الاثنين، 14 مارس 2016

عشرون عاماً من تطور العلاقات الأردنية الأوزبكستانية


أ.د. محمد البخاري





عشرون عاماً من تطور العلاقات الأردنية الأوزبكستانية


طشقند 2012

عشرون عاماً من تطور العلاقات الأردنية الأوزبكستانية

بمناسبة مرور عشرين عاماً على العلاقات الثنائية الأردنية الأوزبكستانية، أعددنا هذه الدراسة التي تتضمن متابعات صحفية لبعض ما نشرته المصادر الإعلامية ووسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية عن العلاقات الأردنية الأوزبكستانية منذ أن اعتراف المملكة الأردنية الهاشمية باستقلال جمهورية أوزبكستان بتاريخ 28/12/1991، وتوقيع بروتوكول إقامة العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين بتاريخ 15/2/1993، وحتى عام 2011، في محاولة لوضع رؤية المؤلف عن مستقبل هذه العلاقات ليستفيد منها المتخصصين والمهتمين بالعلاقات الدولية والعامة والقانونية والعلوم الإقتصادية والسياسية والإعلامية.
المؤلف:
أ.د. محمد البخاري: دكتوراه في العلوم السياسية DC اختصاص: الثقافة السياسية والأيديولوجية، والقضايا السياسية للنظم الدولية وتطور العولمة؛ ودكتوراه فلسفة في الأدب PhD، اختصاص: صحافة. بروفيسور، قسم العلاقات العامة والإعلان بكلية الصحافة. جامعة ميرزة ألوغ بيك القومية الأوزبكية.
المحرر المسؤول:
موفق العجلوني السفير المفوض فوق العادة للمملكة الأردنية الهاشمية لدى جمهورية أوزبكستان.
مراجعة:
أ.د. شهرت يفقاتشوف: دكتوراه علوم في العلوم السياسية DC. رئيس قسم السياسة العالمية، معهد طشقند الحكومي العالي للدراسات الشرقية (مستعرب).
أ.د. قدرت إيرنازروف: دكتوراه علوم في العلوم التاريخية DC. رئيس قسم العلاقات العامة والإعلان بكلية الصحافة، جامعة ميرزة ألوغ بيك القومية الأوزبكية.
(c) حقوق النشر محفوظة للمؤلف.
تمهيد
خلال العقد الأخير من القرن العشرين بلغ التنافس الدولي في العلاقات الدولية المعاصرة بين القوى الكبرى المهيمنة على الساحة الدولية ذروته، وأجمع الباحثون على أن التنافس الدولي وفر في السابق قدراً لا بأس به من الموارد المالية والتكنولوجية لدول العالم الثالث، لم تكن لتتوفر لها لولا ذلك التنافس الذي ساد خلال فترة الحرب الباردة التي كانت قائمة بين المعسكرين الشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي السابق والغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.
لأن التنافس على النفوذ في العالم الثالث كان محتدماً بينهما منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. واستفادت دول العالم الثالث من ذلك التنافس لتحصل على موارد مالية وتكنولوجية من القطبين الأعظمين وخاصة تلك الدول التي فضلت إتباع سياسة عدم الإنحياز والحياد الإيجابي في التعامل مع المعسكرين المتصارعين على النفوذ في العالم الثالث.
وبعد إنهيار المنظومة الإشتراكية التي كان يقودها الاتحاد السوفييتي السابق سعى التنافس الدولي الجديد لتوفير بديل للنفوذ الروسي في دول آسيا المركزية (أوزبكستان وقازاقستان وتركمانستان وقرغيزستان وطاجكستان) التي استقلت عن الإتحاد السوفييتي السابق (عرفت المنطقة في المراجع التاريخية لمرحلة الفتوحات الإسلامية باسم ما وراء النهر، وذكرت باسم تركستان في المراجع التاريخية لما قبل الاحتلال الروسي، وبعد الاحتلال باسم تركستان الروسية، ومن ثم آسيا الوسطى وقازاقستان السوفييتية في العهد السوفييتي، إلى أن أطلق عليها قادة الدول الخمس بعد الإستقلال عن الاتحاد السوفييتي السابق اسم آسيا المركزية في الاجتماع الذي ضمهم في آلما آتا عاصمة قازاقستان). ولكن إستقلال تلك الدول لم يضعف من النفوذ الروسي بشكل جوهري، بل وفر لدول المنطقة بدائل استفادت منها لصياغة سياساتها الخارجية ووظفتها للحصول على أفضل الشروط في التعامل مع الفيدرالية الروسية.
وأثبتت الوقائع بجلاء ووضوح، أن دول آسيا المركزية لن تعود مرة أخرى إلى أي نوع من أنواع العلاقات التي كانت تربطها بروسيا القيصرية أو الاتحاد السوفييتي أو المركز السابق موسكو. بل على العكس اتجهت دول المنطقة التي حصلت على إستقلالها وسيادتها ومن بينها أوزبكستان نحو بناء علاقات جديدة من المنفعة المتبادلة والمتساوية مع الفيدرالية الروسية رغم عدم تطابق وجهات النظر حيال بعض المواقف والقضايا الهامة والحساسة في المصالح الوطنية للجانبين. وبعبارة أخرى أن استعمار المنطقة راح بلا رجعة، وأن استقلال جمهوريات آسيا المركزية الإسلامية أصبح أمراً واقعياً ومهماً تدعمه مراكز القوى العالمية بثبات. وما يثبت ذلك حصول الجمهوريات المستقلة على العضوية الكاملة في المنظمات الدولية والإقليمية كمنظمة الأمم المتحدة وهيآتها المتخصصة، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، ورابطة الدول المستقلة، ومنظمة شنغهاي للتعاون، ورابطة أوروآسيا للتعاون الاقتصادي، وغيرها من المنظمات الدولية والإقليمية.
ولا يستطيع أحد إنكار حقيقة أن التنافس الدولي أدى لتعطيل مؤقت لقدرات دول آسيا المركزية على اختيار النموذج الملائم لها للتطور الاقتصادي والسياسي المستقل. ولكن أوزبكستان نجحت فعلاً في اختيار طريقها الخاص للتجديد والتقدم، ونموذجها الخاص للانتقال إلى اقتصاد السوق (للمزيد أنظر: إسلام كريموف: أوزبكستان على طريق المستقبل العظيم. ترجمة: أ.د. محمد البخاري. جدة: مجموعة دار السلام، 1999؛ إسلام كريموف: أوزبكستان على عتبة القرن الحادي والعشرين. بيروت: شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 1997؛ إسلام كريموف: أوزبكستان على طريق تعميق الإصلاحات الاقتصادية (بيروت: شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 1996)). ساعدها على ذلك استقرار مؤسساتها الدستورية والسلطة السياسية بعد فوز الرئيس إسلام كريموف ولعدة مرات متتالية بمنصب رئيس جمهورية أوزبكستان عن طريق الاقتراع الشعبي المباشر.
ولم يتوقف التطور الاقتصادي والسياسي المستقل في أوزبكستان رغم دخول التطرف الديني والعنف المسلح وما رافقه من ازدهار لتجارة المخدرات وتهريب الأسلحة إلى المنطقة، كصدى للصراعات الدائرة على الساحة الأفغانية، والصراع الذي كان دائراً في طاجكستان كطرف في المعادلة السياسية بالمنطقة، ومن المعروف أن تلك الصراعات كانت تشجعها وتستغلها وتدعمها جهات خارجية. وجاءت الأحداث الدامية التي جرت في طشقند وجنوب قرغيزستان عام 1999، وأحداث جنوب أوزبكستان وقرغيزستان صيف 2000، وأحداث أنديجان عام 2005، لتضاعف من حدة الموقف في المنطقة، وجاءت مطابقة ومؤيدة لتوقعات القيادة الأوزبكستانية وتنبيهاتها المستمرة من خطر انتقال وانتشار التطرف والعنف المسلح من أفغانستان إلى المناطق الأخرى المجاورة في آسيا المركزية بل وإلى أنحاء أخرى من العالم وهو ما أثبتته أحداث 11/9/2001 في الولايات المتحدة الأمريكية وما تبعها من أحداث تهدد مصير الإستقرار العالمي وأمن وسلامة الكثير من شعوب العالم.
وجاءت المبادرة الأوزبكستانية على لسان رئيس جمهورية أوزبكستان إسلام كريموف أثناء مشاركته في قمة الناتو ومجلس الشراكة الأوروبية الأطلسية التي جرت في بوخارست بتاريخ 3/4/2008 بأن "التعاون الدولي يعتبر من أهم عوامل توفير الأمن والتطور. وأن المبادرة الأوزبكستانية الأخيرة لحل القضية الأفغانستانية بمشاركة حلف الناتو تهدف إلى تطوير مجموعة "6+2" التي عملت حتى عام 2001 إلى مجموعة اتصال "6+3" للتوصل إلى السلام والاستقرار في أفغانستان. وأن المبادرة جاءت من أجل التوصل إلى السلام والاستقرار في أفغانستان. ولهذا يجب أن تضم جماعة الاتصال الدول الست المجاورة لأفغانستان وهي: إيران والصين وطاجكستان وتركمانستان وأوزبكستان، بالإضافة لروسيا والولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو، لتتحول إلى آلية هامة ومسرحاً للمناقشات وإعداد مبادئ ومناهج مشتركة للبحث عن طرق لتسوية القضية الأفغانية، والتوصل لفهم واهتمام مشترك للتوصل إلى السلام والوئام الوطني في أفغانستان. وإعداد مقترحات للتوسع بالمساعدات الاقتصادية والإنسانية المقدمة لأفغانستان في إطار مختلف البرامج الدولية وفي مقدمتها برامج منظمة الأمم المتحدة، مع ضرورة احترام العادات والتقاليد والقيم الدينية والقومية والثقافية للشعب الأفغاني متعدد القوميات واحترام مصالح الأقليات القومية وعدم السماح بالهجمات والافتراءات والأكاذيب على الدين الإسلامي (الصحف المحلية الصادرة في طشقند يوم 1/5/2008).
وعلى ما نعتقد أن التغييرات في موقف الولايات المتحدة الأمريكية جاءت موافقة للموقف الأوزبكستاني، وهو ما عبرت عنه الأوساط الاجتماعية الأوزبكستانية بأنها تتابع باهتمام بالغ المبادرات الجديدة التي تقدمت بها الإدارة الأمريكية منذ تولي الرئيس باراك أوباما الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية. ولم يكن خطاب باراك أوباما في جامعة القاهرة عام 2009 استثناء، لأن الخطاب قبل كل شيء كان إثباتاً لتغليب الواقعية في مواقف السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية والدعوة لكسر الحلقة المفرغة من حالة عدم الثقة والمجابهة مع العالم الإسلامي، والمناشدة لوضع حد لقوالب التفكير السلبي حول الإسلام أينما كان، وبدء عصر جديد لتعامل الولايات المتحدة الأمريكية مع العالم الإسلامي.
واعتبر البلاغ الذي صدر عن الخارجية الأوزبكستانية أن الخطاب كان بمثابة سعي للبحث عن اتجاهات جديدة للتعاون بين الولايات المتحدة الأمريكية والمسلمين في العالم كله لصالح السلام والعدل والتقدم. وأن براغماتية نهج السياسة الخارجية لإدارة باراك أوباما بشأن المواقف من مسألة ما يسمى بسياسة إشاعة الديمقراطية تسترعي الانتباه، وأن جوهر الموقف الجديدة المعلن ينحصر في أن أي محاولة لفرض قيم خاصة على البلاد الأخرى التي لها تاريخها وثقافاتها المتميزة تعطي نتائج معكوسة. وأنه من المهم أن تكون هناك قدوة يمكن أن يحتذى بها من خلال الحفاظ على الديمقراطية وأولوية القوانين وحرية التعبير والدين باعتبارها قيماً بشرية مهمة للجميع. ومما لا شك فيه أن مثل هذه المواقف الواقعية من تسوية أهم القضايا الراهنة سيلقى صدى إيجابيا لدي أوساط الرأي العام العالمي (بلاغ عن خطاب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية باراك أوباما في جامعة القاهرة // وكالة أنباء Jahon بوزارة الخارجية الأوزبكستانية، 8/6/2009).
وكان تأثير مختلف العوامل في البداية على السياسة الخارجية الأوزبكستانية، مما أبطأ من اندفاع أوزبكستان الشديد نحو تقوية العلاقات الثنائية مع الدول العربية بعد استقلالها، وواجهته معظم الدول العربية بتجاهل أوزبكستان في سياساتها الخارجية وأفضلياتها. ونعتقد أن ذلك لم يكن مقصوداً وتمثل بتجاهل أهمية إقامة العلاقات الدبلوماسية وتبادل السفارات واعتماد السفراء المقيمين، الأمر الذي نعتبره المدخل الرسمي الوحيد لخلق قنوات مباشرة للحوار البناء وتبادل المعلومات والمصالح وخلق البدائل في السياسات الخارجية للجانبين. ولكن سرعان ماتبدل الواقع وحدث تبدل واقعي مبشر في العلاقات العربية الأوزبكستانية.
ولا يجهل أحد أن تقوية العلاقات العربية الأوزبكستانية قد يتعارض مع مصالح بعض القوى العالمية التي تسعى دائماً إلى تسميم العلاقات العربية مع العالم الخارجي بشتى الطرق، وتوظفها بذكاء بهدف إضافتها لقوتها الاقتصادية والتكنولوجية والعلمية والدبلوماسية، وأجهزة الإعلام القوية والمجربة التي تسيطر عليها والمنتشرة في العالم، وتخلق من خلالها بشكل دائم رأي عام دولي مساند ومتعاطف مع تلك القوى العالمية، ورأي عام دولي جاهل إن لم نقل معاد للمصالح الوطنية العربية.
والغريب أن هذا جرى ويجري على ساحة آسيا المركزية بشكل عام وفي أوزبكستان بشكل خاص في ظروف كانت تشهد ضعف أو غياب شبه تام للجانب العربي في معادلة المساعي الدبلوماسية والاقتصادية والأمنية والسياسية والإعلامية والثقافية الدائرة لتحقيق أقصى الفوائد للمصالح الحيوية في العلاقات الثنائية بين الدول العربية وأوزبكستان حتى ولو استثنينا تلك الدول العربية التي لها علاقات دبلوماسية واقتصادية جيدة معها أو لها سفارات مقيمة فيها.
وهو ما سنحاول إلقاء الضوء عليه في هذه الدراسة من خلال متابعاتنا لما نشرته وسائل الإعلام والإتصال الجماهيرية الأوزبكستانية والعربية خلال عقدين من الزمن خدمة للباحثين والدارسين في مجالات العلاقات الدولية والعامة والقانونية والعلوم السياسية والاقتصادية والإعلامية.
طشقند في 25/11/2011
المؤلف
أ.د. محمد البخاري

