الموسوعي الكبير أبو علي حسين بن سينا
كتبها أ. د. محمد البخاري: بروفيسور قسم العلاقات العامة والدعاية، كلية الصحافة، جامعة ميرزة أولوغ بيك القومية الأوزبكية.
عاش العالم الكبير، والفيلسوف، والطبيب، والموسيقي أبو علي حسين بن سينا متنقلاً ما بين وسط آسيا، وإيران. وكان طبيباً ووزيراً لدى عدد من حكام عصره. وعرف بشكل واسع في الشرق والغرب كموسوعي ومنظر في أساليب المعالجة الطبية، وهو مؤلف كتاب "القانون في الطب" الذي ضمنه خبراته العملية، ونظراته الطبية، ودراساته عن الأطباء القدامى في: اليونان، وروما، والهند، وبلدان الشرق الأوسط. وفي القرون الوسطى كان كتاباً إلزامياً لتدريس الطب في أوروبا. وصب اهتمامه منذ البداية على أحدث ما توصلت إليه العلوم الطبية، وطرق المعالجة بالأعشاب، والطب الشعبي، ودرس مصادر معاصريه من مطوري الطب في ذلك العصر. وبعد وفاته بنحو أكثر من مائة عام أحرق متعصبون دينيون في بغداد كتبه الفلسفية، وبعد مئات السنين وبعد إختراع الطباعة طبعت كتبه في أوروبا، ومنها الأجزاء الخمسة من " القانون في الطب"، وكان الكتاب الثاني الذي يطبع في أوروبا بعد طباعة الكتاب المقدس "الإنجيل".
ولد ابن سينا في قرية أفشنا الصغيرة بالقرب من مدينة بخارى، وأشارت سيرة حياته إلى أن "أبيه قدم من بلخ، إلى بخارى، أيام حكم الساماني نوح بن منصور، واشتغل عنده في الديوان، وأدار مركز خايرمايسان وهو أحد المناطق القريبة من مدينة بخارى. وتزوج واحدة من بنات قرية قريبة من أفشنا اسمها سيتارة أي النجمة. وهناك ولدت ابنها البكر حسين، ومن بعده ولدت شقيقه". وكان ابن سينا من المتحدثين باللغتين الفارسية والداري المنتشرتين آنذاك في وسط آسيا، وكتب رباعياته "غنى الروح" بهاتين اللغتين، و"اختار والداه لإبنهما البكر اسم حسين. وكانت العادة المتبعة في الأسر الإرستقراطية آنذاك إطلاق ألقاب على أبنائهم. وتشير المصادر إلى أن "عبد الله قال مبتسماً من دون شك سيكون لإبننا ابن. ومن أجل أن لايشقى ابني حسين في اختيار اسم لابنه فقد اخترت لابنه القادم اسم علي، ولهذا ألقبه بأبو علي". ولكن من أين كان لعبد الله أن يعلم أنه لن تكون لحسين لا أسرة ولا أبناء، وأنه سيمضي حياته في التنقل والترحال على طرق القوافل من مدينة إلى أخرى، ومن حاكم إلى حاكم، وأن الطرق ستكون بيتاً له وأقرب إليه.
