أ.د. محمد البخاري: المعيقات الاقتصادية لعملية التبادل الإعلامي الدولي 23 من كتابي "التبادل الإعلامي في ظروف العلاقات الدولية المعاصرة".
23
المعيقات الاقتصادية لعملية التبادل الإعلامي الدولي
من المعروف أن وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية خاضعة بالكامل لسلطة رأس المال، الذي يقوم على دعائم اقتصادية وصناعية وتجارية تتطلب إستثمارات هائلة قد تفتقر لها موارد دولة أو حتى عدة دول مجتمعة، مما وضعها في حالة من التبعية تراوحت ما بين التبعية لدولة واحدة أو لعدة دول مجتمعة. وأدى التطور الاقتصادي والعلمي الهائل خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين، إلى تطور مماثل شمل وسائل وشبكات الاتصال الحديثة في العالم، وجعلها حكراً في أيدي الدول المصنعة والغنية، بعيدة عن متناول ومقدرات بعض الدول الصغيرة والفقيرة، لأن الحصول عليها واستثمارها، أو تصنيعها يتطلب أموالاً طائلة واستثمارات كبيرة، وخبرات علمية وتكنولوجية متطورة تفتقر إليها معظم الدول النامية في العالم، ولهذا نرى أن الأوضاع الاقتصادية، ومدى التقدم التقني والعلمي في أي دولة، قد ترك بصماته على وسائل الاتصال والإستشعار عن بعد المتطورة، ووسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية الحديثة.
مما سمح لبعض الدول الغنية والمتطورة والأكثر تقدماً اقتصادياً وعلمياً وتقنياً، بالسيطرة على وكالات الأنباء العالمية، وقنوات الإذاعات المسموعة والمرئية الفضائية، والصحف والمجلات الأكثر إنتشاراً في العالم، تلك التي تشكل بمجلها المصدر الرئيسي للأنباء في العالم. لأن الاستثمارات الصناعية الضخمة في مجال وسائل وأجهزة الاتصال تتركز في الدول المتقدمة، بينما الدول المتخلفة والنامية والفقيرة هي مستهلكة لبعض منتجات هذه الاستثمارات من خلال الاستيراد وبرامج المساعدات الاقتصادية، وهو ما يخلق في بعض الأحيان مشاكل تقنية في مجال استثمار واستخدام تلك الأجهزة أمام الدول المستوردة أو المستفيدة من برامج المعونة الاقتصادية، بسبب تعدد مصادر تلك الأجهزة وعدم ملاءمتها تكنولوجياً للإسثمار في تلك البلاد، بحيث يتطلب الأمر إجراء بعض التعديلات عليها قبل إدخالها حيز الاستثمار الفعلي مما يرفع من الأعباء التقنية والمالية المترتبة على تلك الدول.
خاصة وأن عملية الحصول على الأخبار الدولية وتوزيعها بحد ذاتها باهظة التكاليف، ولا تستطيع تحمل نفقاتها إلا الدول المتقدمة والغنية، كما هو الحال دائماً، بينما نرى أن الدول النامية والفقيرة لم تزل كما كانت دائماً، تعاني من نقص حاد في الخدمات الإعلامية، ونقص في وسائل الاتصال الإلكترونية ومحطات البث والاستقبال الإذاعي المسموع والمرئي، هذا إن لم نشر إلى مشاكل استفادة هذه الدول من خدمات شبكة الأقمار الصناعية في مجال الاتصال وقنوات البث الإذاعي المرئي الفضائية، والاستفادة من خدمات شبكات الحاسبات الإلكترونية الدولية. ومن هنا نرى أن التقدم التكنولوجي يعتمد على الثروة المتوفرة لدى الدول الغنية والكبيرة، قليلة العدد في المجتمع الدولي وهي وحدها القادرة على تمويل المشاريع الضخمة في مجال إنتاج أجهزة وتكنولوجيا الاتصال والإستشعار عن بعد الضرورية لوسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية، مما يتيح لها وضعاً ممتازاً لنشر سياستها الخارجية وفرضها في بعض الظروف على الدول الأخرى الأقل تطوراً. وكما هو معروف فإن وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية لكل دولة من دول العالم تركز في برامجها على الأخبار الداخلية، وما يتصل بقضاياها ومشاكلها من الأخبار العالمية، وقد أوضحت بعض الدراسات العلمية، أن عملية التبادل الإعلامي الدولي تركز بالدرجة الأولى على أخبار الدول الكبرى المتطورة والغنية، وأخبار بعض الدول الأقل تطوراً المؤثرة في ميدان الأحداث والسياسة الدولية، والسبب هو سيطرة هذه الدول ومنها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا، وبشكل أقل روسيا وغيرها من الدول المتطورة على وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية الدولية، مما يتيح لتلك الدول فرض وجهة نظرها من خلال عملية التبادل الإعلامي الدولي أحادي الجانب.
