السبت، 5 فبراير 2011

العالم والنابغة الإسلامي أبو ريحان بن محمد بن أحمد البيروني

العالم والنابغة الإسلامي أبو ريحان بن محمد بن أحمد البيروني
بقلم أ.د. محمد البخاري: بروفيسور قسم العلاقات العامة والإعلان بكلية الصحافة، جامعة ميرزة ألوغ بيك القومية الأوزبكية.
العالم الموسوعي، والفيلسوف، والطبيب، والفلكي، والمؤرخ، المسلم أبو ريحان بن محمد بن أحمد البيروني، ولد بمدينة كيات عاصمة خوارزم (ولاية في جمهورية أوزبكستان) بتاريخ 2 ذو الحجة 362هـ، الموافق لـ 4/9/973م. وعاش معظم حياته في وسط آسيا، وكتب معظم أعماله العلمية الشهيرة باللغة العربية وشملت مجالات علوم: السلالات البشرية، والفلسفة، والتاريخ، وعلم الإجتماع المقارن (الستسيولوجيا)، والتنجيم، والفلك، والكيمياء، وعلم سطح الأرض (الجيوديسيا)، والجيولوجيا، والرياضيات، والفيزياء، والطب المقارن، والصيدلة.
ويعتبر الباحثون أن البيروني هو مؤسس علم الإنسان، وعلم الجيوديسيا، وعلم
الميكانيك التجريبي، وعلم الفلك التجريبي. وأنه كان أول من أشار لدوران الأرض حول الشمس، وأول من قدر محيط الكرة الأرضية. ولهذا أطلق عليه لقب "معجزة العلوم في العالم الإسلامي". ومن بينهم المؤرخ الأمريكي ج. ساتون الذي قال: "أن التاريخ، وعلم الفلك، والرياضيات، وعلم مجرات الكواكب، والجغرافيا، وعلم السلالات البشرية، والفلسفة، وعلم الآثار، وعلم النبات، وعلم المعادن، كلها كانت علوم يتيمة لو لا ذكائه العظيم".
وبمناسبة مرور ألف عام على مولده تقديراً من الهيئات العلمية العالمية للجهود العلمية التي قام بها أبي ريحان بن محمد بن أحمد البيروني أصدرت أكاديمية العلوم السوفيتية مجلدًا تذكاريًا عنه، وأقامت جامعة موسكو الحكومية تمثالاً له وضع في المتحف الجيولوجي تخليداً لذكراه كواحد من عمالقة علماء الجيولوجيا في العالم. وصدر في الهند مجلدًا تذكاريًا عنه بهذه المناسبة أيضاً.
وأثناء الإحتفالات التي أقيمت بذكرى مرور ألف عام على مولده في جمهورية أوزبكستان التي يقع على أراضيها اليوم موطنه الأصلي، أطلقت أكاديمية العلوم اسمه على معهد الإستشراق التابع لها، وهو المعهد الذي تحتفظ خزائنه بأكبر مجموعة من المخطوطات الإسلامية في العالم، وأطلقت وزارة التعليم العالي والمتوسط التخصصي اسمه على المعهد الحكومي العالي للبوليتخنيكا، وأقامت السلطات المحلية تمثالاً له لم يزل قائماً حتى اليوم في العاصمة طشقند، تقديرًا لمآثره العلمية. وفي عصر غزو الفضاء الكوني أطلق اسمه على فوهة بركانية على سطح القمر تقديراً لأعماله الجليلة، لأنه كان أول من صمم رسماً بيانياً لخسوف القمر وأضح أن ما يحدث خلال ذلك ما هو إلا أن الأرض تحجب ضوء الشمس عن القمر.
ونشأ أبو ريحان البيروني، يتيماً بعد أن فقد والديه في سن مبكرة. وأطلق عليه لقب "البيروني" (صاحب الأنف الضخم) لضخامة أنفه. وأخفى هذا العبقري الفذ وراء منظره القبيح ذكاءاً نادراً، لاحظه الوزير وابن عم خوارزم شاه ابن عراق. الذي شمله برعايته، وهو ما أشار إليه البيروني في كهولته وقال: "أسرة ابن عراق أطعمتني حليبها وقدمتني للناس".
وفي شبابه حصل البيروني على تعليم متميز في الرياضيات والفلسفة. وكان أول أساتذته أبو نصر منصور بن عراق الجادي، مؤلف أعمال أصيلة في علم الفلك، والرياضيات، وقياس الزوايا.
وخلال حياته كان البيروني يعتبر أن كل ماهو موجود في الطبيعة يقاس بقوانين الطبيعة نفسها، وأن الوصول لتلك القوانين ممكن عن طريق العلوم نفسها. وكرس أعماله الأساسية للرياضيات، وعلم الفلك، التي كانت تتمتع آنذاك بأهمية كبيرة في الحياة الإجتماعية والإقتصادية في دولة خوارزم المسلمة، والتي اسخدمتها لتحديد مواعيد الصلاة، وتعيين التقويم الهجري، ولتحديد مواسم الري، والزراعة، والتجارة، وتعيين الإتجاهات خلال الترحال. وكان من المعروف أيضاً أن من أسباب اهتمام الدولة الإسلامية منذ بداياتها الأولى بعلم الفلك كان للتمكن من وضع تقويم صحيح يحدد بدايات الأشهر القمرية الإسلامية، ويحدد مواعيد الصلاة، وهو ما سعى العلماء لتحقيقه دائماً، وكان من أهم مهام علماء الفلك آنذاك تطوير التقويم، وتحديد طرق توجه القوافل والمسافرين ليلاً بواسطة النجوم. وهو ما تطلب معرفة كيفية تحديد موقع الشمس، والقمر، والنجوم، في السماء بدقة كبيرة، وكيفية قياس انحناءات خطوط الطول على خط الإستواء، وحساب أبعاد الشمس والقمر والنجوم خلال العام. واحتاج ذلك تطوير الرياضيات، وصناعة أدوات قياس الزوايا، واستخدامها في أعمال المراقبة الدقيقة للفضاء الكوني وتطويرها وهو ما قام به البيروني، ولكن ومع الأسف بقيت نتائج أبحاثه في هذه المجالات ولعدة قرون مهملة.
والبيروني كان أول من حدد بدقة تقريبة محيط الأرض، بأكثر من 6000 كيلو متر. وأول من أشار لكروية الأرض. وكان أول من وضع خريطة جغرافية للعالم.