وكان حسين في طفولته كثير الفضول وكانت عبارة "لماذا" العبارة المحببة له يرددها دائماً. وعندما بلغ الخامسة من عمره انتقلت أسرته إلى بخارى، وأدخله والده هناك إلى المدرسة الدينية "الكُتَّاب" حيث درس فيها حتى بلوغه سن العاشرة. وكان حسين أصغر التلاميذ الـ 15 اللذين درسوا عند خطيب المسجد عبيدة الذي كان يدرسهم آيات القرآن الكريم باللغة العربية. ولكن الكثيرسن من التلاميذ آنذاك كانوا يفهمون اللغة العربية بصعوبة بالغة. ومع ذلك سارع حسين بطرح الأسئلة على معلمه، وكان يحصل على كل أسئلته جواب واحد: "إدرس القرآن الكريم ففيه الإجابات على أسئلتك". وفي نفس الوقت درس قواعد وبلاغة اللغة العربية عند معلمين آخرين. وفي أحد المرات قال حسين الصغير: "ها قد ختمت القرآن الكريم، فهل أستطيع توجيه الأسئلة" فغضب المعلم منه وقال له: "دراسة القرآن تتم خلال سنوات طويلة والقلائل من المسلمين يعرفونه عن ظهر قلب، ليحصلوا بعد ذلك على اللقب الشريف (حافظ القرآن)" فما كان من الفتى إلا أن رد مباشرة "هذا يعني أني (حافظ القرآن)". وخلال إمتحان صعب ودون خوف أسمع حسين معلمه كل آيات القرآن الكريم دون أن ينسى أي كلمة منها. حتى أن خطيب المسجد عبيد نفسه لم يكن حافظاً للقرآن مثله. ومنذ ذلك الوقت توقف عن الذهاب إلى الكتاب وهو لم يكد يتجاوز العاشرة من عمره، وفي عام 990م أنهى تعليمه الإبتدائي، وأذهل الجميع بقوة ذاكرته وحفظه للقرآن الكريم عن ظهر قلب، وتعجبوا لمعرفته الأدب العربي. ومن ذلك الوقت حصل على لقب شيخ. وجاء في قصة حياته التي كتبها بنفسه "في العاشرة من عمري حفظت القرآن ودرست العلوم الأدبية، وبهرت الجميع بهذا النجاح".
ولوحظت مواهب الفتى حسين في وقت مبكر. وما أن بلغ العاشرة من عمره حتى أخذه والده من المدرسة ليحصل على تعليمه من معلمين يأتونه للبيت. ودرس الرياضيات، والفيزياء، والمنطق، وعلم القانون، وعلم الفلك، والفلسفة، والجغرافيا، والطب بشكل مكثف، ولكنه أبدى اهتماماً خاصاً لدراسة الطب. ودرس المعارف الطبية لذلك الزمان، والتي اقتصرت آنذاك على الطب الشعبي، وحظيت باهتماماته. وساعدت أوضاع أسرته تطوره المعنوي وهو فتى. فوالد ابن سينا كان غنياً ومتعلماً وقريباً من حركة الإسماعيليين، الذين سرعان ما جعلو حسين واحداً منهم. ورغم أن ابن سينا لم ينتمي لحركة الإسماعيليين، إلا أنه عاش مهتماً بما دعوا إليه، وأخذ عنهم بعض الأفكار النقدية للقرآن الكريم. وكان المعلم الأول لابن سينا في الفلسفة والرياضيات، أبو عبد الله الناتالي أحد أعضاء حركة الإسماعيليين. ودراسته مرت بنجاح، حتى أنه تجاوز وهو تلميذ في بعض الأحيان معلمه مما وضعه في طريق مسدودة أكثر من مرة. وكتب ابن سينا في سيرة حياته الحادثة التالية: "أعطيته تحليلاً لمعارف لم يسمع بها من قبل. فتعجب مني، ونصحني والدي بعدها أن لا أدرس أي شئ غير العلوم. ونفس الشئ حدث أثناء دراستي لكتاب يوقليد حيث درست خمسة أو ستة نظريات من الكتاب بمساعدة المعلم، والبقية درستها بشكل مستقل. وسرعان ما ظهر أن الناتالي عاجز عن تعليمي. فقال لي: "إقرأ بنفسك، وأسمعني حلولك للنظريات، وبعد ذلك أرني النتائج. وأثناء دراستي للكتاب بشكل منفرد، كانت هناك مسائل كثيرة لا يعرفها معلمي فتعلمها مني".
واهتمام ابن سينا بالطب كان مبكراً جداً، وشغل الطب بالتدريج مكانة كبيرة في اهتماماته، ولم يكد يبلغ الـ 12 من عمره، حتى اشتغل وفقاً لتقاليد ذلك الزمان بالدراسة على يد الطبيب والفيلسوف المشهور آنذاك أبو صلاح المسيحي. وأشار ابن سينا في سيرة حياته أنه: بعد ذلك بدأ بدراسة العلوم الطبية، وبدأ بقراءة كتب العلوم الطبية. وأن العلوم الطبية هي من العلوم غير الصعبة، ولهذا بدأت بها وخلال فترة قصيرة بدأ أطباء معروفين في ذلك الوقت يقصدوني للمشورة. وقصدني المرضى، وبالنتيجة تكونت عندي خبرات فتحت أمامي مجالات طبية يصعب وصفها رغم أني لم أبلغ حينها الـ 16 من عمري.
