الأربعاء، 8 أغسطس 2012

مطالب العرب بالإستقلال التام


مطالب العرب بالإستقلال التام

 8

(صفحات من تاريخ المشرق العربي في سياسة المصالح الخارجية للدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى)
أللنبي وفيصل بدمشق
بعد عودة الأمير فيصل من أوروبا بتاريخ 30/4/1919 ألقى بدمشق كلمة أمام اجتماع حاشد أعلن فيه عن قرار المؤتمر بإرسال اللجنة، ودعا السوريين بأن يطالبوا اللجنة بالاستقلال "الكامل والناجز" لبلدهم، وأعلن عن نيته دعوة المؤتمر السوري العام الذي يملك حق التحدث باسم الشعب. وفي 9/5/1919 دعا الأمير فيصل ملاك الأراضي السوريين وزعماء الأقليات الدينية من مسيحيين ودروز ويهود من المعروفين بمساندتهم للأمير فيصل رغم أن زعماء المسيحيين الملكيين والبطريركية الأرثوذكسية كانوا قد لمحوا ببعض الشروط قبل مساندتهم له (لوتسكي ف.ب.: المسألة العربية والدول المنتصرة أثناء مؤتمر باريس للسلام (1918-1919) // الدول العربية. تاريخ. اقتصاد. موسكو، 1966. ص 26)، (DBFP. Ser. 1. V. 4. P. 265-272).
وبشكل مفاجئ قام الأمير فيصل، بدعوة جورج بيكو لزيارة دمشق في أواسط أيار/مايو لإجراء محادثات حول موافقته على الانتداب الفرنسي الذي يجب أن يقتصر وفق وجهة نظر الأمير فيصل على المساعدات المالية وإرسال المستشارين إلى سورية، على أن تشمل سلطة الحكومة العربية الساحل، وطالب فرنسا بإصدار بياناً بذلك قبل وصول اللجنة يتضمن وحدة الأراضي السورية والفلسطينية وكليكيا والموصل، ومساندة مطالب عرب جنوب العراق بالإستقلال.
وهي الشروط التي كانت غير مقبولة من قبل فرنسا وغير قابلة للتنفيذ، وهو ما أخبر بيكو به الأمير فيصل رسمياً بعد شهر من ذلك التاريخ (لوتسكي ف.ب.: المسألة العربية والدول المنتصرة أثناء مؤتمر باريس للسلام (1918-1919) // الدول العربية. تاريخ. اقتصاد. موسكو، 1966. ص 27-28).
ولكن حقيقة المحادثات بين الأمير فيصل والفرنسيين ألد أعداء القوميين العرب كانت غريبة. وفي المناقشات الخاصة والمراسلات مع الشخصيات الرسمية الإنكليزية كالرسالة التي وجهها لأللنبي بتاريخ 12/6/1919، كرر الأمير فيصل دون ملل أن أفضل حل له ولكل "الشعب السوري" هو الانتداب البريطاني، بغض النظر عن الرفض الرسمي لبريطانيا العظمى لهذا الانتداب (DBFP. Ser. 1. V. 4. P. 275).
ولكن من المحتمل أن يكون الأمير فيصل قد استخدمها في محادثاته مع بيكو كورقة ضغط لإثارة خلافات بين الحلفاء في أنتانتا.
وفي حزيران / يونيو 1919 استعدت كل الجهات المعنية لاستقبال اللجنة الأمريكية. وسعى جورج بيكو لضمان تأييد المطالب الفرنسية في المنطقة الغربية، لأن حقيقة المحادثات التي أجراها الفرنسيون مع الأمير فيصل في باريس وفي دمشق أثارت الشكوك حول الاعتماد على موارنة جبل لبنان حلفاء فرنسا المقربين الذين حددوا عملياً سياسة مجلس إدارتهم للسنجق السابق. وحتى 20/5/1919 أعلنت تلك الإدارة استقلال البلاد وفق "الحدود الجغرافية والتاريخية" وهذا يعني ضم المدن الساحلية وسهل البقاع دون أي إشارة للإنتداب الفرنسي.
واضطر بطريرك الموارنة إلياس حايك تحت ضغوط قوية من أبناء طائفته الذين أقنعوه بالتوجه إلى باريس للدفاع عن استقلال لبنان عن سورية. وحاول البطريرك إقناع جورج بيكو بأنه على حق، وأرسل الكثير من البرقيات إلى وزارة الخارجية الفرنسية ولجورج بنيامين كليمنصو شخصياً، وعلى ما يبدوا دون فائدة تذكر، وهو ما أجبره على التوجه سراً إلى أللنبي باقتراح إقامة الانتداب البريطاني على لبنان مقابل ضمان استقلاله عن سورية، ولكن الإنكليز نصحوه بالتوجه إلى اللجنة الأمريكية. وحتى أواسط حزيران/يونيه اقتنع البطريرك إلياس حايك بأن الفرصة الوحيدة لإقامة الدولة اللبنانية بحدودها الموسعة ممكنة بالاعتماد على فرنسا (Zamir M. Op. Cit. P. 62-63).
وحاول جورج بيكو الاستفادة من هذا التوجه عند القادة اللبنانيين أثناء لقاءه من جديد بالأمير فيصل في 18/6/1919. ومقابل مساعدة الحفاظ على لبنان كمنطقة ذاتية الحكم ضمن سورية طلب جورج بيكو من الأمير فيصل أن يخبره "عن موقفه الذي يخطط عرضه على اللجنة الأمريكية"، وذكره بوعده بقبول مستشارين فرنسيين، وتهرب الأمير من الجواب المباشر وأخذ على فرنسا رفضها الاعتراف بوحدة أراضي واستقلال سورية، فتحجج بيكو بعدم إمكانية تنفيذ مثل تلك الخطوات وعلى ما يبدو كان يريد إضعاف صلات الأمير بالإنكليز. وأشار إلى أن الإصرار الفرنسي فقط خلال المؤتمر أنقذ سورية من فقدان محافظة حوران والأراضي الواقعة بين دمشق والفرات التي سعت بريطانيا إلى ضمها للمناطق الخاضعة لسيطرتها. وأضاف بيكو أن اللجنة الأمريكية لا تملك الصلاحيات اللازمة من مؤتمر السلام وستعمل فقط بأوامر من الرئيس ويلسون (Khoury G. La france et I’Orint Arabe. P. 239-242).
وبعد هذا الحديث صرح جورج بيكو للمندوب البريطاني في دمشق المقدم كورنوليس، أنه حتى ولو كان كل سكان المنطقة الشرقية أمام اللجنة ضد فرنسا بالكامل تقريباً، وحتى لو اضطرت فرنسا للقيام باقتحام عسكري لعمق سورية فإنها لن تلقى أية مقاومة ملحوظة (DBFP. Ser. 1. V. 4. P. 291).
وفي الوقت الذي فشلت فيه محادثات جورج بيكو والأمير فيصل، وقفت فرنسا ضد انفصال لبنان عن سورية. وفي 10/6/1919 اتخذ مجلس إدارة الحكم في لبنان قراراً بمساند الانتداب الفرنسي، ضمن شروط تحددها الحكومتين اللبنانية والفرنسية بشكل مشترك (Zamir M. OP. Cit. P. 66).
وفي الوقت الذي كان فيه جورج بيكو لا يستطيع الاعتماد على الأقليات الدينية وخاصة الكاثوليكة، كان الأمير فيصل يعتمد على الأكثرية الإسلامية في البلاد. ولهذا طالب الأمير ليس بـ "ركوب" الحركة الشعبية العفوية فقط بل وتوجيهها نحو الاتجاه المطلوب عندما جاءت أخبار من الممثل الحجازي في باريس تقول بأن الدول العظمى قررت نهائياً إقامة نظام الانتداب في سورية (الحجاز: إقليم في المملكة العربية السعودية، 400 ألف كم2، 3 ملايين نسمة. قاعدته مكة المكرمة. يحده خليج العقبة شمالاً والبحر الأحمر  غرباً ونجد شرقاً وعسير جنوباً. تتكون أرضه من سهل ساحلي ضيق (تهامة) وسلسلة جبال السراة وهضاب داخلية وواحات وأودية تقوم حولها الزراعة. سكانه ينتمون إلى قبائل متعددة منها الحويطات وجهينة وحرب. استقل عام 1916. وضم إلى المملكة العربية السعودية في عام 1926.  أهم مدنه: مكة المكرمة، والمدينة المنورة، والطائف، وتبوك شمالاً وهي أول منزلة من منازل الحج، وتيماء، والوجه، وينبع، وجدة. المنجد في الآداب. ص 229 – 230).