وبعد دراسته لأفكار فلاسفة اليونان والهند القدماء في مجال علم الفلك وطويرها أثبت أن:
- طبيعة الشمس والنجوم نارية؛
- وأنها تتميز عن غيرها من الأجسام المظلمة في الفضاء الكوني؛
- وأشار إلى حركة النجوم وإلى حجومها الضخمة مقارنة بالأرض؛
- وأشار لجاذبية الأرض، وقال: «أن الأجسام تسقط على الأرض بسبب قوة الجذب المتمركزة فيها»؛
- وعلى أسس علمية موضوعية شكك بنظرية بطليموس، مثبتاً أن الشمس تدور حول الأرض، وأن الأرض مثلها مثل الكواكب الأخرى تدور حول الشمس". وشبه ظاهرتي الفجر والمساء بأشعة الشمس المختبئة وراء الأفق. وقال أنها "أشبه بالدخان"؛
- وأشار لطبيعة الأذناب المضيئة حول أشعة قرص الشمس (تاج الشمس) أثناء الخسوف؛
- وابتكر طرقاً لقياس الأطوال في علم الفلك؛
- وابتكر قبل 600 عام من و. سنيليوس طريقة لقياس الأبعاد؛
- وطور الأدوات الرئيسية المستخدمة آنذاك في علم الفلك، كـ (الإسطرلاب، والزوايا الفلكية، ومقاييس الزوايا)؛
- وبنى أول مرصد لقياس الزوايا الفلكية بلغ محيط مركزه 7.5 أمتار للقيام بمراقبة دقيقة للشمس والفضاء الكوني، وظل لأكثر من 400 عام أكبر مرصد في العالم، ومن خلاله قام بقياس إنحرافات الزوايا عن محيطها، وحدد كسوف الشمس والقمر لعدة قرون بدقة متناهية.
وفي أول مؤلف له عن تاريخ تقاويم الشعوب القديمة (عام 1000م) قام البيروني بجمع وصوف لكل نظم التقاويم المعروفة والمستخدمة آنذاك لدى شعوب العالم. وكتب أبحاثاً متميزة في علم الفلك أوردها في كتابه "شرح مبادئ علم الفلك" وغيره من مؤلفاته العلمية. وكانت أول مؤلفاته الكبيرة رسالة علمية عرفت باسم "الآثار الباقية في تقاويم وأعياد الفرس، وأهل الشام، واليونان، واليهود، والمسيحيين، والصابئين، والزرادشتيين، والعرب"، وكانت دراسة نزيهة إلى درجة غير مألوفة، ومنزهة إلى أقصى الحدود عن الأحقاد الدينية.
ورغم أن البيروني كان ميالاً للمذهب الشيعي، فقد كان ذا نزعة تشكيكية خالية من المباهاة والادعاء، وظل محافظاًعلى وطنيته الفارسية، وأنحى باللائمة على العرب لقضائهم على ما كان من حضارة عظيمة في العهد الساساني. ومع ذلك ظل موقفه، موقف عالم ذو نظرة موضوعية، مجد في البحث العلمي، وناقد للروايات المتناقضة والنصوص الدينية بما فيها نصوص الإنجيل. وكان مدققاً، نزيهاً، ذو ضمير حي بأحكامهِ. وكثيراً ما كان يعترف بجهلهِ، واعداً بمواصلة أبحاثه العلمية حتى تنكشف الحقيقة جلية.
وفي مقدمة كتابه "الآثار الباقية" اتفق بالرأي مع فرانسس بيكن وقال: "... بعد تنزيه النفس عن العوارض المردية لأكثر الخلق، والأسباب التي تعمي صاحبها عن الحق، وهي مألوفة كالعادة، في التعصب، والتظافر، وإتباع الهوى، والتغلب بالرياسة، وأشباه ذلك، وبغير ذلك، لا يتأتى لنا نيل المطالب إلا بعد العناء الشديد والجهد الجهيد".
وأثناء حكم الحكام المحليين في خوارزم، عاش البيروني في كيات، وكورغان، وبعدها عاش بقصر شاه مأمون، وترأس "أكاديمية المأمون" التي جمعت أبرز العلماء، ومنهم ابن سينا، والخوارزمي، مؤسس علم الجبر. وبقيت مراسلاته التي تحاور فيها مع ابن سينا حول كتب أرسطو، حتى اليوم.
وفي عام 1017 استولى السلطان محمود الغزنوي على خوارزم، وانتقل البيروني للعيش في غزنة بقصر السلطان محمود، وقصر مسعود، ومودود، من بعده. وشارك في حملات السلطان محمود على الهند، وعاش هناك لعدة سنوات. ولكن مرحلة غزنة كانت أفضل مرحلة من مراحل إبداعاته العلمية. وركز البيروني اهتمامه بعد انتهاء رحلته إلى الهند، على مؤلفه الرئيسي "
ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة" شرح فيه إعتماد علماء الهند، على العقل أو رفضه، وأنهى كتابه "الهند" في عام 1030م.
وبعد وفاة السلطان محمود تولى السلطة من بعده ابنه مسعود، وأسغب على مواهب البيروني بعطفه الكبير. وقال البيروني عنه: "أعطاني الإمكانيات بالكامل لأخصص مابقي من حياتي في خدمة العلم، وسمح لي بالعيش في ظل قدراته..". وفي تلك السنوات كتب البيروني مؤلفه الأساسي "قانون مسعود في علم الفلك والنجوم"، وضمنه وصفاً لخارطة العالم.
ويقع التراث العلمي للبيروني في 150 عمل علمي شملت: الرياضيات، وعلم الفلك، والجغرافيا، وعلم المعادن، والتاريخ، وعلم السلالات البشرية، والأدب، والفلسفة. وكعالم بارز مجرب، اسهم في توسيع فهم الأعداد، ونظرية التفاضل، وقياس المثلثات الهندسية، ووضع جداول لقياس المثلثات، بنيت كلها على دراساته وحساباته التي قام بها خلال سنوات عديدة قضاها بدراسة علوم مختلف الشعوب. وابتكر مبدأ عاماً لوضع التقاويم، وتقسيم الأرض. وسمحت له معرفته للغات: العربية، والفارسية، واليونانية، والسريانية، والسنسكريتية، بوضع مبادئ لترجمة المصطلحات العلمية في العلوم الحية من لغة إلى أخرى.