عشرون عاماً من تطور العلاقات الأردنية الأوزبكستانية

كما هو معروف في المصادر التاريخية أن جذور العلاقات العربية الأوزبكستانية تمتد لبدايات الفتح الإسلامي لما وراء النهر أي منتصف القرن السابع الميلادي، بعد أن ضمت المنطقة للخلافة العربية الإسلامية في العهد الأموي. وهذا لا ينفي أبداً أن العلاقات التجارية والسياسية والثقافية بين العرب وشعوب ما وراء النهر كانت قائمة قبل الفتوحات الإسلامية بوقت طويل وخاصة مع بلاد الشام، وبلاد الرافدين. ولكن الذي حدث مع مطلع القرن الثامن الميلادي أن تلك المناطق دخلت ضمن دولة واحدة امتدت في يوم من الأيام من أسوار الصين شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً.
وتقدم المراجع التاريخية حقائق كثيرة عن توجه جيوش الفتح الإسلامي العربية شرقاً عام 633م، وتمكنها من السيطرة على الدولة الساسانية المجوسية في فارس، وانطلاقها منها لنشر الدعوة الإسلامية فيما وراء النهر. ومن عام 674م انتشرت جيوش الفتح الإسلامي بقيادة عبيد الله بن زياد داخل المنطقة. وبعد تعيين قتيبة بن مسلم الباهلي والياً على خراسان عام 705م دخل بخارى فاتحاً عام 709م، وخوارزم، وسمرقند، عام 712م، وما أن حل عام 715م حتى خضعت المنطقة الممتدة حتى وادي فرغانة (شرق أوزبكستان اليوم) للخلافة العربية الإسلامية.
ويفسر الباحثان الأوزبكيان المعاصران بوري باي أحميدوف، وزاهد الله منواروف أسباب سرعة انتشار الفتح الإسلامي في المنطقة، بالخلافات التي كانت قائمة آنذاك بين الحكام المحليين، والاهتمام الكبير الذي أبداه القادة العرب المسلمون بالمنطقة بعد أن استقرت الأمور لصالحهم في خراسان. ويشيران إلى أن العرب لعبوا دوراً تقدمياً في المنطقة وغالباً ما كانوا يلجأون في تعاملهم مع أبناء المنطقة إلى السبل السلمية معفين معتنقي الدين الإسلامي من الخراج والجزية. ويضيفان حقيقة هامة أخرى وهي أنه لا مجال لمقارنة الفتح العربي الإسلامي بالغزو المغولي أو الروسي أو البلشفي، لأن الإسلام لعب دوراً إيجابياً وأدى إلى توحيد المدن والدول والقبائل والشعوب المختلفة وإلى تطوير العلاقات بين تلك الشعوب. إضافة للأثر الإيجابي الكبير الذي أدخل تقاليد جديدة على عادات وأخلاق الناس والذي بفضله تم القضاء على العيوب الاجتماعية التي كانت سائدة آنذاك. وأشارا إلى الدور الهام الذي لعبته اللغة العربية قي تعريف شعوب آسيا المركزية وإطلاعهم على مؤلفات علماء اليونان القدامى والإختراعات الصينية.
ولا أحد ينكر اليوم الدور الكبير الذي لعبته شعوب آسيا المركزية المسلمة، وخاصة الشعب الأوزبكي في الثقافة العربية الإسلامية وفي تطوير الحضارة الإنسانية, الذي ظهر جلياً أثناء الاحتفالات التي أقيمت في أوزبكستان بمناسبة إعلان المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ISESCO) طشقند عاصمة للثقافة الإسلامية عام 2007، وأعادت للأذهان أسماء أعلام إسلامية معروفة من أبناء شعوب وسط آسيا أمثال عالم الفلك أحمد الفرغاني (توفي عام 850م)، وعالم الرياضيات محمد بن موسى الفرغاني (783م-850م)، والفيلسوف الكبير أبو نصر الفارابي (873م-950م)، والطبيب الموسوعي أبو علي حسين بن سينا (980م-1037م)، والعالم الموسوعي أبو ريحان البيروني (973م-1048م)، والموسوعي فخر الدين الرازي، والنحوي والمحدث الكبير الزمخشري (1075م-1144م)، وشيخ المحدثين الإمام البخاري، والكثيرين غيرهم.
وأشارت تلك الاحتفالات إلى استمرار إسهام العلماء الأوزبك في الحضارة العربية الإسلامية والعالمية لعدة قرون، الإسهام الذي لم تزل أثاره ماثلة للعيون حتى اليوم. وأنهم ارتحلوا من أجل طلب العلم إلى مكة المكرمة، والمدينة المنورة، ودمشق، وبغداد، والبصرة، والقاهرة. وخير مثال على ذلك التراث الذي خلفه إمام المحدثين أبو عبد الله إسماعيل البخاري (809م-869م)، والذي يضم أكثر من عشرين مؤلفاً في علوم الحديث أشهرها الجامع الصحيح الذي يضم 7250 حديثاً نبوياً شريفاً. وغيره من علماء الحديث الشريف أمثال السمرقندي (785م-868م)، والهمذاني 1048م-1140م).
وعبر مئات السنين استقرت بعض الهجرات العربية في ما وراء النهر وأدى التفاعل والاندماج الكامل بينهم وبين شعوب ما وراء النهر إلى قيام تجمعات سكانية محلية من أصول عربية وخاصة في ولايات بخارى، وسمرقند، وقشقاداريا، وسورخان داريا، وغيرها من المناطق الأوزبكستانية. تجمعات لم تزل تحتفظ بطابع حياتها المتميز حتى اليوم. ومعروف أن العلاقات العربية بشعوب المنطقة أخذت تضعف تدريجياً منذ الاجتياح المغولي للمنطقة خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين، وما نتج عن قيام الدولة المغولية من تأثير على اللغة والثقافة العربية فيما وراء النهر. دون أن يتمكن المغول من المساس بالثقافة الإسلامية بسبب اعتناقهم أنفسهم للدين الإسلامي الحنيف.
وعند قيام الدولة التيمورية التي أسسها الأمير تيمور "تيمور لانك" (1336م-1405م) امتدت من ما وراء النهر إلى إيران، وأفغانستان، والقوقاز، وبلاد الرافدين، وأجزاء من بلاد الشام، وشمال الهند. تلك الدولة التي اتخذت أيام ازدهارها من سمرقند عاصمة لها. وقامت جمهورية أوزبكستان على القسم المركزي منها في تركستان. وأدى تفكك الدولة التيمورية في تركستان إلى قيام دويلات مستقلة في المنطقة منها إمارة بخارى، وخانية خيوة، وخانية قوقند، وهو ما سهل الطريق أمام الأطماع الروسية للتوسع في المنطقة منذ بدايات القرن السابع عشر.
وبعد احتلال القوات الروسية للمنطقة قامت سلطات الاحتلال الروسي بقطع كل الصلات التي كانت قائمة بين تركستان الروسية كما كانت تعرف في ذلك الوقت والعالمين العربي والإسلامي، سواء أثناء الحكم القيصري الروسي، أو خلال الحكم الشيوعي الروسي. واقتصرت العلاقات العربية مع دول المنطقة على العلاقات الرسمية التي كانت تمر عبر موسكو فقط. وكان من النادر جداً كما أشار الباحث الأوزبكي زاهد الله منواروف أن تتصل طشقند مباشرة بالعواصم العربية، وأن الاحتلال الروسي والبلشفي قضى على أية إمكانية تسمح بإقامة علاقات مباشرة بين أوزبكستان والدول العربية. وأضاف أنه رغم ذلك فإن الروابط الثقافية والحضارية التي جمعت العرب والأوزبك استمرت وعلى أساسها قامت العلاقات العربية الأوزبكستانية منذ حصولها على استقلالها.
ولذلك لم يكن غريباً أن قيل بأن العرب قد فوجئوا باستقلال جمهورية أوزبكستان وغيرها من جمهوريات آسيا المركزية الإسلامية عام 1991. لأنهم لم يكونوا يتوقعون أبداً استقلالها أمام الهيمنة السوفييتية على دول المنطقة وضعف علاقاتهم معها. ولهذا كان تقارب الدول العربية مع تلك الدول بطيئاً جداً في البداية، لأن الدول العربية كانت حريصة على استكشاف الطريق إلى آسيا المركزية دون أن تؤثر علاقاتها المحتملة معها على العلاقات مع الاتحاد السوفييتي قبل الاستقلال، ومن ثم العلاقات مع الفيدرالية الروسية بعد الاستقلال. خاصة وأنها رافقت فترة صعبة من التاريخ كان العرب فيها منشغلين بتداعيات حرب الخليج الثانية، والحلول الدولية المنتظرة لقضية الشرق الأوسط والتمهيد لانعقاد مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط.
ومع ذلك شهدت كماً هائلاً من المؤتمرات والندوات انعقدت في العديد من الدول العربية لبحث أفضل السبل لإقامة علاقات مع جمهوريات آسيا المركزية الإسلامية. ورغم سرعة الدول العربية بالاعتراف الدبلوماسي باستقلال جمهورية أوزبكستان، تلبية لقرار مجلس جامعة الدول العربية الذي صدر في آذار/مارس 1992 وحث الدول العربية على تنشيط إتصالاتها بدول آسيا المركزية الإسلامية وفتح سفارات فيها وإقامة تعاون معها في كل الميادين، وإقامة مراكز ثقافية عربية فيها. فإننا نرى أن مصر، والأردن، وفلسطين، والجزائر، والعربية السعودية، والكويت، فقط افتتحت سفارات لها مقيمة في طشقند، وقامت دولة الإمارات العربية المتحدة، وسلطنة عمان، بفتح قنصليات لها تحولت مؤخراً إلى سفارات مقيمة في العاصمة طشقند، وكانت مصر الدولة العربية الوحيدة التي أقامت مكتباُ إعلامياً أغلقته فيما بعد، وافتتحت مركزاً ثقافياً عربياً لم يزل قائماً في العاصمة الأوزبكستانية. ورغم التقدم الملحوظ في العلاقات الثنائية إلا أن العلاقات الاقتصادية والسياسية والثقافية لم تزل بطيئة ولا تتجاوب مع المقدرات التي يملكها الجانبين ولا تلبي مصالح العلاقات التاريخية بين الجانبين حتى الآن.
المصالح الأوزبكستانية العربية المشتركة
نتيجة لعمليات البحث والمراجعة التي أجرتها مؤسسات البحث العلمي ومراكز صنع القرار العربية والأوزبكستانية للموقف الجديد الذي تكون في آسيا المركزية بعد استقلال جمهوريات: أوزبكستان وقازاقستان وتركمانستان وقرغيزستان وطاجكستان، ظهر جلياً أنه هناك شبكة من المصالح المشتركة تجمع بين أوزبكستان والدول العربية. وأن هذه الشبكة تحتم بناء مجموعة من السياسات التي تضمن حماية تلك المصالح. تعتمد على:
- التطور الاقتصادي والسياسي المستقل لجمهورية أوزبكستان: لأن التنافس الشديد بين القوى الإقليمية والعالمية المختلفة للتأثير على نمط التطور الاقتصادي والسياسي المستقل لجمهوريات آسيا المركزية، كان واضحاً بعد استقلال جمهوريات آسيا المركزية. وهو ما أطلق عليه بعض المراقبين "المباراة الكبرى الجديدة" تمييزاً عن المباراة الكبرى التي كانت قائمة حول تركستان الإسلامية بين قوتي الاحتلال الرئيسيتين بالمنطقة في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين وهي بريطانيا العظمى، والإمبراطورية الروسية. وما سيترتب عن النتيجة النهائية لتلك المباراة الكبرى الجديدة من تأثير مباشر على دول آسيا المركزية والدول العربية. سيما وأن أوزبكستان تقع في قلب المنطقة التي تربط آسيا بأوروبا والشرق الأوسط وأن ما يحدث فيها لابد وأن يؤثر بشكل ما على الأحداث الجارية في المنطقة العربية، ومنطقة الشرق الأوسط بشكل كامل.
وتنبأ الباحث المصري إبراهيم عرفات بأن نشوء نزاعات إقليمية في آسيا المركزية أو نشوء سباق للتسلح فيها أو إنشاء منطقة منزوعة السلاح النووي فيها لابد وأن يكون له انعكاسات مباشرة على الدول العربية، ومن ثم توقع أن يكون من مصلحة العرب أن تتبع دول وسط آسيا وفي مقدمتها أوزبكستان منهجاً مستقلاً للتطور يعتمد على رؤية الشعب والنخبة الحاكمة للمصالح الوطنية وألا تهيمن قوة إقليمية أو عالمية معينة على دول وسط آسيا.