فما كان من السياسيين الدمشقيين وفقاً لتقرير المقدم كورنوليس المرسل إلى لندن إلا أن أظهروا ميولاً واضحة نحو انتداب أمريكي أو بريطاني على بلادهم، لأنه "كانت لديهم قناعتين: الأولى: أنهم يريدون الاستقلال؛ والثانية: أنهم لا يريدون الانتداب الفرنسي"، ولهذا لم يستطع الأمير فيصل التقارب مع فرنسا حتى ولو أراد ذلك (DBFP. Ser. 1. V. 4. P. 265).
والحكومة القومية في دمشق أيدت العداء السافر لفرنسا في الساحل بكل الطرق المتاحة وكانت الانتفاضة الهامة من بين تلك الانتفاضات التي قامت في سورية، انتفاضة العلويين حول مدينة اللاذقية (العلويون: هم المنتسبون إلى علي بن أبي طالب بالسلالة من بنيه وبناته. وإليهم ينتسب الأشراف أو "السادة" وأطلق هذا الاسم لاحقاً بمعنى آخر على طائفة النصيرية في سورية. المنجد في الآداب ص 473. النصيرية: طائفة تقطن جبل العلويين وشمالي سورية (سهول حمص وحماة وحلب). دعوا كذلك نسبة إلى محمد بن نصير مؤسس الطائفة أو راعيها (توفي عام 873). كان يعتبر الحسين الخصيبي أكبر متكلميها في القرن العاشر. المنجد في الآداب. ص710).
وكان هدفه الإنتفاضة الحصول على حكم ذاتي للمنطقة العلوية، ولكن زعيم الانتفاضة الشيخ صالح العلي سرعان ما أعلن عن تضامنه مع حكومة الأمير فيصل، مفضلاً ذلك عن الحكم الفرنسي (Khoury Ph. S. Syria and the French Mandate. The Politics of Arab Nationalism. 1920-1945. L., 1987. p. 100-102).
خريطة سايكس بيكو
وفي نهاية حزيران/يونيو انعقد في دمشق المؤتمر السوري العام وكان أعضاءه من العرب المنتخبين لعضوية المجلس العثماني الأخير، واعتبر المؤتمر نفسه مفوضاً بالتحدث باسم سكان المناطق المحتلة الثلاث. واتفق المؤتمر حتى 2/6/1919 على برنامج موحد لتقديمه إلى اللجنة الأمريكية، وعرف هذا البرنامج باسم "برنامج دمشق". وبموجبه تحصل سورية بالكامل "على الإستقلال التام" كدولة ملكية دستورية فيدرالية، وعلى رأسها الأمير فيصل وتضم كافة الأراضي من طوروس إلى الصحراء العربية، ومن البحر الأبيض المتوسط إلى نهر الفرات ونهر الخابور. مع الموافقة على انتداب يأخذ شكل تقديم مساعدات تقنية ومالية، والتي يمكن أن تقدمها الولايات المتحدة الأمريكية أو بريطانيا، ولكن ليس فرنسا. وكانت هناك أصوات تطالب بإلغاء كل الاتفاقيات والالتزامات التي توصلت إليها الدول العظمى وقضت بتقسيم الأراضي العربية، بما فيها وعد بلفور، والاحتجاج على أية محاولة لفصل فلسطين أو لبنان عن سورية، ورفض المادة 22 من نظام عصبة الأمم، والمطالبة باستقلال بلاد الرافدين واتحادها الجمركي مع سورية (Hurewitz J.C. (ed.) Op. Cit. P. 63-64).
واعتمدت بريطانيا من خلال الموقف السائد في سورية قبل وصول اللجنة الأمريكية إلى سورية على عدة حقائق. ونجح الإنكليز باستثناء بلاد الرافدين من خط اللجنة، ولكن فلسطين بقيت فيها كأول نقطة. وتضمن تقرير اللجنة شواهد عن المقاومة الشديدة للسكان المحليين لخطة إقامة "وطن قومي لليهود" في فلسطين، وهو ما وضع بريطانيا موضع الشك من إمكانية الإدارة السلمية لفلسطين. وفي نفس الوقت كان الإنكليز مهتمين بالحفاظ على حكومة الأمير فيصل الصديقة في سورية. ولم يسعوا لإقامة انتدابهم عليها، ولكن الكثير من الضباط في أماكن تواجدهم لم يستطيعوا القبول بضرورة ترك البلاد التي تحتلها القوات البريطانية فعلاً. وكان الأمير فيصل ينظر لوجود القوات البريطانية كضمانة ضد الغزو الفرنسي. وفي هذا الوضع حاولت الحكومة البريطانية المناورة وأكدت مساندتها لفرنسا والعرب في نفس الوقت (Zeine Zeine N. Op. Cit. P. 95).
ولم تقبل أي من الجهتين بمثل هذه السياسة مزدوجة المعايير. فالمندوب العسكري البريطاني في حلب عرض كلمات فيصل في تقريره: وذكر أن "فرنسا بالكامل تعتمد على إنكلترا وأمريكا في وجودها المستقبلي والأمير فيصل يعرف هذا بشكل ممتاز ولكنه لا يستطيع فهم تخوف إنكلترا من صدمة البلاد التي تنطلق من منطق الحاجات، واستعدادها تقريباً لأي تضحية من أجل تجنب عداء فرنسا، وبالنتيجة ظهرت شكوك غير مرئية عند الأمير فيصل بأنهم يبيعون العرب" (DBFP. Ser. 1. V. 4. P. 291).
وبغض النظر عن الفوائد التي حصلت عليها بريطانيا من الخلافات بين الحكومة الفرنسية والأمير فيصل، ظهرت لدى الإنكليز مصادر قلق جديدة ناتجة عن الأوضاع الجديدة التي ترتبت في الشرق الأوسط منذ ربيع عام 1919 بعد تأزم الأوضاع المفاجئ في مصر التي تعتبر أهم قلعة لبريطانيا في المنطقة. مما سبب مخاوف كثيرة لدى السلطات البريطانية ناتجة عن احتمالات توحد الحركة القومية المصرية والفلسطينية والسورية تحت شعارات المجددين العرب.
وفي رسالة وجهها إلى فورين أوفيس بتاريخ 30/5/1919 عرض أللنبي مخاوفه وذكر أن الأمير فيصل يمكنه إنهاض العرب ضد الإنكليز وضد الفرنسيين في حال عدم قدوم اللجنة (Ibid. P. 256-257).
المشرق العربي
وحذر الجنرال كلينتون، اللورد كيرزون الذي كان يدير عمليا فورين أوفيس أثناء غياب أ. بلفور في 1/6/1919، بأن تقسيم سورية العشوائي بدون أخذ تقرير اللجنة في الاعتبار سيثير حالة من عدم الرضا في البلاد (Ibid. p. 263).
وأظهر كلينتون قلقاً خاصاً كغيره من الضباط البريطانيين الكبار حيال التصرفات الفرنسية غير المسؤولة، وخاصة تصرفات جورج بيكو بسبب قدوم اللجنة، ولهذا طلب من لندن السماح له بالتصريح العلني بأن المجلس الأعلى لأنتانتا يعير أهمية خاصة لمقترحات اللجنة. وقام كيرزون بتحويل هذا الطلب إلى غراف أرتور جيمس بلفور، الذي أعطاه رداً واضحا، بأن الفرنسيين لا يوافقون على مثل هذا البيان (Ibid. p. 272-277).
ولهذا لم يكن البريطانيون سعداء لوصول اللجنة، وتوقعوا أن يكون ظهورها من العوامل المساعدة لتجنب حالة عدم الرضا العامة في الشرق الأوسط، وأن تؤخر اتخاذ أي قرار حول أوضاع الأراضي العربية المحتلة. ورأي المؤرخ الأمريكي ب. هيلمريتش، أن الإنكليز كانوا يعرفون بأن اللجنة في أي مكان ستتوقف فيه من الممكن أن تواجه روحاً معادية لبريطانيا، ولكن عداء السكان لفرنسا كان أقوى بكثير. ولهذا كان الإنكليز مقتنعين: بأن كل العرب عدا اللبنانيين كانوا أمام خيار اختيار الانتداب البريطاني بدلاً عن الانتداب الفرنسي. وأنه من الممكن أن يختار الكثيرون الانتداب الأمريكي، ولكن ويلسون استبعد بشكل واضح أية إمكانية لزيادة دور الولايات المتحدة الأمريكية في العالم العربي. ولو أن النتائج التي ستتوصل إليها اللجنة يمكن أن تكون غير مرضية لبريطانيا العظمى، ولكن تلك النتائج ستكون بالنسبة لفرنسا أسوأ بكثير. واعتقد أن غياب توقيع المندوبين البريطانيين على التقرير يمكن أن تزيده قناعة بذلك (Helmreich P.C. Op. Cit. P. 77-78).