وفي مؤلفه "الهند" عام 1030م أعطى البيروني شرحاً مفصلاً لحياة، وثقافة، وعلوم الهنود، وكتب عن نظمهم الدينية والفلسفية. واستخدم في مؤلفاته طرقاً للمفاضلة وذكر أنه: "قدم نظريات الهنود، كما هي، وبالمقارنة معها تطرق لنظريات اليونان، ليثبت تقاربها". وتطرق لمؤلفات غومير، وبلاتون، وأرسطو، وغالين، وغيرهم من المؤلفين اليونان. وقارن بين الفكر الهندي والإسلامي، وأبرز فيها خاصة علماء الصوفية واعتبر أنهم أكثر قرباً لنظريات سانهي، ويوغا، الهندية. وتطرق خلال مقارناته لعادات وتقاليد مختلف الشعوب مستعرضاً خصائص حياة السلافيين، والتيبتيين، والخزريين، والآتراك، والعرب، وغيرهم من الشعوب. وتمكن من وضع نظام لكتابة اللغات الأخرى بالإعتماد على أحرف الكتابة العربية، وتفوق نظامه كثيراً على النظم المعاصرة، وسمح نظامه بكتابة الكلمات الهندية بلغة الأوردو. وأثناء تأليفه لكتابه "الهند" ترجم البيروني "سانهي" و"يوغوسوتري باتانجالي" إلى اللغة العربية، وأتبعها بترجمة للـ"البداية" ليوكليد و"ألماغيستا" لبوتوليميا إلى اللغة السنسكريتية.
وكباحث مبدع أشار البيروني إلى ضرورة التحري الدقيق للمعرفة بالخبرة وقال: "الشك ينشأ أثناء البحث، والنفي، ممكن بالخبرة وتكرار التجربة". وناقض بمعارفه التجريبية العقل المنظور. واستناداً للعقل المنظور نفى الشك بالنظام الفضائي لأرسطو.
وفي سن متقدمة فقد البيروني بصره، ومع ذلك بقي حتى الرمق الأخير من حياته يعتبر أن العامل الرئيسي لاستمرار حياة الروح الواعية هو "آلية" التفكير. وتوفي أبو ريحان بن محمد بن أحمد البيروني ووري جسده التراب بغزنة يوم 12/12/1048م.
ومن أعماله الكثيرة التي خلفها لنا:
- "
ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة
- و"الاستيعاب في تسطيح الكرة"؛
- و"التعليل بإجالة الوهم في معاني النظم"؛
- و"التفهيم لأوائل صناعة التنجيم"؛
- و"تجريد الشعاعات والأنوار"؛
- و"الجماهر في معرفة الجواهر"، الذي وضع فيه الوزن النوعي لبعض الأحجار الكريمة والفلزات المعدنية كـ:
الياقوت، واللؤلؤ، والزمرد، والألماس، والفيروز، والعقيق، والمرجان، والكوارتز، والزئبق، والذهب، والفضة، والنحاس، والحديد، والرصاص، وغيرها؛
- و"التنبيه في صناعة التمويه"؛
- و"الآثار الباقية عن القرون الخالية في النجوم"؛
- و"التاريخ"، وهو مجلد في كتاب مفيد ألفه لشمس المعالي قابوس وبين فيه التواريخ التي استعملتها الأمم على اختلاف أصولها ومبادئها؛
- و"الإرشاد في أحكام النجوم"؛
- و"الاستشهاد باختلاف الأرصاد" وقال فيه: أن أهل الرصد عجزوا عن ضبط أجزاء الدائرة العظمى بأجزاء الدائرة الصغرى فوضعتها في مؤلفي لإثبتها؛
- و"الشموس الشافية"؛
- و"العجائب الطبيعية والغرائب الصناعية"، وتحدث فيه عن العزائم والنيرنجيات والطلسمات وما يغرس به اليقين في قلوب العارفين ويزيل الشبه عن المرتابين؛
- و"القانون المسعودي في الهيئة والنجوم، وألفه لمسعود بن محمود بن سبكتكين (محمود الغزنوي) في سنة 421 هـ؛
- وكتاب "الأحجار"؛
- و"مختار الأشعار والآثار"؛
- وكتاب "استخراج الأوتار في الدائرة بخواص الخط المنحني فيها"؛
- وكتاب "الصيدنة" الذي يعتبر من أهم الكتب التي كتبها البيروني، وهو في علم الصيدلة (وكان يطلق عليه في التراث علم "الأقرباذين")؛
- وكتاب "الجماهر في معرفة الجواهر" وهو من أنفس كتبه على الإطلاق، وأوضح فيه أنواع الأحجار والجواهر وخصائصها الطبيعية، وأوضح كيفية قياس وزنها النوعي، وأوضح فيه طريقة قياسه للأوزان النوعية، الأوزان النوعية لبعض العناصر، وهو مما لا يخرج عما توصلت إليه العلوم الحديثة.
وتقع مخطوطة كتابه الأول "الصيدنة" في 427 صفحة، والنسخة الموجودة منه مؤرخة بعام 678هـ، وكتبت بخط إبراهيم بن محمد التبريزي، الذي نقلها عن نسخة أصلية بخط المؤلف البيروني. والمخطوطة مقسمة إلى مقدمة وخمسة فصول:
وتضمن الفصل الأول: تعريف لمصطلح "الصيدنة" و"صيدناني" لغويًّا وأشار إلى أنه معرب عن كلمتي "جندل" و"جندناني" وهما كلمتان هنديتان تعبران عن بائع العطور والأعشاب والأدوية، والقائم بمزجها، وحرف "ج" الهندي يقلب في العربية إلى "ص"، وأصل "الجندل" هو نبات شهير عند الهنود والعرب، وهو في العربية "الصندل"، ثم أوضح أن عبارة "الصيدلاني" أفضل في التعبير عن هذه المهنة، وهذه اللفظة التي اختارها هي المستقرة في اللغة العربية حتى اليوم، وقام بتعريف مهنة الصيدلاني: وقال أنه "محترف جمع الأدوية على أحمد صورها واختيار الأجود من أنواعها، مفردة ومركبة على أفضل التراكيب التي خلَّدها مبرزو أهل الطب، وهذه هي أولى مراتب صناعة الطب".
وفي الفصل الثاني: قدم شرحاً للأدوية والعقاقير، وابتدأ بتعريف أصل كلمة "عقار" وهي كلمة سريانية تعني الجرثومة وتعني الدواء القاضي عليها، وقد قسَّم العقاقير إلى ثلاثة أنواع:
- الأدوية؛
- والأغذية؛
- والسموم.
وكل منها فيه ما هو مفرد وما قد يكون مركبًا، وأن الدواء السُّمّي يحتاج إلى محترف بارع مجرب ليخفف أثر السم، ويحصل الجسم العليل على فائدته.