ودرس حسين الطب بالتفصيل تحت إشراف أبو المنصور قمري، أحد مشاهير أطباء بخارى آنذاك، وهو مؤلف أعمال علمية عديدة. واستمرت دراسته عند قمري لفترة قصيرة، وسرعان ما بدأ ابن سينا بالعمل مستقلاً، وحظي بشهرة وصلت لدرجة أنه دعي للقصر لمعالجة الأمراض المستعصية لأمير بخارى نوح بن منصور. ويذكر ابن سينا أنه: "ذات مرة مرض الأمير بشدة ولم يستطع الأطباء تشخيص مرضه. وكان اسمي معروفاً لديهم. فحدثوا الأمير عني وأرسلوا بطلبي. وحضرت وشاركت معهم بمعالجته، فأعجبته معالجتي". ولم يكن مرض أمير بخارى معروفاً، ولم تكن معالجة ابن سينا معروفة بدقة أيضاً، ولكن المعالجة ساعدت أمير بخارى نوح بن منصور لدرجة أنه أدار الحكم لسنة أخرى. وكافأه على علاجه بالسماح له بزيارة مكتبة السامانيين الشهيرة في تلك الأيام، وكانت مكتبة بخارى من أكبر واشهر مجموعات الكتب في تلك الأيام. واعتبر ابن سينا أن مرحلة عمله في مكتبة بخارى كانت من أهم مراحل تطوره الإبداعي. إذ أنه في ذلك الوقت أنهى تعليمه وبدأ طريق حياته المستقلة. و استخدم ابن سينا مكتبة السامانيين لعدة سنوات. وهناك في مكتبة بخارى ولدت عنده فكرة تأليف عمل جامع في طب ذلك الوقت، وتمكن من العثور على أسماء الأمراض، وأعراضها، وأسباب ظهورها، وطرق معالجتها. وكان يكتب ملخصات يقتطفها من مختلف الكتب، ةيقارن بينها بشكل دائم كان. وهكذا بدأت تحضيراته للمواد اللازمة لكتابه "القانون في الطب" وهو المؤلف الرئيسي الذي كتبه خلال سنوات طويلة من حياته.
وتوفي والده عبد الله بن حسن، في عام 999م ووقع على عاتق ابن سينا واجب رعاية أقربائه. ولكنه ومع الأسف لم يستطع حتى وفاته العودة إلى وطنه، وتنقل في الغربة من مدينة إلى أخرى. وأقام عند حكام: خوارزم، وأبي ورد، ونيشابور، وتوسا، وغورغان، وري، وحمدان، وأصفهان، وزار معظم مدنهم وقراهم. وعانى أكثر من مرة من الحرمان والبؤس، وصعد إلى قمة السلطة، وسقط منها دائماً، وكان عظيماً ومنبوذاً، ودخل السجن أحياناً، وجرب الرفاهية والفقر، ومع ذلك لم يتوقف عن إبداعاته وأعماله العلمية ليوم واحد.
ولم يهتم ابن سينا لا بالمظاهر ولا بالأوضاع التي وصلها، بل اهتم بالعمل، والمعرفة، التي كانت الهدف الأساسي لحياته. وبشكل مستمر تعرضت أملاكه للسرقة، ودمرت مكتبته، ومن ضمنها كانت: مخطوطة الموسوعة الفلسفية "الإنصاف" بعشرين جزءاً؛ ومخطوطة كتابه "القانون في الطب".
واهتم ابن سينا بأعمال ومؤلفات معاصريه ومنها كان "كتاب الملوك" لمؤسس ومدير مستشفى بغداد علي بن عباس. وهي من الكتب التي سبقت كتابه "القانون في الطب"، و"الكتاب الشامل في الطب" لأبو بكر الرازي الواقع في 30 جزءاً، واكتشف أن فيه نواقص ملموسة، وأن المعلومات التي تضمنها لم تكن منظمة بالشكل المطلوب، ونتائج المشاهدات كانت مفتعلة بشكل واضح، وأضيفت مصادر خيالية على المقترحات دائماً. وأن بنية الكتاب بالكامل كانت منطقية، ولكن مضامينه كانت صعبة بشكل كبير، لا تتيح استخدامها إلا لطبيب متخصص. ولهذا وضع ابن سينا نصب عينيه تأليف كتاب، يكشف أخطاء سابقيه، وبالفعل أنجز ما فكر به بشكل رائع، وألف أهم أعماله الموسوعية الضخمة في تاريخ الطب وهو "القانون في الطب".
