الاحتكار الدولي للأنباء 1
أ.د. محمد البخاري
التبادل
الإعلامي في ظروف العلاقات الدولية
المعاصرة
طشقند -
2011
تأليف:
محمد البخاري: دكتوراه في العلوم السياسية DC، اختصاص: الثقافة السياسية والأيديولوجية، والقضايا السياسية للنظم الدولية وتطور العولمة؛ ودكتوراه فلسفة في الأدب PhD، اختصاص: صحافة؛ بروفيسور قسم العلاقات العامة والإعلان، كلية الصحافة، جامعة ميرزة ألوغ بيك القومية الأوزبكية.
الاحتكار
الدولي
للأنباء
ومن
الناحية التاريخية نرى أن وكالة الأنباء الفرنسية هافاس Havas،
ووكالة
الأنباء
البريطانية
رويتر
Reuter، ووكالة الأنباء الألمانية وولف Wolff،
قامت بتقسيم العالم قبل أكثر من قرن ونيف من الزمن إلى مناطق نفوذ إعلامية، تمشياً مع السياسات الاستعمارية التي كانت تتبعها آنذاك الدول الأوروبية وخاصة فرنسا وبروسيا وبريطانيا، الشركاء الثلاثة في الاحتكار الدولي للأنباء، وكان همهم الوحيد آنذاك الحصول على الربح ودعم الحكومات المتعاونة معها في الداخل والخارج، وتقدم لها المساعدة والمؤازرة للاحتفاظ بالسلطة والأوضاع الراهنة.
واتفقت
وكالات الأنباء الثلاث على تنسيق أعمالها عام 1856 لتجنب المنافسة، وتحقيق معدلات عالية من الربح، وتزايد الاحتكار الدولي للأنباء بعد توقيع اتفاقية الأنباء بينهم عام 1870 وقاموا بتقسيم العالم إلى عدد من مناطق النفوذ، يكون لكل منطقة منها وكالة أنباء معينة لها الحق الكامل في جمع وتوزيع الأنباء. وعلى
هذا الأساس منحت وكالة الأنباء الألمانية وولف حق السيطرة وجمع ونقل الأنباء من وإلى ألمانيا، والنمسا، وهولندا، واسكندينافيا، والإمبراطورية الروسية، والبلقان، وكانت وكالة أنباء فيينا آنذاك تابعة لوكالة الأنباء الألمانية وولف. بينما
منحت وكالة الأنباء الفرنسية هافاس نفس الحق في إيطاليا، وسويسرا، وإسبانيا، والبرتغال، وأمريكا الوسطى والجنوبية، ومصر بالتعاون مع وكالة الأنباء البريطانية رويتر. ومنحت
وكالة
الأنباء
البريطانية
رويتر
نفس الحقوق في الإمبراطورية البريطانية، والشرق الأقصى، والإمبراطورية العثمانية، ومصر بالاشتراك مع وكالة الأنباء الفرنسية هافاس. أما وكالة الأنباء الأمريكية الأسوشيتد بريس التي كانت عضواً صغيراً في الاحتكار الدولي فمنحت نفس الحقوق داخل الولايات المتحدة الأمريكية فقط.
بينما
اعتمدت وكالة الأنباء الروسيةThe
Russian Telegraph Agency على وكالة الأنباء الألمانية وولف. ورغم تمتع وكالة الأنباء الأمريكية الأسوشيتد بريس بعد إعادة تنظيمها، بكامل العضوية في هذا الاحتكار الدولي خلال السنوات العشر الأولى من القرن العشرين، إلا أنها لم تحقق نجاحاً ملحوظاً أمام منافسة شركائها في الاحتكار، ورفضت طلب الصحف الأمريكية الجنوبية للتعاون معها بعد أن ضاقت تلك الصحف ذرعاً من الدعاية الفرنسية والأنباء التي كانت تزودها بها وكالة الأنباء الفرنسية هافاس. وبدأ
الاحتكار بالتداعي عندما بدأت وكالة الأنباء الأمريكية اليونيتيد بريس التي لم تدخل في عضوية الاحتكار العالمي للأنباء، بمنافسة وكالة الأسوشيتد بريس،
في سوق الأنباء العالمية، ودخولها سوق أمريكا الجنوبية، فما كان من الاحتكار الدولي إلا أن منح وكالة الأنباء الأمريكية الأسوشيتد بريس العضو في الاحتكار حق السيطرة المطلقة على تلك السوق. واستمرت تلك الحال حتى مطلع ثلاثينات القرن العشرين حين خرقت وكالة الأنباء الأمريكية الأسوشيتد بريس الاتفاق المبرم مع الاحتكار الدولي، وبدأت باستغلال السوق اليابانية الغنية متحدية بذلك الاحتكار القائم لوكالة الأنباء البريطانية رويتر فيها.
