الاثنين، 16 يوليو 2012

نظريات الصحافة الدولية



نظريات الصحافة الدولية

تشترك مجموعة العوامل في تأسيس منطق النظرية العلمية في المجالات الإنسانية والحياتية المختلفة، وهي في حقيقتها نابعة من بيئة الإنسان ومجموعة المنبهات والإستجابات التي تتكون وفقاً لها. وقد عرف الإنسان إنسانيته فعلاً، واستطاع تشخيص تلك العوامل البيئية والإجتماعية والنفسية بعد أن عرف اللغة ومفرداتها، إذ أن اللغة في شكلها الأول وبطبيعتها البسيطة البدائية كانت ضرورية لحياة الجماعة وأساساً لتكوين العلاقات بين الإنسان وأخيه الإنسان، وبمرور الزمن تطورت اللغة لتصبح ذاكرة للمجتمع مكنت الإنسان من تنسيق جهوده وتوحيدها في مجرى مشترك عام وجعلت تداول الخبرة ممكناً بين الأفراد والأجيال والمجتمعات (حسين العودات: الإعلام والتنمية. دراسة مقدمة إلى لجنة أليسكو لدراسة قضايا الاتصال والإعلام في الوطن العربي. تونس 1983. ص 9-10).
وأصبحت اللغة في هذا المعنى الواسع أداة إتصال رئيسية بين بني البشر، كما أنها في الجانب الثاني أصبحت أداة فكر وأداة لتبادل الآراء والأفكار بين الناس. وجاءت المطبعة لتفتح الطريق أمام الثورة الصناعية بعد أن مهدت لها الثورة العلمية، وما أن دخلنا القرن العشرين حتى صار العالم يعيش ثورة شاملة في الإتصال والإعلام. وانحسرت المسافات الجغرافية أمام القدرات التكنولوجية لوسائل الإتصال والإعلام. ومن أجل تسخير هذه القدرات وتوظيفها لخدمة المعلومات وتبادلها بين المجتمعات أخضعتها الحكومات والدول إلى نظرياتها السياسية والإقتصادية والإجتماعية.
مما دفع علماء الإعلام والإتصال لتأسيس نظريات إعلامية مستنتجة من تلك النظريات السياسية الأوسع وتطبيقاتها العملية في المجتمعات المختلفة من رأسمالية وإشتراكية وهجينة وغيرها.
ولاغرابة أن يكون لإعلام الدول النامية قولٌ في هذا المجال سيما وأنها أبتليت بالأوضاع التي فرضتها عليها السياسات الإستعمارية، وما تعانيه من شدة الخلافات السياسية التي إنعكست بالنتيجة على فعالياتها الإعلامية.
ورغم دخول العالم اليوم القرن الحادي والعشرين، ودخوله عصر المعلوماتية ووسائل الإتصال المتطورة فإننا نلاحظ إستمرار تخبط الدول النامية في مشاكلها الإعلامية والإتصالية التي إزدادت صعوبة وتعقيداً.
إذ أن الإعلام هو ظل السياسة في الحركة الإتصالية اليومية والتطبيق للمنهج السياسي والإقتصادي والفكري والتربوي والتعليمي والثقافي، في هذا البلد أو ذاك. وإن وعي الإنسان لمثل هذه العوامل والتكوينات الإجتماعية وتقديره للظروف الموضوعية والذاتية التي تحيط به، يرتبط ارتباطاً مباشراً بلغته القومية، لاسيما وأنها - أي اللغة - هي التعبير عن تقديرنا للواقع الموضوعي. وقد ظهر الوعي واللغة في مرحلة محددة من التطور الإجتماعي للبشرية، ليتمكن بنو البشر من التواصل والإتصال ببعضهم البعض (جيهان رشتي: نظم الاتصال والإعلام في الدول النامية. ج1. دار الحمامي للطباعة والنشر، 1972. ص 82).
واللغة تمنح الإنسان بالإضافة إلى وراثته البيولوجية فرصة كغيره للإستثمار الأمثل للثقافة والمعرفة. وقد أتاح العلم الحديث للغة ممكنات ووسائل متعددة للتعبير عن دقائق الأحكام الفعلية في صورها النظرية والتطبيقية ولمختلف الحاجات الإنسانية. ونظراً لتعدد خصوصيات  تلك الحاجات الإنسانية وأساليب إشباعها من الوجهة الإتصالية والإعلامية فقد عمد رجال الإعلام إلى إتباع النظرية المناسبة لهم  في الخطاب الإتصالي والإعلامي لتجسيد المستويات الإعلامية الوظيفية المطلوبة، وهي:
المستوى المعلوماتي: الذي يتوسل باللغة لتوصيل المعلومات إلى المتلقي بإسلوب مباشر وبصياغة واضحة ودقيقة.
المستوى الإقناعي: وهو الذي يقصد به إقناع المتلقي ودعوته إلى الإلتزام الأولي ومن ثم التبني للمضمون المطروح أو الفكرة المقصودة أو الرأي المراد إيصاله ومن ثم تدعيمه  عن طريق خلق قناعات لدى مجموع الجماهير.
المستوى التعبيري: الذي يدخل في باب فنون الأدب المستخدمة في وسائل الإعلام الجماهيرية السمعية والمرئية والمقروءة لاسيما المستندة منها على إستعمال الصورة المتحركة أو الثابتة.
وسينتاول هذه الدراسة عرض أولي للنظريات الإعلامية السائدة في العالم:

نظرية السلطة المطلقة

السلطة المطلقة هي من أنظمة الحكم، وتتمثل في حكم الحاكم غير المؤمن بالحرية أو الديمقراطية ولايسمح بمشاركة الشعب في الحكم على الإطلاق، وتستند السلطة بإعتبارها نظاماً من أنظمة الحكم على فكرة (الحق الإلهي المقدس) وعلى الفكرة القائلة (بأن الحاكم ظل الله وخليفته في الأرض).
مدخل نظرية السلطة المطلقة:
من المتفق عليه أن عام 1450م كان تاريخاً لولادة الإعلام المطبوع حيث تشير المصادر إلى أنه كان تاريخاً لظهور الطباعة، وكان الإعلام المطبوع خاضعاً للسلطة، ومقدار هذا الخضوع مرتبط بطبيعة المجتمع الذي يتواجد فيه. فإما أن يكون المجتمع خاضعاً للسلطة المطلقة، أو أن الفلسفة التي  تحكم هذا المجتمع تدعو إلى ذلك.
وشهد العالم من هذه الفلسفات شتى أنواع السلطة المطلقة. وعلى سبيل المثال سيطرة الكنيسة ورجال الدين في المجتمع الأوروبي، التي خلقت من النظام السائد مجتمعاً خاضعاً للسلطة المطلقة، تحتل فيه الدولة درجة أعلى من الفرد في سلم القيم الإجتماعية ولا يستطيع الفرد في مثل هذا المجتمع أن يحقق أهدافه أو ينمي قدراته وملكاته إلا عن طريق خضوعه للدولة خضوع الخانع الذليل. وأن يكون أسمى تفكير عنده التفكير التابعي الذي يلغي الوعي والعقل والشخصية.
وفي دولة السلطة المطلقة، يشغل رجل أو رجال قليلون مراكز القيادة، ويتمتعون بسلطات مطلقة، وعلى الآخرين الطاعة والخنوع لها ولا وجود للتمثيل الشعبي في مثل هذه الدول. ولكن ماهو مصدر الحقيقة في مجتمع السلطة المطلقة ؟
وللجواب على هذا السؤال يمكن أن نعتمد على حقيقة التفويض الإلهي أو على الإدعاء العنصري في مثل هذا المجتمع. الذي يقول بوجود جنس معين يعتبر نفسه أعلى من الأجناس الأخرى ويتمتع بحكمة أكثر منهم. وباختصار فالحقيقة تتمثل في قدرة القائد أو الجماعة المعنية على تقدير الظروف وتفهم المخاطر وتشخيص إمكانيات تخطيها.
وتعتبر الحقيقة في هذا المجتمع حكراً لهذه القلة التي تعتبر نفسها حكيمة، وترى أن من حقها أن توجه الجماهير الغفيرة. أي أن الحقيقة تتمركز حول مراكز القوة والسلطة، وليس من المهم في هذه الحالة البحث عن مصدر الحقيقة التي تستمد منها الدولة المتسلطة فلسفتها وسياستها. إذ أنها مقصورة على فئة محدودة من الناس، ولا يحق لأي فرد من الأفراد أن يتخذ إليها سبيلاً، لأن من أهداف الدولة المتسلطة الحفاظ على وحدة الفكر والعمل حسب إجتهادات السلطة، لإبقاء الجماهير في حالة معينة حسبما تشاء.
أسس نظرية السلطة المطلقة:
مذهب الحق الإلهي: وترجع هذه النظرية إلى أقدم عصور التاريخ، وهي النظرية التي اعتمد عليها الأباطرة في الحكم وتوارثها النبلاء للإحتفاظ بأوضاعهم ومراكزهم وإمتيازاتهم في السياسة والحكم. وجاء الإسلام ملغياً لهذه النظرية لتحل الشورى والشرع الإلهي مكانها.
ويرجع سيادة هذه الفلسفة أو النظرية إلى الإمبراطوريات الشرقية والغربية على حد سواء ما عدا بعض الإختلافات الجزئية الطفيفة التي تحدث بين كل حاكم وآخر في ممارسة السلطة على المجتمع. إذ لا ينكر أن بعضهم كان يؤمن بالحق والفضيلة وتبادل الرأي والمشورة، كما كان نقيضه يمارس الإستبداد والقسوة تحت تعبير أو فلسفة "ظل الله وخليفته في الأرض"، وكانت اوروبا تحت هذا الحكم خلال العصور الوسطى التي تحول خلالها الشعب إلى عبيد أقنان خاضعين بصورة مطلقة لهذا الحكم أو ذاك.
الصحافة والسلطة المطلقة:
لم تستطع الصحافة وأساليبها من تغيير شئ في نظرية السلطة المطلقة، بل إن سطوة هذه النظرية إزدادت وظلت تمارس تسلطاً جوهرياً على الصحافة وعلاقتها بالمجتمع ووظيفتها الإعلامية التي مارستها تحت سيطرة الحكم المطلق، ودأبت السلطة على تعزيز نظرية السلطة المطلقة للحفاظ على سلطانها المطلق وأخذت تحيط نفسها، بالعقلاء والحكماء وأصحاب الإمتيازات الفكرية، القادرين على إدراك أهداف الدولة في السيطرة والإستقرار. وأخذت تمنحهم المناصب المرموقة في المجتمع ليعملون كمستشارين للقادة الحاكمين ويحتكرون كل الحقائق الفكرية لأنفسهم وليسخروا فلسفاتهم وأفكارهم لخدمة الطبقة المسيطرة على جهاز الدولة، التي تعطيهم حق مخاطبة الشعب، وأن يكونوا ألسنة للحكام تتصل بالجماهير عن طريق وسائل الإتصال والإعلام الجماهيرية المتاحة، ومنها الصحافة المطبوعة التي يحظرون عليها كل الآراء التي توقظ الشعب من سباته العميق، للإبقاء على الأوضاع القائمة.