أما الفرنسيون فلم ينتظروا من اللجنة أي شيء جيد وكانوا مستعدين لعدم الاستجابة لنتائج تقرير اللجنة، ولكن العرب وخاصة المسلمين رأوا في نتائج تقرير اللجنة الإمكانية الأخيرة للوصول إلى طريق السلام والاستقلال. في الوقت الذي بدأت فيه المنظمات الإنسانية والتعليمية الأمريكية حملة دعائية نشيطة في سورية، لعب الصليب الأحمر الأمريكي، والكلية البروتستانتية السورية الدور الرئيسي فيها. بينما كانت الوسيلة المباشرة للدعاية الأمريكية العصبة القومية السورية الجديدة، وقد حثت هذه المنظمة السوريين للسعي إلى الحصول على الاستقلال الكامل، والاعتماد على "مساعدات" الولايات المتحدة الأمريكية كدولة عظمى وحيدة "ليس لها اهتمامات أو مصالح" في شؤون الشرق الأوسط (Gontaut-Biron R. Op. Cit. P. 247-251).
ولم يعيق الإنكليز هذه الدعاية بل عل العكس كانوا يشجعونها، تحقيقاً لفوائد إضافية لبريطانيا العظمى وللتأثير على الموقف الفرنسي الضعيف بحد ذاته. بينما توفرت معطيات تذكر أن فرنسا حاولت أن تدفع للإنكليز بنفس تلك العملة التي يدفعون بها، من خلال إقناعها الفلسطينيين العرب بأن فرنسا بعكس بريطانيا ليس لها علاقات بالمخططات الصهيونية، وأنها أكثر ملائمة كدولة منتدبة على فلسطين  (Ibid. p. 256-257)، (DBFP. Ser. 1. V. 4. P. 271-272 (note)).
ونزلت اللجنة الأمريكية المنتظرة في ميناء حيفا الفلسطيني يوم 10/6/1919، وكانت برئاسة الدكتور هنري كينغ المتخصص في الشؤون الدينية والتعليم والفلسفة، وعضوية تشارلز كرين من صناعيي شيكاغو وعضو سابق بالبعثة الدبلوماسية الخاصة لويلسون في روسيا عام 1917. ودخلت اللجنة التاريخ كلجنة كينغ كرين. حتى أن ويلسون نفسه قال عن أعضاء اللجنة بأنهم "أعدوا جيداً للسفر إلى سورية، لدرجة أنهم لا يعرفون عنها أي شيء". ورافقهم خمسة مستشارين، اعتبروا من المختصين في شؤون الشرق الأوسط. بينهم الكابتن وليام ييل، الذي مثل تريست "ستندارد ويل" لفترة طويلة في الشرق الأوسط (Zeine Zeine N. Op. Cit. P. 94).
وبدأت اللجنة عملها بزيارة فلسطين، ومن ثم انتقلت إلى دمشق بتاريخ 26/6/1919، ومن ثم انتقلت إلى الجنوب، وزارت عمان ودرعا، وعادت إلى دمشق يوم 2/7/1919، وبعد ذلك قامت بجولة شملت: بعلبك وبيروت وجبيل وبكركي وصيدا وصور وبعبدا وزحلة وطرابلس الشام وإسكندرونة واللاذقية وحمص وحماه وحلب وأضنة وطرسوس ومرسين. ومن مرسين غادرت اللجنة إلى استنبول يوم 21/7/1919، وهكذا شملت زيارتها كافة الأراضي والمناطق المحتلة الأربعة، بما فيها لبنان والمناطق الداخلية لسورية وكليكية (اسكندرونة: مدينة سورية على البحر الأبيض المتوسط تقع على خليج اسكندرون. 70 ألف نسمة، أسسها الإسكندر. وضعت تركيا يدها عليها مع سنجقها عام 1939. ميناء هام. المنجد في الآداب. ص 43)، (تقرير اللجنة كينغ – كرين (KCR : King-Crane Report). أنظر: http://www.cc.ukanS.edu/~kansite/ww_one/docs/kncr.htm. الملاحق السرية ( Confidential Appendix ) للتقرير مخصصة للأمريكيين فقط ( KCR CA ). أنظر: http://raven.cc.ukanS.edu/~kan-site/ww_one/doks/postkc.htm).
ومن أساليب عمل اللجنة كان جمع أكبر كمية ممكنة من مطالب السكان المحليين الشفهية والخطية وبشكل رئيسي من الشخصيات الناطقة باسم مجموعات سياسية أو دينية أو قومية أو قبلية أو عائلية. واعترف أعضاء اللجنة بتأثير الدعاية وشككوا بالكثير من العرائض، واعتبروا أن مثل تلك الظواهر كانت متساوية من قبل كل الأطراف ومتشابهة مع بعضها البعض، وأن الاستنتاجات الأخيرة ستكون واقعية.
وعملت اللجنة في ظروف صعبة تصاعدت فيها حدة الأجواء السياسية. وكانت كل الجهات المعنية تحاول التأثير على الاستنتاجات التي يمكن أن تتوصل إليها اللجنة عن طريق الدعاية و"الإمكانيات الإدارية"، والضغوط وتوجيه الوفود القادمة لمقابلة اللجنة. ولم تخرج الدعاية البريطانية من إطار المنطقة الجنوبية (فلسطين)، ولكن أنصار فيصل كانوا يدعون بنشاط "لبرنامج دمشق" في المناطق البريطانية والفرنسية. ولم يضع الإنكليز لهم أية عقبات، ولكن الفرنسيين حاولوا تحييدهم أو تجميدهم. أما الأمير فيصل نفسه فصرح بأنه لا فرق عنده بين الانتداب البريطاني أو الأمريكي، رغم أن أعضاء اللجنة عرفوا بشكل جيد توجهه الإنكليزي (KCR CA). وكان مصدر الضغط الأكبر على السكان المحليين فرنسا. وبالإشارة إلى "الملاحق السرية" لتقرير اللجنة التي ذكرت أنهم أرهبوا وأخافوا وهددوا واشتروا الزعماء المحليين، ولم يسمحوا للشخصيات غير المرغوبة من قبلهم بمقابلة اللجنة، وأنهم استبدلوا أعضاء الوفود غير الموالين لهم بأنصارهم وحتى أنهم اعتقلوا خصوم الانتداب الفرنسي للحيلولة دون مقابلتهم للجنة (Ibid).
وأشار المعاصر الفرنسي غونتونت بيرون، إلى عكس ذلك وذكر أن الأفعال غير المقبولة كانت من الإنكليز وحلفائهم العرب، الذين أجبروا السكان المحليين على التوقيع على أوراق بيضاء، وبعد ذلك كتبوا عليها العرائض. وأن الضباط الإنكليز الذي رافقوا اللجنة في فلسطين، أعطوا تعليماتهم لمقدمي العرائض، قبل أن يمثلوا أمام اللجنة (Gontaut-Biron R. Op. Cit. P. 266-267)، وفي بعض المناطق العربية أخافوا السكان وهددوهم (Ibid. p. 273-275).
وحاولت السلطات العربية والبريطانية في حلب عدم السماح لوفد قبيلة "عنزة" (عنزة: من أكبر قبائل العرب في وقتنا الحاضر. تمتد منازلهم من الحجاز إلى بادية الشام. يقيمون صيفهم في صحراء سورية إلى حدود حلب وجبال شمر شرقي الفرات. المنجد في الأعلام. ص480) المؤيدة لفرنسا بمقابلة اللجنة، وكادت هذه الحادثة أن تتحول إلى خلاف كبير، ووصلت أخبارها إلى لندن وباريس. وشهد زعيمهم و11 شيخاً أمام اللجنة لصالح الانتداب الفرنسي، وتم اعتقالهم على الطريق من حلب إلى بيروت من قبل الإنكليز بتهمة التجسس لصالح القوميين الأتراك، وبتهمة "النهب على الطريق" (Ibid. p. 284-293). وتم اعتقال أنصار فرنسا أيضاً وخاصة بعض المنحدرين من المناطق التي تحتلها فرنسا في الشمال الإفريقي، وخاصة الجزائريين منهم (Ibid. p. 48).