- المصالح الاقتصادية: لأنه لابد من التنويه لأهمية الموقع الإستراتيجي المتميز الذي تشغله أوزبكستان، بالإضافة لامتلاكها كميات هائلة من الموارد الطبيعية، وخبرات بشرية وتكنولوجية متطورة، يمكنها من أن تكون الشريك المحتمل والمهم للاستثمارات المالية العربية وتنويع البدائل الاقتصادية التقليدية، من خلال الاستفادة من الخبرات والمقدرات العربية والأوزبكستانية.
وفي هذا الصدد أشار الباحث العربي ناصيف حتى إلى أن الكتلة الجديدة تمثل عمقاً حضارياً واستراتيجياً، وهي ذات قدرات علمية وإستراتيجية أيضاً، وعند بعضها قدرات تسليحية كبيرة. وأن المنحى الذي سيتخذه التنافس بين قوى الجوار الإقليمي حولها لابد وأن ينعكس على موازين القوى في آسيا المركزية وفي الشرق الأوسط.
- المصالح الإستراتيجية: لأن أوزبكستان تكاملت مع المجتمع الإسلامي والدولي منذ استقلالها وبدأت تلعب دوراً بارزاً في منطقة آسيا المركزية، وأخذت تسهم بقسطها في تسوية النزاعات الإقليمية، وخاصة الصراع على الأرض الأفغانية. وجاءت مبادرة الرئيس إسلام كريموف للسعي لإعلان آسيا المركزية منطقة منزوعة السلاح النووي الأمر الذي تم في عام 2009. ليصبح من الواضح أن أوزبكستان تمثل قوة أساسية في وسط آسيا وأن أية علاقات مع دول المنطقة لابد وأن تمر عبر أوزبكستان بحكم دورها التاريخي والحضاري والإسلامي في العلاقات العربية مع دول المنطقة.
- دور أوزبكستان في إبراز الوجه المعتدل للإسلام في مواجهة حركات التطرف الديني: خاصة بعد ظهور حركات دينية متطرفة في المنطقة بعد استقلال جمهوريات آسيا المركزية، تهدف الصدام مع النظم السياسية الدستورية وتحاول تغييرها بغير الطرق الديمقراطية السلمية، مستخدمة القوة والعنف المسلح لبلوغ الهدف. وأشار إليها الرئيس إسلام كريموف أثناء تحديده لمصادر تهديد الأمن والاستقرار في أوزبكستان.
وكانت بعض تلك التيارات مدعومة من قبل بعض القوى على الساحة الأفغانية ومن بينها عناصر عربية عرفت باسم "الأفغان العرب" وانتشرت تلك التيارات في دول الجوار الإقليمي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق واستقلال جمهوريات آسيا المركزية، وأخذت تهدد السلام والإستقرار في آسيا المركزية وأمن واستقرار وسلامة الدول العربية. ومن هذا المنطلق كان من مصلحة العرب الحقيقية توضيح الوجه الحقيقي للإسلام أمام شعوب وسط آسيا عن طريق نشر الثقافة الإسلامية بوجهها المتسامح المعتدل من خلال العلاقات والروابط الثقافية العربية الأوزبكستانية، وهو ما تسعى إليه أوزبكستان نفسها. ويرى المحللون أن لأوزبكستان مصالح مع الدول العربية لا تقل عن مصالح الدول العربية مع أوزبكستان. ومن نظرة متعمقة في السياسية الخارجية الأوزبكستانية فإننا نرى أن القيادة الأوزبكستانية توصلت لجملة من المصالح المهمة التي تجعلها تلتقي مع الدول العربية منها:
- أن الدول العربية تعتبر ميداناً لتنويع بدائل السياسة الخارجية الأوزبكستانية. لأنه ظهر على ضوء التنافس الدولي الجديد حول آسيا المركزية، ما للدول العربية من أهمية كامتداد جغرافي قريب ووثيق الصلة بأوزبكستان حضارياً وثقافياً. وهي التي تتمتع بإمكانيات اقتصادية هائلة وتعتبر مصدراً للاستثمارات وللبضائع الاستهلاكية، والسلع الغذائية، وسوقاً لليد العاملة، والتكنولوجيا والمنتجات الأوزبكستانية. فضلاً عن أنه لا توجد للعرب أية تطلعات إقليمية أو سياسية في أوزبكستان أو في دول الجوار الإقليمي بآسيا المركزية.
ومن هذا المنطلق فإن التعامل المكثف مع الدول العربية يحقق لأوزبكستان مصلحة جوهرية في توسيع البدائل المتاحة أمام السياسة الخارجية الأوزبكستانية، ويخلق مجالاً استراتيجيا جديداً يمكنها من خلال دعم المجموعة العربية من التعامل على قدم المساواة مع القوى الأخرى في العالم. ومن المؤكد أنه كلما زادت البدائل المتاحة أمام أوزبكستان في العلاقات الدولية، كلما زادت قدرتها على الحركة في مجال العلاقات الدولية بشكل يؤمن لها أفضل الشروط في التعامل مع الشركاء الدوليين.
- المصالح الاقتصادية الأوزبكستانية في الدول العربية. لأن الدول العربية كمجموعة تشكل قوة اقتصادية ومالية تستطيع الاستثمار في أوزبكستان لتمكينها من استغلال مواردها بشكل فعال. إضافة لامتلاك بعض الدول العربية خبرات فنية لازمة لأوزبكستان لإتمام عملية بناء الدولة والتحول بالكامل إلى اقتصاد السوق، وما يترتب عنه من بناء نظم اقتصادية ومالية ومصرفية، إضافة لفرص التدريب التي يمكن أن تتيحها بعض الدول العربية لأوزبكستان في مجال إعداد الكوادر في مختلف المجالات.
- الدور الحضاري لأوزبكستان. لأن الدول العربية بالنسبة لجمهورية أوزبكستان، هي الساحة والمدخل المهم للاضطلاع بدور ثقافي وحضاري فعال في العالمين العربي والإسلامي، خاصة وأن أوزبكستان تملك تراثاً ثقافياً ودينياً وحضارياً، أشار إليه بوضوح إعلان الـ (ISESCO) طشقند عاصمة للثقافة الإسلامية عام 2007 وكان لذلك التراث أثراً بالغاً في تطور الحضارة العربية الإسلامية. وهو ما يؤهلها لتضطلع بدور حضاري متميز في العالمين العربي والإسلامي.
وانطلاقاً من المصالح المشتركة والمتشابكة، بدأ العرب والأوزبك بصياغة مجموعة من السياسات التي يمكن أن تكفل تحقيق وحماية مصالحهما المشتركة. ومن المنطقي أن تكون نقطة البداية إنشاء وتطوير العلاقات الاقتصادية والثقافية والعلمية والسياسية بين الدول العربية وأوزبكستان. ولهذا الهدف قام الرئيس إسلام كريموف ضمن أولى جولاته بعد الاستقلال بزيارة رسمية شملت كلاً من المملكة العربية السعودية، وجمهورية مصر العربية 1992، وأتبعها بزيارة لفلسطين عام 1998، والكويت عام 2004، وجمهورية مصر العربية للمرة الثانية عام 2007، والإمارات العربية المتحدة عام 2008، وسلطنة عمان عام 2009، ودولة قطر عام 2010، تم خلالها الاتفاق على توطيد العلاقات القائمة والتوقيع على مجموعة من الاتفاقيات الثنائية حول مستقبل تطوير العلاقات الثنائية وتوسيع التعاون التجاري والاقتصادي، والقضايا الإقليمية والدولية التي تهم الجانبين. والتعاون التجاري والاقتصادي الذي يشمل مجالات: النقل الجوي، والنفط والغاز، والصناعات الكيماوية، والبناء، والاستثمارات، وتوسيع التعاون الاستثماري والثقافي ليشمل مجالات: التعليم العالي، والسياحة، والإعلام، والإتصالات.
وكان الرئيس الراحل ياسر عرفات القائد العربي الوحيد الذي زار أوزبكستان بعد استقلالها حتى قيام أمير دولة الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح بزيارته التاريخية لأوزبكستان عام 2008. وكما سبق وأشرنا تعمل في أوزبكستان سفارات لمصر والأردن والجزائر وفلسطين والعربية السعودية والكويت والإمارات العربية المتحدة وسلطنة عمان، معتمدة ومقيمة في طشقند. وللمغرب واليمن سفير معتمد غير مقيم في طشقند. ولأوزبكستان سفارات معتمدة مقيمة في مصر والعربية السعودية والكويت والإمارات العربية المتحدة. وقنصليات مقيمة في جدة بالمملكة العربية السعودية وفلسطين. كما يمثل السفير الأوزبكستاني في القاهرة بلاده كسفير غير مقيم في الأردن، والسفير الأوزبكستاني المقيم في الكويت كسفير لبلاده غير مقيم في قطر والبحرين وعمان.
وفي إطار العلاقات الدولية دعمت الدول العربية المبادرة الأوزبكستانية لإعلان آسيا المركزية منطقة خالية من الأسلحة النووية. وشاركت بعض الدول العربية في أعمال المؤتمر الدولي الذي عقد في أيلول/سبتمبر 1997 بطشقند لإعلان آسيا المركزية منطقة خالية من الأسلحة النووية. وأعلن الوفد المصري خلاله أن إنشاء تلك المنطقة يعتبر حافزاً لإنشاء منطقة مماثلة في الشرق الأوسط.
وبدأت الدول العربية ببناء علاقات اقتصادية مع أوزبكستان إلا أنها لم تزل محدودة رغم أهميتها. ولابد أن الأسباب تعود لتراجع الموارد المالية لدول الخليج العربية جراء الحروب التي تعرضت لها المنطقة خلال العقدين الأخيرين، أو لعدم الإلمام بالفرص الاستثمارية الكبيرة المتاحة في أوزبكستان. وهي نفس الأسباب التي نعتقد أنها وراء إحجام الدول العربية الخليجية عن الدخول بقوة إلى السوق الاستثمارية الأوزبكستانية مكتفية بالأنشطة قصيرة الأجل في التجارة والمقاولات. أما بالنسبة لباقي الدول العربية فالمعضلة الرئيسية هي نقص الموارد بالعملات الأجنبية، ولو أننا لا نعتبره سبباً لأن المشكلة يمكن حلها عن طريق التقاص في التبادل التجاري الذي تحميه الدولة من قبل الجانبين دون الحاجة للقطع الأجنبي. ومن صيغ الصفقات المتكافئة بين الدول العربية وأوزبكستان نذكر الاتفاقية الموقعة بين مصر وأوزبكستان عام 1992 بقيمة 30 مليون دولار أمريكي.
وفي المجالات الثقافية والدينية تنشط الكويت والعربية السعودية ومصر والإمارات العربية المتحدة، من خلال الدور الذي يؤديه كلاً من المركز الثقافي المصري في طشقند، وجامعة الأزهر الشريف في مصر، ورابطة العالم الإسلامي في المملكة العربية السعودية، وهيئة الإغاثة الكويتية الإسلامية التي افتتحت فرعاً لها في طشقند، والهيئات الخيرية الإماراتية التي تقدم الدعم الدائم لجامعة طشقند الإسلامية، وجمعية جمعة الماجد التي تقيم علاقات وطيدة مع معهد أبو ريحان البيروني للاستشراق التابع لأكاديمية العلوم الأوزبكستانية. إضافة لقيام أوزبكستان بإنشاء صندوق الإمام البخاري الدولي الذي خطط لإنشاء فروع له في مختلف الدول العربية والإسلامية.
وجاء إعلان منظمة الثقافة والتربية والعلوم الإسلامية (ISESCO) التابعة لمنظمة المؤتمر الإسلامي طشقند عاصمة للثقافة الإسلامية لعام 2007 فرصة جيدة لتمتين عرى الأخوة والصداقة القائمة بين الدول العربية والإسلامية وأوزبكستان وهو ما ظهر من خلال مشاركة وفود عربية بالإضافة لمشاركة الأمين العام لجامعة الدول العربية عمر موسى، وكمال الدين إحسان أوغلو الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي في الاحتفالات التي أقامتها أوزبكستان بهذه المناسبة.