وإرتبطت هذه النظرية في العصر الحديث ارتباطاً وثيقاً بأنظمة الحكم الشيوعية والفاشية والنازية، كالنظام الهتلري في ألمانيا النازية، ونظام موسوليني الفاشي في إيطاليا، والنظام الفاشي في إسبانيا والبرتغال. حيث سيطرت الدولة المستبدة سيطرة تامة على أجهزة ووسائل الإتصال والإعلام الجماهيرية وفرضت عليها تعبئة الشعب تعبئة عدوانية خدمة للأهداف التوسعية التي رسمتها لنفسها وتسببت في قيام الحرب العالمية الثانية التي أزهقت ملايين الأرواح البريئة لبني البشر.
الرقابة وسيطرة الأجهزة المسؤولة على الصحافة:
تعتبر الرقابة من الركائز الهامة في نظرية السلطة المطلقة. ويمكن أن نرجع تاريخها إلى الرقابة الدينية في العصور الوسطى بأوروبا، عندما كانت الكنيسة الرومانية في أوج قوتها. وكانت مصدر التفويض الإلهي. واستطاعت الكنيسة أن تسيطر في بلاد كثيرة، على الرأي العام وعلى حرية التعبير لعدة قرون. وسيطرت الكنيسة واستفادت من إختراع الطباعة، إلى أن قامت الحكومات بالسيطرة على الوسيلة الإعلامية الجديدة.
وكانت السيطرة عن طريق إصدار التراخيص للطابعين والناشرين ومن ثم تحكمت الحكومات على من مارس هذه المهنة بشكل عام. وقد كان الترخيص آنذاك يعتبر إمتيازاً يلزم الناشر بطبع وتوزيع ما يرغبه الحاكم. غير أن هذا الأسلوب لم يجد نفعاً، مما أدى إلى فرض الرقابة المسبقة وفحص جميع الأصول المخطوطة من قبل ممثلي الحكومة قبل الطبع والنشر لإصدار الترخيص بالطبع، بقصد السيطرة على ما تنشره الصحف ودور النشر بشكل محكم.
وأخضعت الحكومات الاستبدادية دائرة الاتصال بالجماهير لقيود وعقبات ومعوقات كثيرة جعلت الطريق مفتوحاً أمام الدولة فقط، وأغلقته في وجه الأفراد لاغية بذلك أي نوع من أنواع حرية الإعلام. بحجة تحقيق أمن وسلامة الدولة. وبهذه الذريعة ألغيت كل الحريات، وهو ما استقت منه الفلسفات الفاشية والعنصرية كل المبررات لإهدار حقوق الإنسان.
التاريخ الطويل للأيديولوجية السياسية لنظرية السلطة المطلقة:
يرى أفلاطون أن تقسيم السلطة بالتساوي داخل الدولة يعتبر بداية تفكك وانهيار تلك الدولة. وكانت حجة أفلاطون  في ذلك أنه ما دام الإنسان يتحكم بغرائزه وشهواته عن طريق العقل، فإنه على الحكام في الدولة بالمقابل أن يمنعوا المصالح المادية والعواطف الأنانية للجماهير من أن تسيطر على المجتمع.
وأكد أكثر الفلاسفة في العصور اللاحقة على قوة السلطة كميكافيلي الذي دعى إلى إخضاع كل شيء لأمن الدولة. وبرروا الأعمال اللا أخلاقية التي يمارسها القادة السياسيون والرقابة الصارمة على الحوار والمناقشة، وعلى نشر المعلومات في المجتمع. معتبرين أن لها ما يبررها مادامت تخدم مصالح الدولة وسلطة الحاكم، أي أن الغاية تبرر الوسيلة.
أما جورج هيجل الذي لقب بأبو الفاشية الحديثة والشيوعية الحديثة، فقد أعطى فلسفة السلطة المطلقة لمساتها النهائية حين قال: "الدولة هي: روح الأخلاق وهي الإرادة وهي العقل. والدولة كحكم أو سلطة تعتبر هدفاً في حد ذاته وبالتالي فهي تتمتع بأكبر قدر من الحقوق وهي فوق المواطنين والأفراد".
وهكذا فرضت نظرية السلطة المطلقة وجوهاً فكرية صارمة، تنبع من الإسهام الفكري للحكماء شريطة أن تخدم نظرياتهم المجتمع، الذي تسهر عليه الدولة  بالرعاية والإرشاد واليقظة والرقابة. وهو ما صاغه الفلاسفة الأقدمون أمثال: سقراط وأفلاطون وأرسطو من نظريات فلسفية تخدم السلطة الإستبدادية، بدليل أن أفلاطون خلع صفة المثالية على الشكل الإرستقراطي للدولة معتقداً أن طبيعة الإنسان وإهتماماته المادية وعواطفه الأنانية تتسبب في تدهور الحكم من الإرستقراطية إلى الديمقراطية، أي إلى التفتت والإنحلال. واعتبر أن الدولة لا تجد الأمان إلا في أيدي الحكماء من رجالها، ورجال القانون من أنصارها، أصحاب المثل الأخلاقية العليا التي يتم فرضها على كل عناصر المجتمع، ليظلوا على الطريق القويم الذي رسموه لهم. معتبراً أن هذه الصفوة من البشر تجعل العقل يسيطر على عواطف القلب وغرائز الجسم.