وجمعت اللجنة 1863 عريضة في المناطق الأربعة، منها 80 % تطالب بوحدة سورية الكبرى، و73 % تطالب بالاستقلال التام، و59 % أرادت أن تكون سورية مملكة ديمقراطية بقيادة الأمير فيصل. وطالبت بالانتداب الأجنبي بعض العرائض القليلة منها: الانتداب البريطاني 4.5 %، الانتداب الفرنسي 14.5 %، الانتداب الأمريكي 3 %. بينما أيدت في الوقت نفسه 57 % من العرائض "المساعدات" الأمريكية. وفي حال رفض الولايات المتحدة الأمريكية تقديم المساعدة 55 % من العرائض طلبت "المساعدة" من بريطانيا، وهو الاختيار الثاني. أما 60 % من العرائض فكان مضمونها معادي لفرنسا (KCR).
وتميزت مواقف المستفتين حسب مكان الإقامة والدين والانتماء القومي. وكان حلفاء فرنسا من بين السكان الكاثوليك  والموارنة.  وكان أكثر خصوم التدخل الفرنسي من المسلمين السنة. أما الجماعات الأرثوذكسية فقد انقسمت إلى: قسم يؤيد فرنسا، وقسم يؤيد الأمير فيصل وبريطانيا. أما جماعات الشيعة والدروز والعلويين والمتاولة (متاولة: لقب كان يطلق على الشيعة الساكنين في لبنان والمهاجرين منهم إلى دمشق. والكلمة مأخوذة من الموالاة أو من قولهم في هتافات الحرب: مت ولياً لعلي. المنجد في الآداب. ص 632) فكان همهم الحصول على منصب أو على الحكم الذاتي الخاص بكل منهم، وفي نفس الوقت حافظ الدروز على علاقاتهم التقليدية مع بريطانيا (تفاصيل علاقات الجماعات الدينية مع الدول العظمى، يمكن مراجعة: فومين ا.م.: العامل الديني في سياسة الدول العظمى في سورية ولبنان في عام 1918-1920 // طريق الشرق. مواد المؤتمر العلمي الرابع للشباب في مشاكل الفلسفة، والثقافة، والدين في الشرق. سلسلة "سيمبوزيوم ". الإصدار، 10. س ب ب.، 2001).
وخرجت مقترحات اللجنة ببعض الإستنتاجات البسيطة التي تقول بأن كل سورية بما فيها لبنان وفلسطين، يجب أن توضع تحت انتداب الدول العظمى، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية. وفي حال عدم إمكانية ذلك يجب أن يكون الانتداب لبريطانيا، ولكن ليس لفرنسا بأي حال من الأحوال، وإذا كانت المسألة السورية ستهدد علاقات فرنسا بالحلفاء، فعند ذلك يمكن منحها الانتداب على لبنان في حدود ما قبل الحرب، وهو ما لم توصي به اللجنة (KCR. – Hurewitz J.C. (ed.) Op. Cit. P. 66-74).
وأعد الكابيتان ييل تقريره الخاص وكان رأيه مختلف تماماً عن رأي كينغ وكرين. فقد وصف الوضع في سورية على الشكل التالي: "البريطانيون يريدون الاحتفاظ بفلسطين، وهم راغبون بالسيطرة على سورية ولا يريدون رؤية الفرنسيين حتى في جبال لبنان، ولكنهم يفهمون أنه دون مقاطعة مكشوفة مع فرنسا لا يستطيعون إجبارها على الامتناع عن مطالبها، وكانوا سعداء لو أن الولايات المتحدة الأمريكية جاءت إلى هنا وأخذت سورية. هذا وقد شجع البريطانيون دعاية الشباب العرب ( the Young Arabs ) من أجل سورية موحدة ولو أن هذا قد يكلفهم فلسطين، كي يهيئوا الظروف التي تجبر الولايات المتحدة الأمريكية على تقبل الانتداب على سورية" (Zeine Zeine N. Op. Cit. P. 103).
وبغض النظر عن وجهة نظر السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية من تقرير اللجنة، فمن الواضح أن الأمريكيين لم تكن عندهم أية رغبة "باحتلال" أراض واسعة في الشرق الأوسط كما أشار بعض المؤرخين السوفييت خلال خمسينات القرن العشرين (شبيلكوفا ف.ي.: المسألة التركية في مؤتمر باريس للسلام 1919 // ملاحظات علمية، معهد ف.إ. لينين للمعلمين بموسكو. الجزء 109. الإصدار السادس. موسكو، 1957؛ بوتسخفيريا ب.م.: اللجنة الأمريكية في تركيا عام 1919 // ملاحظات علمية، معهد الإستشراق، أكاديمية العلوم السوفييتية. الإصدار 17. موسكو، 1959).
كينغ وكرين لم يقترحوا إرسال قطعات كبيرة من القوات الأمريكية إلى البلدان العربية. وكل ما توقعوه هو إرسال مستشارين وخبراء تقنيين للحكام المحليين. وحتى هذا ظل غامضاً  بسبب الموقف الانعزالي في مجلس الشيوخ بالولايات المتحدة الأمريكية.
أما بالنسبة لإنكلترا وفرنسا فكانت لجنة كينغ وكرين إلى حد ما قد أبدت تنازلاً "حسب الظروف" مع ضرورة الأخذ "بآراء السكان المحليين" بعين الاعتبار عند اتخاذ أي قرار حول النزاع على الأراضي المحتلة. ولهذا حاولتا بكل الطرق إيجاد الظروف المناسبة لهم أمام "الرأي العام". ولكن في الواقع كان حل المسألة السورية يجري بطريقة أخرى، وكاد تقرير اللجنة على ما يبدوا أن "يوضع على الرف"، لأن النتائج العملية لعمل اللجنة أدت إلى تأخير مسألة الأملاك التركية في المناطق العربية لبضعة أشهر من أجل تأجيج العداء ضد فرنسا في تلك الأراضي.
ومع نهاية تموز/يوليه 1919 بدأت الصحافة الفرنسية بشن حملة معادية لبريطانيا بسبب المسألة السورية. بدأت بمقالة صحفي شهير وأحد نشطاء "الحزب الاستعماري" روبير دي كي، في مجلة " Bulletin d'Asie Francaise " الصادرة في 26/7/1919، اتهم فيها إنكلترا بتشجيع الروح المعادية لفرنسا من قبل السلطات "الشريفية" (ويقصد بها حكومة الأمير فيصل) وتهيئة الظروف الاقتصادية المثلى لأنفسهم في سورية على حساب المصالح الفرنسية. وترددت في وقت لاحق نفس الاتهامات من قبل الصحيفة المؤثرة “Le Temps”. وطالبت الصحافة الفرنسية بإرسال قوات فرنسية إلى سورية لتحل مكان القوات البريطانية (عن هذه المقالات يمكن قراءة ما كتبه الموفد الإنكليزي في باريس ج. غريم في رسالته الموجهة للورد كيرزون. في DBFP. Ser. 1. V. 4. P. 319.).
وفي نفس الوقت بدأ فورين أوفيس بتسلم رسائل وتصريحات من وزارة الخارجية الفرنسية حول إدانات مشابهة للسياسة البريطانية في سورية. وفي 28/7/1919 تستلم غراف أرتور جيمس بلفور مثل هذه الرسالة من بيشون، وفي 1/8/1919 أرسل كيرزون، لبلفور رسالة السفير الفرنسي ب. كامبون. وإلى جانب تكرار الإدانات القديمة اشتكى بيشون وكامبون من اعتقال السلطات البريطانية العرب المؤيدين لفرنسا وتسليح القطعات العسكرية "الشريفية" الجديدة في الحجاز (Ibid. p. 321-322; 327-328)، (فورين أوفيس Forein Office: وزارة خارجية بريطانيا العظمى. القاموس الدبلوماسي. ج3، ص 517).