وتضمن الفصل الثالث: شرحاً لأنواع الأدوية المفردة، والأنواع المركبة، ثم قام بشرح دور الصيدلاني في أمرين:
- أحدهما الحذف: وهو أن ينقص الدواء من أحد العناصر الموصوفة من الطبيب متى عجز الصيدلاني عن توفيره، حرصًا على توفير الدواء الممكن لعلاج المريض، ولكن يجب أن يفقه الصيدلاني بأهمية العنصر لسائر العناصر ودوره في علاج المرض؛
- والثاني التبديل: وهو إبدال عنصر مكان عنصر، وذلك في حالة إذا ما توفر نوع قريب الشبه في الخصائص والأداء في الجسم من عنصر مفقود، وهذا يحتاج إلى معرفة دقيقة بخصائص العناصر المختلفة وأدائها في الأجسام وعملها مع غيرها من العناصر في إزالة العلل من الأجساد، ويتطلب هذا من الصيدلاني تغيير نسب الدواء المنصوص عليها، ويحتاج إلى خبرة ومعرفة طويلة، حتى لا يجلب الضرر للمريض بدلاً من الشفاء. وأشاد البيروني فيه بالأطباء والصيادلة اليونان وأثنى على فضلهم في هذا المجال.
وتضمن الفصل الرابع: شرحاً لمآثر اللغة العربية وقدرتها على التعبير عن سائر الأفكار والعلوم، وفضلها على سائر اللغات الأخرى، وسعتها في تقبل المصطلحات العلمية الوافرة من العلوم المترجمة من الحضارات والثقافات الأخرى.
وتضمن الفصل الخامس: شرحاً لطرق الحصول على العلوم والمعارف من منابعها الأصلية، وأهمية معرفة لغات عديدة، وقال عن نفسه: إني أعرف أسماء الأدوية والعقاقير في اللغات المختلفة. وأوضح خطورة الخطأ في قراءة اسم العقار، خاصة أن العربية بها خاصية التشكيل التي قد تغير معنى اللفظة تغييرًا كليًّا، وضرب أمثلة على ذلك من خلال عرضه لبعض الروايات في صرف الأدوية خطأ بسبب القراءة المغلوطة لاسم الدواء، ثم بدأ في عرض أسماء مجموعة كبيرة من الأدوية، مع شرح دور كل عنصر فيها وخصائصه، واسمه في اللغات المختلفة، وفق الحروف الأبجدية.
وأورد في شرحه العناصر ببساطة لأنها من الأمور الشهيرة والمعروفة عنده، وهي ما أكدتها العلوم الحديثة أيضاً، مثل حديثه عن "الإسرنج" وهو أكسيد الرصاص الأحمر وكيف تؤثر النار فيه، وفعل الكبريت المنصهر أو بخاره في هذا الأكسيد، وتغيُّر لون الأكسيد في كل تجربة. ووصفه لطريقة تحضير "الزنجار" وهي كربونات النحاس القاعدية، وكيفية استعمالها في التهابات العيون، وأوضح الفرق بينها وبين كبريتات النحاس، وأن الأولى تتحول إلى اللون الأحمر الغامق عند التسخين بعكس الثانية، وهو ما يعرف اليوم بأن كربونات النحاس تتحلل بالتسخين إلى أكسيد النحاس وثاني أكسيد الكربون، أما كبريتات النحاس فلا تتغير في اللون. ووصف استخراج الزئبق وقال أن "أحجاره حُمْر تنشق في الكُور (أي في الفرن الساخن) فيسيل الزئبق منها". ومن هذا العرض المختصر نستطيع أن نتعرف على صورة من صور أداء علماء الصيدلة، وكيف جمعوا تراث من قبلهم، وأضافوا عليه، ونقلوه إلينا.
ومن كتبه الهامة الأخرى كتاب "الآثار الباقية في القرون الخالية" الذي تضمن معارف شتى ومتنوعة عن الأمم السالفة، وأشار في مقدمته بأنه "سُئل من قبل أحد الأدباء عن التواريخ التي تستخدمها الأمم والاختلاف الواقع في الأصول التي هي من مبادئها، والفروع التي هي شهورها وسنيها، والأسباب الداعية لأهلها إلى ذلك، وعن الأعياد المشهورة والأيام المذكورة للأوقات والأعمال وغيرها"، ومن فحوى هذه الأسئلة يظهر لنا أنها كانت سبباً لتأليف الكتاب الذي احتوى على:
1. مقدمة أوضح فيها المنهج العلمي الذي اتبعه لتأليف الكتاب، وبلغ بهذا المجال مستوى متطوراً جداً قياساً بعصره وإمكانياته، وأشار بوضوح إلى أن طبيعة الموضوع المعالج هي التي تحدِّد المنهج الملائم وليس العكس، وقال: "أن العالِم لا يستطيع أن يبدع بالعلم فجأة وبدفعة واحدة بل عليه أن يعود إلى مناهل العلم في الآثار التي تركها السلف. وينبغي أن ندرس ما وصل من السلف ونخضعه للنقد وللمقاييس العقلية وللمراقبة والاختبار لتمييز الخطأ عن الصواب، وأن نحذر الثقة العمياء بالآراء ومصادرها. وللتأكد من صحة الأدلة العقلية لا بد من تطبيقها على المحسوسات تطبيقاً مادياً في كافة حقول العلم المتنوعة.
والعالِم الحقيقي هو الذي يبتعد عن التعصب لرأي ويبتغي الحقيقة المطلقة بمعزل عن الأهواء والرغبات، وهو الذي يسعى وراء الحقيقة لأنها حقيقة، لا للتظاهر والمفاخرة بالمعرفة، فالتواضع من أهم صفات العالم".
2. بحث في اليوم والشهر والسنة عند مختلف الأمم، وخلص إلى وجوب اعتماد اليوم أساساً للبحث، لأن اليوم وحدة زمنية ثابتة بينما الأشهر والسنون يختلف مقدارها باختلاف الأمم، واليوم هو:
- عودة الشمس بدوران الفلك إلى دائرة افترضت ابتداءً لذلك؛
- والعرب تبدأ حساب اليوم الكامل منذ الغروب لأن أشهرهم تبدأ بظهور الأهلة ولا تبنى على الحساب؛
- أما الروم، والفرس فقالوا أن النهار سابق لليل، وأن كامل اليوم هو من أول طلوع الشمس من المشرق إلى طلوعها منه في الغد؛
- ومعظم علماء الفلك افترضوا أن اليوم يبدأ من موافاة الشمس فلك نصف النهار إلى موافاتها إياه في نهار الغد.