نظرية الصحافة الحرة

سميت هذه النظرية بنظرية الصحافة الحرة كونها تؤمن بالفرد أساساً، وتعتبر أن الفرد يولد وهو مزود بحقوق طبيعية، وتؤمن وتفترض بأن الفرد كائن عقلاني وأخلاقي، وأن أخلاقيته تحدد له ما يجب المحافظة عليه دون قانون، أي تمتعه بالحرية المطلقة في حياته، وآرائه، والدعوة إلى العيش الكريم دون أي تدخل من السلطة.
ويرى أصحاب هذه النظرية أن الفرد أسمى من الحكومة، ومن الدولة. وأن الدولة هي وسيلة فقط، أو واسطة يمارس من خلالها الفرد نشاطه، وحين تقف الدولة في وجهه فعليه محاربة تلك القوة التي تمنع تحقيق أهدافه التي يرغب الوصول إليها.
وولدت هذه النظرية من صلب نظرية السلطة المطلقة، والإستبداد العبودي للإنسان متمثلة بسلطة أصحاب الإمتيازات من: حكام؛ ونبلاء؛ وإقطاعيين.
وعانت الشرائح الإجتماعية على إختلاف أنواعها من السلطة المطلقة عن طريق الإضطهاد السياسي والإقتصادي والنفسي وحتى الديني، وكان الظلم المتمثل بنظام الأقنان من أقسى أنواع الظلم البشري، ولذلك تمتع النظام الحر أو الليبرالي في بعض التسميات، بمسحة سحرية تمتع الفرد بها ومن ثم المجتمع بالديمقراطية الليبرالية والتقدم بمعايير ذلك الزمن.
مبادئ النظرية الحرة:
تعتمد النظرية  الحرة على مبدأين أساسيين هما: مبدأ الفردية؛ ومبدأ المنافسة. ويرتبط هذان المبدآن إرتباطاً وثيقاً بالنظريات الإقتصادية والسياسية. ويعتبر مبدأ الفردية أو الحرية الفردية من المبادئ الواضحة في مفهوم النظرية الحرة ويرتكز أساساً على حرية النشاط الفردي في المجالات الإقتصادية والسياسية، كرد فعل على ما ظل سائداً لقرون طويلة من إضطهاد للفرد من قبل الإقطاعيين. حيث ناضل الرواد الأوائل لهذه النظرية من أجل أن تظل الحكومات بمنأى عن التدخل في شؤون الأفراد ونشاطاتهم الإقتصادية والفكرية. وفي شؤون وسائل الإتصال والإعلام الجماهيرية أيضاً.
أيديولوجية نظرية الصحافة الحرة:
كان ظهور نظرية الصحافة الحرة نتيجة للتطورات الفكرية، والأحداث السياسية والإجتماعية التي مر بها المجتمع الأوروبي. ومن أهم تلك الأحداث في التاريخ الأوروبي الحديث:
إندلاع الثورة الفرنسية عام 1789م التي أعلنت حقوق الإنسان وطرحت مبادئ كان لها تأثير كبير في التاريخ الإنساني، وسمحت للفرد بالتحرر ومزاولة نشاطاته الإقتصادية والفكرية دون أي نوع من أنواع التدخل من جانب الدولة.
وأعتبرت الدولة مسؤولة عن وظائف محددة هي:
- المحافظة على الحقوق والأمن في الداخل؛
- والدفاع عن الوطن ضد أي إعتداء خارجي؛
- وإحترام حقوق المواطن في التفكير والعمل الإقتصادي والإجتماعي والفكري والسياسي.
وساعد ظهور نظرية الحرية (ترتكز نظرية الحرية على الإيمان المطلق بالإنسان، على عكس  نظرية السلطة المطلقة التي تنظر إلى الإنسان على أنه جزء من المجتمع تنحصر قيمته وفقاً لفهم السلطة. بحيث كان مذهب الحرية يرى أن سعادة الفرد هي الغاية من وجود المجتمع، بينما يرى أنصار مذهب السلطة المطلقة أن سعادة المجتمع هي الغاية من وجود الفرد حتى وإن كانت تلك السعادة على حساب حياته الخاصة) على ظهور الديمقراطيات الرأسمالية، ومن ثم ظهور الإحتكارات بأوسع معانيها (أنظر نص الإعلان في مجلة الإعلام العربي ( الأليسكو) العدد 2 ديسمبر/كانون الأول 1982. ص 171 وما بعدها).
وحقق مفهوم نظرية الحرية إنتصارات كبيرة على صعيد المجتمع الأوروبي وعلى صعيد الفرد فتوسع التعليم الذي لم يكن متيسراً كما هو معروف الآن قياساً بما تحقق بعد زوال العهد الإقطاعي الإستبدادي، ومنح حق الإنتخاب لأكثر المواطنين ومنها حق الفرد في ممارسة نشاطاته الإجتماعية، والتنافس للحصول على أكبر قدر ممكن من الربح المادي، وزيادة الإنتاج مما حقق للمجتمعات الرفاهية والتقدم.
وظهر مفهوم الحرية بادئ الأمر في أوساط الطبقة الوسطى في المجتمع الأوروبي، التي طالبت بالحرية، وضمان حقوق الأكثرية في المجتمع. وتجلى هذا الأمر بالوضوح عندما تبنت الحركات السياسية مبدأ المناشدة بالحرية.
وكان لظهور الفيلسوف جون لوك أثر كبير على تطور نظرية الحرية، عندما قال: بأن الشعب هو مصدر السلطات.  ويفسر هذا القول أن الشعب يمكنه أن يسحب السلطة متى شعر بأن الحكومة لا تعمل لصالحه.
وجاء جون ملتون 1644م ليقول: أن الحقيقة لا تضمن لنفسها البقاء إلا إذا أتيحت لها الفرصة لأن تتقابل وجهاً لوجه مع غيرها من الحقائق في طرح كامل وبحرية تامة.
بينما رآى جون راسكين "أن كل إنسان يسعى لتنوير الآخرين لا إلى تضليلهم، ومن حقه أن ينشر كل ما يدور بعقله وما يختلج ضميره سواء أكان في الموضوعات  الحكومية أم في الموضوعات الخاصة".
أما جون ستيوارت فقد قال: "أن من حق الفرد الناضج في المجتمع أن يفكر ويتصرف كما يشاء ما دام لايؤذي أحداً بتفكيره أو تصرفه. وما دام هذا التفكير والتصرف يؤدي إلى منفعة الآخرين.
وانتشرت هذه الطروحات الفلسفية في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، وكانت ترمي في الأساس إلى مايلي:

- تطبيق الحرية بمعناها الواسع؛

- وإحترام الإنسانية وحفظ قيمة الفرد؛
- وضمان مستقبل الفرد؛
- وتحقيق الرفاهية والسعادة للمجتمع.
ولم تجد تلك المبادئ طريقها إلى التطبيق إلا في العقود الأخيرة من القرن العشرين، في ظل هيمنة الدول الصناعية المتقدمة وسيطرتها على الإقتصاد ووسائل الإتصال والإعلام الجماهيرية.
الصحافة الحرة ووسائل الإتصال والإعلام الجماهيرية:
لكل نظرية من النظريات شكلها المعين، ومفاهيمها المعينة التي تسيطر من خلالها على أساليب وأنماط الإعلام. وتنبع فلسفة الإعلام عادة من فلسفة الدولة، فالإعلام في نظرية السلطة المطلقة هو إعلام إستبدادي إستعاضي، أي أن الدولة كما ذكرنا تحل محل الشعب عن طريق كتابها وألسنتها الناطقة بإسمها، ولا تسمح إطلاقاً إلا بما يراعي مصالحها وتوجهاتها. إضافة لفرضها رقابة قسرية على وسائل الإتصال والإعلام الجماهيرية.
وقد أدى ظهور نظرية الحرية إلى صراع تمثل بين المفهوم الغربي للحرية، والمفهوم السوفييتي للحرية، إبان الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، والشرقي بقيادة الإتحاد السوفييتي السابق. والإختلاف المطروح كان: أيّ المفهومين أصدق أو أقرب أو أنفع للفرد والمجتمع؟ فكلا الجانبي كانا يتهمان بعضهما بإضطهاد الإنسان وإستغلاله  وكل منهما طرح أسلوبه وأفكاره وفلسفته بين الجماهير وروج لها بين الشعوب. وقد سَخِرَ الماركسيون من الحرية النظرية التي عرفها العالم الغربي عندما أعلن ستالين: "أنه لا معنى مطلقاً للحرية بالنسبة للمتعطل عن العمل، ولا معنى للحرية بالنسبة للجائع فإن الحرية لا توجد إلا عندما يختفي الإستغلال والتسول والخوف أو يختفي شبح البطالة من المجتمع إختفاءً تاماً" (د. جبار عودة العبيدي، و هادي حسن عليوي: مدخل في سياسة الإعلام العربي والاتصال. مكتبة الجيل الجديد، صنعاء 1993. ص 21-23). وهذا كلام واضح لا يحتاج إلى تعليق. فالسخرية تبدو رافضة تماماً لهذه النظرية.
بينما أعلن الغربيون أن صحافتهم تتمتع بالحرية المطلقة وأن الصحافة السوفييتية تنوء تحت وطأة السلطة، وأنها تخضع كل الخضوع للرقابة الحكومية أو رقابة الحزب الواحد.
بينما أعلن السوفيات أن صحافتهم غير مأجورة كالصحافة الأمريكية التي إتهموها بأنها مأجورة، وأن الصحافة السوفييتية ليست خاضعة لسيطرة رأس المال والإحتكار كما هو الحال في الغرب.
ووصفت الصحافة الأمريكية نفسها بأنها صحافة الخبر وأنها تساير في ذلك التطور الصحفي في البلاد المتقدمة، وأنها قادرة على نشر الأخبار بسرعة فائقة، وأنها أقدر من سواها على تسلية القارئ وإمتاعه وتزويده بالمعلومات النافعة.
بينما ردت الصحافة السوفييتية بقولها أن السبق الصحفي في الأخبار وتسلية القراء لا يعتبران جزءاً من الخدمة العامة التي تقدمها الصحافة الرشيدة للشعب. كون خبر التسلية والترفيه عن القراء كثيراً ما يكون منافياً للشرف الصحفي وفق المفهوم السوفييتي.
وعلى العموم فإن الغرب يضع الحرية في المرتبة الأولى والمسؤولية في المرتبة الثانية بينما السوفييات قبل الإنفتاح الغورباتشوفي في ثمانينات القرن العشرين كانوا يضعون المسؤولية أولاً والحرية بعد ذلك. وتغيرت الظروف والطروحات بعد إنهيار المنظومة الإشتراكية والإتحاد السوفييتي، ولاحت تباشير الإنفتاح على المفهوم الغربي للحرية والديمقراطية في وسائل الإتصال والإعلام الجماهيرية للدول المستقلة التي قامت على أنقاض الإتحاد السوفييتي السابق، وأنقاض المنظومة الإشتراكية السابقة التي كان يقودها الإتحاد السوفييتي السابق. وراحت تلك الدول تبحث عن مكان لها في النظام العالمي الجديد، منفتحة على العالم بعد سنوات طويلة من العزلة والمواجهة.