الأحد، 7 فبراير 2016

عضو أكاديمية العلوم الأوزبكستانية إدوارد رتفيلادزة يتحدث عن تراث الحضارات العظيمة في أوزبكستان


تراث حضارات عظيمة
أشار الرئيس الأوزبكستاني إسلام كريموف في كلمته التي ألقاها أثناء إفتتاح المؤتمر الدولي "التراث التاريخي لعلماء ومفكري القرون الوسطى في الشرق، ودوره وأهميته للحضارة الحديثة" إلى أن تراث الأجداد العظام، هو ملك للبشرية جمعاء، وعلينا تطوير هذا التراث وإغناءه. وأن عضو أكاديمية العلوم، عضو مجلس الشيوخ في عالي مجلس جمهورية أوزبكستان إدوارد رتفيلادزة، هو من الذين قدموا إسهاماً قيماً لهذا الكنز القيم، حيث أكتشف فيه صفحات جديدة وجديدة.

وفي كل ربيع وخريف من كل عام، وعلى طوال نشاطاته العلمية، وخلال سنين طويلة، وكالسابق يقوم بتنقيبات أثرية في مدينته المحبوبة الصغيرة كامبيرتيبه، والكثير من المدن التي كانت تعج بالحياة في السابق على تقاطع التاريخ والثقافة العالمية، ومنذ قرون سحيقة، احتفظت أوزبكستان بطريق الحرير العظيم الذي امتد على آلاف الكيلومترات. وحديثنا اليوم يدور حول أقدم الحضارات التي وضعت أسس دولة أوزبكستان المعاصرة، الدولة التي مرت فيها الطرق العابرة للقارات، وأدخلت إنجازات العلماء البارزين، إلى الأبد في مخزون العلوم والثقافة العالمية، وأهم الإكتشافات العالمية، التي تحفظ بها هذه الأرض المباركة.
- إدوارد فاسيليفيتش، برأيكم ماهي الأهداف الرئيسية للمؤتمر، وأهمية المؤتمر الدولي "التراث التاريخي لعلماء ومفكري القرون الوسطى في الشرق، ودوره وأهميته للحضارة الحديثة" الذي نظم في سمرقند بمبادرة من قائد الدولة، وكان في الحقيقة إشارة ورمزاً لعام 2014 في حياة البلاد، وفي العلوم العالمية...
- خلال المؤتمر تشكلت وللمرة الأولى إستنتاجات تاريخية هامة جداً، خلصت إلى إكتشاف مصادر وأسباب ظهور الأساس العلمي والثقافي، وكوكبة مجيدة من علماء آسيا المركزية خلال القرون الوسطى، أمثال: محمود الخوارزمي، وأحمد الفرغاني، وأبو علي بن سينا، وأبو نصر الفارابي، وأبو ريحان البيروني، وميرزه ألوغ بيك، وغيرهم من العلماء والمفكرين العظام. الذين بقيت إنجازاتهم العلمية إلى الأبد ضمن المخزون الذهبي للعلوم والثقافة العالمية، وكذلك دور هذا التراث في الحضارات السابقة والمعاصرة. وهذه المهمة في العلوم التاريخية لم يجري التعامل معها بشكل كاف حتى الآن.
وعنوان محاضرتي "معلم المعلمين" خلال الجلسة العادية للمؤتمر إستعرته من فاليري بوريوسوف، الذي كان شاعراً رائعاً، ومؤرخاً رائعاً. وهكذا سمى إحدى مقالاته. وهذه التسمية الدقيقة أعطت جوهراً لهذه العملية التاريخية، التي قام بها لإظهار المفكرين العظام وجبابرة العلوم في الشرق خلال القرون الوسطى في ما وراء النهر، وهم الذين يعود إنتمائهم لأراضي أوزبكستان المعاصرة، خلال القرن التاسع الميلادي والنصف الأول من القرن الحادي عشر الميلادي، وحتى نهاية القرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين.
وكل هذا يعود للتطور الرفيع لعلوم الحضارة على أراضي نهري وسط آسيا تمتد من المراحل: البرونزية، والقديمة، والقرون الوسطى. وهذا الإنطلاق الحضاري بالضبط وفر إمكانية ظهور كوكبة كاملة من العلماء البارزين، اعتمدوا في أبحاثهم وإكتشافاتهم العظيمة على المعارف العلمية، التي تراكمت حتى ذلك الوقت في الشرق. وبدءاً من مصادرهم التي وضعت في حضارات بلاد مابين النهرين، والتطور الشامل في الحضارات المتقدمة في الشرقين الأوسط والأدنى، وما وراء النهر، ضمن عملية التداخل والإغناء المتبادل للثقافات والحضارات. وظهر هذا من خلال أعمال معلمين عاشوا في تلك الأوقات السابقة.
- تعتبر أراضي أوزبكستان المعاصرة من أقدم مهود الحضارة العالمية، وتحتفظ بآثار تاريخية ومعمارية فريدة، تمثل مختلف العصور من مراحل التطور البشري، وحتى إقامة الدول القديمة الضخمة. وليس صدفة أن اكتشفت التنقيبات الأثرية في أوزبكستان جملة كاملة من الإكتشافات، التي تتمتع بأهمية عالمية. ومنها ما يمثل الدقائق الأكثر سطوعاً في مراحل التطور البشري ؟