ويعتبر "القانون في الطب" من أبرز الكتب في تاريخ الطب. وهو موسوعة طبية بجوهره، تشتمل (في حدود معارف ذلك الوقت) بشكل كامل على معلومات وتعليقات على صحة الإنسان وأمراضه. وتضمن الكتاب نحو 200 ملزمة طباعية، وترجم من اللغة العربية إلى اللغة اللاتينية، وكان موزعاً قبلها في مخطوطات كثيرة. وعندما اخترعت المطابع، كان "القانون في الطب" من بين أوائل الكتب المطبوعة، وتجاوز بعدد إصداراته إصدارات الإنجيل المقدس. وصدرت طبعته باللغة اللاتينية عام 1473م أولاً، ومن ثم طبعته باللغة العربية في عام 1543م. ولم يستطع أحد تحديد التاريخ الدقيق لإنتهائه من تأليف "القانون في الطب" ولكن التوقعات تشير أنه انتهى في عام 1020م. و"القانون في الطب" عمل واسع يضم 5 كتب هي:
- الكتاب الأول ويتضمن شرحاً مفصلاً للطب النظري. ويقع في أربعة أقسام. أعطى في القسم الأول منه تحديداً معاصراً للطب، ودار الحديث في القسم الثاني حول الأمراض، وفي القسم الثالث عن الحفاظ على الصحة والقسم الرابع عن أساليب المعالجة.
- والكتاب الثاني الأدوية "البسيطة"، تضمن نتائج أبحاث ابن سينا عن الأدوية، وتأثيرها، وطبيعتها، وتجاربها. وتضمن وفق التسلسل الأبجدي على 811 مادة من مصادر نباتية، وحيوانية، ومعدنية، مع الإشارة إلى تأثيرها، وطرق استعمالها، وطرق جمعها، وتصنيعها، وحفظها.
- ويعتبر الكتاب الثالث أوسع كتاب وتضمن وصفاً شاملاً لبعض أعراض الأمراض، وطرق معالجتها. وزود كل قسم منه بمقدمة وصفية طبية.
- وخصص الكتاب الرابع للجراحة، ومعالجة الخلوع والكسور، ومعلومات عامة عن الحمى (المضاعفات المرضية). ودار الحديث فيه عن الأورام، وأمراض الخلايا تحت الجلدية، والأمراض السارية. وأشار فيه لمسائل رئيسية متبعة في العلوم الحديثة عن السموم.
- وتضمن الكتاب الخامس وصفاً لأنواع الحمى "المستعصية"، والسموم المعروفة آنذاك وطرق مكافحتها.
وكان ما كتبه عن تطور الأمراض وأدويتها محاولة منه لتوحيد مجموعة كبيرة من النظم والمواد التجريبية، وربطها بملاحظاته السريرية. والأدوية المتنوعة الواردة في "القانون في الطب"، ودخل الكثير منها وبشكل كبير في علم الصيدلة المعاصر. ومن القيم المميزة لـ "القانون في الطب" التنظيم، والموضوعية، والإشارة حتى لمنافسي ابن سينا. وجاء نجاح "القانون في الطب" من الوضوح، والإقناع، وكمال الوصوفات السريرية للأمراض، والدقة في وصوفات المعالجة والحمية. وهذه الخاصية أعطت "القانون في الطب" وبشكل واسع وسريع شهرة واسعة استمرت حتى وقتنا هذا، ووفرت له شهرة عالمية حتى من قبل "السلطات في الدول، وعبر خمسة قرون في كل عالم الطب بالقرون الوسطى ".
وتوفي أبو علي حسين بن سينا يوم 24/6/1037م. ودفن بالقرب من أسوار مدينة خاماران، وبعد مرور 8 أشهر نقلت رفات ابن سينا إلى أصفهان ودفنت في ضريح علاء الدولة، وضريحه اليوم يقع بمسقط رأسه في أفشنا بالقرب من مدينة بخارى بمجمع خاص بني تخليداً لذكراه بعد إستقلال جمهورية أوزبكستان.