وأظهرت
بعض الدراسات الإعلامية أنه إضافة للاحتكار وتوزيع مناطق النفوذ في عملية التبادل الإعلامي الدولي، فإن وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية الدولية، حرصت على نقل وتوزيع الأخبار والتعليقات والتحليلات السياسية والاقتصادية والعسكرية من منظور المصالح التي تمثلها، أخذة بعين الاعتبار مصالحها السياسية والاقتصادية، وهذه معضلة لم تزل تعاني منها الدول الأقل تطوراً والدول النامية والدول الفقيرة، المضطرة لاستخدام ما يصلها من المصادر الإعلامية الدولية، متأثرة في أكثر الأحيان بمواقف تلك المصادر، وهذا يفسر محاولات بعض الدول الأقل تطوراً والدول النامية، التكتل عالمياً وإقليمياً لإنشاء وسائل إعلام جماهيرية قوية، يمكن أن تخلصها من هيمنة واحتكار وسائل الاتصال ووسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية الدولية، عملية جمع ونقل وتوزيع ونشر الأنباء عالمياً.
أما
نظام الحكم الجديد في روسيا بعد استيلاء البلاشفة على السلطة عام 1917، فقد أنشأ وكالة التلغراف الروسية التي باشرت عملها ابتداء من عام 1918، وبعد قيام الإتحاد السوفييتي تغير اسمها إلى وكالة تلغراف الإتحاد السوفييتي TASS وكانت تابعة لمجلس وزراء الإتحاد السوفييتي السابق ويديرها أحد أعضاء المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفييتي السابق، وجمعت الأخبار من 60 دولة، ووزعتها على المشتركين في 40 دولة، إضافة لاحتكارها تجميع وتوزيع الأخبار داخل جمهوريات الإتحاد السوفييتي السابق، باعتبارها المصدر الوحيد والإلزامي لجميع الصحف السوفييتية، وكان يعمل فيها حوالي 1500 موظف، ومقرها موسكو، ووزعت حوالي 1500 كلمة في اليوم كلها نصوص رسمية وشبه رسمية. وبعد
انهيار الإتحاد السوفييتي تحولت هذه الوكالة إلى وكالة إيتار تاس ITAR TASS بينما تحولت فروعها في الجمهوريات السوفييتية السابقة: لاتفيا، وليتوانيا، واستونيا، وبيلاروسيا، وملدافيا، وأوكرانيا، وجورجيا، وأرمينيا، وأذربيجان، وتركمانستان، وأوزبكستان، وطاجكستان، وقازاقستان، وقرغيزستان إلى وكالات أنباء وطنية للجمهوريات التي استقلت عن الاتحاد السوفييتي السابق.
وفي
عام
1961 أنشأت
الحكومة السوفييتية وكالة نوفوستي الصحفية، لإنتاج المواد الإعلامية التي تعكس أوجه الحياة في الإتحاد السوفييتي السابق، وتعد هذه الوكالة مكملة لوكالة تاس في الإعلام السوفييتي، وتعمل في إطار السياستين السوفييتيتين الداخلية والخارجية، وسارت وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية السوفييتية، في إطار النظام الشيوعي السوفييتي الذي استخدم الدعاية كوسيلة من الوسائل الأساسية لتحقيق أهدافه، من خلال الإقناع وغسل الأدمغة، والتلقين الإيديولوجي، والتركيز على وجهة النظر السوفييتية فقط، وإهمال كافة وجهات النظر الأخرى خاضعة تماماً لسيطرة الحزب الشيوعي السوفييتي، ولا سيما لجنته المركزية، ومكتبه السياسي. ولم تعرف وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية السوفييتية طيلة فترة حياتها السبق الصحفي، كما هي الحال في وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية في غرب أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية والدول السائرة على النمط الغربي. وكثيراً ما كانت تحدث أحداثاً جسيمة في الإتحاد السوفييتي نفسه وفي دول العالم الأخرى دون أن تنقلها وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية السوفييتية بناء على تقديرات السلطات السوفييتية، ولهذا كان المواطن السوفييتي ملماً بمسائل من نوع خاص يحصل عليها بناء على حسابات السلطة السوفييتية، ولا يعرف الكثير مما يدور حوله من شؤون العالم. وكثيراً ما كانت الأخبار تذاع بتأخر كبير يتجاوز عدة أيام أحياناً بعد وقوع الحدث. وكانت
الأخبار التي تنقلها بعيدة عن الموضوعية، وتنشر الحقائق التي تدخل في إطار السياستين الداخلية والخارجية للدولة فقط. وبهذا كانت وكالتي تاس ونوفوستي أداة طيعة من أدوات دعاية السياسة الخارجية السوفييتية، حتى أن الكثير من الدول غير الشيوعية كانت تتجنب الاعتماد على وكالة تاس،
وأن بعض تلك الدول اشتركت في وكالة تاس مجاملة للإتحاد السوفييتي كقوة عظمى آنذاك. وكانت تنشر حيزاً ضئيلاً جداً من الأخبار التي يوزعها الإعلام السوفييتي، وخاصة تلك التي تمس بشكل مباشر الإتحاد السوفييتي السابق وحلفائه المقربين، واقتصر اعتمادها على ما توزعه وكالات الأنباء الغربية فقط.