3. وانتقل بعد ذلك إلى ما يركّب من الشهور والأعوام وقال: أن السنة هي عودة الشمس في فلك البروج إلى أي نقطة افترضت ابتداء لحركتها وذلك بعد أن تستوفي الفصول الأربعة وتنتهي إلى حيث ابتدأت، وتتفاوت نتائج الأرصاد في كمية السنة من الأيام وكسورها تفاوتاً غير محسوس، لكنه عند امتداد المدة يصبح خطاً كبيراً تنبه إليه العلماء، حيث أنه من خلال عودة الشمس من فلك البروج يكون القمر قد استوفى 12 عودة وأقل من نصف العودة وبعد إسقاط الكسر الذي يساوي 11 يوماً على التقريب، أخذت عوداته الـ 12 أساساً للسنة القمرية وصار للناس سنتان قمرية وشمسية وعليهما بنوا سائر سنيهم.
- وأخذ الروم، والسريان، والكلدان، والفاطميون، بالسنة الشمسية وهي 365 يوماً وربع اليوم؛
- وجعل الروم شهورهم 12 شهراً وكبسوا ربع اليوم كل أربع سنوات على شهر فبرايوس ليصبح 29 يوماً وسموا السنة سنة كبيسة؛
- أما الأقباط فقد اعتمدوا السنة الشمسية لكنهم فصلوا الأرباع وكبسوها سنة كاملة كل 1460 سنة؛
- واعتمد الفرس السنة الشمسية، غير أنهم جعلوا الشهر 30 يوماً والسنة 360 يوماً وألحقوا الكسور بها، وكبسوها كل 6 سنوات بشهر، وكل 120 سنة بشهرين، أحدهما بسبب الخمسة أيام، والثاني بسبب ربع اليوم؛
- وأخذ اليهود والصابئة سنتهم من مسير الشمس وشهورهم من مسير القمر، فجعلوا سنتهم 12 شهراً وعدد أيامها 354 يوماً وهي أيام السنة القمرية، وألحقوا الأيام الباقية بالشهور إذا استوفت أيام شهر واحد، وسموه آذاراً الأول، وسموا آذاراً الأصلي بالثاني، والسنة الكبيسة سموها عبوراً، فكبسوا كل 19 سنة قمرية بسبعة أشهر؛
- وكان العرب في الجاهلية يحسبون فرق السنة الشمسية والقمرية البالغ 10 أيام و20 ساعة و12 دقيقة وكبسوا سنتهم بشهر كامل كلما تم منها ما يستوفي أيام الشهر، وكانوا يلجأون إليه كل سنتين أو ثلاث ليثبِّتوا حجَّهم على حالة واحدة، وقت أفضل الأزمنة وأخصبها، ومنهم من كان يكبس كل 24 سنة قمرية بتسعة أشهر، وبقيت شهور العرب ثابتة مع الأزمنة لا تتأخر عن أوقاتها ولا تتقدم حتى حجَّ النبي محمد "ص" حجَّة الوداع، ونزلت الآية الكريمة " إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِين"، فأهملوا النَّسْءَ، أي: الكبس، وزالت شهورهم عمَّا كانت عليه وأصبحت غير مؤدية لمعانيها، ومنذ السنة السابعة للهجرة النبوية من مكة المكرَّمة إلى المدينة المنورة 23/9/622م، بُدئ التأريخ بالسنة الهجرية وتقوم على رؤية الأهلَّة؛
- وشهور العرب اثنا عشر شهراً، وهي: محرّم، وصفر، وربيع الأول، وربيع الآخر، وجمادى الأول، وجمادى الآخر، ورجب، وشعبان، ورمضان، وشوال، وذو القعدة، وذو الحجّة. وكانت سنتهم تبدأ في الخريف ويسمونه الربيع، ثم الشتاء، ثم الصيف أو الربيع الثاني، ثم القيظ، والأشهر (محرم، رجب، ذو القعدة، ذو الحجة) سمَّوها الأشهر الحرم لأنهم حرموا القتال فيها، وسمي صفر لوباء كان يصيبهم فتصفرّ وجوههم، وقيل لاصفرار الأرض، أما جمادى الأول والآخر فيتناسبان مع البرد والشتاء والتجمّد، ورجب لأنهم أرجبوا أي كفُّوا عن القتال، وشعبان لانشعاب القبائل فيه إلى المناهل وطلب الغارات، ورمضان حينما يبدأ الحسر وترمض الأرض، وشوال لأنهم شوَّلوا أي ارتحلوا، وقيل لأن الإبل تشول فيه أذنابها من شهوة الضراب لذلك كرهت العرب التزاوج فيه، وذو القعدة لما قيل فيه: اقعدوا وكفوا عن القتال، وذو الحجَّة لأنه الشهر الذي يحجُّون فيه؛
- وأطلق الروم أسماءً لأشهرهم منها: يوريوس، فبرايوس، أغسطس، مرطيبوس؛
- ومزج نصارى بلاد الشام والعراق وخراسان شهور اليهود، والروم، وأول سنتهم شهر طمبريوس وهو تشرين الأول لتكون أقرب إلى سنة اليهود، ثم سموها بأسماء يونانية وهي: تشرين قديم، تشرين حراي، كانون قديم، كانون حراي، شباط، آذار، نيسان، آير، حزيران، تموز، أيلول. وأخذ المسلمون هذه التسميات بعد أن عدلوا بها "قديم إلى أول"، وحراي إلى آخر ثم إلى ثان، وزادوا ألف على آير لتصبح أيار؛
- أما أيام الأسبوع فكانت عند العرب على الشكل التالي: أوَّل (الأحد)، أهْوَن، جُبَّار، دبَّار، مؤنس، عَرُوبة، سيَّار، ثم استحدثوا أيام الأسبوع المعروفة حالياً.