وكانت ردود الفعل البريطانية قاسية جداً وتم  استدعاء سكرتير السفارة الفرنسية دي فليريو، إلى فورين أوفيس وتم إبلاغه، بأن بريطانيا تساند المطالب الفرنسية في سورية دائماً، وأكثر من مرة رفضت الانتداب عليها. وأن فرنسا هي المسؤولة وحدها عما يجري وهو ما يعتبر غير ملائم، وأن مقاومة أللنبي لتبديل القوات البريطانية بقوات فرنسية تم شرحها في حينه بأنها فقط من أجل تجنب الصدام مع العرب. ومن الممكن بقاء بعض الضباط البريطانيين في أماكن تواجدهم إذا كانت عندهم قناعات غير معادية للفرنسيين. ومع ذلك استمرت الحملة المعادية لبريطانيا في الصحافة، حتى أنه ظهرت شكوك بأنها موجهة من قبل الحكومة الفرنسية. وأجاب دي فليريو بأنه لا لبيشون، ولا الحكومة أية علاقة بحملة الصحافة. وإذا كان العملاء البريطانيون في سورية لا يتقيدون بسياسة الحكومة، فهذا يعني انه في باريس من الممكن وجود أشخاص يكتبون مقالات دون أن يأخذوا في اعتبارهم نصائح قادة الدولة (Ibid. p. 337).
وبسرعة استقبل س. بيشون المبعوث البريطاني في باريس ج. غريم وكرر له كل ما سمعه دي فليريو في لندن. ورد بيشون: بأن "ملفاتي مليئة بتقارير عن الدعاية المعادية لفرنسا، التي يقوم بها عملاء بريطانيين وسوريين، وأضاف أن هذه التقارير مفصلة بشكل كاف ومطابقة لبعضها البعض، حتى أنه من غير الممكن عدم تصديقها من قبل الحكومة الفرنسية". واخبر غريم بأنه وفق معلوماته الخاصة فإن القيادة البريطانية في سورية قلقة فقط من تجنب أية دعاية، ولفت نظر بيشون إلى حملة الصحافة. فرد بيشون بأن الصحافة تعكس الرأي العام فقط، والمسألة السورية أصبحت في فرنسا هامة إلى حد أن الحكومة "ستسقط" إذا تجاهلتها، وكان يجب على بريطانيا أن تقوم بخطوات لتلبية المطالب الفرنسية، إذا كانت مشاعر الصحافة الفرنسية لا تعجبهم (Ibid. p. 346-351).
وحتى نهاية صيف عام 1919 بدأ الفرنسيون يفقدون صبرهم بسبب المماطلة البريطانية في حل المسألة السورية. ولوحظت خلافات في وجهات النظر في القيادة البريطانية. ولم يسارع كيرزون لتقبل مطالب الحلفاء، ولكن بلفور كان مستعداً لها من أجل الحفاظ على أنتانتا (كيرزون جورج ناتانيل (1859 – 1925): دبلوماسي ورجل دولة بريطاني. من عام 1891 وحتى 1892 نائب وزير شؤون الهند؛ من عام 1895 وحتى 1898 نائب وزير الشؤون الخارجية؛ من عام 1898 وحتى 1905 نائب ملك الهند. من عام 1911 عضو مجلس اللوردات. من عام 1915 وحتى 1916 و 1924 وحتى 1925 لورد حافظ الأختام؛ في عام 1916 وزير الطيران؛ من عام 1916 وحتى 1919 لورد رئيس المجلس؛ من عام 1919 وحتى 1924 وزير الشؤون الخارجية لبريطانيا العظمى. زعيم مجلس اللوردات من عام 1916 وحتى 1924. القاموس الدبلوماسي. ج2، ص 31).
وفي قمة نشاطات اللجنة الأمريكية ، قدم للمجلس يوم 26/6/1919 اتفاق قصير مع مخطط جاهز لتوزيع الانتداب: فرنسا على سورية. بريطانيا على بلاد الرافدين، وفلسطين. الولايات المتحدة الأمريكية على أرمينيا.  ومن الممكن إنتداب إيطاليا على القوقاز.  على أن يشمل الانتداب الفرنسي اسكندرونة، باستثناء كليكية، تجنباً لإثارة أحقاد الإيطاليين. ووافق كيرزون على المبادئ الرئيسية في الاتفاق واقترح عدم إعلانه قبل صدور قرار كونغرس الولايات المتحدة الأمريكية حول الانتداب (Ibid. p. 303).
وبتاريخ 11/8/1919 قدم بلفور اتفاقية أكثر تفصيلاً حللت بالتفصيل وبدقة منطقية كل تاريخ المسألة العربية، والأوضاع في سورية وكتب: "نفكر نحن أم لا في مبدأ أن نأخذ في الاعتبار مطالب السكان ؟ نحن لا نفكر في أي شيء من هذا القبيل. وانطلاقاً من الرأي المشترك، هناك فقط الانتدابات الممكنة، إنكلترا، أمريكا، وفرنسا. .. إنكلترا رفضت. أمريكا ستمتنع. وهكذا ومهما كانت رغبات السكان، فهم من دون أي شك سيحصلون على فرنسا. وهم بحرية يمكنهم أن يختاروا، ولكن عملياً لا يوجد أي اختيار".
وفي هذه الظروف اقترح غراف أرتور جيمس بلفور المخطط التالي: - الحفاظ على المبادئ الرئيسية لاتفاقية سايكس بيكو المجال الفرنسي حول سورية والمجال البريطاني حول الفرات ودجلة، و"الوطن القومي" لليهود في فلسطين؛ - إقامة دولة عربية في الشرق الأوسط تحت سيطرة الانتداب ولكن دون الاحتكار الاقتصادي للدول المنتدبة مكان أماكن السيطرة التامة للدول العظمى المشار إليها في المناطق "الحمراء" و"الزرقاء"؛ - وحل مسألة كليكية سيكون وفق مصير الانتداب على أرمينيا ومطالب إيطاليا؛ وضم الموصل للمنطقة البريطانية (Ibid. p. 340-346).
وعندما اقتنع الأمير فيصل بعدم إمكانية التوصل لأية نتائج عملية من عمل اللجنة الأمريكية بدأت تساوره الشكوك. وأخبر لورنس يوم 15/7/1919 بلفور بأنه تسلم رسالة من فيصل يخبره فيها عن نيته السفر إلى باريس (Ibid. p. 314). وبتاريخ 17/7/1919 ترددت أخبار عن أن فيصل كان مستعداً للبدء بالاستعدادات العسكرية في حال إلغاء سفره إلى أوروبا أو تأجيلها لأسباب غير مبررة (Ibid. p. 315). وطلب بلفور من أللنبي إعلام الأمير فيصل بأنه ليست هناك ضرورة لسفره إلى باريس قبل أيلول/سبتمبر، لأنه لن يتم إقرار أي شيء قبل ذلك التاريخ. وفي 21/7/1919 كتب كيرزون، لبلفور يخبره عن مواقف العسكريين: الجنرال كلينتون وكورنوليس يعتبران، أن سفر فيصل إلى باريس سيؤدي إلى حدوث صعوبات جديدة، ويجب أن تتم دعوته للتعرف على القرار النهائي لأنتانتا فقط (Ibid. p. 316). بينما ساند أللنبي طلب الأمير فيصل بمواجهة فرنسا. أما كيرزون فقد اقترح "إبقاء هذا الوضع على ما عليه حالياً وإلقاء تبعية الرفض على فرنسا".
وفي آب/أغسطس ومن أجل أن يتثبت الوجود الفرنسي في سورية وكليكيا قرر جورج بنيامين كليمنصو استغلال المسألة الأرمنية. لأن الإنكليز بدءوا بسحب قواتهم من القوقاز ، وأخبر كلا من المفوض الأعلى للحلفاء في داشناق أرمينيا، والضابط الأمريكي هسكيل في باريس عن الوضع البائس وطلب إرسال قوات اتحادية من اجل تأمين أمن الأرمن وضمان وصول المساعدات لهم (قوقاز: جبال جنوب الاتحاد السوفييتي السابق بين بحر قزوين والبحر الأسود، تمتد بطول 1.200 كم أعلى قممها بركان البرز 5.633 م. المنجد في الأعلام. ص 555).
ولرفض إرسال قوات إلى أرمينيا استند جورج بنيامين كليمنصو على أن الإنكليز لم يسمحوا بدخول فرنسا إلى آسيا الصغرى. وعندما أعرب غراف أرتور جيمس بلفور عن استعداده لإعطاء موافقته على الحملة الفرنسية، رد جورج بنيامين كليمنصو بأنه "مضطر" لدراسة هذه المسألة وإعطاء الأمر اللازم لوزارة الحرب. وخلال بضعة أيام أعلن عن استعداده لإرسال 12 ألف جندي بشرط الحصول على مساعدة ومساندة بريطانيا. وأن القوات يجب أن تنزل في موانئ كليكيا وأضنة ومرسين، وأن تتوجه إلى أرمينيا عبر أنتاليا (Ibid. V. 1. L., 1947. p. 389, 390, 508-509, 574).