النظرية الاشتراكية للصحافة

ظهر مفهوم النظرية الإشتراكية للصحافة في بداية عام 1830 واستمر في تطوره حتى عام 1948. وخلال هذه الفترة الطويلة التي دامت أكثر من قرن، ظهرت الكثير من المفاهيم والمذاهب الفلسفية والأفكار السياسية المكملة لمفهوم الإشتراكية. وكان أولها ما ظهر في فرنسا إبان الثورة الفرنسية التي إعتمدت على المنشور والمطبوع في نشر أفكارها.
ولأول مرة ظهر مصطلح الإشتراكية بمعناه السياسي الحديث الدال على نظام إجتماعي وإقتصادي في الصحافة عندما نشرت صحيفة (كلوب) عام 1832 مقالة عنها بقلم بيير ليرو أحد أتباع مدرسة سان سيمون الفلسفية، وأطلق تعبير الإشتراكية للتعبير عن الفلسفة الإجتماعية الإصلاحية التي آمن بها أتباع هذه المدرسة المؤمنة بالنظرة الإنسانية إلى الطبقات المعدمة. ولكن سرعان ما اتسع مدلول الإشتراكية بفضل فورييه، وبرودون، ولويس بلان، لتعبر عن التطلع إلى نوع جديد من النظم الإجتماعية.
التيارات الإشتراكية:
تبلورت في أوروبا ثلاثة تيارات إشتراكية، تيارات تمثل خلاصة الصراع الإنساني ضد الإحتكار الرأسمالي وفق المفهوم الإشتراكي، وهي:
الإشتراكية الإنتاجية: التي تتبنى مشاريع تنمية الثروة القومية، وإطلاق طاقات رأس المال في المشروعات الإقليمية والعالمية. داعية الناس القادرين على الإنتاج والبذل. وفق مفهوم الكل منتج دون تدخل من الدولة، تاركين الأمر للتجار والصناعيين والمثقفين والعلماء والفنيين لتحقيق الكفاية، وتزعم هذه المدرسة الفيلسوف سان سيمون وأتباعه.
الإشتراكية التعاونية: وتزعم هذا الإتجاه في إنكلترا الفيلسوف ورجل الصناعة روبيرت أوين، وفي فرنسا شارل فورييه، واعتبر أوين أن حل المشكلة يتوقف على خلق النموذج الإشتراكي الإنساني الذي سوف يجذب أصحاب النوايا الطيبة من الأغنياء ورجال المال والصناعة. وأعطى المثال بنفسه عندما أقام مستعمرة إشتراكية على أساس المساواة المطلقة والمشاركة في الجهود والأرباح، وانتفاء الأسلوب الرأسمالي الإستغلالي في التعامل.
الإشتراكية العلمية: الذي صاغ نظريتها الفلسفية والإجتماعية والإقتصادية كارل ماركس، بعد إستيعابه العلمي للفلسفة الجدلية لهيجل، ومذهب آدم سميث للإقتصاد الحر، والدراسات الفلسفية الإجتماعية لسان سيمون وتلاميذه.
دعائم النظرية الإشتراكية للصحافة:
تقوم النظرية الإشتراكية العلمية للإعلام على دعائم أساسية هي:
- ملكية الشعب لوسائل الإتصال والإعلام الجماهيرية؛
- وربط مؤسسات ووسائل الإتصال والإعلام الجماهيرية بالمجتمع الإشتراكي، ربطاً وثيقاً، وتحديد دور إيجابي يلتزم به جميع العاملين في الميدان الإعلامي.
وبهذا الوضع وتطبيقاً لهذه الأفكار فإن الصحافة التي تؤمن بهذه الفلسفة هي صحافة واقعية لا عناية لها إلا بالموضوع أو الموضوعية الأكاديمية، لذلك فهي تؤمن بالواقع الملموس من المكاسب التي تحصل عليها الطبقة الكادحة. وتضع المسؤولية العامة اتجاه الطبقة أولاً والحرية ثانياً.
وعلى هذا الأساس أصبح للحرية الصحفية في النظام الإشتراكي معنى مخالفاً تماماً لمعناها في النظام الرأسمالي، ووفقاً لمصالح الطبقة الكادحة (UNESCO: Final Report. Intergovernmental Conference on Communication in Latin American & the Caribbean. San Jose Costa July 1976. p. 23). والنظام الإعلامي الإشتراكي يؤمن بـ: حرية القول؛ حرية الإجتماع والإجتماعات الشعبية؛ وحرية التجمع والمواكبة والتظاهر لتحقيق غرض معين.
ولم يعد في الإمكان التحدث عن نظرية إشتراكية للصحافة  بعد إنهيار المنظومة الإشتراكية والإتحاد السوفييتي السابق، وتفكك الجمهوريات السوفييتية إلى جمهوريات مستقلة ذات سيادة وإستقلال وطني، وتحول أغلبية دول المنظومة الإشتراكية إلى أنظمة ديمقراطية لها أساليبها السياسية والإعلامية الخاصة بها وعلاقاتها الدولية المبنية على مفاهيم جديدة. بل أن بعض تلك الجمهوريات الجديدة أخذت تعمل على تكييف نظرية الإعلام الحر مع ممارساتها الإعلامية الفعلية.