- يمكن تقديم الكثير من الأمثلة بدءاً من العصر الحجري، عندما لعبت أرضنا دوراً كبيراً في تاريخ الحضارة. وهذا ما تؤكده الحقائق المعروفة في كل العالم، والفريدة على أراضي كل الشرق من خلال لقيات كهف تيشيك تاش (بايسون)، حيث أكتشفت بقايا صبي ينحدر من عصر الإنسان البدائي. وبفضلها خرج العلماء باستنتاجات، أنه في ذلك العصر القديم، ومن أواسط العصر الحجري القديم أي منذ 100 أو 40 ألف سنة مضت، كانت أراضي أوزبكستان المعاصرة منطقة تشكل فيها الإنسان الحديث. وهي مرحلة إزدهار الزراعة في العصر البرونزي، وشكلت بداية لعلاقات أوزبكستان القديمة الواسعة مع الدول المجاورة. وفي ذلك الوقت وضعت أسس بناء المدن، وفن العمارة، وتشييد التحصينات، وأسست الثقافة المادية والفنية. وبشكل كاف كانت المرحلة (الهلنستية والقديمة)، والعصر القديم، وهي من الصفحات اللامعة في تاريخ حضارة وسط آسيا كلها، وخاصة حضارة ما بين النهرين في وسط آسيا. وفي ذلك الوقت تكون ما يسمى بالثقافة الهلنستية، والتعايش بين السكان الأصليين، وجاءت الثقافة اليونانية المقدونية، التي أعطت نماذج ساطعة للثقافة المادية والفنية، والكثير غيرها من النماذج. وجاءت بعد واحدة من الإمبراطوريات المهمة في العالم، من: الخانية، والرومانية، والبرفانية، والإمبراطورية الكوشانية العظيمة التي تتساوى مع الإمبراطوريات، وهي التي وضعت أسس المنجزات العظيمة لحضارة وسط آسيا، ومن ضمنها حضارات: الصغد، والبكتير، والخوارزميين، وبالنتيجة حصلت وسط آسيا على تطورها في القرون الوسطى المبكرة. وبفضل هذا نملك اليوم نماذج ساطعة من: تماثيل خالتشيان، ورسومات وتماثيل دالفيرزينتيبه، والآثار الخوارزمية، والكثير من الآثار غيرها. ومن النماذج الأكثر سطوعاً لثقافة وسط آسيا المتطورة جداً يمكن تقديم اللوحات الأثرية، والنماذج التي نكتشفها على كل أراضي أوزبكستان المعاصرة، في: ورخشا، وأفراسياب، وبالاليكتيبه، وغيرها من الآثار.
وأود الإشارة خاصة إلى أنه في تلك المرحلة كانت على أراضينا طرق هامة عبرت القارات أوروبا وآسيا، وربطت بين الشرق والغرب. ولعبت دوراً ضخماً في تطوير وإزدهار الحضارات، وبدأ تطور علاقاتهما المتبادلة من اليونان، وروما وحتى من الشرق الأقصى. ولهذا كانت تمثل الفقرة الواصلة بينها، وأدت إلى تكرار تلك الحضارات بفضل موضعها الجغرافي، وكان في أوزبكستان القديمة مراكز مثل: سمرقند، وبخارى، وترمذ، وغيرها من المدن، التي كانت بمثابة فقرة إنتقال للقيم الثقافية من الهند، والصين، إلى أوروبا وبالعكس. ومع ذلك كانت الإنجازات الحضارية تتراكم دائماً على أراضي بلادنا، وحصلت بلادنا على تطورها الجديد اللاحق. ولم تكن هذه الطرق الهامة العابرة للقارات ببساطة طرق للتجارة، إذ عبرها انتقلت الإنجازات العلمية والتقنية والثقافية، والأفكار والإبتكارات الجديدة. وتكاملت ونقلت لاحقاً كل الإنجازات العظيمة لحضارة ذلك الوقت. وكانت أراضي بلادنا في ما بين النهرين بوسط آسيا مركزها دائماً.
- في عام 1999 صدر عن دار النشر "أوزبكستون مللي إنتسيكليوبيدياسي" كتاب "طريق الحرير العظيم" الذي حصل على إهتمام كبير، وتضمن نتائج أبحاثكم خلال السنوات الطويلة...
- إزداد الإهتمام العلمي والإجتماعي بتاريخ هذا الطريق العظيم العابر للقارات خلال عشرات السنين الأخيرة، وهو الذي ربط بين الدول القديمة في الشرق الأقصى مع دول البحر الأبيض المتوسط عبر وسط آسيا، وعزز من مكانته وأهميته في الحضارة العالمية. وفي كتابي أظهرت تاريخ ظهوره وتطوره بشكل مبني على أسس علمية.
وكان ظهور هذا الطريق في نهاية القرن الثاني قبل الميلاد، وارتبط من جانب بالنشاطات السياسية الصينية، ومن جانب آخر ارتبط بالتجار اليونانيين، والإغريق، وبارثيا. ولعب سكان أوزبكستان القديمة دوراً كبير في إحداثه. وأشرت في كتابي إلى البكتيريين، والصغديين.
وهكذا، ومنذ البداية استوعب الصغد في عصر القرون الوسطى الطرق البحرية: والتفوا حول الهند، وشبه جزيرة الملايو، وتعمقوا نحو جنوب شرق الصين، وإلى اليابان، ومما يشهد على ذلك اللقيات الأثرية للكتابات الصغدية في مقاطعة كانتون، وقلعة خوروجي، وفي العاصمة اليابانية القديمة، ناريه. ومما يلفت النظر حقيقة أنه في القرن العاشر الميلادي ووفقاً لمعلومات بوزورغ بن شهريار، الواردة في كتاب "عجائب الهند"، كان بحر العرب يسمى "محيط سمرقند"، وهذا يعكس الدور المهيمن لأبناء هذه المدينة على تطوير الطرق البحرية. وقبلها طور الصغد في القرن الرابع قبل الميلاد الطريق إلى بيزنطة. بأمر من حاكم الصغد مانياخ، والخان ديزابول، تم إجتياز الطريق الصعبة جداً عبر أسفل نهر الفولغا، والصحراء، وطرق شمال القوقاز إلى كونستانتينوبول، وهو ما دعى الإمبراطور البيزنطي يوستين الثاني، للقيام بزيارة جوابية، وبنتيجتها أصبحت تشتهر تجارة الحرير من صنف "زاندانيتشي"، وتم اكتشاف الكثير منها في مقابر آلان بشمال القوقاز وأوروبا.