ووعد غراف أرتور جيمس بلفور ببذل كل الجهود الممكنة، دون أن ينتبه إلى أن توجه الحملة إلى القوقاز كان من الأفضل أن تستخدم ميناء باطومي، وأرسل عدة طلبات إلى عدة إدارات في لندن لتقديم المساعدة والدعم لخطة فرنسا. ولكن مجلس الوزراء البريطاني تلقى هذه الفكرة دون حماس (Ibid. V. 4. P. 743, 745-748, 756).
وتوقع المفوض الأعلى البريطاني ر. دي روبيك في استنبول من خلال برقية أرسلها لكريزون بأن الفرنسيين فقط يريدون تعزيز قواتهم في كليكيا، وبعد ذلك الامتناع عن الحملة على أرمينيا (Ibid. p. 760).
وفي أيلول/سبتمبر وصل ديفيد لويد جورج إلى فرنسا للتوقيع على اتفاق سان جيرمان مع النمسا. وبتاريخ 9/9/1919 سلمه أللنبي رسالة الأمير فيصل، التي كانت "صيحة يأس" حقيقية، ذكر فيها الأمير فيصل الوزير الأول بمساعدة العرب للإنكليز أثناء الحرب وحذره من أن تقسيم الأرض العربية بين المنتدبين من دون أخذ رغبات السكان المحليين بعين الاعتبار، سيثير الغضب العام ويضيع الثقة تماماً بكل الحلفاء. والأكثر من ذلك أن القرار سيثير "انتفاضة عامة" في العالم الإسلامي قد تهدد أساس الإمبراطورية البريطانية. وأن بريطانيا لا يجب أن تقدم على مثل هذه المخاطر من أجل مصالح "الأحزاب التجارية المغامرة في بعض الدول الأخرى". وأصر الأمير فيصل على سفره العاجل إلى لندن من أجل المشاركة في اتخاذ القرار النهائي. وذكر أنه يقف أمام خيار: ضمان شعبه ووحدة البلاد، أو "غسل يديه"، وترك البلاد في حالة من الفوضى (Ibid. p. 383-388).
وفي نفس اليوم 9/9/1919 وخلال اللقاء الذي عقده الوزير الأول مع أللنبي، واللورد حافظ أختام ورئيس مجلس النواب إيه. وبونار لو، والمدير التنفيذي لشركة Anglo – Persian Oil ف. بليك، وعدد من ضباط القيادة العامة تم اتخاذ قرار مبدئي يقضي بانسحاب القوات البريطانية من سورية وكليكيا (Ibid. p. 384).
وأرسل ديفيد لويد جورج بتاريخ 11/9/1919 برقية قصيرة للأمير فيصل تدعوه للقدوم إلى باريس (Ibid. p. 379). وفي نفس الوقت أرسل رسالة لجورج بنيامين كليمنصو يخبره فيها عن أسباب تأخر إعداد اتفاقية السلام مع تركيا، لأنه لا يمكن لبريطانيا الإنفاق على جيش مؤلف من 400 ألف جندي مرابط في الدولة العثمانية، وأنها مضطرة لسحب قواتها من الكثير من الأراضي. ولهذا اقترح ديفيد لويد جورج مناقشة الاقتراح البريطاني حول هذا الموضوع وأخبره عن دعوة الأمير فيصل إلى باريس، مشيراً للوعد الذي قطعته الحكومتان على نفسهما بالسماح للأمير فيصل بحضور مناقشات اتخاذ القرار حول سورية. "ولما كان من الممكن أنه لن يلحق بالحضور إلى باريس قبل الثلاثاء 16/9/1919 وهو يوم سفر ديفيد لويد جورج إلى لندن، لهذا آمل أنكم لن تعارضوا  زيارته لي في لندن" (Ibid. p.379-380).
وفي رده أشار جورج بنيامين كليمنصو إلى أن المسألة السورية يجب أن تبحث مع غيرها من المسائل المتعلقة بالقضاء على الدولة العثمانية بما فيها اسطنبول، وآسيا الصغرى، وبلاد الرافدين. وكرر تذكيره بقراره إرسال 12 ألف جندي إلى أرمينيا عبر كليكيا، وموافقة غراف أرتور جيمس بلفور على ذلك، وعبر عن أمله بالحصول على موافقة بريطانيا الرسمية على ذلك. واعتبر جورج بنيامين كليمنصو أن موضوع تبديل القوات البريطانية في سورية يحل بين الحكومتين فقط، ولهذا اعتبر حضور الأمير فيصل دون فائدة (Ibid. p. 380).
وفي 13/9/1919 قدم ديفيد لويد جورج بياناً  لجورج بنيامين كليمنصو توافق بموجبه الحكومة البريطانية على نزول القوات الفرنسية في مرسين واسكندرونة لمساعدة "الشعب الأرمني". ولكن لم يشر البيان عن أي أرمن تحديداً يقصد كليكية أم القوقاز. وأشار البيان إلى الإسراع بسحب القوات البريطانية من كليكية، والذي بدأ فعلاً من سورية ولبنان ومن الساحل السوري على البحر الأبيض المتوسط في 1/11/1919 وتوقع وضعها بالكامل تحت سيطرة القوات الفرنسية، ووضع المناطق الداخلية في سورية تحت سيطرة القوات العربية بقيادة الأمير فيصل. واقترح أن يوافق الفرنسيون على مد الحكومة البريطانية خط للسكك الحديدية وأنابيب للنفط من حيفا إلى بلاد الرافدين عبر أراضي الدولة العربية الواقعة تحت الانتداب الفرنسي "وفق مبادئ اتفاقية سايكس بيكو" (Ibid. p. 701).
وفي 15/9/1919 بدأت المباحثات حول المسألة الشرقية بين ديفيد لويد جورج، وجورج بنيامين كليمنصو. وفي بداية اليوم وصل خبر وصول الأمير فيصل السريع إلى مرسيليا. فأعطى كليمنصو أوامره لإرساله مباشرة إلى كال، ليستقل سفينة إلى إنكلترا. ولم يعارض الوزير الأول البريطاني ذلك (Ibid. p. 685-686).
وصرح ديفيد لويد جورج بأن موضوع توزيع الانتداب لم يحن موعد مناقشته بعد لأن الولايات المتحدة الأمريكية لم تحدد موقفها بعد. ويمكن التحدث فقط عن الاحتلال العسكري لبعض الأراضي على أساس البيان الذي قدمه. وكرد على ذلك أعلن جورج بنيامين  كليمنصو أن عدة أسابيع قبل إعلان القرار الأمريكي المتوقع لا يمكن أن تغير شيئاً، لأن إقامة دولة عربية يحتاج لوقت طويل، وهو مستعد فوراً لإرسال قوات إلى سورية وكليكية ولكن هذا لا يعني القبول بكل ما قدمه ديفيد لويد جورج. وبعبارة أخرى لاحت الفرصة لجورج بنيامين كليمنصو لاحتلال سورية وكليكية من دون التزامات إضافية، ورفض جورج بنيامين كليمنصو خطة مساعدة الأرمن. فأكد ديفيد لويد جورج لزميله الفرنسي بأن احتلال كليكيا وجزء من سورية لا تفرض على فرنسا أي التزامات، بعد أن وقعت "اتفاقية مؤقتة عن الاحتلال العسكري الفرنسي لكليكيا وجزء من سورية في انتظار القرار المتعلق بالانتداب" (Ibid. p. 690-693). وأنها أصبحت نقطة التحول في حل المسألة السورية. وأصبحت كليكيا والشاطئ السوري الآنde fsacto  واقعياً تحت السيطرة الفرنسية، وغسلت بريطانيا يديها وببساطة من كل ما يتعلق بتلك الأراضي.