وذكر البيروني في كتابه أعياد العرب وأسواقهم ومواقيتها ومددها، وأعياد المجوس، والصابئة، وأورد مختلف التقاويم التي تعتمدها مختلف الأمم وما طرأ عليها من تعديل، وأورد جداول تاريخية لملوك أشور، وبابل، والكلدان، والقبط، واليونان، وفارس، وفترات حكمهم، وبيّن اختلاف أقوال الناس فيهم، وتكلم عن أعياد الطوائف المختلفة وأسماءها وتواريخها، وعن الوثنيين وأصحاب البدع في سائر الأمم، وتحدث عن منازل القمر، طلوعها وسقوطها، وعن العناصر والأزمنة والنجوم وحركاتها، وعن الفلك وحركته، وأفرد فصلاً للحديث عن قاعدة أوجدها لتسطيح الكرة وأدى اكتشافه هذا إلى تقديم خدمة كبيرة لمصممي الخرائط الفلكية مكّنتهم من الرسم على جسم كروي. وتعرّض البيروني لأمور كثيرة وهامة في كتابه، كمسألة حقيقة لقب الإسكندر بذي القرنين، وذكر روايات مختلفة بهذا الشأن. وانتقل في فصل آخر إلى كيفية تحريف الأنساب، وحدد نسب النبي محمد "ص"، ونسب شمس المعالي، ثم توسع في مسألة الألقاب ليشمل الخلفاء وحدد بعضها بـ"ولي الدولة، وعميد الدولة، وعضد الدولة".
وأورد البيروني في كتابه مجموعة كبيرة من الجداول الهامة جداً منها:
- جداول أوائل الشهور وأيامها عند مختلف الأمم مع إشارات إلى السنين الكبيسة؛
- وجداول استخراج ومعرفة التواريخ وحسابها عند جميع الأمم؛
- وجداول تعيّن رأس السنة عند مختلف الشعوب وإفطار صومهم الكبير، والفصح المصحح، وشهر الفصح، والصوم الأوسط، وأيام الأعياد والمناسبات الخاصة بكل شعب وعاداتهم الخاصة؛
- وجداول أخرى أوضحت الفصول وعينت بدء كل فصل من الفصول عند الروم، والسريان، والفلكيين، واليونان، والكلدان، والعرب، والقبط، والطبيعيين.
وأنهى البيروني كتابه بقوله: "قد آن أن نختم القول، فقد أنجزنا الوعد من علم ما سُئلنا عنه على قدر الوسع وما أوتينا من العلم بذلك".
وتأتي أهمية "كتاب الآثار الباقية في القرون الخالية" في إطار أهمية التراث، خاصة وأن مسألة التراث تحتل اليوم مركز الصدارة، وخاصة عند الشعوب التي لا تزال في بداية نهضتها، وهي ملزمة شاءت أم أبت بأن تعود إلى تراثها لتتعرف على أصالتها وهويتها، وبذلك تغدو أهمية الكتاب عظيمة جداً وخاصة عند العودة لمضمونه الذي يتمتع بقيمة تاريخية وعلمية وثقافية كبيرة. خاصة وأن البيروني ضمّن كتابه معلومات ضخمة ومن مصادر مختلفة لأمم متعددة، ليكون عبارة عن موسوعة تاريخية هامة لشعوب كثيرة، ولم يكتفِ بجمع مادتها، بل راح يفحصها وينقدها ويقيم الموازنات بينها ليخرج باستنتاجات منها، ثم عرضها مبسطة ومرتبة وقريبة لأذهان الناس، وجنب الباحثين ضرورة مطالعة المصادر الأصلية التي فقد معظمها. وهكذا حفظ البيروني تراث الأمم السابقة من الضياع، وقدم خدمة كبيرة للحضارة الإسلامية والإنسانية، وهو ما دفع العالم ساخو إلى ترجمة كتاب البيروني إلى اللغة الإنكليزية في أواخر القرن التاسع عشر.
كما ويتمتع كتاب "الجماهر في معرفة الجواهر"؛ ومخطوطة كتاب "القانون المسعودي" بأهمية كبيرى إلى جانب غيرها من الكتب التي ألفها أبو ريحان بن محمد بن أحمد البيروني.
ومن أهم منجزات البيروني في الرياضيات والفيزياء إسهامه في تقسيم الزاوية إلى ثلاثة أقسام متساوية، وإعداده لجداول في الرياضيات، وجداول للظل، وضلوعه بعلم المثلثات، وقانون تناسب الجيوب. ووضعه لمعادلة رياضية تمكن من استخراج مقدار محيط الأرض، عُرفت بقاعدة البيروني. وتأكّيده بشكل واضح أن: "ليست الشمس هي سبب تفاوت الليل والنهار بل أن الأرض ذاتها هي التي تدور حول نفسها وتدور مع الكواكب والنجوم حول الشمس" قبل خمسمائة عام من كوبرنيكوس، الذي ينسب إليه خطأ أنه أول من تحدث عن حركة الأرض حول نفسها وحول الشمس.
كما توصل البيروني لاستخراج الثقل النوعي لكثير من الأجسام الصلبة والسائلة مستعيناً بمبدأ أرخميدس، وابتكر آلة سماها "الآلة المخروطية" أو "الميزان الطبيعي" وهي أقدم آلة استعملت لقياس الثقل النوعي وأعطت نتائج مذهلة تتناسب تقريباً مع الأرقام الحديثة، وتتلخص طريقته بوزن جسم المادة المراد تعيين ثقلها النوعي في الهواء أولاً، ثمَّ وزنه ثانية في الماء داخل الآلة المخروطية، وبعد ذلك وزن الماء الذي أزاحه ذلك الجسم، فوصل إلى معرفة حجم الجسم الموزون، ومن قسمة وزن الجسم في الهواء على وزن الماء المزاح حصل البيروني على الثقل النوعي للجسم الموزون. وتوصل لنتائج قريبة جداً مما هو معروف في العلوم الحديثة، وشملت الثقل النوعي للـ: الذهب، والزئبق، والنحاس، والرصاص، باختلاف بسيط يعود لعاملين:
- تطور التقنيات الحديثة؛
- واستخدامه للماء العادي في أبحاثه، بينما يستخدم الماء المقطر في العلم الحديث.
وعيّن البيروني الثقل النوعي لثمانية عشر نوعاً من الأحجار الكريمة منها: الياقوت الأحمر، و الزمرد، والعقيق، واللؤلؤ.
وفي كتابه "المسعودي" تحدث البيروني عن نوعين من الجاذبية هما:
- جاذبية الأرض لما عليها وحولها؛
- وجاذبية السماء للأرض.
وقال بأن الجاذبية القصوى تقع في باطن الأرض، لكنه لم يستطع التوصل إلى قانون يحدد قوة الجاذبية. ولكن لا يخفى عن أحد أن اكتشافاته، واكتشافات ثابت بن قرة، والخازني في هذا المجال والتي مهَّدت الطريق أمام اسحق نيوتن ليحدِّد قانون قوة الجاذبية.
