الخميس، 25 يونيو 2020

تابع مراحل تكون الصحافة 9

تابع مراحل تكون الصحافة 9
أ.د. محمد البخاري
التبادل الإعلامي في ظروف  العلاقات الدولية المعاصرة
طشقند - 2011
تأليف:


محمد البخاري: دكتوراه في العلوم السياسية DC، اختصاص: الثقافة السياسية والأيديولوجية، والقضايا السياسية للنظم الدولية وتطور العولمة؛ ودكتوراه فلسفة في الأدب PhD، اختصاص: صحافة؛ بروفيسور قسم العلاقات العامة والإعلان، كلية الصحافة، جامعة ميرزة ألوغ بيك القومية الأوزبكية.

وعن خريطة الإعلام الروسي بعد انهيار الإتحاد السوفييتي كتب الصحفي المصري سامي عمارة من موسكو مقالة نشرتها صحيفة الشرق الأوسط في عددها الصادر يوم 9/9/2010 وذكر فيها أن: الصحافة مكتوبة كانت أو مرئية وثالثة مسموعة ورابعة إلكترونية.. كلها أشكال تتعدد لكن يظل الجوهر متقاربا. فالدولة تفرض قبضتها الحديدية في قفاز حريري على الجزء الأعظم منها فيدرالية كانت أو إقليمية، لتبدو جميعها وقد اتسقت توجهاتها وانتظمت أفكارها ولم يشذ عن السياق سوى الجموح منها وهو قليل نادر ندرة المطر في صيف قائظ. وكانت هذه الصحافة حتى الأمس القريب مقصد الكثيرين من الطامحين إلى السلطة عبر ثرواتهم التي تراكمت في غفلة من الزمن ومن خلال قوانين سيئة الصيت نجحوا جميعا في صياغتها مع أول أيام ما بعد انهيار السلطة السوفياتية في مطلع تسعينات القرن الماضي.
ويذكر الكثيرون بعضا من تاريخ الأيام الخوالي التي شهدت سطوع نجوم الصحف الخاصة التي سارعوا إلى تسميتها بالمستقلة، وهي ليست في واقع الحال مستقلة، تمييزا لها عن الصحف الحزبية التي كانت في نفس الوقت صحفا حكومية أو بقول آخر تابعة مباشرة إلى السلطة. وكان الرئيس السابق ميخائيل غورباتشوف قد أطلق قبل ذلك الزمن بقليل صيحته المعروفة تحت اسم الجلاسنوست (الشفافية أو العلانية) مرادفا لسياسات البيرسترويكا (إعادة البناء) لتترامى أصداؤها في مختلف أرجاء البلاد معلنة عن مولد الكثير من الجبهات الشعبية والحركات الانفصالية التي سرعان ما استغلت حرية الكلمة سلاحا راحت تشهره في وجه كل من يناصبها العداء. ومن هنا فقد حرص أثرياء روسيا الجدد وكانوا في غالبيتهم من أولاد العم (يقصد اليهود)، على الاستحواذ على عقول ومشاعر بسطاء المواطنين من خلال أبواق إمبراطورياتهم الإعلامية الجديدة.
وكان لفلاديمير جوسينسكي أول رئيس للمؤتمر اليهودي الروسي قصب السبق من خلال إمبراطورية ميديا موست التي نجحت في السيطرة ليس فقط على الشارع الروسي بل وعلى رموزه الحاكمة في الكرملين وفي البيت الأبيض مقر الحكومة الروسية على ضفاف نهر موسكو بمساندة صريحة ودعم مباشر من جانب عمدة موسكو يوري لوجكوف. وكانت قناته الإذاعية المرئية إن تي في امتدادا لصحافته المكتوبة التي بدأها بصحيفة سيفودنيا ومجلة إيتوجي التي عاد وأصدرها بالتعاون مع نيوزويك الأميركية بعد إعلانه عن افتتاح إذاعة صدى موسكو عام 1990 إلى جانب الكثير من المجلات والإصدارات الأخرى. وكانت جميعها السبيل إلى تولي الرئيس الأسبق بوريس يلتسين لمقاليد ولايته الثانية في الكرملين عام 1996 وما تبع ذلك من امتيازات خاصة لهذه الوسائل الإعلامية البالغة التأثير والهائلة النفوذ.
أما قرينه الملياردير اليهودي بوريس بيريزوفسكي فقد سار على نفس الدرب من خلال صحيفة نيزافيسيمايا (المستقلة) التي ظهرت في 1990 وتلاها بقنوات تلفزيونية وإن لم تحظ بنفس انتشار مثيلاتها التابعة لجوسينسكي حتى حانت الساعة متمثلة في ظهور فلاديمير بوتين رئيسا اشرأبت إليه الأعناق طمعا في الخلاص من براثن هذا الأخطبوط الإعلامي المتعدد الأشكال. ولذا كان من الطبيعي أن يستهل بوتين تصفية حسابات الماضي بتوجيه ضرباته إلى إمبراطورية جوسينسكي استنادا إلى ما تضمنه ملفها من جرائم اقتصادية وأخلاقية لتتهاوى أركانها سريعة كبيت من رمال وليلوذ صاحبها بالفرار إلى إسرائيل وهو مصير مشابه لقرينه بيريزوفسكي الذي استقر لاجئا سياسيا اليوم في بريطانيا.