والدور الكبير لأهمية طريق الحرير العظيم كشريان نقل دولي في القدم يصعب تقييمه، وهو الذي ربط بين دول ومناطق، مثل: الصين، والهند، ووسط آسيا، والشرقين الأوسط والأدنى، والبحر الأبيض المتوسط. وهذا بالضبط ما أشار إليه قائد الدولة في كلمته. فالطريق وفرت ليس العلاقات التجارية بين هذه الأقاليم فقط، بل ووفرت فرص الحوار المعلوماتي بين قارات ودول بأكملها، وعبره نقلت الأفكار الجديدة والتكنولوجيا، والقيم الثقافية والمعنوية أيضاً، وهو ما وفر الظروف للتبادل الحضاري والتكنولوجي. وعلى طرق طريق الحرير العظيم جاءت إلى أوروبا وبالعكس إلى آسيا معلومات وتفاصيل دراسات علماء ومفكري الشرق والغرب، وتم التوصل عملياً لأعمال وأفكار وإكتشافات العلماء العظام في القدم، أمثال: سقراط، وأفلاطون، وأرسطو، وبطليموس، وغيرهم من العلماء.
وبدورهم قدم ألمع ممثلي علوم الشرق: محمد الخوارزمي، وأحمد الفرغاني، وأبو علي بن سينا، وأبو نصر الفارابي، وأبو ريحان البيروني، وغيرهم من العلماء، الكثير من الأفكار القديمة في العلوم والفلسفة لأوروبا خلال القرون الوسطى. وعلى  سبيل المثال: أحدثت في قرطبة وطليطلة (إسبانيا) مراكز خاصة لترجمة ونسخ أعمال علماء ومفكري الشرق العظام. وترجمت أعمالهم في ألمانيا، وإيطاليا، وفرنسا، وغيرها من الدول. وبإحياء الثراث القديم لعلماء الشرق العظيم في الكثير أصبحوا وبحق "معلمي المعلمين" المتقدمين في عصر النهضة بإيطاليا وغيرها من الدول الأوروبية.
- كامبيرتيبه، أثر تاريخي فريد يمثل المراحل القديمة التي قدمت يومياً إكتشافات جديدة، ونوادر لها أهمية عالمية. وأعرف أنكم قمتم أثناء التنقيبات الأثرية الأخيرة هناك باكتشاف علمي هام، سيعطي دفعة جديدة وقوية أكثر لمستقبل تعميق الأبحاث في إقليم آسيا المركزية، وسيكون إسهاماً ضخماً في تطور العلوم الحديثة....
- نجري منذ سنوات طويلة أبحاثاً علمية في مدينة كامبيرتيبه، الواقعة غرب ترمذ على شاطئ أوكسا (أموداريا). وبدأنا التنقيبات التجريبية في ثمانينات القرن الماضي، ولكنها توقفت بعد ذلك، ولكن في عام 1999 وبعد تشكيل بعثة طهارستان للتنقيب الأثري، بدأ عمل مكثف ومنتظم في البلدة. وفي البداية قمنا بدراسة الطبقات العليا التي تعود للمرحلة الكوشانية، وخلال السنوات الأخيرة بدأنا بدراسة الطبقات الأدنى، التي تعود للعصر الهلنستي. وبقناعتي العميقة كانت أول قاعدة أمامية – قلعة، بنيت في عصر حملة الإسكندر المقدوني على آسيا الوسطى، والاستعمار المقدوني اليوناني لباكتريا وصغديانا. وشيدت من أجل حماية المعبر الرئيسي الذي يمر من عاصمة باكتيريا عبر أموداريا، ومن ثم إلى "البوابة الحديدية، التي تقود إلى ماراقاند (سمرقند). وكما فهمنا الآن هي قلعة صغيرة بجدران محصنة قوية، وأبراج، وأبواب، وبنيت وفقاً لفن العمارة الهلنستية، وتقاليد التحصينات اليونانية والبوليو ركيتيكية كما يجب. وفي النهاية فهمنا خطتها، وأهميتها، ووضعنا تدريجيا تسلسلها الزمني، ووقت تشييدها ووظيفتها.
وحفرت التحصينات في الأرض على شكل شرفة من ثلاث طبقات مع درجات بارتفاع أربعة أمتار، وعلى أطرافها شيدت جدران وأبنية وغيرها من المنشآت، وتعطي كلها شكلاً يشبه الهرم المدرج. ووصلت الحفريات إلى عمق 17 متراً، ولم نصل بعد إلى الأساسات. وأعمال البعثة في الأيام الأخيرة عثرت على لقية رائعة جداً، بوابات القلعة، والرائع أنها شيدت من مواد محلية، من طوب اللبن (باكس). وكانت مخربة تماماً، ولكن بعض التفصيلات سمحت بوضع تصور عن التصميم والتخطيط، وهي تشبه بوابات إحدى المدن اليونانية "صيدا". وأكد إكتشافنا المعلومات التي أدت إلى معلومات المورخين والجغرافيين، حافظ، وأبرو، اللذان عاشا في قصر تيمور وابنه شاهروح الذي عاش في القرن الخامس عشر الميلادي، الذان كتبا: أنه بالقرب من ترمذ يوجد ما يسمى المعبر اليوناني، ومن التوقعات أن من شيدها كان الإسكندر المقدوني.
وخلال مراحل التطور وتبدل الحضارات كان هناك عدة ظواهر مصيرية وشخصيات رئيسية، ولم تبقى الآثار التاريخية القوية لأجيال المستقبل فقط، بل وحملت تطور محدد في الكثير من مجالات الحياة الهامة ونشاطات كل الإنسانية. ولم تبقى في ذكرى الإسكندر المقدوني حتى الآن الفتوحات العظيمة فقط، بل أشارت إلى أنه كان حاكماً عظيماً، وضع ضمن أهدافه توحيد الغرب والشرق. وتعتبر الحضارة الهلنستية التي ظهرت بعد وفاته ألمع تكامل لثقافة الشرق والغرب، وهي التي هيأت بالكثير إختراق الشرق للمنجزات المتقدمة في تلك الأوقات. وبعد مضي عدة القرون على توحيد الشرق والغرب سعى الأمير تيمور لذلك. وليس صدفة أن أصبحت سمرقند مركزاً يجذب كل العالم. والسفارات الدبلوماسية والقوافل التجارية تدفقت إلى هنا من دول طرفي النقيض تماماً، من الشرق الأقصى وحتى إسبانيا. ونشأت حول سمرقند سلسلة من المدن حملت تسميات من البحر الأبيض المتوسط وأوروبا: فاريش (باريس)، ومصر، ودمشق. وسعى حينها ملوك إنكلترا، وفرنسا، وقشتالة وأراغون، للحصول على دعم صاحب قيران (الأمير تيمور)، وتبادلوا معه الرسائل بشكل دائم. وانتقل عدد كبير من العلماء، والحرفيين المهرة، والشخصيات الثقافية للعيش في سمرقند. وتطورت فيها العلوم، وخاصة التاريخية والجغرافية، وظهرت أعمال: علي يزدي، ونظام الدين شامي، وحافظي عبرو، وابن عرب شاه، وغيرهم. وسعى أبرز المفكرين في ذلك العهد ابن خلدون للإلتقاء مع الأمير تيمور. وتم إحياء فن العمارة القديمة، وتطور رسم اللوحات الطبيعية والمنمنمات. وهنا تجب الإشارة إلى أن ظاهرة لامعة جرت بعد الإنهيار الكبير، الذي أصاب ما وراء النهر أثناء حكم التشغتائيين المتأخر، ولهذا نملك الحق بوصف عهد إدارة الأمير تيمور (1370م-1405م) بالعهد الجديد، وكان يمثل مرحلة ثانية من النهضة الشرقية. وعلى قاعدة إنجازات هذه المرحلة، السياسية، والاقتصادية، والثقافية، نمت كوكبة من العلماء اللامعين، والمفكرين، والشعراء، والمنورين، أمثال: ألوغ بيك، وعلي شير نوائي، وظهير الدين محمد بابور، وغيرهم.

وإكتشاف هذه القلعة، أو كما تسمى مدينة كامبيرتيبه "أكروبولوس"، وهذا مكننا في النهاية من ربط فقرات سلسلة واحدة، يمكن أن تعني أنها أفضل وأهم إكتشاف أثري خلال العشر سنوات الأخيرة في منطقة آسيا المركزية. ومن الممكن في كل الشرق الهلنستي، الذي يمتد من الفرات (العراق المعاصرة) وحتى الهند. وهذا إسهام كبير ليس في تاريخ العلوم التاريخية الوطنية، بل وفي العلوم التاريخية العالمية، التي فتحت صفحة جديدة أيضاً.
- وهذا تأكيد فقط، على أن الإهتمام بالتاريخ القديم لأوزبكستان الذي ظهر بين علماء العالم ليس صدفة. إذ كما أشار المدير العام لليونسكو هوبيرت غيزين في كلمته خلال المؤتمر، هي بطولة علمية وحياتية، والإكتشافات القيمة لمفكري الشرق العظام تتضمن الكثير من الدروس للعلماء المعاصرين، وخاصة الشباب. وأنهم أعطونا مثالاً جيداً من أجل توسيع حدود التبادل العلمي على الساحة الدولية، وانطلاقها يرفع مستوى فاعلية الأبحاث...
- لم تزل تحتفظ الكثير من المدن، ومناطق السكن والآثار المعمارية، الموجودة على خارطة أوزبكستان، بأسرار رئيسية ضخمة غير معروفة بعد. وفي الأوقات الأخيرة قام منقبوا الآثار الوطنيين بالكثير من الاكتشافات الهامة. وعلى سبيل المثال: الكثير من الحفريات في ترمذ، التي يقوم بها بشكل مخطط ومدروس شوكير بيداييف، والعمل المشترك للبعثة الأثرية الروسية الأوزبكية في مدينة بايكينت، والحفريات بمدينة  أكشاخان – قلعة في خوارزم، اكتشفت مجموعة رسوم جميلة للقياصرة الخوارزميين. وهذه والكثير غيرها من المكتشفات، من دون شك، تقدم إسهاماً كبيراً في دراسة الحضارات وببساطة ليس في أوزبكستان، ولكن في إسهامها في حضارة آسيا المركزية، وبشكل أوسع في الحضارة العالمية.

وتعمل على أراضي أوزبكستان الكثير من بعثات التنقيب الأثري الدولية المشتركة لعلماء: فرنسيين، وألمان، وإيطاليين، وبولونيين، وتشيك، وكوريين، ويابانيين، ومن ضمنهم أضخم الباحثين في المنطقة، البروفيسور الإسطورة كيودزو كاتو، الذي ساعدت نشاطاته العلمية على اكتشاف الكثير من الصفحات التاريخية والإثنوغرافية غير المعروفة، وصفحات فنون آسيا المركزية. وكذلك أعماله في دراسة طريق الحرير العظيم، والدولة البكتيرية وأبحاث التنقيب الأثري من عام 1989 في مدن: دالفيرزينتيبه، وقره تيبه، وترجمته إلى اللغة اليابانية مؤلفات وأبحاث العلماء الأوزبك سمحت بوضع تاريخ وثقافة آسيا المركزية في متناول العالم.
كما وتجري لقاءآت أكاديمية مشتركة، وإهتمام كبير في عالم العلوم حصل عليه المؤتمر الدولي "التراث التاريخي لعلماء ومفكري الشرق في القرون الوسطى، ودوره وأهميته للحضارة الحديثة" الذي نظم بمبادرة من قائد الدولة الأوزبكية في مايو/أيار عام 2014 بسمرقند. وكل هذا يتحدث عن أن علماء أوزبكستان لم يغلقوا أبحاثهم في إطارات ضيقة، بل في إنجازات الحضارات العظيمة، التي تمت على الأرض الأوزبكية، وأصبحت اليوم في متناول كل المجتمع الدولي.
وهكذا، رئيس معهد آسيا المركزية والقوقاز التابع لجامعة ج. هوبكينس (الولايات المتحدة الأمريكية)، البروفيسور فريدريك ستار كتب منذ مدة مؤلفه "الحضارة المختفية" تحت تأثير انطباعاته عن المؤتمر، وكرس كتابه لمراحل تطور الحضارات على أراضي أوزبكستان والدول المحيطة بها. وأشار إلى أن هذه المنطقة من حيث الأهمية العلمية لا تتخلف عن الهند، والصين، وأوروبا أو الشرق الأوسط. والعلماء الموسوعيين الذين عاشوا على هذه الأرض، كانوا عملياً عباقرة الفكر العالمي. وبفضل ذكائهم كانت النهضة العلمية في آسيا المركزية. والإنجازات الضخمة لهؤلاء العلماء، والباحثين، وعلماء الدين، والفلاسفة، سمحت لكل العالم في النهاية بالإعتراف بهذه المنطقة بالكامل وخاصة أوزبكستان، في تطوير كل الإنسانية. وهذه حقيقة يتحدث عنها الكثيرون. وهذا ليس مثالاً واحداً.
وأود خاصة الإشارة إلى مرحلة إستقلال أوزبكستان، إذ تحت القيادة المباشرة للقيادة وبدعم شامل من الرئيس إسلام كريموف تجري دراسات عميقة ومتنوعة لتاريخ الماضي، ويجري ترميم الكثير من الآثار المعمارية للقرون الوسطى، وهذا هام جداً، والإشهار الواسع للتراث التاريخي والثقافي لعلماء ومفكري الشرق العظام. وهذ ليس صدفة، لأنه كما أشار قائد الدولة، إحترام تاريخنا، والخبرة المتكونة، والمقدرات الفكرية المتكونة، التي تعتبر أكبر كنز في العالم، هي أساس للتقدم المادي والمعنوي لأي دولة.
وأعتقد أن كل الإكتشافات والإنجازات العلمية، ومن دون شك، يجب أن تكون في متناول كل المجتمع، وهذا من أهم جوانب نشاطات العلماء، الذين يملكون ليس فقط الأهمية العلمية، بل والأهمية السياسية والتربوية الضخمة. ومواطني أوزبكستان، وخاصة الشباب، عليهم معرفة تاريخهم، المليئ بالأحداث الهامة جداً،  وأن يحرصوا على المحافظة على، وتطوير التراث العلمي القيم للعلماء والمفكرين العظام، ورعاية هذه الأرض العريقة، والإفتخار بإسهاماتها في تطوير الحضارة الإنسانية. وأن يحرصوا على استخدام إنجازاتها ومعارفها وحكمتها، لبناء مستقبل بلادهم أوزبكستان.
*****
أعدها باللغة العربية أ.د. محمد البخاري. بتاريخ 7/2/2016 بتصرف نقلاً عن مقالة تراث حضارات عظيمة. // طشقند: المنشورة بتاريخ 9/1/2015 على الرابط الإلكتروني: www.pv.uz.