كما أثبت البيروني أن الضوء أسرع من الصوت. وتحدث عن ضغط السوائل وتوازنها، ووضع أسس ما يسمى اليوم علم الهيدروستاتيك، وشرح كيفية صعود مياه الفوّارات والينابيع من أسفل إلى أعلى، وكيفية ارتفاع السوائل في الأوعية المتصلة إلى مستوى واحد بالرغم من اختلاف أشكال هذه الأوعية وأحجامها.
وشملت جهود البيروني في الفيزياء أبحاثاً عن الضوء، وشارك الحسن بن الهيثم في الرأي: بـ"أن شعاع النور يأتي من الجسم المرئي إلى العين لا العكس، كما كان معتقدًا من قبل". وأورد في بعض مؤلفاته شروحاً وتطبيقات لبعض الظواهر المتعلقة بضغط السوائل وتوازنها. وشرح صعود مياه الفوارات والعيون إلى أعلى، وتجمع مياه الآبار بالرشح من الجوانب، تأخذها من المياه القريبة منها. وفي مجال التعدين ابتكر البيروني جهازا مخروطيًا لقياس الوزن النوعي للفلزات والأحجار الكريمة، ويعد أقدم مقياس لكثافة المعادن، ونجح بالتوصل إلى الوزن النوعي لثمانية عشر مركبًا.
وفي مجال علم الأرض وضع البيروني نظرية لاستخدام امتداد محيط الأرض، وأوردها في كتابه "الإسطرلاب". واستعمل العلماء معادلته المعروفة بـ"قاعدة البيروني لحساب نصف قطر الأرض". وتضمنت بحوثه ومؤلفاته في هذا الميدان نظريات وآراء حول قدم الأرض وعمرها وما اعتراها من ثورات وبراكين وزلازل وعوامل تعرية. وله نظريات تناولت تكون القشرة الأرضية، وما طرأ على اليابسة والماء من تطورات خلال الأزمنة الجيولوجية. وبحوثاً في حقيقة الحفريات، وكان يرى أنها بقايا كائنات حية عاشت في العصور القديمة. وأقر علماء الجيولوجيا في عصرنا الحالي ما توصل إليه البيروني في هذا المجال. وأقر سميث في كتابه "تاريخ الرياضيات" بأن البيروني كان ألمع علماء عصره في الرياضيات، وهو من الذين بحثوا في تقسيم الزاوية إلى ثلاثة أقسام متساوية، وكان ملمًا بحساب المثلثات، وتدل كتبه على أنه عرف قانون تناسب الجيوب، وقد عمل جداول رياضية للجيب والظل.
وتفوق البيروني في مجال الجغرافيا الفلكية، وله بحوث قيمة حتى أنه يعتبر من مؤسسي علم الجغرافيا الفلكية، ونبغ في الجغرافيا الرياضية، ونجح في تحديد خطوط الطول والعرض ومسافات البلدان في عشرة من كتبه، وله أبحاث رفيعة المستوى سهلة الفهم في الجغرافيا الطبيعية. وله مبتكرات كثيرة في فن رسم الخرائط، وكان أول من رسم خريطة مستديرة للعالم في كتابه "التفهيم لأوائل صناعة التنجيم" بين فيها مواضع البحار، وله أبحاث كثيرة بين فيها كيفية نقل صورة الأرض الكروية إلى الورق المسطح، تضمنتها كتبه: "تسطيح الصور وتبطيح الكور"، و"تحديد المعمورة وتصحيحها في الصورة". ولم يستبعد نظريًّا احتمال أن يكون النصف الغربي من الكرة الأرضية معمورًا قبل اكتشاف الأمريكتين، وعند وصفه لتضاريس الأرض ومسالك البحار والمحيطات، وتحدث للمرة الأولى عن أن ما يمنع اتصال المحيط الهندي بالمحيط الأطلسي ليس جنوبي القارة الأفريقية، عكس ما كان شائعًا في ذلك الوقت.
ولم يكُفَّ هذا العالم البارز لحظة عن البحث والدراسة، وأثمرت حياته العلمية الجادة عن ما يزيد عن 120 مؤلفًا، نقلت بعضها إلى اللغات: الإنجليزية، والفرنسية، والألمانية، واللاتينية، والروسية، وأخذ عنها الغربيون، واستفادوا منها، ومن تلك المؤلفات:
- الرسائل المتفرقة في الهيئة، وتحتوي على إحدى عشرة رسالة في علوم مختلفة، وقد طبعتها دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن بالهند سنة (1367هـ 1948م)؛
- والجماهر في معرفة الجواهر، وهو من أهم مؤلفات البيروني في علوم المعادن، وطبع في حيدر آباد الدكن بالهند (1355هـ=1936م)؛
- واستخراج الأوتار في الدائرة بخواص الخط المنحني فيها، وطبع بالهند؛
- وجوامع الموجود لخواطر الهنود في حساب التنجيم؛
- وتحديد نهايات الأماكن لتصحيح مسافات المساكن، وطبع محققًا بعناية المستشرق الروسي بولجاكوف، ونشره معهد المخطوطات العربية سنة 1962؛
- وفي تهذيب الأقوال في تصحيح العرض والأطوال.
وإلى جانب التأليف نقل البيروني اثنين وعشرين كتابًا من تراث الهند العلمي إلى اللغة العربية، وترجم بعض المؤلفات الرياضيات من التراث اليوناني، مثل: كتاب أصول إقليدس، وكتاب المجسطي لبطليموس.
وظل أبو ريحان بن محمد بن أحمد البيروني حتى آخر أيام حياته شغوفًا بالعلم مقبلا عليه، متفانيًا في طلبه. وروى المؤرخ الكبير ياقوت الحموي في كتابه "معجم الأدباء" عن القاضي علي بن عيسى، أنه: "دخل على أبي الريحان وهو يجود بنفسه قد حَشْرَج نفسُه، وضاق به صدره، فقال لي وهو في تلك الحال: كيف قلت لي يومًا حساب المجدَّات الفاسدة (من مسائل المواريث) فقلت له إشفاقًا عليه: أفي هذه الحالة ؟ قال لي: يا هذا أودّع الدنيا وأنا عالم بهذه المسألة، ألا يكون خيرًا من أن أخليها وأنا جاهل لها، فأعدت ذلك عليه، وحفظه، وخرجت من عنده وأنا في الطريق سمعت الصراخ"، وكان ذلك في غزنة في الـ 3 من رجب عام 440هـ، الموافق لـ 12/12/1048م، وهو ما يغني عن الكلام بمدى تعلق البيروني بالعلوم حتى الرمق الأخير من حياته الذاخرة بالعطاء والبحث العلمي والتأليف.