وتركز وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية في موادها الإعلامية على أخبار دولها والدول الحليفة لها، إلى جانب أهم الأحداث العالمية من وجهة النظر السياسية الرسمية للدولة، فوكالات الأنباء الدولية مثل اليونيتد بريس، والأسوشيتد بريس وقنال الإذاعة المرئية الدولية CNN وما تنقله شبكة الحاسبات الإلكترونية العالمية الأمريكية الـINTERNET، ووكالة أنباء رويترز، وهيئة الإذاعة والمسموعة والمرئبة البريطانية BBC، ووكالة فرنس بريس الفرنسية، ووكالة إتار تاس الروسية، وغيرها من الدول المؤثرة في السياسات الدولية من خلال ما تتمتع به من علاقات واسعة مع مختلف دول العالم، ولتفوقها العلمي والصناعي والاقتصادي والعسكري. تطغي أخبارها على أخبار غيرها من الدول، وبمعنى أوضح تسيطر على عملية التبادل الإعلامي الدولي وتوجهها لصالحها وصالح حلفائها من دول العالم الأخرى. وقد وصل الخلل في بعض الأحيان إلى درجة أصبح معه أبناء الكثير من دول العالم يعرفون عن الدول الكبرى أكثر مما يعرفون عن بلدانهم، ويعرفون عن تلك الدول الواقعة خلف البحار والمحيطات أكثر مما يعرفون عن البلدان المجاورة لهم، ويعتمدون أساساً في الحصول على المعلومات والأنباء على المصادر الإعلامية للدول الكبرى الموجهة إليهم والناطقة بلغاتهم القومية ويشمل هذا الصراع العربي الصهيوني أيضاً.
وبينما تنتج الدول المتقدمة كل متطلبات الإنتاج الإعلامي من آلات تسجيل سمعية وبصرية وآلات تصوير وآلات الطباعة وورق الكتابة والطباعة، وحاسبات إلكترونية (الكمبيوتر)، وأجهزة البث والاستقبال الإذاعي المسموعة والمرئية، وتنتج أعداداً هائلة من المواد الإعلامية من صحف ومجلات وكتب، وبرامج الإذاعتين المسموعة المرئية والأفلام، ووسائل تعليمية مختلفة، نرى الدول النامية والفقيرة لا تملك ولا تنتج مثل هذه المنتجات الإعلامية والتقنية، وتفرض أحياناً قيوداً ورسوماً جمركية على استيراد المواد والمعدات الإعلامية وحتى على ورق الطباعة، بسبب ظروفها الاقتصادية الصعبة. وهكذا نرى مدى تأثر عملية التبادل الإعلامي الدولي بالأوضاع الاقتصادية لكافة دول العالم، التي نستطيع تقسيمها إلى دول متطورة غنية مسيطرة، تمتلك وتتحكم بالمصادر الإعلامية الدولية وتقنياتها، وتوجه عملية التدفق الإعلامي الدولية، ودول متوسطة تؤثر وتتأثر بعملية التدفق الإعلامي الدولية، ودول نامية فقيرة على هامش عملية التبادل الإعلامي الدولية، لا تملك حتى صحيفة يومية واحدة تنطق باسمها، متأثرة بالسيل المتدفق للإعلام الدولي الأجنبي. وبالطبع فإن إدراك الجمهور الإعلامي في الدول التي لا تنتشر فيها وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية على نطاق واسع، أو التي ترتفع فيها نسبة الأمية الأبجدية أو الحضارية، أو التي ينتشر فيها الفقر، الذي نعتبره صعوبات مادية واقتصادية، يكون إدراكهم لمختلف الموضوعات التي تعرضها وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية، أقل إدراكاً من الجمهور الإعلامي للدول المتقدمة.
والخلاصة: أن وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية تعتبر من الركائز الأساسية لتبادل الأفكار والمعلومات بين أفراد المجتمعات وهي أساس التفاعلات الاجتماعية وتقريب وجهات النظر بين المجتمعات المختلفة فيما لو أحسن استخدامها، وهي سلاح ذو حدين في الحوار القائم والمفترض بين الثقافات والحضارات.