وكان من الطبيعي أن يتوقف الكثيرون وفي مقدمتهم السلطة الرسمية أمام الواقع الجديد في محاولة لاستيضاح كنهه وتلمس السبل المناسبة لاقتسام التركة التي تركها أصحابه غير الشرعيين فريسة لأول عابر طريق. وإذا كانت السلطة ركزت اهتمامها على استعادة القنوات الإذاعية المرئية بوصفها أقصر الطرق إلى عقل المشاهد، فقد تفرقت دماء هذه الصحف والمجلات على القبائل وإن كان الاندثار والنهاية مصير غالبيتها لتبقى إذاعة صدى موسكو التي تحتفل هذا العام بالذكرى العشرين لميلادها بعد أن تحولت ملكية القسط الأكبر من أسهمها إلى مؤسسة غاز بروم شبه الحكومية. ورغم الملكية شبه الرسمية لهذه الإذاعة فإن سياستها التحريرية تقف على يمين الكرملين الذي تركها عن طيب خاطر لتناصب بعض سياساته العداء حرصا على توفير شكل من الديمقراطية والمعارضة، في الوقت الذي تظل فيه وثيقة الصلة بالأوساط اليهودية في إسرائيل، وفيما يواصل جوسينسكي شخصيا الإشراف على مشروعها المشترك مع الإذاعة المرئية الإسرائيلية وما بقي من إمبراطوريته الإعلامية هناك.
ومن الصحف المؤثرة التي فقدت مالكها الأول في روسيا اليوم تقف صحيفة نيزافيسيمايا غازيتا (الصحيفة المستقلة) التي آلت ملكيتها إلى مجموعة من المساهمين ممن لا يملكون تأثير الأمس في الوقت الذي انفض عنها رموزها وفي مقدمتهم مؤسسها فيتالي تريتياكوف الذي انتقل للعمل في مؤسسات السلطة قريبا من الكرملين، وإن ظلت الصحيفة تحظى ببعض وقار الماضي وتوزع اليوم نحو 50 ألف نسخة. وتتصدر خريطة الصحافة المكتوبة اليوم عدد من الصحف ذات التاريخ العريق مثل ازفيستيا إحدى أقدم الصحف في الساحة الروسية وكانت حتى الأمس القريب الصحيفة الرسمية الثانية للاتحاد السوفياتي السابق بوصفها ناطقة باسم مجلس السوفيات الأعلى (برلمان ذلك الزمان) تحولت إلى أحد مقتنيات مؤسسة لوك أويل النفطية التي عادت وباعتها إلى مؤسسة غاز بروم الحكومية وتوزع اليوم 263 ألف نسخة يوميا. وقد اهتزت صورة ازفيستيا بعد انفراط عقد أبرز محرريها الذين انشق بعضهم عنها برئاسة رئيس التحرير الأسبق جولومبيوفسكي الذي كان أعلن مع عدد من محرريها عن تأسيس صحيفتهم الخاصة نوفيه ازفيستيا أي «ازفيستيا الجديدة»، ويرأس تحريرها اليوم فاليري ياكوف أحد أبرز مراسليها إبان الحرب الشيشانية الأولى من عام 1994 وحتى عام 1996 وتوزع ما يزيد قليلا على 107 آلاف نسخة. أما الصحيفة الرسمية الأولى إبان سنوات الاتحاد السوفياتي السابق التي كان توزيعها يبلغ 20 مليون نسخة هم عدد أعضاء الحزب الشيوعي السوفياتي وهي صحيفة البرافدا فقد اندثرت بعد رحلة من الهوان تراجع خلالها توزيعها وتأثيرها بعد أن طرحها أصحابها على كل من هب ودب، وحتى آلت إلى ثري يوناني دخل في خلاف مع بعض كتابها ومحرريها السابقين، ومنهم فيكتور لينيك الذي حاول إصدارها اعتمادا على قواه الذاتية. وقد ظهرت صحيفة روسيسكايا غازيتا (الجريدة الروسية) الرسمية لتشغل المكانة التي كانت تحتلها البرافدا لسان حال الحزب الشيوعي السوفياتي السابق بعد أن اختارتها الحكومة الروسية ناطقا رسميا باسمها. وتوزع هذه الصحيفة الروسية التي تصدر يومياً 431569 نسخة بعد أن عهدت الحكومة إليها نشر كل بياناتها ووثائقها وقراراتها الرسمية التي لا تصبح سارية المفعول إلا بعد نشرها في هذه الصحيفة.