والأحداث التالية أثبتت أن مسألة تقسيم الأراضي العربية عملياً كان محلولاً من قبل الدول العظمى في أيلول/سبتمبر، وكان موضوع بسط السيادة الفرنسية على المناطق الداخلية مسألة وقت لا أكثر. ولم يجد الأمير فيصل  أية مساندة من لندن، ولهذا كان مضطراً في كانون ثاني/يناير 1920 لعقد اتفاقية مجحفة مع فرنسا، حولت سورية عملياً إلى دولة تابعة لفرنسا. وفي المؤتمر الذي بدأ أعماله في لندن بعد ذلك كانت الشروط المعدة لاتفاقية السلام مع الدولة العثمانية، تشير إلى المسألة السورية وكأنها قد حلت ولم يسأل أحد عن حق فرنسا بالانتداب على سورية. ومع ذلك اقتنع الأمير فيصل عند عودته إلى دمشق بعدم إمكانية تنفيذ الاتفاقية التي وقعها مع فرنسا بسبب تصاعد الروح المعادية لفرنسا في البلاد، وبسبب البدء باستبدال القوات البريطانية بقوات فرنسية. وكان مضطراً "للسباحة مع التيار"، وقرر الأمير فيصل نسيان اتفاقية كانون ثاني/يناير ودعا مرة أخرى المؤتمر السوري العام، المؤتمر للانعقاد وأعلنه المؤتمر في 8/3/1920 ملكاً على سورية المستقلة (Ibid. p. 224-225).
وهذا أجبر الأمير فيصل على إحراق كل الجسور التي كانت تربطه بدول أنتانتا. فأطلقت المخالفة العلنية للملك فيصل لاتفاقية كانون ثاني/يناير أيدي الفرنسيين اللذين أصبحوا ينتظرون القرار الرسمي لمؤتمر السلام حول الانتداب فقط. وعندما انتقل اجتماع المجلس الأعلى لأنتانتا إلى سان ريمو خلال الفترة من 18 وحتى 26/4/1920، لم تظهر أية خلافات تذكر حول موضوع الانتداب. ووطدت فرنسا من وجودها في سورية ولبنان، وإنكلترا في بلاد الرافدين، وفلسطين. مما أثار عاصفة لاهبة من الغضب في دمشق تبشر بحتمية الصدام العسكري المكشوف بين الحكومة السورية وفرنسا.
وانتظر القائد العام للقوات الفرنسية الجنرال غورو  الذريعة المناسبة (هنري غورو (1867 – 1946): جنرال فرنسي. قائد الجيش الرابع في حملة الدردنيل في الحرب العالمية الأولى. المندوب السامي لسورية ولبنان 1919 – 1923. المنجد في الأعلام. ص 510)، واستخدم من أجلها الاتصالات الجارية من خلف الكواليس بين أنصار الملك فيصل وبعض ممثلي مجلس الحكم الإداري في لبنان، ووجه إنذارات قاسية الواحد تلو الآخر لحكومة الملك فيصل، ورغم أن حكومة الملك فيصل قبلت الإنذارات، إلا أن غورو تظاهر بأنه لم يستلم الرد في الوقت المحدد، وبعد مواجهة مع القوات العربية غير المؤهلة بقيادة وزير الدفاع في الحكومة العربية يوسف العظمة بالقرب من قرية خان ميسلون دخلت القوات الفرنسية دمشق في 25/7/1920 وغادرها الملك فيصل إلى حيفا، وشكل الفرنسيون حكومة جديدة تابعة لهم في دمشق ، لتقع سورية نهائياً تحت الانتداب الفرنسي. وبعد شهر ونصف في 1/9/1920 احتفل غورو في بيروت بإعلان إقامة لبنان الكبير تحت الانتداب الفرنسي في حدوده الموسعة (ميسلون: موضع في غربي دمشق (سورية). جرت فيه معركة شهيرة بين الجيش الفرنسي بقيادة الجنرال غورو والسوري بقيادة وزير الدفاع في الحكومة السورية يوسف العظمة انتهت باستشهاد الأخير والزام فيصل بالتخلي عن عرش سورية عام 1920. المنجد في الأعلام. ص 700)، (Zeine Zeine N. Op. Cit. P. 169-187).
الشهيد يوسف العظمة
وبذلك انتهت القضية السورية كقضية دولية وتحولت إلى شأن داخلي فرنسي. وتطلب موضوع تثبيت الأوضاع في سورية لصالح فرنسا وقتاً طويلاً استمر لأكثر من سنة ونصف كانت خلالها المشكلة السورية واحدة من أوائل المشاكل التي لعبت دوراً كبيراً في انشقاق العلاقات الخارجية الفرنسية البريطانية الحليفين الرئيسيين في أنتانتا (الحدود بين مناطق الانتداب الفرنسية والبريطانية حددت بموجب اتفاقية ليغا-غاردين 23 كانون أول/ديسمبر 1920. في القسم الجنوبي لم تختلف كثيراً عن  الحدود المحددة في اتفاقية سايكس بيكو (بدون التمييز بين "ألوان" المناطق). هذه الحدود بقيت حتى الآن. للمزيد أنظر: السياسة الدولية. تش. 3. موسكو: 1926. ص 74-75).
وكان هدف فرنسا الوحيد آنذاك التثبت في سورية بأي ثمن. بينما كانت سياسة بريطانيا تحددها ظاهرتين الأولى تتعلق بالمسؤولين في مجلس الوزراء البريطاني وفورين أوفيس اللذان من البداية فهموا أن سورية عاجلاً أم آجلاً ستصبح فرنسية. ومع ذلك عملوا على خلق صعوبات أمام تثبت فرنسا في سورية، ومن أجل إضعاف اهتمامها بالمسائل الأوروبية الهامة، وللحصول على تأييد فرنسا في أجزاء أخرى من الدولة العثمانية. وكان الملك فيصل الوسيلة المثالية لتحقيق مثل تلك الأهداف، ولو أنه لم يكن لعبة في أيدي البريطانيين بل كان يأمل بصدق في أن يصبح بمساعدة بريطانيا على رأس الدولة العربية.
وحتى أيلول/سبتمبر 1919، حاول الإنكليز لعب دور "الوسيط الخاص" بين الملك فيصل وفرنسا ولكنهم وجدوا أنفسهم أمام حقيقة إجراء خيار، واختاروا فرنسا لأن التحالف معها كان هاماً جداً بالنسبة لهم، وليس من المعقول التضحية بها من أجل أمير عربي وأنصاره، وكان ذلك الأمير من دون المساندة البريطانية مجرداً من القوة تماماً، خاصة وأن الفرنسيين منذ البداية حصلوا وببساطة على توقيعه على الشروط التي أملوها عليه أولاً ومن ثم طردوه من دمشق. وبعد سنة ذكر وزير المستعمرات ونستون تشرتشل أن مصير حكومة الملك فيصل لقيت في إنكلترا مشاعر "تحولت إلى مصدر عميق للألم عند السياسيين والعسكريين الذين كانت لهم علاقات معها. ولكن لنا علاقات قوية مع فرنسا ويجب علينا أن نكن لهم الاحترام، خاصة وأننا لا نستطع أن نفعل شيئاً من أجل مساعدة العرب في هذا الاتجاه" (Zeine Zeine N. Op. Cit. P. 188).
ورغم أن مشاعر الكثير من الضباط البريطانيين المتمركزين في المواقع التي قاتلوا فيها مع العرب ضد الأتراك دون مشاركة فعلية من فرنسا، كانت ترفض أي مطالب فرنسية في هذه الأراضي. ومع ذلك لم يستطيعوا فهم حساسيات الدبلوماسية الأوروبية، وأن حقيقة احتلال سوريا من قبل القوات البريطانية بالنسبة لهم كان أساساً كافياً لتثبيت التأثير البريطاني فيها. وكان سلوك أولئك الضباط في سورية كأصحابها، وكانوا بكل الوسائل  يحاولون إضعاف مركز الممثلين الفرنسيين، ويخلقون العقبات للفرنسيين في النشاطات التجارية والسياسية وحتى الإنسانية الخيرية، وعلق السكان المحليين الآمال عليهم لإضعاف فرنسا وعدم تمكينها من التثبت في سورية أبداً.
وكانت الخلافات الإنكليزية الفرنسية حول سورية مجرد بداية لخلافات بين حليفين. ولكن المسألة التركية والمسألة الألمانية أعطت المزيد من الأسباب لزيادة الخلافات. وبدأت بالظهور منذ ذلك الوقت ملامح علاقات إنكليزية ارنسية هامة وكأنها مرحلة بين حربين، وأضحت العلاقة تجمع بين مظاهر حب الصداقة والتأكيد على الوفاء للتحالف وإخفاء الصراعات القاسية في الكثير من المسائل الهامة. ومع ذلك كانت مبادرات 1919-1920 من دون شك لإنكلترا. ولهذا لم تصل تلك الصراعات الخفية إلى حد القطيعة، لأن الدولتين العظميين كانتا مهتمتين في الحفاظ على وضعهما القيادي في النظام الجديد للعلاقات الدولية، والتي كانت غير ممكنة في حال انهيار الأنتانتا.