نظرية المسؤولية الإجتماعية للصحافة

ولدت نظرية المسؤولية الإجتماعية للصحافة نتيجة لمعاناة الساحة الإعلامية من النظريات السابقة. وقد يكون السبب أيضاً نتائج الحرب العالمية الثانية وتأثيراتها على المجتمع الدولي. ووجد المفكرون في المبادئ والوظائف والصيغ الجديدة في نظرية المسؤولية الإجتماعية للصحافة إنعكاساً للنظرية الليبرالية.
وأعتبر القرن العشرين الميدان التطبيقي لأفكار هذه النظرية في المجتمع والدولة، وكان أمثل تطبيق لأفكار هذه النظرية الولايات المتحدة الأمريكية التي سبق تطببقها فيها ومن ثم أخذت طريقها للإنتشار في بقية أنحاء العالم. وتوجهت أفكار ومبادئ هذه النظرية بالنقد لأفكار النظرية الليبرالية (نظرية الحرية).
ومن أهم مبادئ هذه النظرية:
- إعطاء الحقيقة للفرد ولا يحق التستر عليها، ولا يجوز تزويد الفرد بمعلومات كاذبة أو ناقصة؛
- وممارسة النقد البناء والقبول بأي فكر أو طرح جديد من قبل الفرد وتقبل مناقشة ذلك الفرد، لتصحيح الخطأ إن وجد بإسلوب ديمقراطي بناء هادف وهادئ؛
- ونشر أهداف المجتمع وخططه التربوية والتعليمية والإقتصادية. فالإتصال والإعلام يهدف خدمة المجتمع ويبشره بالرفاهية، وإحترام حقوق الفرد السياسية والإقتصادية والثقافية والإجتماعية؛
- وإتاحة الفرصة للفرد للحصول على المعلومة التي يستفيد منها أو يريد أن يتعلمها أو يضيفها إلى حصيلة مستواه الثقافي والسياسي من خلال الفكر الرسمي للدولة أو فكره الشخصي.
وتتلخص الوظائف العامة لنظرية المسؤولية الإجتماعية للصحافة بما يلي:
- خدمة النظام السياسي المتفق عليه من قبل الأغلبية الساحقة للشعب؛
- وإعلام الرأي العام وإعلاء ممارسة حكم الشعب لنفسه؛
- وحماية حقوق الأفراد في المجتمع، وحق الدولة بخدمة المجتمع واحترام النظام العام، واحترام حق الاتصال والإعلام؛
- وخدمة النظام القائم من خلال إبراز الأنشطة الإقتصادية والإجتماعية والسياسية والثقافية التي يقوم بها؛
- وتقديم البرامج المتوازنة الخاصة بالتسلية والترفيه للفرد من خلال قسط الحرية الممنوح من قبل الدولة وبما يحقق الراحة للجميع؛
- والتركيز على مبدأ تحقيق الإكتفاء الذاتي.
وواجهت نظرية المسؤولية الإجتماعية للصحافة بعض أوجه النقد للنظرية الليبرالية (الحرية) وتمثل النقد في:
- أن الصحافة لم تؤد دورها الصحيح في عرض وجهات النظر المختلفة للأفكار المطروحة في المجتمع. بينما تؤمن نظرية المسؤولية الإجتماعية بضرورة إعطاء الحقيقة ووجهات النظر المختلفة كلها دون مراوغة أو تضليل للفرد وإنما منحه حقيقة الفكر المطروح من خلال الوسائل الإتصال والإعلام الجماهيرية؛
- وأن نظرية الحرية الليبرالية تهدف إثارة الأحاسيس والمشاعر في المجتمع. ولذلك فإنها لا تعطي الحقيقة كلها بل تجزئها وأحياناً تحرفها، بشكل يؤدي إلى خداع المجتمع  في النهاية، وقد يساند الفرد ممارسات تلك الدولة أو تلك دون أن يعرف توجهها الصحيح،  ولكنه يكتشف بعد فوات الأوان أنه كان مخدوعاً. بينما تخالف نظرية المسؤولية الإجتماعية للصحافة هذا الرأي وتؤكد على ضرورة ممارسة حرية إعلام المواطن بالخبر والحدث ومنحه حق منافسة الدولة والآخرين بشكل يؤدي إلى العمل والتعاون المشترك خدمة للتقدم.
وتتحمل وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية بقدر من المسؤولية في ممارسة البناء والنمو الإجتماعي على أساس الإلتزام بحقوق الآخرين. فالحرية تنطوي على قدر كبير من المسؤولية الإجتماعية، لذلك فإن الحرية ليست حقاً طبيعياً يعطى دون مقابل، بل حقاً مشروطاً بمسؤوليات يمارسها الإنسان اتجاه نفسه واتجاه المجتمع.
ولا حق لأحد بالإعتداء على حريات الآخرين. أي أن الحكومة والشعب يعطيان لوسائل الإتصال والإعلام حقها في حرية التعبير، ولكن في نفس الوقت يمكن أن يفقد هذا الحق فيما لو أسيء إستعماله ولا يمكن عزل المجتمع وسائل الإتصال والإعلام الجماهيرية والدولة عن بعضهم البعض
فالتمتع بالحقيقة وحرية الرأي أمران ضروريان للأطراف الثلاثة الدولة والمجتمع ووسائل الإتصال والإعلام الجماهيرية لأن الغاية واضحة للجميع. وتبدأ عملية تفكير الفرد فور تسلمه للخبر، الذي يناقشه مع نفسه أولاً، ومن ثم مع السياسة المعلنة للدولة ووسيلة الإتصال والإعلام الجماهيرية المنتمية لتلك الدولة مخالفة أم مؤيدة لرأي وفكر الحكم السائد في الدولة.
وبذلك يصبح الفرد متمتعاً بالحرية الحقيقية والقدرة على التعبير عن رأيه وأفكاره ومفاهيمه ومواقفه. إلا أن هذا لا ينفي وجود الرقابة الموضوعية على النشر. إذ أن الرقابة موجودة ولا تسمح بنشر أي شيء يتعارض وتوجه وخدمة الجماهير العريضة، ولا يهم الرقابة الآراء المتعلقة بالأفراد كأفراد، لأنها تضع مصلحة المجتمع فوق كل المصالح، وتحترم المصلحة الجماعية لذلك المجتمع.

