السبت، 10 أغسطس 2013

التبادل الإعلامي من وجهة نظر الأمن القومي

التبادل الإعلامي من وجهة نظر الأمن القومي 30 من كتابي "التبادل الإعلامي في ظروف العلاقات الدولية المعاصرة"

30
التبادل الإعلامي من وجهة نظر الأمن القومي
من المسلم به أن وظائف الدولة بشكل عام تنحصر بثلاث وظائف رئيسية، هي: حماية الاستقلال الوطني؛ وتأكيد سيادة الدولة؛ وحفظ الأمن الداخلي، بمفهومه الواسع، بما يتضمنه من وجود سلطات شرعية، تعمل على تحقيق الحياة الأفضل وتحقيق الرفاهية، وإشباع رغبات الأفراد في كافة المجالات. وتسعى الدولة لتحقيق هذه الأهداف من خلال مجموعة من الخطط تتعلق كل منها بتحقيق واحدة من تلك الأهداف، وتحاول أيضاً إحداث توازن وتكامل بين تلك الأهداف، من خلال إستراتيجية واحدة تضعها في محاولة أن يكون هناك تناسق بين تلك الأهداف وبين متطلبات تحقيقها على المستويين الداخلي والخارجي. وهذه السياسة الواحدة هي سياسة الأمن القومي التي تهدف بشكل عام دعم قوة الدولة في مواجهة غيرها من الدول بما يمكنها من المحافظة على إستقلال كيانها الوطني ووحدة أراضيها، ولا تختلف الدول مهما تباعدت مصالحها في فهم وتطبيق الوظيفتين الأولى والثانية، ولكن عندما نأتي إلى الوظيفة الثالثة، أي تحقيق الحياة الأفضل لمواطنيها، تظهر لنا خلافات ناتجة عن تباين الأنظمة والمصالح. وكان هذا الخلاف أكثر وضوحاً بين الدول التي أخذت بالأفكار الرأسمالية، وتلك التي أخذت بالأفكار الإشتراكية أو الشيوعية، قبل انهيار المنظومة الاشتراكية، والإتحاد السوفييتي السابق.
وتحاول الدولة من خلال سياسة الأمن القومي، الدفاع عن كيانها اعتماداً على قدراتها الذاتية في مواجهة ما قد يتهددها من أخطار، وتخصص من الموارد والإمكانيات ما يتناسب مع حجم وطبيعة تلك الأخطار واضعة نصب أعينها، عجز الأمم المتحدة عن القيام بمسؤولياتها كاملة. وتأثير الدول الكبرى وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية على كل تحرك تقوم به الأمم المتحدة. ولذلك تحاول الدولة أن تقدر بطريقة موضوعية المخاطر التي تواجهها في الداخل أو من الخارج، آخذة بعين الإعتبار ما لديها من مقدرات عسكرية وإقتصادية وسياسية، وكيفة إستخدام تلك المقدرات إستخداماً سليماً حينما يتطلب الأمر إستخدامها، وبعبارة أخرى كيف توازن بين مواردها والغايات التي ترجوها. وسياسة الأمن القومي تتضمن كافة الإجراءات التي تراها الدولة كفيلة بحماية كيانها ووحدة أراضيها، وتحقيق أمنها في مختلف المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية. وتتولى عادة هيئات متخصصة داخل الدولة وضع تلك السياسات التي تشمل عادة ثلاثة مجالات رئيسية، وهي:
1. المجال السياسي: وينقسم إلى ثلاثة أقسام رئيسية، تشمل: السياسة الداخلية: وهي كل ما يتعلق بسياسة الدولة الداخلية، كنظام الحكم وفق ما يحدده الدستور والقوانين والتشريعات النافذة، وتدخل ضمن هذا الإطار خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والعمل على توفير الأمن والنظام والإستقرار داخل الدولة؛ والسياسة الخارجية: إذ أدى تشابك المصالح بين الدول بفعل التقدم العلمي والتقني في مجالات النقل والاتصال إلى إلغاء الحدود والمسافات بين الدول، وأصبح لكل دولة مجموعة من العلاقات المتنوعة مع العديد من دول العالم بمختلف توجهاتها الأيديولوجية. وقد تتراوح السياسة الخارجية للدولة مع غيرها من الدول، بين التعاون الكامل الذي يصل أحياناً إلى الوحدة أو الإتحاد بمختلف أشكاله، وبين الصراع باستخدام القوة المسلحة أو التهديد باستخدامها أو اللجوء إلى حالة من اللا حرب واللا سلم أو اللجوء إلى الحرب الباردة، ومحاولة فرض السيطرة والنفوذ؛
2. النشاط الدبلوماسي للدولة: لأن كل دولة تتصل بغيرها من الدول بالطرق الدبلوماسية، وتعمل على تدعيم أجهزة ووسائل الاتصال بتلك الدول لتجنب الصدام المباشر وغير المباشر مع الدول الأخرى عن طريق اللجوء إلى التفاوض والإقناع أو إبرام المعاهدات والاتفاقيات أو الدخول في تحالفات إقليمية ودولية، وتعمل على الاستفادة من نظام الأمن الجماعي في إطار منظمة الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية والإقليمية لتحقيق أمنها وأهداف سياستيها الداخلية والخارجية. وتهدف سياسة الأمن القومي التأكيد على مكانة الدولة في المجتمع الدولي ومحاولة التأثير وممارسة النفوذ على غيرها من الدول المجاورة وغير المجاورة؛
3. المجال الإقتصادي: ويعد الجانب الإقتصادي لسياسة الأمن القومي مهماً جداً لارتباطه أساساً بتوفير الإحتياجات الإقتصادية والمالية للدولة، وضمان قدراتها حيال الدول الأخرى، واستشفاف إحتياجاتها الإقتصادية من الدول الأخرى واستخدام ما تملكه الدولة من إمكانيات إقتصادية لتحقيق أمنها. وقد تكون تلك الإمكانيات رؤوس أموال تملكها الدولة أو خبرات تتوفر لديها أو منتجات صناعية جاهزة أو ثروات باطنية ومواد أولية هامة أو أسواق تستوعب النشاطات التجارية أو استثمارية تستوعب رؤوس الأموال. ولهذا تسعى الدول لزيادة قدراتها الصناعية المتطورة، وتعمل على توفير المواد الأولية والمواد الغذائية اللازمة لاحتياجاتها. وترفع كفاءة العاملين في المجالات الصناعية والاقتصادية، وتدعم قدراتها المالية للوفاء بالتزاماتها دون المساس بالإحتياجات الأساسية للدولة.
ويشمل الجانب الاقتصادي في هذا النطاق أيضاً مجالاً واسعاً يتجاوز إمكانيات الدولة الفعلية، ومجموع نشاط مواطنيها ليشمل العلاقات الداخلية والخارجية، وتطوير إمكانيات التطور العلمي والتقني لوسائل الإنتاج ومستلزماتها، والاستفادة من العوامل الإقتصادية لممارسة النفوذ من خلال العلاقات الدولية، وفق أساليب معينة تمليها سياستها الخارجية. ونتيجة لأهمية تأثير الجانب الإقتصادي على سياسة الأمن القومي، فقد أصبح للمعلومات الاقتصادية على ضوء تقنيات المعلوماتية والاستشعار عن بعد بواسطة الأقمار الصناعية أهمية قصوى جعلها تماثل أهمية المعلومات العسكرية والدبلوماسية، فهي تشمل كل ما يتعلق بمصالح الدولة الاقتصادية من مختلف جوانبها، سواء المتعلقة بثرواتها ومصالحها الذاتية أو بمصالحها مع مختلف دول العالم أياً كانت درجة علاقاتها بها، ولذلك فإن المجال الاقتصادي يمثل جانباً هاماً لما له من تأثير على الأمن القومي للدولة؛
4. المجال العسكري: ويهدف الجانب العسكري لسياسة الأمن القومي حماية إستقلال الدولة وسيادتها وسلامة أراضيها ضد أي عدوان خارجي قد تتعرض له من الخارج، لذلك فهي تعمل على تدريب قواتها العسكرية وتسليحها بالأسلحة الحديثة، وتهتم بخططها الدفاعية سواء في أوقات النزاعات المسلحة أو الحرب، أو في أوقات السلم، وتقوم بإعداد الخطط الدفاعية والدراسات اللازمة لمواجهة الأخطار المحتملة أو المتوقعة، كما وتقوم الدولة في ذات الوقت بالارتباط بمجموعة من مواثيق الدفاع القادرة على ردع أي عدوان من أي نوع قد تتعرض له من الخارج. ويكون الجانب العسكري في سياسة الأمن القومي للدول الصغيرة عادة مقتصراً على دعم قدرة الدولة دفاعاً عن النفس في مواجهة ما يمكن أن تتعرض له من عدوان. أما الدول التي تتبع سياسات توسعية فتستغل قدراتها العسكرية لتهديد الدول الأخرى أو العدوان عليها. لذلك تسعى الدول إلى زيادة نفوذها من خلال مجموعة من مواثيق الدفاع أو التحالفات العسكرية مع غيرها من الدول التي يكون الهدف المعلن عنها عادة الدفاع عن النفس. وتجدر الإشارة إلى أن أثر القدرة العسكرية للدولة لا يقتصر على المسائل المرتبطة بالدفاع عن الدولة فحسب، رغم عدم إمكانية إنكار أهمية ما تملكه الدولة من قوة عسكرية حتى في مجال المفاوضات السياسية لأن الدولة التي تملك قوة عسكرية هي في مركز قوة حيال الدول الأضعف عسكرياً.
ولتحقيق أهداف الأمن القومي الحقيقي والواقعي لابد من إيجاد توازن بين المصادر المتاحة والأهداف المراد تحقيقها، أي تقدير الموارد الاقتصادية والمالية المتاحة للدولة، آخذين بعين الاعتبار الحجم المطلوب من الموارد لدعم القدرات العسكرية للدولة، والحد الأدنى المطلوب لتلبية إحتياجات الدولة ومواطنيها في الداخل، ومدى قدرة البنية الإقتصادية للدولة على تحمل الأعباء الإقتصادية الناجمة عن تحقيق سياستيها الداخلية والخارجية. إضافة لعوامل أخرى تشكل بمجملها سياسة الأمن القومي الداخلية والخارجية وأسلوب تنفيذها الذي ينبع أساساً من التصرفات البشرية، والرغبات الجماعية والفردية التي تمارس على نطاق الدولة بالكامل، وتستمد في نفس الوقت من خصائص مواطني تلك الدولة وقدراتهم ومستواهم الثقافي والعلمي، وشكل الحكومة التي تدير شؤونهم والحالة الاقتصادية والاجتماعية السائدة في المجتمع، والزعامات الموجودة داخل المجتمع في أوقات محددة، والنظريات والأفكار التي يتبناها الرأي العام داخل الدولة المعنية.
ويرتبط نجاح سياسة الأمن القومي بالقوة البشرية التي تملكها الدولة، ومستوى إستيعابها العلمي والتقني والتكنولوجي، ومدى ما يمكن أن تقدمه من تضحيات من أجل أمن وسلامة الدولة، وشكل التنظيم السائد الذي ينظم الأوضاع الداخلية في المجتمع، ومصادر الثروة التي يملكها المجتمع، ومدى القوة العسكرية التي تملكها الدولة وقدرتها على استخدامها. لأنها كلها عوامل حيوية وهامة وأساسية لنجاح أية سياسة للأمن القومي، وتحتاج وقبل كل شيء للمعلومات. فتمتع الدولة بنظام داخلي متين يتيح لها تيسير علاقاتها الخارجية لا يكفي وحده، بل لابد أن يكون للدولة الإمكانيات التقنية والتكنولوجية والإستطلاعية التي تيسر لها الإضطلاع على ما يدور حولها في أنحاء العالم المختلفة، وأن تملك القدرة على تحليل الموقف العام ومواقف الأشخاص والزعامات القادرة على التوجيه والتأثير، لتصل إلى أهداف سياسة الأمن القومي المرجوة.
والمعلومات بحد ذاتها لا تعني أية أهمية للدولة ما لم يحسن إستغلالها والتصرف بها. ولهذا لابد من تواجد ثلاث أنواع من الأجهزة العاملة في مجال المعلومات، وهي: الجهاز الذي يناط به مهمة جمع المعلومات، وتوخي الدقة الكاملة قدر المستطاع؛ والجهاز الذي يتولى تفسير المعلومات التي وصلته من الجهاز الأول وغيره من مصادر المعلومات، وعادة ما يكون هذا الجهاز عبارة عن مجموعة من الأجهزة الفنية البحتة المتخصصة في مجالات محددة، ويعمل كل منها على دراسة وتحليل المعلومات الواردة وتصنيفها حسب أهميتها ودلالاتها ومؤشراتها؛ والجهاز الذي يقوم بمراجعة تلك الدراسات والتحليلات، وإتخاذ القرارات النهائية بشأنها على ضوء المشاكل التي تواجه الدولة في سبيل تحقيق أهداف سياسة الأمن القومي بشقيها الداخلي والخارجي.
وقد أصبح من المتعارف عليه قيام الدول بجمع المعلومات اللازمة لها في كافة المجالات الاقتصادية والعسكرية والسياسية والعلمية والصناعية والثقافية والاجتماعية والبشرية، على الرغم من عدم وجود سند قانوني يبيح لها هذا العمل، لأنه لم يأتي في القانون الدولي التقليدي ما ينص صراحة بالتزامات، ولم ينص على منح الدول حقوقاً في مجال جمع المعلومات أو الحصول عليها أو تقديمها لغيرها من الدول. إلا إذا اعتبرنا ما منحه للدول من حقوق في إرسال البعثات الدبلوماسية المعتمدة والالتزام باستقبال تلك البعثات أساساً لحق جمع المعلومات والحصول عليها على ضوء ما هو معروف من أساليب المراقبة بهدف الحصول على المعلومات، في نطاق القيود التي يفرضها القانون الدولي. وتعتبر الممارسة الفعلية لهذا الحق من الوظائف الأساسية للبعثات الدبلوماسية المعتمدة في دولة المقر، ونتيجة لذلك يثير ما تقوم به البعثات الدبلوماسية المعتمدة من مراقبة وجمع للمعلومات الكثير من الخلاف لأن التفرقة بين العمل الدبلوماسي البحت والعمل الدبلوماسي الذي يقوم أساساً أو ينطوي على جمع للمعلومات هو من الأمور الدقيقة التي يصعب تحديدها والتفريق بينها.
ومن الأمثلة على الخلافات الناتجة عن ذلك، ما شهدته الولايات المتحدة الأمريكية من إنقسام في الرأي حول نشاطات أجهزة الأمن السوفييتية التي عملت داخل الولايات المتحدة الأمريكية قبل إنهيار الإتحاد السوفييتي السابق، فالمسؤولين في وزارة الخارجية الأمريكية أبدو تململاً من الإجراءات الشديدة التي إتخذتها وزارة العدل ضدهم، ولا تتفق مع "القواعد العرفية غير المكتوبة" بين الدولتين في مجال الأمن، ولكنها تتعلق بمن يتمتعون بالحصانة الدبلوماسية المنصوص عنها في الاتفاقيات الدولية والقانون الدولي. ومن الأمثلة الأخرى ما أعلن في أيار/مايو 1996 عن قيام مجموعة من الدبلوماسيين البريطانيين المعتمدين في موسكو بالتجسس عن طريق قيامهم بالتحقق من شراء عملاء للجيش الجمهوري الإرلندي لأسلحة ومواد نووية من عصابات المافيا الروسية. مما دعى الحكومة الروسية إلى طرد أربعة من الدبلوماسيين البريطانيين المعتمدين من أراضيها بتهمة التجسس، وهو ما ردده جهاز المخابرات البريطانية M16، وتبعه قيام بريطانيا بإجراء مماثل.
ومن أوجه النقد الجدية التي توجه للحصانة الدبلوماسية أنها قد تستخدم كغطاء لأعمال غير دبلوماسية، لأن الحصانة الدبلوماسية تستوجب الموائمة بين اعتبارين اثنين، هما: الاعتبار الأول أمن وسلامة الدولة المستقبلة؛ والاعتبار الثاني دواعي الأمن التي يتطلبها العمل الدبلوماسي من حصانة دبلوماسية للبعثات الدبلوماسية المعتمدة والعاملين فيها، من تسهيلات التنقل والمواصلات والإعفاء من الرقابة البريدية والبرقية والهاتفية الخ. ولكن تبقى المشكلة في تحديد ما يعتبر من المعلومات التي تدخل في إطار السرية، وتلك التي هي خارج إطار السرية، وهي عملية شائكة ومعقدة بحد ذاتها لأن الحد الفاصل بين النوعين من المعلومات يكاد يكون متداخلاً جداً. وتتزايد هذه المشكلة وتتعقد كل يوم على ضوء الثورة المعلوماتية الهائلة التي يشهدها العالم منذ العقود الأخيرة من القرن العشرين، حيث أصبحت المعلومات نتيجة لتلك الثورة سهلة الحصول وفي متناول قاصدها، بعد أن أتاحها له التقدم العلمي المستمر في مجال الإتصال والإستشعار عن بعد وجمع وتخزين ونقل واسترجاع المعلومات، بما فيها تلك المعلومات التي تقع تحت طائلة "الأسرار" التي تهدد أمن الدولة واستقرارها.
ويثير قيام الدول بجمع المعلومات اللازمة لها عن غيرها من الدول قضية هامة وحساسة، وهي أن المعلومات التي قد تحصل عليها دولة ما بالطرق المباشرة أو عن طريق الغير من الدول، عن طريق دولة أخرى تؤثر على أمنها القومي، وخاصة إذا تعلق الأمر بمعلومات تراها الدولة المعنية مرتبطة بأمنها القومي وسلامتها كدولة، ومن ثم فمن الضروري التفرقة بين المعلومات التي يترتب عن الحصول عليها مساس بأمن الدولة وسلامتها، وتلك المعلومات التي لا ينطبق عليها هذا الوصف. ونظراً لأهمية المعلومات المتعلقة بأمن وسلامة الدولة جرت العادة على إستبعاد مجموعة منها من نطاق المعاملات المباشرة، سواء داخل الدولة أو خارجها، وفرضت عليها نطاقاً من السرية والكتمان كفيل بحفظها من الأخطار، وأعتبرت الدولة المعنية أن محاولة الحصول على هذه المعلومات أو الحصول عليها، جريمة تعاقب عليها التشريعات الجنائية النافذة لديها. وتتعدد تلك المعلومات بتعدد المصالح المرتبطة بها وهي تنحصر عادة في إطار الأسرار السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية، التي بطبيعتها يجب أن تبقى طي الكتمان حرصاً على سلامة وأمن الدولة، ويقتصر العلم بها على أشخاص معينين، وخاصة تلك المعلومات التي يترتب عن كشفها، تقييم المقدرات الاقتصادية والعسكرية والدفاعية للدولة من كافة جوانبها السلبية والإيجابية على حد السواء. وتختلف الدول من حيث طبيعة تلك المعلومات، وفي الصفة التي تضفيها عليها، لإرتباط هذا الموضوع بنواح أخرى كالحريات العامة داخل الدولة ذاتها، ومشكلة تحقيق التوازن بين مقتضيات أمن الدولة، وما ينشده الفرد من حماية لحقوقه وحرياته، مما ينتج عنه أهمية قيام الدولة بتحقيق التوازن والتوافق بين حقها في الأمن والاستقرار، وحقوق مواطنيها في المعرفة والإطلاع بشكل لا يطغى أي منهما على الآخر.
ونجد في تشريعات بعض الدول توجه نحو تحديد طبيعة المعلومات التي تدخل في دائرة السرية، وهي التي قد تكون متعلقة بحماية الدولة إقليمياً وتأمين أمنها كما في بلجيكا ولكسمبورغ. أو تكون معلومات تتعلق بحقوق الدولة اتجاه دول أخرى كما في أيسلندا، أو الأمور التي يفترض بأنها تهم أمن الدولة كما في هولندا، أو التي تتعلق بمصالح الدفاع القومي، أو المتعلقة بالأسرار العسكرية والاقتصادية والسياسية كم في سويسرا وفرنسا، بينما لم تتناول تشريعات دول أخرى كبلجيكا ولوكسمبورغ وهولندا وسويسرا، وضع تعريف محدد للأسرار المتعلقة بالأمن والدفاع على إعتبار أنها فكرة واسعة تختلف وتتنوع إلى أشكال كثيرة، مما لا يجوز معه تقييدها بتعريف ضيق محدد. ويؤدي هذا الاتجاه عادة إلى تخويل القضاء سلطات واسعة في تفسير النصوص القانونية. بينما تحاول دول أخرى تعريف أسرار الأمن والدفاع وعددتها في صيغ عامة، كالتفرقة بين الأسرار وطبيعتها التي أقرها القانون الفرنسي في المادة 78/1/2، والقانون الإيطالي في المادة 257 من قانون العقوبات، تبعاً للطبيعة السرية للموضوع ذاته أو بناءاً على أوامر من السلطات المختصة. وراح المشرع الفرنسي أبعد من ذلك حيث لم يقتصر بحماية الأسرار المتعلقة بالدفاع والأمن القومي الفرنسي وحده، بل وسعها بالمرسوم الصادر في تموز/يوليو 1952 لتشمل أسرار الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي.
ومن الخبرات التشريعية للدول النامية نرى أن القانون المصري قد أخذ مجموعة الأسرار المرتبطة بالدفاع عن البلاد بحكم طبيعتها. فنصت الفقرة 1 من المادة 52 من قانون العقوبات المصري على أنه "يعتبر من أسرار الدفاع عن البلاد، المعلومات الحربية والسياسية والاقتصادية والصناعية التي بحكم صفتها لا يعلمها إلا الأشخاص الذين لهم صلة بذلك، وتوجب مراعات أنه لمصلحة الدفاع عن البلاد يجب أن تبقى سراً على ماعدا أولئك الأشخاص". وأوضحها الدكتور ممدوح شوقي السفير بوزارة الخارجية المصرية، في مقالته "الأمن القومي والعلاقات الدولية" المنشورة في مجلة السياسة الدولية على الشكل التالي:
- المعلومات الحربية: وهي الحقائق التي تتعلق باستعدادات البلاد العسكرية وكفايتها الحربية، ووسائل الدفاع عنها، وعملياتها الحربية في البر والبحر والجو، سواء في وقت السلم أم في وقت الحرب، كالمعلومات المتعلقة بسلاح سري أو طرق الوقاية منه، والخطط العسكرية وتاريخ ومكان إجراء التجارب العسكرية، والتعليمات الصادرة من القيادة العسكرية لضباطها وجنودها؛
- والمعلومات السياسية: وتتعلق بالسياسة الداخلية والخارجية المتبعة أو التي تنوي الدولة السير عليها متى كانت ترتبط بشؤون الدفاع عن البلاد ولو بطرق غير مباشرة. فلا عبرة بالمعلومات التي تتعلق بسياسة الحكومة في السابق؛
- والمعلومات الدبلوماسية: وهي الحقائق المتعلقة بعلاقة الدولة دبلوماسياً مع غيرها من الدول، كإعتزام الدولة قطع علاقاتها السياسية بدولة معينة أو الاعتراف بهيئة ثورية تناهض الحكومة والاتصالات الدبلوماسية بين الدولة، ودولة أخرى أجنبية للتوسط في حل نزاع دولي يمس أمن الدولة؛
- والمعلومات الاقتصادية: وهي ليست إلا نوعاً من المعلومات الاقتصادية التي ترتبط بالمجهود الصناعي للدولة ولا يقتصر الأمر على الإنتاج الصناعي للدولة، بل يمتد إلى الشركات الخاصة التي تفيد الدولة في إنتاجها للدفاع عن البلاد، مثل: ما تورده إحدى الشركات من إنتاج للقوات المسلحة لاستعمالها الخاص في العتاد الحربي.
ولا ينبغي أن يفهم أن جمع المعلومات الحربية أو السياسية أو الدبلوماسية أو الاقتصادية، تعد متعلقة بأسرار الدفاع عن البلاد، بل يجب توفر شرطين لذلك: أن تكون المعلومات متعلقة بالدفاع عن البلاد، أي تتعلق بسلامة الدولة وسيادتها، ووسائل الدفاع عنها وعن كيانها في شتى الميادين في زمن السلم وفي زمن الحرب؛ وأن تكون هذه المعلومات بطبيعتها من الأسرار التي لا يعلمها إلا الأشخاص الذين لهم صلة بذلك، ومن ثم لا يقتصر معنى الدفاع عن البلاد على المدلول العسكري وحده، بل يتسع لكل ما يتعلق بأمن الدولة الخارجي، من النواحي العسكرية والسياسية والدبلوماسية والاقتصادية في زمن السلم وفي زمن الحرب بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. وعلى ذلك فالسرية ليست صفة لصيقة بالمعلومات ولكنها صفة تخلعها الدولة عليها من زاوية معينة، فهي طبيعة اعتبارية للمعلومات، وهي مسألة نسبية فما يعتبر سراً في فترة معينة، لا يعتبر سراً بعد مرور فترة زمنية معينة، فالسرية صفة تلحق بالمعلومات في لحظة معينة تمليها سلامة الدولة في تلك اللحظة.
ولهذا على المراسلين الأجانب والمستشارين والملحقين الإعلاميين المعتمدين في أي دولة من دول العالم أن يتعرفوا على مضمون ليس القوانين الناظمة للعمل الصحفي في البلاد المعتمدين فيها وحسب، بل والتعرف على مضمون قوانين العقوبات الجنائية فيها وخاصة ما يمس منها العمل الصحفي رغم الحصانة الدبلوماسية التي يتمتعون بها.
وهناك جملة أخرى من المشكلات التي ترتبط بقيام دولة ما بالحصول على المعلومات عن غيرها من الدول بغير الطرق المشروعة أو العلنية. وهي مشكلة نتجت عن التقدم العلمي في مجال الإستشعار عن بعد وجمع وتخزين ونقل المعلومات، فالصورة التقليدية للحصول على المعلومات هي عبارة عن علاقة مباشرة بين دولة وأحد الأفراد الذين ينتمون إليها، أو من رعايا دولة أخرى يقوم بنقل المعلومات إليها، أو قيام مواطن دولة محايدة بالتجسس لصالح إحدى الدول. ولكن الصورة التقليدية تغيرت اليوم، وأصبحت العلاقة مباشرة بين دولتين دون طرف آخر يتوسط عملية نقل المعلومات، وذلك نتيجة لحصول الدولة على المعلومات اللازمة لها بصورة مباشرة بالاستشعار عن بعد عن طريق الأقمار الصناعية أو طائرات التجسس، وكان الهدف أو الغاية فيما مضى هما اللذان يحددان طبيعة الفعل، ثم حدث تطور بظهور العنصر العام للدولة في هذه العلاقة فأصبحت الوسيلة هي التي تحدد طبيعة الفعل. وترتبط بذلك أيضاً مشكلة أخرى يثيرها الحصول على المعلومات عن طريق الاستشعار عن بعد بالأقمار الصناعية أو طائرات التجسس أو بواسطة دولة معينة دون علم الدولة صاحبة الشأن بذلك، وهو ما يطرح بدوره تساؤلات عن مدى التزام الدولة التي حصلت على تلك المعلومات، بإطلاع الدولة صاحبة الشأن عليها، أم أن لها أن تبقيها كورقة رابحة تستخدمها في مجال الضغوط السياسية ! ومدى مسؤولية الدولة التي حصلت على هذه المعلومات إذا قامت بتزويد دولة ثالثة بتلك المعلومات التي حصلت عليها.
وقد حاولت منظمة الأمم المتحدة منذ عام 1960 من خلال اللجان المتخصصة ولجنة الأمم المتحدة لإستخدام الفضاء الخارجي البحث عن إطار قانوني يحدد هذه العلاقة، بالإضافة إلى تنظيم إكتشاف ثروات الأرض عن طريق الاستشعار عن بعد، والمشكلات الأخرى المترتبة عن ثورة نقل المعلومات أو ما يمكن أن يطلق عليه النظام الدولي الجديد للاتصالات والمعلومات والاستشعار عن بعد، واحتمالات تأثير هذا المجال الجديد على سيادة الدولة وأمنها القومي وقدراتها الإقتصادية والصناعية وغيرها. وقد كررت منظمة الأمم المتحدة محاولة التصدي للمشكلات الناتجة عن الحصول على المعلومات بالإستشعار عن بعد بواسطة الأقمار الصناعية في أعوام 1979، 1980، 1981. ولكن الجهود التي بذلتها اللجان الفرعية ومجموعات العمل الفنية باءت بالفشل بسبب الخلاف على المصالح القومية للدول، وعلى وجه التحديد بين الدول المتقدمة في هذا المجال، وتلك التي لم تنل حظها من التقدم بعد. أي الخلاف بين الدول التي تستطيع الحصول على المعلومات وتلك التي تتلقى المعلومات من الغير فقط. وهو صراع بين حرية نقل المعلومات والتمسك بالسيادة القومية بما في ذلك الثروة الطبيعية وأية معلومات عنها.
والدول المتقدمة ترى أن المادة 19 من إتفاقية الأمم المتحدة للحقوق السياسية والمدنية نصت على مبدأ حرية نقل المعلومات في الوقت الذي تمسكت فيه الدول الأخرى بالفقرة 3/ب من نفس المادة التي قيدت هذا الحق بمقتضيات الأمن القومي والنظام العام والصحة العامة والأخلاقيات. وتبلور الخلاف بين فريقين: الأول: ويضم الدول الصناعية المتقدمة؛ والثاني: ويضم الدول التي تدافع عن النظام الاقتصادي الدولي الجديد الذي نص عليه قرار منظمة الأمم المتحدة عام 1974. وبمعنى آخر الخلاف بين دول الشمال المتطورة، ودول الجنوب المخلفة. وقد توصلت المناقشات التي تمت بين أعضاء اللجان الفرعية الفنية إلى ضرورة أن يكون هناك تنسيق بين الدول في حالات الكوارث الطبيعية، وبضرورة إبلاغ الدول المعنية بأية معلومات قد تتوافر في هذا الشأن وهو ما لم يحدث في أكثر الحالات.
أما بالنسبة للمعلومات الأخرى التي يتم الحصول عليها بواسطة الأقمار الصناعية فكان هناك نوع من الاتفاق على بعض الموضوعات الخلافية، ومنها: أن تمتنع الدولة التي تقوم بالإستشعار عن بعد، دون موافقة الدول التي يتم تصوير أراضيها وكشف أسرارها، عن تقديم المعلومات لدولة أخرى أو منظمة دولية أو المؤسسات العامة أو الخاصة. وقد أيدت غالبية الدول النامية هذا الاتجاه في حين عارضته الدول المتقدمة؛ وأن يكون الإستشعار عن بعد بما يتفق مع حق الدولة المعنية في التصرف بمواردها الطبيعية بما في ذلك المعلومات المتاحة عنها، ولا يزال المجتمع الدولي في ظل قواعد قانونية دولية غير واضحة، ولم يزل بعيداً عن وضع مثل تلك القواعد لتنظيم الحصول على المعلومات ونقلها عن طريق الاستشعار عن بعد بالأقمار الصناعية.
وهذا يدعو المجتمع الدولي ودول العالم داخل المنظمة الدولية إلى وضع بعض القواعد العامة التي يمكن أن يسترشد بها في هذا المجال، وأولها: تقييد حرية الفضاء الكوني بإعتبارات أمن الدولة المعنية؛ وثانيها: حق جميع الدول في الحصول على المعلومات التي تتعلق بأراضيها وثرواتها؛ وثالثها: ضرورة التعاون الدولي من أجل مساعدة جميع الدول للحصول والإستفادة من المعلومات التي يتم التوصل إليها. مع الإبقاء على حق الدولة المعنية في إثارة المسؤولية الدولية ضد الدولة التي تحصل على معلومات عنها، وأن تطالبها بتقديم تلك المعلومات مع اعتبار أن ما قامت به يشكل عملاً غير مشروع.
ويبقى الحل في التعاون الدولي وفي النوايا الحسنة بين الدول. لأن الصراع غير ملائم لعالم اليوم ويؤدي إلى تشتيت الجهود الدولية التي يمكن أن توجه إلى ما فيه صالح المجتمع الدولي نفسه، وإلى حل المشاكل التي تهدد البيئة البشرية بأسرها، وخاصة في ظل التقدم العلمي والتكنولوجي الهائل في مجال النقل والاتصال والإستشعار عن بعد التي عملت على إلغاء الحواجز الجغرافية وتقريب المسافات بين أجزاء العالم المختلفة ليصبح العالم معها اليوم أكثر ترابطاً من ذي قبل. وهو ما يؤكد على أن تحقيق الأمن القومي لا يتم من خلال الصراع بين الدول، بل من خلال التعاون الوثيق بينها. ولا ريب في أن تخلي الدول عن سياسة إستخدام القوة أو التهديد بإستخدامها والتزامها بمبادئ القانون الدولي وقواعده بروح من التضامن والإخاء والثقة المتبادلة، لن يؤتي ثماره بتحقيق الأمن لدولة بعينها فحسب، بل سوف يحقق الأمن لكافة الدول في العالم. ويجنب البشرية ويلات الحروب المدمرة التي ضاعف من خطورتها التطور العلمي والتكنولوجي الهائل في كل ميادين الحياة ومن بينها ميدان صناعة وإنتاج أسلحة الدمار الشامل الفتاكة.
ولابد من أن تصب جهود التعاون الدولي في مجال مواجهة الآثار الناجمة عن المخاطر الاقتصادية داخل الدول، وأن تسعى الدول إلى توفير الغذاء ورفع المستوى الثقافي والعلمي والاقتصادي لمواطنيها، وأن تعيد البناء الاجتماعي داخل الدولة بما يحقق تنمية شاملة حقيقية، بدلاً من إضاعة الوقت والجهود في الصراع من أجل تركيز القوة للمواجهة مع الغير. خاصة وأن الإكتشافات العلمية في مجال النقل والإتصالات ونقل المعلومات عبر الأقمار الصناعية وقنوات الاتصال ونقل المعلومات الأخرى قد أحدثت تغييراً شاملاً في مفهوم سيادة الدولة، وأصبحت الممارسة الفعلية لمظاهر السيادة تتحقق بقدر ما تحوزه الدولة أو يتيسر لها من إمكانيات يوفرها التقدم العلمي في شتى مجالات الحياة.
وأصبحت ممارسة السيادة كاملة لدى بعض الدول ومحدودة لدى البعض الآخر، وأصبح كمال السيادة ونقصانها من الناحية السياسية مرتبط بما لدى الدولة من إمكانيات إقتصادية وعلمية وتقنية متقدمة تتيح لها فرصة معرفة ما يدور في منطقتها، بل وفي مناطق العالم الأخرى، وأصبحت بعض الدول تملك معلومات تزيد كثيراً في بعض الأحيان عما يتوفر من معلومات لدى الدولة صاحبة الشأن. ولم تعد الحدود السياسية والموانع الجغرافية صعبة الاختراق، بل وأصبحت أقل صموداً أمام التقدم التكنولوجي، وعلى سبيل المثال: غدت موجات الإذاعتين المسموعة والمرئية تدخل حدود الدولة السياسية دون إذن منها ولا تستطيع أية دولة حيالها شيئاً، إلا من خلال سن تشريعات تحظر هذا أو ذاك أو بث موجات مضادة أو الدخول في منافسة تكون غير متكافئة في أكثر الأحيان. وأصبح الإطار الجديد للتنافس بين الدول في العالم إقتصاديا وإعلامياً، وأصبح التفوق أو التقدم الاقتصادي يعادل القوة العسكرية، كما أن التقدم الإنتاجي أصبح يعادل تطوير الأسلحة الفتاكة، وأن إقتحام الأسواق والساحات الإعلامية العالمية التي تساندها الحكومات، لا يقل أهمية عن إقامة القواعد العسكرية في أراضي الدول الأجنبية ولا يقل عن النفوذ الدبلوماسي في تلك الدول.