هل بعض نماذج الفنون التطبيقية الأوزبكية على شفى الإندثار ؟


تتمتع الإبداعات الفردية والأعمال اليدوية دائماً بقيمة عالية، وإذا صنعت تلك الأعمال وفق قوانين تقاليد الفنون التطبيقية تكون قيمتها أكبر، وخاصة اليوم في عصر العولمة والصناعة المتطورة.
ولكن، هل كل ما يعرض علينا اليوم في المعارض والأسواق التقليدية للحرفيين، وما تقدمه الصالونات الفنية، والمحلات التجارية، يمكن وصفه بأنه من "منتجات الحرف الشعبية" وهل هي حقاً كذلك ؟
ومع ذلك لماذا لم نزل نسمع نداءآت من العلماء تدعوا إلى ضرورة إحداث نظم تسمح بتحديد الحرف الشعبية بدقة تمكن كل منا من تحديدها، وتحديد أي منها تقليدي، وأي منها نمطي فقط، أو محاولة وضعها ضمن شروط العلامة التجارية للثقافة التقليدية ؟
وعن أن "ما كل ما يلمع هو ذهب"، تحدث لمراسل صحيفة "Uzbekistan Today" عضو أكاديمية العلوم بجمهورية أوزبكستان، البروفيسور، والدكتور في المعارف الفنية، ورئيس قسم الفنون التشكيلية والتطبيقية في معهد المعارف الفنية التابع لأكاديمية العلوم بجمهورية أوزبكستان أكبر عبد الله ييفيتش حكيموف، الذي قال:


- أنا بالكامل أتفق مع أن تحت اسم "الفنون التقليدية" يمكن شراء كل شيء، ولكن لفهم "ما هذا، وما هو" لا تكفي ببساطة المعرفة لدى كل مشتري عادي.
وذات مرة لفت إنتباهي في إيتشان قلعة (بمدينة خيوه في أوزبكستان) لوحة كتب عليها "مركز إحياء التطريز الخوارزمي التقليدي". وهو ما أثار إنتباهي، لأنه لا يوجد في خوارزم تقاليد للتطريز اليدوي، وهنا برز لدي سؤال، ماذ تعني إذاً عبارة "إحياء" لدى الفتيات الخوارزميات هناك، وماذا يفعلن ؟
وبعد الحديث مع مدير المشروع، فهمت أنهم دعونهن لتطريز أغطية الوسائد بمطرزات مبنية على أسس  نسخت عن كتب ديكورات الهندسة المعمارية في هيرات خلال القرون الوسطى. وهذا يعني أن ما يرسمونه ليس رسوم خوارزمية، بل أفغانية. وبعدها بدأت بالإهتمام، كيف حصل هذا، وظهر أن هذه الورشة يملكها إنكليزي لا يعرف شيئاً البتة عن الفنون التقليدية الخوارزمية ولا يفهمها ولا يميزها، ولكنه يعرف جيداً ما يحتاجه السياح.
وطبعاً كان هذا من الممكن أن يصبح مادة للمناقشة العلنية، وبالنتيجة يصبح مستقبل مصير المشروع تحت علامة سؤال كبيرة. ولكن المشكلة هي بأنه بفضل هذا المركز أصبح مشروعاً يشكل مصدر دخل غير سيء لمجموعة صغيرة من الفتيات، ولو أنه في إطار ضيق، ولكن المشروع تصدى لمسائل إجتماعية ووفر فرص عمل للسكان. وهذه مشكلة واحدة من المشاكل التي تتعرض لها آفاق تطوير التطريز الأوزبكي التقليدي.


ولكن المشكلة القائمة حتى الآن هي في غيرها من قطاعات الفنون الشعبية التقليدية. ولناخذ على سبيل المثال: مدرسة ريشتان للسيراميك الشهيرة، والتي تتمتع بطلب جيد في الأسواق. ولكنهم في ريشتان نفسها ومنذ زمن بعيد فهموا أن شهرة علامتهم التجارية يستخدمها الجميع بنشاط، ويستخدمها كل من يريد أن يبدأ عمله التجاري. وطبعاً، وبفضل هذا الإسم، الذي تكون بفضل الموهبة الصادقة لأحفاد الحرفيين، يسوق هذا السيراميك اليوم بنجاح مقبول.


ولكن هل كل السيراميك الذي يصنع في ريشتان يمكن تسميته بالسيراميك الريشتاني التقليدي ؟! طبعاً لا. لأنه بقي هناك حرفيين إثنين أو ثلاثة فقط، من الذين يعملون وفق التكنولوجيا الريشتانية القديمة، ومن ضمنهم شرف الدين يوسوبوف المشهور في كل العالم. والآخرون يعملون بتكنولوجيا سهلة وسريعة مستخدمين مواد حديثة يسهل الحصول عليها. ومنتجاتهم لا يمكن تسميتها بالسيراميك الريشتاني التقليدي، لأن ذلك ما هو وببساطة إلا أدوات صنعت من السيراميك للإستعمال اليومي، ولكنها صنعت في ريشتان، وأخذت أشكال جمالية بدائية للسيراميك الأزرق الفرغاني.

وما يجري اليوم في الفنون التطبيقية، يشكل ظاهرة تشكلت تحت التأثير الشديد للكثير من تفاعلات الحياة المعاصرة. وهي ليست دائماً نتيجة للعولمة، وعمليات التكامل، ومساعي الحرفيين الحديثين في ظروف اقتصاد السوق، والغرض منها الحصول على دخل.
ومرة أخرى نتجه لخبرة خوارزم، ولكن هذه المرة لصناع السيراميك. في خمسينات القرن الماضي، عندما جرت أعمال ترميم الاثار المعمارية التاريخية في تاشو حاولي، حيث كان يجب العمل على ترميم السيراميك المعماري.
ودعي كل حرفيي خوارزم من الذين عملوا في السيراميك، وفي أكثر الحالات كانوا من أولئك الذين يصنعون أطباق الإستعمال اليومي. وبالنتيجة تغير أسلوب السيراميك الخوارزمي التقليدي جذرياً نحو الجانب الأسوأ.
ومكان النقوش المعمارية النمطية التي تصور أشكال نباتية، جاء الأسلوب البياني لنقوش تشكل نسيج من الخطوط الهندسية، التي كانت من طبيعة الديكورات الهندسية، ولم تكن أبداً من أسلوب السيراميك الخوارزمي المخصص للإستعمال اليومي.

وهنا يمكننا القول اليوم عن مدرسة الفنون التطبيقية التقليدية والمحترفة، بأنها على الأكثر هي عبارة عن مصممين استلهموا عملهم من التكنولوجيات والخلفيات التقليدية والحديثة وتمكنوا من إحداث الجديد منها. وليس حتمياً وقطعاً في هذا أنهم توجهوا في عملهم بالتحديد إلى المدرسة التقليدية الأوزبكية، وأنهم أخذوا من غيرها من الثقافات. ولكن أعمالهم كانت جميلة أيضاً وصنعت بذوق جمالي.
 وعلى سبيل المثال: في طشقند يعمل ورثة أسلوب السيراميكي الشهير موخيت رحيموف، الذي وضع أسس إتجاه جديد في السراميك الأوزبكي، وهو ابن أكبر رحيموف وحفيد علي شير رحيموف، وفي بخارى أسس هذا الإتجاه في حرفة السيراميك على أساس تفاعل مختلف مدارس السيراميك التقليدية في أوزبكستان، وطورها عبد الوحيد كريموف. وفي مثل هذا التطلع للمصصمين نحو مختلف مدارس الفنون التقليدية، هناك أشكال أخرى من الفنون التطبيقية الحديثة. وهذه طبعاً تتشكل من خلال نشاطات ممثلي العوامل المحترفة في الفنون التطبيقية ولها الحق بالحياة والتطور.
ومع ذلك توجد في الأسواق وتعرض الكثير من منتجات المحترفين المتشابه، وهم الذين يصنعون اليوم ما سيصنعونه غداً وهكذا. وأعمالهم لا تتميز غالباً بمواصفات جمالية ونوعية عالية. وقانونياً كل أولئك الحرفيين لهم الحق بالعمل وبيع منتجاتهم. ولكن في هذه الحالة يبرز سؤال حاد اليوم، حول تحديد صفة إنتاج الفنون التقليدية الحقيقية. وهذا المعيار ضروري للتقيم، وقبل كل شيء من أجل أن نحافظ على المدرسة التقليدية العريقة. ومن أجل ذلك يجب إيجاد حلول معينة على المستوى الحكومي. وهذا أكثر بكثير من وضع تسهيلات ضريبية، وعلى فكرة، يعفي اليوم كل الحرفيين عندنا من دفع الضرائب.
ومن الحلول القوية التي يمكنها التصدي لهذه المسألة وفق ما أرى، هي القيام  بأعمال تنويرية واسعة عبر وسائل الإعلام الجماهيرية. لتوعية الحرفيين والمجتمع أيضاً.
ولأن أكثر الحرفيين أنفسهم عندنا يجهلون ما يصنعون. وهنا يجب أن نشرح لهم ذلك، مع ضرورة إحداث مؤسسات لتشجيع وتسجيل منتجاتهم في مختلف مهرجانات الفنون التقليدية. وعلى سبيل المثال: نظمت ممثلية اليونسكو في أوزبكستان، بالتعاون مع أجهزة السلطات المحلية، ورابطة "خونارماند"، مهرجاناً للنسيج التقليدي "أطلاس بايرامي" في مرغيلان (بوادي فرغانة في جمهورية أوزبكستان) خلال سبتمبر/أيلول عام 2015. وحصل من يعمل هناك بالتكنولوجية التقليدية العريقة على "رمز النوعية الجيدة من اليونسكو". ومعها فهموا لماذا حصل أولئك على "رمز النوعية الجيدة من اليونسكو" وليس غيرهم.
وبالنتيجة فهم الحرفيون بأن القيمة الحقيقية هي للمنتج باستخدام التكنولوجيا التي كانت مستخدمة في أواسط القرن التاسع عشر، وليس ما هو منتج بتكنولوجيا أواسط القرن العشرين. لأن الأقمشة المنتجة بتكنولوجيا أواسط القرن التاسع عشر، تتمتع بطلب كبير ليس في أوزبكستان فقط، بل وفي خارجها أيضاً. ولابد أن فهمهم لكل هذا سيشجع على تصحيح الأوضاع مستقبلاً. وهذا يعني أن مثل هذه المهرجانات يجب أن تنظم أكثر، ويجب أن تجرى ليس في أواسط النساجين فقط، بل يجب أيضاً تنظيم ندوات للحرفيين على أسس منظمة، تكرس لإستعراض أهم المسائل التي تواجهها إبداعاتهم.
وفي قضايا التوعية يجب تركيز الإنتباه على كل شيء بالكامل، وخاصة من يؤثر على سير العمليات الفنية.
وطبعاً هام جداً ما يعرضه الصحفيون أيضاً. ومع الأسف أنا أرى دائماً، أن زملائك لا يسمون الأشياء بأسمائها الحقيقية. وعلى سبيل المثال: هناك تحقيق صحفي تحدث عن نهضة الحرف التقليدية في أوزبكستان. ولكن شاهدنا على اللوحات المرافقة للحتقيق الصحفي المنشور فتيات يمارسن عملياً هوايات إبداعية ليست بمستوى عالي. وهذا التبديل في المفاهيم، يمكن أن يكون بالصدفة ودون وعي، ويؤدي بالتالي إلى تشكيل رأي عام غير صحيح في المجتمع.
وعندما يتشكل الوعي الحقيقي يبدأ الناس بالتوجه وبشكل صحيح نحو كل شيء، وكل شيء يصبح في مكانه. ومن دون شك الطلب سيكون على منتجات الحرفيين، وحتى أولئك الذين يعملون وفق التقاليد، وبالتكنولوجيا الحديثة.
ومع الأسف، حتى الآن لا يوجد جهاز حكومي يتمتع بصلاحيات أو منظمات غير تجارية وغير حكومية، تشتغل بقضايا تحديد النوعية الفنية لمنتجات الفنون التطبيقية التقليدية. وبقدر ما تظهر لدينا مثل هذه الهيئآت، بقدر ما تكون الفرصة أكبر للحفاظ على الفنون التقليدية الحقيقية. ومن يعمل بالتكنولوجيا التقليدية العريقة، يحتاج اليوم أكثر لدعم الدولة، لأن تكنولوجيتهم أكثر صعوبة. وهناك قضية هامة أخرى، وهي تشجع إبداعات أحفاد الحرفيين، لأن غياب لجان الشراء الحكومية واختيار الأعمال للمتاحف. وبسبب ذلك نرى أن مجموعات متاحفنا عملياً لا تضم أفضل منتجات حرفيي الفنون التطبيقية التقليدية، المنتجة خلال فترة الإستقلال.
وعلى هذا الشكل، نرى أن المشاكل في مجال الحرف التقليدية غير قليلة، ولكن الحركة الإيجابية العامة لتطوير الفنون التطبيقية القومية، والتي في أساسها يكمن تحرك ودعم الدولة الشامل، يخلق لدينا نحن الخبراء والعلماء التفاؤل.
*****


