان يشرف على إعداد معجم تاريخي لألفاظ العربية،
كما أشرف على موسوعة الحديث الشريف، وبدايات الموسوعة الشعرية، فضلا عن اهتمامه
العلمي العميق بالحاسوب ونظامه العربي.
وبرهان بخاري صديق
عزيز ربطتني به صداقة قوية تعززت عندما كنت مشرفاً لمحو الأمية وأمين سر لجنة محو
الأمية وتعليم الكبار بمحافظة مدينة دمشق في أواسط سبعينات القرن الماضي قبل
مغادرتي لأتابع دراستي الجامعية في أوزبكستان، وكثيراً ما كنا نقضي السهرات
الممتعة على شرفة شقته بشمال المزرعة مع ضيوفه من الأدباء والكتاب والصحفيين البارزين.
وفي طشقند كنت حريصاً
على مرافقته في معظم جولاته وكنت معجباً بجرأته في تبادل الحديث بلغة أوزبكية سليمة
مع الجوار في المقاهي الشعبية من الجنسين ومختلف الأعمار، وكنت شاهداً عندما أثار
الحضور في حفل زفاف دعينا إليه في أحد الأحياء الشعبية بطشقند، إذ وقف وتحدث بلغة
أوزبكية سليمة مهنئاً العروسين، وقدم للعروس قطعة قماش مصنوعة في دمشق، فما كان
منها إلا أن أخذتها وبدأت تقبلها لأنها من شام شريف كما يسمي الأوزبك مدينة دمشق.
وكنت شاهداً أكثر من مرة على مساعداته اللا محدودة التي كان يقدمها بمختلف
المواضيع اللغوية والأدبية لزملائه في سكن أكاديمية العلوم الأوزبكية التي استضافه
حينها لبضعة أشهر وعرضت عليه الإستمرار في البحث ودراساته العلمية ضمن مؤسساتها
العلمية، إلا أنه فضل العودة إلى دمشق التي يعشقها. رحمك الله وغفر لك وأسكنك فسيح
جناته أيها الصديق العزيز.
المصادر: