الخميس، 9 فبراير 2017

إسهام العالم الإسلامي في تطوير الحضارة الحديثة (الجزء 2)


طشقند: 9/2/2017 ترجمها وأعدها للنشر أ.د. محمد البخاري. تحت عنوان "إسهام العالم الإسلامي في تطوير الحضارة الحديثة (الجزء 2)" نشرت وكالة أنباء "Jahon" يوم 8/2/2017 مقالة أشارت فيها إلى:
ستستمر بنشر سلسلة من المقالات المكرسة لأجدادنا العظام الذين كان لهم تأثيراً واضحاً على تطور الفكر العلمي على الصعيد العالمي.
والمقالة الدورية من هذه السلسلة ستطلعكم على جملة من العلوم التي أصبحت فخراً لشعبنا.
ومن الخصائص التي ميزت علماء تلك المرحلة كانت معارفهم الموسوعية وأفكارهم. وهذه الخاصية كانت متأصلة في أبو ريحان البيروني (973-1048م م)، العالم في مجالات متعدد: علم الفلك، والفيزياء، والرياضيات، والجيوديسيا، والجولوجيا، وعلم المعادن، والتاريخ، وألإثنوغرافيا. ومؤلفاته في هذه المجالات أغنت المضامين العلمية.


ولد أبو ريحان البيروني في عاصمة الدولة الخوارزمية العريقة مدينة كات. وأظهر من طفولته المبكرة إهتماماً كبيراً نحو معرفة العلوم الدقيقة والطبيعية والإنسانية على حد سواء. وحصل على تعليمه لدى العالم الشهير أبو نصر منصور بن عراق، الذي أحاطت مؤلفاته بمجالات: علم الفلك، وعلم الهندسة، والرياضيات. وكرم المعلم تلميذه بهدية كبيرة، إذ خصص له 12 عملاً من أعماله. وبالإضافة للغته الأم درس البيروني اللغات: العربية، والصغديانية، والفارسية، والسريانية، واليونانية. وأثناء حياته في الهند تمكن من السنسكريتية.
وكتب البيروني في مؤلفاته العلمية، أنه أثناء حياته بمدينة كات، من عام 990م بدأ بأول أبحاثه في علم الفلك. ومن أجل ذلك إخترع جملة من الأدوات التي استخدمها اثناء عمله. وكان الأهم بينها كرة أرضية بقطر كبير جداً، يتراوح مابين الـ 5 والـ 6 أمتار، صنعها في عام 995م، واستخدمها لقياس المسافة بين المدن بدقة متناهية، وكذلك من أجل تحديد خطوط عرض وطول الأماكن. وهذه الكرة الأرضية كانت الأولى التي تضمنت خارطة لشرق العالم، صممها وفقاً لمبادئ رياضيات رسم الخرائط.
وفي مدينة الجرجانية الواقعة جنوب شرق بحر قزوين، كتب في العام 1000 م مؤلفة "العصور الباقية من القرون الخالية". وهذا المؤلف جلب له شهرة كبيرة وأظهر بوضوح مدى نموه من جميع النواحي.
وقدم فيه معلومات عن شعوب خوارزم القديمة، ومن ضمنهم أتباع الديانات: اليهودية والمسيحية، وعبدة النار، وكذلك عادات وتقاليد وأعياد المسلمين. ومع ذلك كرس نظرياً للأسس التاريخية والإثنوغرافية، والشعوب البدائية، والتسلسل التاريخي، والطب، وطرق البحث العلمي والصراعات المنهجية، والخلافات، ونتائجها وجملة غيرها من القضايا التي تعتبر مصدراً قيماً للمتخصصين في هذه المجالات.
وإلى جانب ذلك ألف البيروني في الجرجانية أكثر من 10 مؤلفات في علم الفلك وتاريخ علم المقاييس. واهتم بمعارفه الموسوعية الحاكم الجديد لخوارزم أبو عباس مأمون الثاني، الذي دعى العالم إلى عاصمة البلاد مدينة أورغينيتش، حيث أحيط بترحيب دافئ. وبدأ بنشاطاته البحثية في أكاديمية المأمون المحدثه مؤخراً، وقدم نفسه كشخصية علمية متنوعة وعين في أعلى المناصب، منصب مستشار الشاه.
وخلال الفترة الممتدة من عام 1017م وحتى عام 1048م ألف البيروني جملة من مؤلفاته: "أبرز الشخصيات الخوارزمية"، و"تحديد الحدود والأماكن لتحديد المسافة بين المناطق المأهولة"، و"الجيوديسيا"، و"تعليم مبادئ فنون علم التنجيم"، و"الهند"، و"قانون مسعود"، و"الصيدلة والطب"، و"مفتاح علم الفلك"، و"علم المعادن"، وغيرها من المؤلفات. ولهذا يجب تذكر أنه خلال عامي 1035م و1036م وضع العالم قائمة لمؤلفاته، تضمنت 113 مؤلفاً من مؤلفاته. خصص 70 منها لعلم الفلك، و20 للرياضيات، و12 للجغرافيا والجيوديسيا، و3 لعلم المعادن، و4 لعلم رسم الخرائط، وغيرها من العلوم. وإذا أخذنا بعين الإعتبار أنه خلال السنوات الـ 13 الباقية من عمره ألف أكثر من 50 مؤلفاً، فهذا يعني أن عددهم يزيد عن الـ 160 مؤلف. وأشارت مصادر أخرى إلى أن تراثه العلمي بلغ أكثر من 200 كتاب. ولكن مع الأسف، الكثير منها لم تصل إلينا وفقدت خلال القرون. وكل مؤلف هو بمثابة موسوعة في هذا أو ذاك من الاتجاهات العلمية.
ومن بداية القرن التاسع عشر اهتمت الدول الأوروبية والآسيوية بتراث البيروني. وكرس جملة من علماء تلك البلدان كتبهم عن مؤلفاته وأعطوها تقييماً عالياً من حيث الأبحاث العلمية التي أجراها، ومن ضمنها رأيه الذي قاله قبل فترة طويلة من قانون الجاذبية الأرضية للفيزيائي الإنجليزي، وعالم الرياضيات، وعالم الفلك إسحق نيوتين (1643-1727 م م)، عن أن "الأجسام تقع على الأرض نتيجة للجاذبية".
ومؤلفات المفكر ترجمت إلى اللغات: اللاتينية، والفرنسية، والإيطالية، والألمانية، والإنكيزية، والغارسية، والتركية، ولم تزل حتى الآن تجذب إهتمام الأوساط العلمية في العالم.

ومن العلماء الموسوعيين العظام في القرون الوسطى، والذين لم تزل مؤلفاتهم من المصادر الغنية للمعرفة في مختلف الإتجاهات العلمية، هو أبو علي بن سينا (980-1037 م م)، والمعروف في العالم بإسم أفيتسينا. ويستدعي تراثة إعجاب الأوساط العلمية في مختلف العصور لتنوعه، ووفق مختلف المعلومات بلغ ما بين الـ 450 وحتى الـ 500 مؤلف في مجالات: الرياضيات، والفيزياء، والكيمياء، وعلم الفلك، والطب، والفلسفة، والأدب، وعلم اللغة، والموسيقى، أي في نحو 30 مجالاً علمياً.
والأكثر أهمية في أعمال ابن سينا الأساسية والواقعة في عدة مجلدات: "كتاب الشفاء"، و"القانون في الطب"، و"كتاب الإنصاف". ويتألف الكتاب الأول من 22 مجلداً خصصت الـ 4 الأساسية منها للرياضيات، والفيزياء، والمنطق، وما وراء الطبيعة. وجملة من المجلدات ترجمت إلى اللغات: الأوروبية، والشرقية، والروسية، والأوزبكية.
والكتاب الثاني، حصل على شهرة واسعة في العالم ويقع في 5 مجلدات، كل منها يحيط من كل الجوانب باتجاه معين في الطب. وبالإضافة لذلك وجد موضوع التطبيب إنعكاساً له في غيره من أعمال العالم، مثل: "الأرجوزة في الطب". وهذا العمل هو الثاني من حيث المضمون والأهمية بعد "القانون في الطب"، وهو محفوظ في مخزون مركز أبو ريحان البيروني للمخطوطات الشرقية بمعهد طشقند الحكومي العالي للدراسات الشرقية. ومؤلف ابن سينا الهام التالي في مجال الطب هو "رسالة النبض"، الذي عرض العالم فيه عشرات أنواع النبض المختلفة مع شرح لأهمية التشخيص.
والكتاب الثالث "كتاب الإنصاف" ويتألف من 20 مجلد ومع الأسف لم يصل إلينا وفقد مثله مثل الكثير من مؤلفات أفيتسينا.