المصدر الموسوعة الأوزبكية http://www.ziyonet.uz/ru/. (باللغة الروسية)
طشقند في 17/1/2011
كتبها أ. د. محمد البخاري: بروفيسور قسم العلاقات العامة والدعاية، كلية الصحافة، جامعة ميرزة أولوغ بيك القومية الأوزبكية.
عاش العالم الكبير، والفيلسوف، والطبيب، والموسيقي أبو علي حسين بن سينا متنقلاً ما بين وسط آسيا، وإيران. وكان طبيباً ووزيراً لدى عدد من حكام عصره. وعرف بشكل واسع في الشرق والغرب كموسوعي ومنظر في أساليب المعالجة الطبية، وهو مؤلف كتاب "القانون في الطب" الذي ضمنه خبراته العملية، ونظراته الطبية، ودراساته عن الأطباء القدامى في: اليونان، وروما، والهند، وبلدان الشرق الأوسط. وفي القرون الوسطى كان كتاباً إلزامياً لتدريس الطب في أوروبا. وصب اهتمامه منذ البداية على أحدث ما توصلت إليه العلوم الطبية، وطرق المعالجة بالأعشاب، والطب الشعبي، ودرس مصادر معاصريه من مطوري الطب في ذلك العصر. وبعد وفاته بنحو أكثر من مائة عام أحرق متعصبون دينيون في بغداد كتبه الفلسفية، وبعد مئات السنين وبعد إختراع الطباعة طبعت كتبه في أوروبا، ومنها الأجزاء الخمسة من " القانون في الطب"، وكان الكتاب الثاني الذي يطبع في أوروبا بعد طباعة الكتاب المقدس "الإنجيل".
ولد ابن سينا في قرية أفشنا الصغيرة بالقرب من مدينة بخارى، وأشارت سيرة حياته إلى أن "أبيه قدم من بلخ، إلى بخارى، أيام حكم الساماني نوح بن منصور، واشتغل عنده في الديوان، وأدار مركز خايرمايسان وهو أحد المناطق القريبة من مدينة بخارى. وتزوج واحدة من بنات قرية قريبة من أفشنا اسمها سيتارة أي النجمة. وهناك ولدت ابنها البكر حسين، ومن بعده ولدت شقيقه". وكان ابن سينا من المتحدثين باللغتين الفارسية والداري المنتشرتين آنذاك في وسط آسيا، وكتب رباعياته "غنى الروح" بهاتين اللغتين، و"اختار والداه لإبنهما البكر اسم حسين. وكانت العادة المتبعة في الأسر الإرستقراطية آنذاك إطلاق ألقاب على أبنائهم. وتشير المصادر إلى أن "عبد الله قال مبتسماً من دون شك سيكون لإبننا ابن. ومن أجل أن لايشقى ابني حسين في اختيار اسم لابنه فقد اخترت لابنه القادم اسم علي، ولهذا ألقبه بأبو علي". ولكن من أين كان لعبد الله أن يعلم أنه لن تكون لحسين لا أسرة ولا أبناء، وأنه سيمضي حياته في التنقل والترحال على طرق القوافل من مدينة إلى أخرى، ومن حاكم إلى حاكم، وأن الطرق ستكون بيتاً له وأقرب إليه.
وكان حسين في طفولته كثير الفضول وكانت عبارة "لماذا" العبارة المحببة له يرددها دائماً. وعندما بلغ الخامسة من عمره انتقلت أسرته إلى بخارى، وأدخله والده هناك إلى المدرسة الدينية "الكُتَّاب" حيث درس فيها حتى بلوغه سن العاشرة. وكان حسين أصغر التلاميذ الـ 15 اللذين درسوا عند خطيب المسجد عبيدة الذي كان يدرسهم آيات القرآن الكريم باللغة العربية. ولكن الكثيرسن من التلاميذ آنذاك كانوا يفهمون اللغة العربية بصعوبة بالغة. ومع ذلك سارع حسين بطرح الأسئلة على معلمه، وكان يحصل على كل أسئلته جواب واحد: "إدرس القرآن الكريم ففيه الإجابات على أسئلتك". وفي نفس الوقت درس قواعد وبلاغة اللغة العربية عند معلمين آخرين. وفي أحد المرات قال حسين الصغير: "ها قد ختمت القرآن الكريم، فهل أستطيع توجيه الأسئلة" فغضب المعلم منه وقال له: "دراسة القرآن تتم خلال سنوات طويلة والقلائل من المسلمين يعرفونه عن ظهر قلب، ليحصلوا بعد ذلك على اللقب الشريف (حافظ القرآن)" فما كان من الفتى إلا أن رد مباشرة "هذا يعني أني (حافظ القرآن)". وخلال إمتحان صعب ودون خوف أسمع حسين معلمه كل آيات القرآن الكريم دون أن ينسى أي كلمة منها. حتى أن خطيب المسجد عبيد نفسه لم يكن حافظاً للقرآن مثله. ومنذ ذلك الوقت توقف عن الذهاب إلى الكتاب وهو لم يكد يتجاوز العاشرة من عمره، وفي عام 990م أنهى تعليمه الإبتدائي، وأذهل الجميع بقوة ذاكرته وحفظه للقرآن الكريم عن ظهر قلب، وتعجبوا لمعرفته الأدب العربي. ومن ذلك الوقت حصل على لقب شيخ. وجاء في قصة حياته التي كتبها بنفسه "في العاشرة من عمري حفظت القرآن ودرست العلوم الأدبية، وبهرت الجميع بهذا النجاح".