نظرية المسؤولية العالمية للصحافة

تهدف نظرية المسؤولية العالمية للصحافة:
- ربط أجهزة الإتصال والإعلام الجماهيرية والعاملين فيها بقضية الإنسان في كل مكان؛
- ورفع مسؤولية الإتصال والإعلام الجماهيري إلى مستوى القضايا العالمية التي تحتاج إلى كلمة الحق المنزهة عن الهوى، وإلى الموضوعية التي تفتقر لها أجهزة الإتصال والإعلام الجماهيرية في المجتمعات المختلفة؛
- وتحقيق المساهمة الإيجابية لأجهزة الإتصال والإعلام الجماهيرية في معركة الوجود الإنساني نفسه؛
- ونبذ ومحاربة التهديدات الإنسانية المصيرية والمتمثلة في الحرب النووية والإحتكارات والمصالح الدولية.
وأهداف وغايات نظرية المسؤولية العالمية للصحافة بالأساس تنبثق من مفهوم خدمة المجتمع الإنساني ككل. وهذه النظرية تعتبر إمتداداً للنظريات الإعلامية السابقة ولكنها قد تكون أكثر شمولاً منها كونها تنطلق من وإلى المجتمع الإنساني الأشمل. دون تحديد لجنس هذا المجتمع لأنها ترفض الأفكار العنصرية والعرقية والدينية وتعمل على خدمة الإنسان من كل جوانب حياته، وتؤمن بتوفير الحرية الكاملة والكافية التي تمكن الإنسان من إبداء رأيه وأفكاره، من خلال وسائل الإتصال والإعلام الجماهيرية المتاحة. وتتلخص فلسفة هذه النظرية بالعبارة التالية: (حب الإنسان للإنسان)....
ومهما تكن الإختلافات بين الإنسان والإنسان الآخر، فإن شعار هذه النظرية يؤكد على التآخي، ودعوتها الصريحة تتسم بالبساطة والوضوح. فقد استندت إلى حقيقة موضوعية في إرتباط الإنسان بالإنسان الآخر، من حيث الحضارة والمصالح والتاريخ والجغرافية والديانات، وكل ذلك يستدعي من الإنسان أن يحب لأخيه الإنسان الآخر ما يحب لنفسه في العالم الإنساني الواسع الفسيح الأرجاء.
وقد تختلف أو لا تختلف الغاية من الأهداف التي تتضمنها هذه النظرية. إلا أن الغاية الأساسية تركز على تكييف طبيعة الصراع الإنساني لتحقيق الغاية الأسمى. غير أن هذه النظرية لا يمكن تحقيقها مالم يظهر من بين دعاتها أفراداً مخلصون لمبادئ الإنسانية عموماً، لأن الذاتية كنزعة إنسانية فردية تقود بعض المنظرين والسياسيين المتزعمين لحركة المجتمع أو المتزعمين لحركته الفلسفية والفكرية إلى ضيق الأفق.
والإخلاص هنا يرتكز على مبادئ الإنسانية جمعاء، وليس على المبادئ الذاتية التي تضلل الناس المتطلعين إلى السلام والحرية. ومحاربة كل وسائل الإتصال والإعلام الجماهيرية الرأسمالية التي تعمل على إستيلاب حياة الناس وإستلاب رغيف الخبز الذي يعيشون عليه.
وتعتبر أن الإنسان المتطلع إلى مبادئ المسؤولية العالمية بحق، هو ذلك الإنسان المنادي بالحرية الحقيقية وبمفهومها الحقيقي، ومعناها المناهض للوسائل المتخلفة التي تعمل على تفكيك وتجزئة شعوب العالم من خلال النزاعات الدينية، والتوسعية، والعبودية الإقتصادية والسياسية والإجتماعية، التي في النهاية تحطم الإنسان في كل مكان. لذلك ومع توسع  الثورة المعلوماتية والتكنولوجية وخضوع وسائل الإتصال  والإعلام الجماهيرية للإحتكارات أو الفئات الحاكمة والسير في ركابها، وعدم ارتباطها بالمجتمع وتسخير قدراتها لخدمة قضاياه، فإن تطبيق هذه النظرية العالمية يحتاج إلى أولئك الرجال الذين يستطيعون تخطي الحواجز الإقليمية والإرتفاع فوق الصراعات والمصالح الشخصية والمحلية والإقليمية، والنظر إلى الإنسان كإنسان في كل مكان.
ولقد وجدت محاولات فردية كالمحاولة التي قام بها الفيلسوف البريطاني برتراند راسل، وعارض فيها الحرب الفيتنامية، وجهود بعض الكتاب الأحرار في مقاومة الاحتلال والحروب والتفرقة العنصرية.
ولكن هذا الذي يحدث هنا وهناك لم تواته القوة المؤثرة بعد، ولا زالت تلك النظرية بعيدة عن الرواج أو التأثير. كما ونجد أن الكثير من المحاولات الإعلامية والسياسية العالمية لمناصرة حقوق الشعوب المضطهدة وقضاياها العادلة، وفضح المخططات التوسعية والعنصرية في العالم، دون المستوى المطلوب.
ونرى أن الأمم المتحدة معنية في إعادة النظر في جميع ممارسات إتصال والإعلام الجماهيري الدولية المستندة على مبدأ حق إمتلاك التكنولوجيا، الذي يعني حق إحتكار المعلومات. فالقضايا الإنسانية وحقوق الشعوب المهضومة جميعها تمثل جوهر عملية الإتصال والإعلام الإنساني الموالي للحب والسلام والوئام بين شعوب العالم على أساس الإحترام المتبادل وتبادل المنافع والمصالح الإنسانية (د. جبار عودة العبيدي، وهادي حسن عليوي: مدخل في سياسة الإعلام العربي والاتصال. مكتبة الجيل الجديد، صنعاء 1993. ص 29-31).
طشقند في 12/7/2012
بروفيسور محمد البخاري