وكما سبق وأشرنا فإن بريطانيا العظمى سبق وأعلنت نيتها سحب جنودها من المناطق المحتلة، وتسريحهم من الخدمة العسكرية رغبة منها في خفض نفقات تلك القوات. وما أن سحبت قواتها من العراق حتى اشتعلت ثورة رشيد عالي الكيلاني عام 1920، مما اضطرها لإعادة قواتها إلى هناك لإخماد الثورة. وبقيت أمام مطالب دافعي الضرائب البريطانيين التي تطالب بسحب القوات البريطانية من العراق وفلسطين. ولهذا عهدت الحكومة البريطانية بهذه المهمة الصعبة لوزير المستعمرات آنذاك ونستون تشرتشل، الذي أحدث لهذه الغاية "دائرة الشرق الأوسط". وفي عام 1921 دعى لعقد مؤتمر القاهرة الذي ضم خبراء بريطانيين في شؤون الشرق الأوسط خرجوا بمقررات شملت مستقبل العراق وشرق الأردن وفلسطين؛ ونقل مهمة حفظ الأمن والنظام في الشرق الأوسط من وزارة الحربية إلى وزارة الطيران، باقتراح من لورنس، الذي اقترح إيجاد قوة جوية صغيرة تدعمها بضعة سيارات مصفحة تقوم بمهمة قوات الاحتلال. ولكن سرعان ما أثبتت هذه القوة عجزها عن تحقيق الأمن والاستقرار، ووجدت إدارة الاحتلال في فلسطين نفسها عاجزة عن مواجهة الحركة العربية عام 1929، واضطرت لطلب النجدة التي وصلتها من الدول المجاورة.
وبدأ كفاح العرب ضد حلفائهم السابقين، بعد أن تلاشت أحلامهم بالاستقلال التام التي عقدوها على الوعود التي أعطتها لهم بريطانيا للتخلص من الحكم العثماني التركي. وأخذ العرب يطالبون بالشعارات البراقة، من الحرية والديمقراطية وحق تقرير المصير التي غذاهم بها الحلفاء أثناء حربهم ضد العثمانيين الأتراك كما ذكر السفير البريطاني السابق في إيران. فحصلت العراق على استقلال شكلي، وتابعت بريطانيا التزامها بإقامة الوطن القومي لليهود في فلسطين. ولم تخف بعض الصحف البريطانية بأن دعم إقامة حكومة عربية في دمشق كان الهدف منها رغبة الحكومة البريطانية الالتفاف على المصالح الفرنسية لتحقيق أهداف الصهيونية ليس في فلسطين وحسب، بل وفي سورية أيضاً (بولارد سير ريدر: بريطانيا والشرق الأوسط من أقدم العصور وحتى 1952. نقله إلى العربية: حسن أحمد السلمان. بغداد: مطبعة الرابطة، 1956. ص 113-117).
سورية تحت الإنتداب
وشرعت فرنسا بتثبيت احتلالها لسورية ولبنان، بعد أن حققت مشروعها بفصل لبنان عن سورية. وواجهت الثورات المتلاحقة للشعب السوري ضد الاحتلال، وأشهرها الثورة السورية الكبرى عام 1927.
أما الولايات المتحدة الأمريكية فقد طالبت أن يكون لها نفس الحقوق الممنوحة للدول الأعضاء في عصبة الأمم في مناطق الانتداب فئة (A). وحصلت الولايات المتحدة على تلك الحقوق، وطالبت بنشر مسودة نصوص الانتداب قبل إقرارها من قبل عصبة الأمم. وساندت انتداب بريطانيا على فلسطين رغبة منها في إنهاء المشكلة اليهودية لدوافع دينية وسياسية. واشترطت نقل ربع أسهم شركات النفط في بغداد والموصل إلى شركات النفط الأمريكية قبل الموافقة على انتداب بريطانيا على العراق. وهكذا بدأ عهد التدخل الأمريكي في أعمال شركات النفط في الشرق الأوسط. وقد تطورت نسبة مساهمة الشركات الأمريكية في امتيازات النفط في الشرق الأوسط خلال بضعة سنوات من 25 % إلى 100 %.
بينما اختفت روسيا السوفييتية من ساحة الشرق الأوسط، ولم يكن لها تمثيل دبلوماسي سوى مع المملكة العربية السعودية واليمن، وسرعان ما أغلقت تلك القنصليتين السوفييتيتين عام 1938. وأعادت روسيا السوفييتية المناطق التي احتلتها روسيا القيصرية عام 1878 إلى تركيا، وسحبت قواتها من إيران بعد توقيع معاهدة عام 1921.
وهكذا حققت السياسة البريطانية المعروفة بسياسة "فرق تسد" من خلال استغلال فخ الدوافع القومية عند العرب، وسلخهم عن الدولة العثمانية أولاً، ومن ثم تجزئة العرب لدويلات صغيرة تحت غطاء عصبة الأمم التي منحت الدول المنتصرة صكوك الانتداب. وفرضت عليهم الحدود السياسية، وجوازات السفر، وتأشيرات الدخول، والرسوم الجمركية .. الخ. وأخيراً أوحت إليهم بفكرة الجامعة العربية، وتركت مهمة تحقيقها للحكومات العربية الحليفة لبريطانيا آنذاك، وهي الحكومات التي تقاربت مواقفها لمواجهة أهداف الصهيونية العالمية.
وحققت بريطانيا أهدافها من تأسيس الجامعة العربية كاملة، وهي تثبيت الحدود السياسية القائمة، وإلهاء الحكومات العربية في صراعات لا تنتهي، وصرفت أنظارهم عن القضايا الاقتصادية الملحة للعرب، وحولتهم نحو صراع مع الصهيونية العالمية أوجدته كي لا ينتهي وهو مستمر وآخذ بالتصاعد حتى اليوم.
ولم يكتشف العرب الخديعة الكبرى التي بدأتها بريطانيا "صديقة العرب" منذ احتلالها لمصر عام 1831، وتركيزها وتشجيعها على تشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وحتى أنها عهدت لأول قنصل بريطاني عين في القدس عام 1838 بمهمة حماية اليهود الموجودين في فلسطين مهما كانت أصولهم، وساعدت ودعمت المشاريع الاستيطانية التي كان يغذيها السير موزس مونتفيور Sir Moses Montefiore والبارون أدموند دي روتشلد Baron Edmond de Rothechild من أجل مضاعفة عدد المهاجرين اليهود إلى فلسطين. تحقيقاً لما أعلنه الدكتور حاييم وايزمان رئيس المنظمة الصهيونية العالمية عن الوطن القومي لليهود أمام مؤتمر فرساي بأن "فلسطين يهودية، كما إنكلترة إنكليزية". في الوقت الذي كان فيه المؤتمر السوري العام يعلن وهو ينتخب الأمير فيصل ملكاً على سورية الطبيعية معارضته الشديدة للهجرة اليهودية إلى أي جزء من سورية وخاصة فلسطين (بولارد سير ريدر: بريطانيا والشرق الأوسط من أقدم العصور وحتى 1952. نقله إلى العربية: حسن أحمد السلمان. بغداد: مطبعة الرابطة، 1956. ص 123-124).
وهكذا نرى أنه وعلى الرغم من مرور 100 عاماً على "أنتانته" اتفاقية من القلب، أن التعاون البريطاني الفرنسي لم يزل ضرورياً لإرساء الاستقرار ليس في أوروبا وحسب كما ذكر رئيس الوزراء البريطاني خلال لقاء القمة البريطانية الفرنسية السابعة والعشرين التي عقدت في لندن خلال نوفمبر 2004 فقط، بل وفي المستعمرات البريطانية والفرنسية السابقة في  العالم. رغم أفول زمن السيطرة البريطانية الفرنسية على العالم ليحل محله زمن سيطرة حلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية القطب العالمي الوحيد دون منازع بعد انهيار المنظومة الإشتراكية التي كانت بزعامة الإتحاد السوفييتي قبل إنهياره في تسعينات القرن الماضي. وأن ما يجري على الساحة العربية اليوم ما هو إلا صدى لمعاهدة سايكس بيكو سيئة الصيت.

طشقند 9/8/2012                بروفيسور محمد البخاري