ولوحظت مواهب الفتى حسين في وقت مبكر. وما أن بلغ العاشرة من عمره حتى أخذه والده من المدرسة ليحصل على تعليمه من معلمين يأتونه للبيت. ودرس الرياضيات، والفيزياء، والمنطق، وعلم القانون، وعلم الفلك، والفلسفة، والجغرافيا، والطب بشكل مكثف، ولكنه أبدى اهتماماً خاصاً لدراسة الطب. ودرس المعارف الطبية لذلك الزمان، والتي اقتصرت آنذاك على الطب الشعبي، وحظيت باهتماماته. وساعدت أوضاع أسرته تطوره المعنوي وهو فتى. فوالد ابن سينا كان غنياً ومتعلماً وقريباً من حركة الإسماعيليين، الذين سرعان ما جعلو حسين واحداً منهم. ورغم أن ابن سينا لم ينتمي لحركة الإسماعيليين، إلا أنه عاش مهتماً بما دعوا إليه، وأخذ عنهم بعض الأفكار النقدية للقرآن الكريم. وكان المعلم الأول لابن سينا في الفلسفة والرياضيات، أبو عبد الله الناتالي أحد أعضاء حركة الإسماعيليين. ودراسته مرت بنجاح، حتى أنه تجاوز وهو تلميذ في بعض الأحيان معلمه مما وضعه في طريق مسدودة أكثر من مرة. وكتب ابن سينا في سيرة حياته الحادثة التالية: "أعطيته تحليلاً لمعارف لم يسمع بها من قبل. فتعجب مني، ونصحني والدي بعدها أن لا أدرس أي شئ غير العلوم. ونفس الشئ حدث أثناء دراستي لكتاب يوقليد حيث درست خمسة أو ستة نظريات من الكتاب بمساعدة المعلم، والبقية درستها بشكل مستقل. وسرعان ما ظهر أن الناتالي عاجز عن تعليمي. فقال لي: "إقرأ بنفسك، وأسمعني حلولك للنظريات، وبعد ذلك أرني النتائج. وأثناء دراستي للكتاب بشكل منفرد، كانت هناك مسائل كثيرة لا يعرفها معلمي فتعلمها مني".
واهتمام ابن سينا بالطب كان مبكراً جداً، وشغل الطب بالتدريج مكانة كبيرة في اهتماماته، ولم يكد يبلغ الـ 12 من عمره، حتى اشتغل وفقاً لتقاليد ذلك الزمان بالدراسة على يد الطبيب والفيلسوف المشهور آنذاك أبو صلاح المسيحي. وأشار ابن سينا في سيرة حياته أنه: بعد ذلك بدأ بدراسة العلوم الطبية، وبدأ بقراءة كتب العلوم الطبية. وأن العلوم الطبية هي من العلوم غير الصعبة، ولهذا بدأت بها وخلال فترة قصيرة بدأ أطباء معروفين في ذلك الوقت يقصدوني للمشورة. وقصدني المرضى، وبالنتيجة تكونت عندي خبرات فتحت أمامي مجالات طبية يصعب وصفها رغم أني لم أبلغ حينها الـ 16 من عمري.