وقيل أنه بينما كان مضيفه يغزو الهند ويدمر مدنها، كان البيروني يقضي السنين الطوال في دراسة شعوبها، ولغاتهم، وأديانهم، وثقافتهم، ومختلف طوائفهم. وأثمرت دراساته تلك عن كتابة "تاريخ الهند" الذي نشر مخطوطاً عام 1030م ويعد من أعظم مؤلفاته. وميز فيه منذ البداية بين ما شاهده بعينهِ وما سمعه من غيره، وذكر أنواع الكذابين الذين ألفوا كتباً في التاريخ، ولم يخص تاريخ الهند السياسي إلا بحيز صغير في كتابه، بل خص أحوال الهند الفلكية باثنين وأربعين فصلاً من فصوله وخص أديانها بأحد عشر. وكان من أهم ما سحر لبه "البهاجافاد جيتا" وأدرك العلاقة بين تصوف الفدانتا، والصوفية في الإسلام. وعلاقة التشابه بين الفيثاغورية الحديثة، والأفلاطونية الحديثة. وأورد مقتطفات من كتابات مفكري الهنود، ووازن بينها وبين مقتطفات شبيهة بها من كتابات فلاسفة اليونان، ولكنه كان يفضل آراء اليونان عن آراء الهنود، وقال: "أن الهند لم ينبغ فيها رجل كسقراط، ولم تظهر فيها طريقة منطقية تطهر العلم من الأوهام". ورغم ذك ترجم إلى اللغة العربية عدداً من المؤلفات السنسكريتية، ليوفي بدينهِ للهند، وترجم إلى السنسكريتية كتاب "أصول الهندسة" لإقليدس و"المجسطي" لبطليموس.
وشملت عناية البيروني جميع علوم تلك الأيام، وكتب عن الأرقام الهندية، وبحث في العصور الوسطى، وكتب رسالة عن "الإسطرلاب"، و"دائرة فلك البروج"، و"ذات الحلق"، ووضع أزياجاً فلكية للسلطان محمود. ولم يكن يخالجه أدنى شك في كروية الأرض، ولاحظ أن كل الأشياء تنجذب نحو مركزها، وقال: "إن الحقائق الفلكية يمكن تفسيرها إذا افترضنا أن الأرض تدور حول محورها مرة في كل يوم، وحول الشمس مرة في كل عام، بنفس السهولة التي تفسر بها إذا افترضنا العكس". وقال: "أن وادي نهر السند ربما كان في وقت من الأوقات قاع بحر"، وألف كتاباً ضخماً في الحجارة وصف فيه عدداً عظيماً من الأحجار والمعادن من النواحي الطبيعية وشرح قيمتها التجارية والطبية. وعين الكثافة النوعية لثمانية عشر نوعاً من أنواع الحجارة الكريمة، ووضع القاعدة التي تنص على الكثافة النوعية للجسم تتناسب مع حجم الماء الذي يزيحه. وتوصل إلى طريقة لحساب تكرار تضعيف العدد دون الالتجاء إلى عمليات الضرب والجمع الطويلة الشاقة، وتحدث في القصة الهندية، وعن مربعات لوحة الشطرنج، وحبات الرمل. ووضع في الهندسة حلولاً لنظريات سميت التي حملت اسمه فيما بعد. وألف موسوعة في الفلك، والتنجيم، والعلوم الرياضية، وشرح أسباب خروج الماء من العيون الطبيعية والآبار الارتوازية بنظرية الأواني المستطرقة. وألف تواريخ حكم السلطان محمود، وسبكتجين، وكتب تاريخ خوارزم. ولهذا أطلق عليه المؤرخون اسم الشيخ، أي شيخ العلماء. وكانت كثرة مؤلفاته في جيل ظهر فيه علماء بارزون أمثال: ابن سينا، وابن الهيثم، والفردوسي وهو ما يثبت أن الفترة التي امتدت من أواخر القرن العاشر وحتى بداية القرن الحادي عشر كانت أهم مرحلة بلغت فيها الثقافة والعلوم العربية الإسلامية ذروتها، ووصل خلالها الفكر العربي الإسلامي أعلى درجاته، وبدأ في الأفول مع الصراعات الدامية الدائرة على السلطة، والحروب الداخلية التي عصفت بأنحاء الدولة الإسلامية مترامية الأطراف، ممهدة الطريق أمام الغزو الأوروبي ليفرض على العالمبن العربي والإسلامي التجزئة والتخلف، وليبني على أنقاض الدولة الإسلامية حضارة مزدهرة محاولاً إنكار فضل الحضارة العربية الإسلامية التي كانت يوماً ما في قمة إزدهارها، على ما وصلت إليه العلوم الحديثة اليوم.
طشقند في 23/1/2011
المصادر:
1. د. إمام ابرهين وأحمد مهرجان: القانون المسعودي للبيروني. القراءة للجميع، 1995.
2. د. أحمد سعيد الدمرداش: كتاب البيروني. القاهرة: دار المعارف، 1980.
3. د. بسام عليق: البيروني.. "الضوء أسرع من الصوت!!" // بيروت:
http://www.bab.com/
4. دار الأرقم بن أبي الارقم، باب السلف الصالح صدقوا ما عاهدوا الله عليه - حكماء وعلماء وفلكيون وأدباء ومفكرون وخلفاء ومبدعون مسلمون. // مواد شبكة الإنترنيت.
5. شبكة الإعلام العربية.
http://www.moheet.com/home.html
6. علي أحمد الشحات: أبو الريحان البيروني. القاهرة: دار المعارف، 1968.
7. قدري حافظ طوقان: تراث العرب العلمي في الرياضيات والفلك. القاهرة: دار القلم، 1382هـ، 1963م.
8. محمد جمال الغندي وإمام إبراهيم أحمد: أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني. القاهرة: دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، 1968.
9. محمد كامل حسين وآخرون: الموجز في تاريخ الطب والصيدلة عند العرب. المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، جامعة الدول العربية، بدون تاريخ.
10. الموقع العربي العملاق:
http://www.bab.com/
11. موقع المعرفة: http://www.marefa.org/index.php/Logo_link
12. موقع ويكبيديا الموسوعة الحرة:
http://ar.wikipedia.org/
13. ياقوت الحموي: معجم الأدباء. بيروت: دار الفكر، 1400هـ، 1980م.