وبقي أن أشير إلى أن عضو أكاديمية العلوم بجمهورية أوزبكستان أكبر عبد الله ييفيتش حكيموف، كان المشرف العلمي على أطروحة الدكتوراه التي دافع عنها بنجاح الفنان التشكيلي السوري البارز الدكتور محمد غنوم في مطلع تسعينات القرن الماضي بمعهد المعارف الفنية التابع لأكاديمية العلوم بجمهورية أوزبكستان، وأشرف على معارضه الفنية التي نظمها آنذاك في متحف الفنون الجميلة بطشقند، وفي بخارى وسمرقند.
*****
مادة إعدها: أ.د. محمد البخاري، في طشقند بتاريخ 7/2/2016، بتصرف نقلاً عن التحقيق الصحفي بعنوان: "خبير: لماذا بعض نماذج الفنون التطبيقية على شفى الإختفاء ؟" الذي نشرته صحيفة "Uzbekistan Today" يوم 5/2/2016


الأربعاء، 27 يناير 2016

العالم الموسوعي محمود التشاغميني المنحدر من خوارزم

العالم الموسوعي محمود التشاغميني المنحدر من خوارزم


تعتبر أراضي أوزبكستان مهد من مهود الحضارات الشرقية والعالمية، حيث تطورت العلوم والثقافة من أقدم العصور. ومنذ القرن التاسع الميلادي افتتحت في سمرقند، وبخارى، وترمذ، وشاش، وخوارزم، وغيرها من مدن ما وراء النهر أولى المدارس التي أصبحت فيما بعد من أضخم مراكز كل الإتجاهات العلمية.
كانت مدينة غورغانج (أورغينتش المعاصرة) الرائعة في القرن الحادي عشر الميلادي العاصمة الخوارزمية التي تمتعت بثقافة عالية. وكان حاكم الدولة خوارزم شاه أبو العباس بن مأمون، يظهر اهتماماً ملحوظاً بالثقافة والعلوم، وكان يدعم العلماء والشعراء، والمعماريين، والفنانين، بالكامل. وكان قصور خوارزم شاه ملتقى لمفكري الشرق العظام، أمثال: المعلم الطبيب أبو علي بن سينا، والعالم الموسوعي أبو ريحان بيروني، والمؤرخ ابن ميسكويه، وعالم الرياضيات أبو نصر بن عراق، والفيلسوف أبو سهل مسيحي، والطبيب ابن خمار، وغيرهم من العلماء والمفكرين العظام. وتطور الفكر العلمي في خوارزم بنجاح حتى القرن الثالث عشر الميلادي.
ولا يمكن تقديم كوكبة من العلماء الموسوعيين العظماء، المنحدرين من الواحة الخوارزمية، دون تقديم رائد العلوم محمود بن محمد بن عمر التشاغميني الخوارزمي (عاش من نهاية القرن الثاني عشر الميلادي وحتى بداية القرن الثالث عشر الميلادي توفي عام 1221م)، الذي حصل على شهرة كبيرة بفضل إبداعاته المتنوعة. ولم تقتصر نشاطاته العلمية مع غيره من علماء القرون الوسطى، على مجال علمي واحد. ومن الإطلاع على مؤلفات الجد الأوزبكي العظيم، نرى أنها تشملت إتجاهات علمية متنوعة كـ: علم الفلك، والرياضيات، والطب، والجيوديسيا (فرع من الرياضيات)، والجغرافيا، والفلسفة، وغيرها من مواد العلوم الدقيقة.
وإنتشرت أعمال محمود التشاغميني العلمية بشكل واسع في الغرب والشرق على حد سواء. ولكن سيرة حياته لم تدرس دراسة وافية. ومن المعلومات القليلة التي وصلت إلينا حتى اليوم، تشير إلى أنه ولد في قرية تشاغمين، الواقعة بالقرب من عاصمة خوارزم شاه مدينة غورغانج. وكانت خوارزم آنذاك (القرون الوسطى) معروفة كواحدة من المراكز العلمية المؤثرة، ولهذا نراها أنها أثرت بشكل ملحوظ على وجهات نظر الشاب محمود التشاغميني. الذي حصل على تعليمه الأولي في خوارزم، وبعد ذلك غادرها إلى سمرقند لإغناء معارفه العلمية وتكوين مستقبله العلمي. وفيها ركز إهتماماته على مجالات العلوم الدقيقة الواسعة.
ويمكن قياس إسهامات محمود التشاغميني في تطوير العلوم الدقيقة بالدرجة الأولى من اكتشافاته الفلكية. إذ يعتبر كتابه "الملخص في الهيئة" أشبه بموسوعة فلكية، وعرض فيه دراساته للإجسام الفضائية، وغيرها من مجالات علم الفلك. ويتألف الكتاب من مقدمة وجزأين تناول فيهما "المجرات السماوية" و"الأرض". وتضمن الجزء الأول دراسات عن دوران الكواكب الضخمة. وبحث فيه للمرة الأولى وبالتفصيل نظام للتنسيق، مبني على مراقبة السطح الأفقي.
وتبقى القيمة العلمية لهذا العمل في أن الدارسين وجدوا فيه انعكاسات لإنجازات ونجاحات مفكري الشرق وآسيا الوسطى آنذاك، وكذلك نتائج الأبحاث التي جرت في مدارس علم الفلك اليونانية القديمة. ومجموعات مؤلفات محمود التشاغميني ومفاهيم أبحاثه حول مجالات العالم المحيط بنا، تنقسم إلى الأجرام السماوية، وكسوف الشمس والقمر، وطول النهار والليل في اليوم الواحد، وغيرها من المسائل العلمية. واعتبر العالم الكبير أن "الشمس يمكن أن اعتبارها مركزاً للإشعاع على الكواكب الأخرى، وأن الكواكب، ومنها القمر، غير متوهجة". وأن القمر يحصل على النور من الشمس ويعكسه على الأرض، ولهذا اعتبر العالم، الشمس مركزاً للأجرام السماوية.
 كما تجب الإشارة إلى أن محمود التشاغميني كان يعير إهتماماً كبيراً لمسائل استخدام الرياضيات في مجال حل المسائل الفلكية. وبالنتيجة أصبحت أعماله المثمرة اساساً لعلم  المثلثات الكروية، الذي وجدت مفاهيمه الأساسية إنعكاس لها في مؤلفه "الملخص في الهيئة".
ومحمود التشاغميني هو مؤلف الكثير من الأعمال، ومن ضمنها: "مكانة الرقم 9 في الرياضيات"، و"تعليق على الطرق الرياضية لتوزيع الوراثة". وتضمنت مؤلفاته هذه وجهة نظره من أعماله في الرياضيات واستعمالاتها العملية، كما بحث في الكثير من الجوانب غير المكتشفة أو قليلة المعرفة في مسائل الرياضيات.
واعتمد محمود التشاغميني في أعماله التي شملت علم الفلك، والرياضيات، والطب، على أعمال علماء مختلف المراحل الزمنية التي سبقته. وخاصة تلك التي كانت استخدم في التدريس آنذاك في مدرسة ألوغ بيك بسمرقند خلال القرن الخامس عشر الميلادي. وكتب علماء معروفون تعليقات وافية على مؤلفات محمود بن محمد التشاغميني، ومن بينهم: علي بن محمود بن علي حسين جورجاني، وقاضي زاده رومي، ومير سعيد شريف، وبقيت تلك التعليقات حتى أيامنا هذه.
وعلى هذا الشكل نرى أنه كان لأعمال محمود التشاغميني تأثيراً كبيراً على تطوير مواد العلوم الدقيقة، ومنها: الرياضيات، والهندسة، وعلم الفلك. حتى ليصعب القول إلى اي مدى كان يمكن أن تتطور العلوم الحديثة دون التراث المعنوي والتنويري للعلماء الأوزبك الكبار، ومفكري القرون الوسطى الشرقيين العظام غير المعروفين لقراء اللغة العربية.
*****
  بحث أعده أ.د. محمد البخاري في طشقند بتاريخ 27/1/2016 بتصرف نقلاً عن مقالة محمود التشاغميني – العالم الموسوعي المنحدر من خوارزم. // طشقند: وكالة أنباء "Jahon" 27/1/2016، وبعض المصادر الإلكترونية باللغة الروسية