ودرس حسين الطب بالتفصيل تحت إشراف أبو المنصور قمري، أحد مشاهير أطباء بخارى آنذاك، وهو مؤلف أعمال علمية عديدة. واستمرت دراسته عند قمري لفترة قصيرة، وسرعان ما بدأ ابن سينا بالعمل مستقلاً، وحظي بشهرة وصلت لدرجة أنه دعي للقصر لمعالجة الأمراض المستعصية لأمير بخارى نوح بن منصور. ويذكر ابن سينا أنه: "ذات مرة مرض الأمير بشدة ولم يستطع الأطباء تشخيص مرضه. وكان اسمي معروفاً لديهم. فحدثوا الأمير عني وأرسلوا بطلبي. وحضرت وشاركت معهم بمعالجته، فأعجبته معالجتي". ولم يكن مرض أمير بخارى معروفاً، ولم تكن معالجة ابن سينا معروفة بدقة أيضاً، ولكن المعالجة ساعدت أمير بخارى نوح بن منصور لدرجة أنه أدار الحكم لسنة أخرى. وكافأه على علاجه بالسماح له بزيارة مكتبة السامانيين الشهيرة في تلك الأيام، وكانت مكتبة بخارى من أكبر واشهر مجموعات الكتب في تلك الأيام. واعتبر ابن سينا أن مرحلة عمله في مكتبة بخارى كانت من أهم مراحل تطوره الإبداعي. إذ أنه في ذلك الوقت أنهى تعليمه وبدأ طريق حياته المستقلة. و استخدم ابن سينا مكتبة السامانيين لعدة سنوات. وهناك في مكتبة بخارى ولدت عنده فكرة تأليف عمل جامع في طب ذلك الوقت، وتمكن من العثور على أسماء الأمراض، وأعراضها، وأسباب ظهورها، وطرق معالجتها. وكان يكتب ملخصات يقتطفها من مختلف الكتب، ةيقارن بينها بشكل دائم كان. وهكذا بدأت تحضيراته للمواد اللازمة لكتابه "القانون في الطب" وهو المؤلف الرئيسي الذي كتبه خلال سنوات طويلة من حياته.
وتوفي والده عبد الله بن حسن، في عام 999م ووقع على عاتق ابن سينا واجب رعاية أقربائه. ولكنه ومع الأسف لم يستطع حتى وفاته العودة إلى وطنه، وتنقل في الغربة من مدينة إلى أخرى. وأقام عند حكام: خوارزم، وأبي ورد، ونيشابور، وتوسا، وغورغان، وري، وحمدان، وأصفهان، وزار معظم مدنهم وقراهم. وعانى أكثر من مرة من الحرمان والبؤس، وصعد إلى قمة السلطة، وسقط منها دائماً، وكان عظيماً ومنبوذاً، ودخل السجن أحياناً، وجرب الرفاهية والفقر، ومع ذلك لم يتوقف عن إبداعاته وأعماله العلمية ليوم واحد.
ولم يهتم ابن سينا لا بالمظاهر ولا بالأوضاع التي وصلها، بل اهتم بالعمل، والمعرفة، التي كانت الهدف الأساسي لحياته. وبشكل مستمر تعرضت أملاكه للسرقة، ودمرت مكتبته، ومن ضمنها كانت: مخطوطة الموسوعة الفلسفية "الإنصاف" بعشرين جزءاً؛ ومخطوطة كتابه "القانون في الطب".
واهتم ابن سينا بأعمال ومؤلفات معاصريه ومنها كان "كتاب الملوك" لمؤسس ومدير مستشفى بغداد علي بن عباس. وهي من الكتب التي سبقت كتابه "القانون في الطب"، و"الكتاب الشامل في الطب" لأبو بكر الرازي الواقع في 30 جزءاً، واكتشف أن فيه نواقص ملموسة، وأن المعلومات التي تضمنها لم تكن منظمة بالشكل المطلوب، ونتائج المشاهدات كانت مفتعلة بشكل واضح، وأضيفت مصادر خيالية على المقترحات دائماً. وأن بنية الكتاب بالكامل كانت منطقية، ولكن مضامينه كانت صعبة بشكل كبير، لا تتيح استخدامها إلا لطبيب متخصص. ولهذا وضع ابن سينا نصب عينيه تأليف كتاب، يكشف أخطاء سابقيه، وبالفعل أنجز ما فكر به بشكل رائع، وألف أهم أعماله الموسوعية الضخمة في تاريخ الطب وهو "القانون في الطب".
ويعتبر "القانون في الطب" من أبرز الكتب في تاريخ الطب. وهو موسوعة طبية بجوهره، تشتمل (في حدود معارف ذلك الوقت) بشكل كامل على معلومات وتعليقات على صحة الإنسان وأمراضه. وتضمن الكتاب نحو 200 ملزمة طباعية، وترجم من اللغة العربية إلى اللغة اللاتينية، وكان موزعاً قبلها في مخطوطات كثيرة. وعندما اخترعت المطابع، كان "القانون في الطب" من بين أوائل الكتب المطبوعة، وتجاوز بعدد إصداراته إصدارات الإنجيل المقدس. وصدرت طبعته باللغة اللاتينية عام 1473م أولاً، ومن ثم طبعته باللغة العربية في عام 1543م. ولم يستطع أحد تحديد التاريخ الدقيق لإنتهائه من تأليف "القانون في الطب" ولكن التوقعات تشير أنه انتهى في عام 1020م. و"القانون في الطب" عمل واسع يضم 5 كتب هي:
- الكتاب الأول ويتضمن شرحاً مفصلاً للطب النظري. ويقع في أربعة أقسام. أعطى في القسم الأول منه تحديداً معاصراً للطب، ودار الحديث في القسم الثاني حول الأمراض، وفي القسم الثالث عن الحفاظ على الصحة والقسم الرابع عن أساليب المعالجة.
- والكتاب الثاني الأدوية "البسيطة"، تضمن نتائج أبحاث ابن سينا عن الأدوية، وتأثيرها، وطبيعتها، وتجاربها. وتضمن وفق التسلسل الأبجدي على 811 مادة من مصادر نباتية، وحيوانية، ومعدنية، مع الإشارة إلى تأثيرها، وطرق استعمالها، وطرق جمعها، وتصنيعها، وحفظها.
- ويعتبر الكتاب الثالث أوسع كتاب وتضمن وصفاً شاملاً لبعض أعراض الأمراض، وطرق معالجتها. وزود كل قسم منه بمقدمة وصفية طبية.
- وخصص الكتاب الرابع للجراحة، ومعالجة الخلوع والكسور، ومعلومات عامة عن الحمى (المضاعفات المرضية). ودار الحديث فيه عن الأورام، وأمراض الخلايا تحت الجلدية، والأمراض السارية. وأشار فيه لمسائل رئيسية متبعة في العلوم الحديثة عن السموم.
- وتضمن الكتاب الخامس وصفاً لأنواع الحمى "المستعصية"، والسموم المعروفة آنذاك وطرق مكافحتها.
وكان ما كتبه عن تطور الأمراض وأدويتها محاولة منه لتوحيد مجموعة كبيرة من النظم والمواد التجريبية، وربطها بملاحظاته السريرية. والأدوية المتنوعة الواردة في "القانون في الطب"، ودخل الكثير منها وبشكل كبير في علم الصيدلة المعاصر. ومن القيم المميزة لـ "القانون في الطب" التنظيم، والموضوعية، والإشارة حتى لمنافسي ابن سينا. وجاء نجاح "القانون في الطب" من الوضوح، والإقناع، وكمال الوصوفات السريرية للأمراض، والدقة في وصوفات المعالجة والحمية. وهذه الخاصية أعطت "القانون في الطب" وبشكل واسع وسريع شهرة واسعة استمرت حتى وقتنا هذا، ووفرت له شهرة عالمية حتى من قبل "السلطات في الدول، وعبر خمسة قرون في كل عالم الطب بالقرون الوسطى ".
وتوفي أبو علي حسين بن سينا يوم 24/6/1037م. ودفن بالقرب من أسوار مدينة خاماران، وبعد مرور 8 أشهر نقلت رفات ابن سينا إلى أصفهان ودفنت في ضريح علاء الدولة، وضريحه اليوم يقع بمسقط رأسه في أفشنا بالقرب من مدينة بخارى بمجمع خاص بني تخليداً لذكراه بعد إستقلال جمهورية أوزبكستان.
المصدر الموسوعة الأوزبكية http://www.ziyonet.uz/ru/. (باللغة الروسية)
طشقند في 17/1/2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق