السبت، 5 سبتمبر 2009

الأمن الإعلامي وهموم المجتمع المعلوماتي في عصر العولمة 1 من 2

أ.د. محمد البخاري
الأمن الإعلامي وهموم المجتمع المعلوماتي في عصر العولمة 1 من 2
المحتويات:
المقدمة.
العولمة والأمن الإعلامي الوطني والدولي: تعريف "العولمة"؛ مقدمات "العولمة"؛ "العولمة" والدولة والسيادة الوطنية؛ موقف الأمم المتحدة من الأمن الإعلامي الدولي؛ الأمن الإعلامي الدولي والتفوق في تكنولوجيا الاتصال؛ البنى الإعلامية الدولية فوق الدولة؛ التهديدات الجديدة لـ"العولمة الإعلامية"؛ "العولمة الإعلامية" والسيطرة على الموارد الإعلامية؛ السلاح الإعلامي في خدمة الدول الصناعية المتقدمة؛ السلاح الإعلامي وإدارة الصراع؛ مشكلة الأمن الإعلامي والمصالح الوطنية والدولية؛ أطر مشاكل الأمن الإعلامي الوطني والدولي؛ المصطلح والحرب الإعلامية؛ مجالات تأثير الصراع الإعلامي الدولي؛ مجالات استخدام السلاح الإعلامي؛ الرقابة أو الإشراف على المجال الإعلامي الدولي؛ سيناريوهات الحرب الإعلامية؛ الأمن الإعلامي الدولي من وجهة نظر المعارضين للمشكلة؛ الأمن الإعلامي الدولي من وجهة نظر البحث العلمي؛ الأمن الإعلامي والتفاهم الدولي؛ رؤية عربية للأمن الإعلامي والتفاهم الدولي.
العولمة وهموم المجتمع المعلوماتي: مفهوم المجتمع المعلوماتي؛ خطوات الانتقال إلى المجتمع المعلوماتي؛ مصاعب الانتقال إلى المجتمع المعلوماتي؛ ضرورة وضع ضوابط وخطط شاملة للانتقال إلى المجتمع المعلوماتي؛ تطوير البنى التحتية اللازمة للمجتمع المعلوماتي رهن بالسياسات الحكومية؛ العولمة والتكنولوجيا والمجتمع المعلوماتي؛ حتمية الثورة الاتصالية والمعلوماتية في ظل العولمة؛ تطور تكنولوجيا ووسائل الاتصال كقاعدة أساسية لتطور المجتمع المعلوماتي؛ من الحاسب الإلكتروني الشخصي إلى شبكات الاتصال المفتوحة؛ التقنيات الرقمية بديلة للتقنيات التقليدية في المجتمع المعلوماتي؛ شبكة الانترنيت ووظائف وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية في المجتمع المعلوماتي؛ خصائص المجتمع المعلوماتي؛ متطلبات المجتمع المعلوماتي؛ المجتمع المعلوماتي ووسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية في الدولة القومية؛ شبكة الانترنيت العالمية والمجال الإعلامي للدول النامية؛ مشاكل تشكل المجتمع المعلوماتي في الدول النامية؛ شروط بناء المجتمع المعلوماتي في الدول النامية؛ الشخصية أو الذات الفردية في المجتمع المعلوماتي؛ المجتمع المعلوماتي ووسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية العربية؛
الخاتمة: لابد من مضاعفة التركيز على الرأي العام العالمي خدمة للمصالح القومية العربية.
المراجع والمصادر.
المقدمة: نرى في العصر الحديث أن أهمية الاتصال قد ازدادت بشكل كبير، بفضل تطور وسائل الاتصال وشبكات المعلومات الإلكترونية وتقنياتها الحديثة. فالمعلومات أصبحت تحيط بنا في كل مكان ومن كل اتجاه حتى غدت طبقة كثيفة تحيط بالكرة الأرضية كالغشاء الهوائي الذي يوفر الحياة لسائر المخلوقات الحية، طبقة تعود الإنسان عليها حتى كاد ينساها أو يجهل وجودها، عدا قلة قليلة من الناس الذين يتعاملون مع هذه الطبقة المعلوماتية الكثيفة ويدركون مدى فاعليتها وتأثيرها ممن يطلق عليهم تسمية "خبراء الإعلام والاتصال".
وقد أطلق الباحث في علم الاتصال بيير تايلهارد على هذه الطبقة المعلوماتية التي تحيط بالكرة الأرضية اسم "نوسفير"، ويستفيد الإنسان المعاصر من هذه الطبقة عن طريق تلقي سيل هائل من المعلومات عبر شبكات الإعلام الجماهيرية والاتصال وتبادل المعلومات الدولية تتضمن حقائق وآراء مختلفة يستخدمها في مواقف اتصالية يدخل فيها مع الآخرين كمتحدث أو مستمع، ولكنه كان حتى وقت قريب لا يؤثر في عملية الاتصال كغيره من الفئات الاجتماعية الأكثر تأثيراً في عملية الاتصال كالمفكرين والصحفيين والكتاب والسياسيين ورجال الدين والأساتذة والمعلنين الذين يعطون من خلال وسائل الإعلام الجماهيرية والاتصال عن بعد أفكاراً ومعلومات في المواقف الاتصالية الجماعية أكثر مما يأخذون من معلومات، بحكم أدوارهم الاجتماعية التي تسمح لهم بالتأثير والتحكم بتفكير غيرهم من الناس يسميهم البعض "قادة الرأي".
وأصبح الاتصال عن بعد اليوم حقيقة طاغية في حياتنا اليومية المعاصرة عبر شبكات الاتصال الإلكترونية وخاصة شبكة "الانترنيت" العالمية، وأصبح الناس أداة فاعلة في عملية الاتصال عن بعد المستمرة على مدار الساعة مرسلين ومستقبلين على حد سواء بفضل تقنيات الاتصال الحديثة تلك محولة العالم بأسره إلى قرية الأمس من خلال عمليات الاتصال عن بعد المباشرة والمعقدة، والتي لم تعد تعترف لا بالحدود الجغرافية ولا بالحدود السياسية للدول المختلفة في العالم.
وفرض تطور التقنيات الحديثة للاتصال عن بعد على الإنسان المعاصر تعلم مهارات جديدة لم يكن بحاجة لتعلمها قبل عدة عقود فقط، وأصبحت ضرورية له لمواكبة العصر واستخدام وسائل الاتصال عن بعد الحديثة المعقدة حتى في اتصالاته الشخصية عبر شبكات الحاسبات الإلكترونية التي جعلت من الاتصال عن بعد عملية سريعة وفورية وسهلة بالاتجاهين. ومع تزايد أهمية الاتصال في حياتنا اليومية المعاصرة، ازدادت أهمية أبحاث الاتصال بكل أشكاله.
ويميل بعض علماء الاجتماع إلى التفريق بين الأبحاث الصحفية، والأبحاث الإعلامية والاتصالية. رغم امتداد الدراسات التي استهدفت الصحافة والإعلام خلال القرن العشرين إلى سائر مجالات الإعلام والاتصال عن بعد وقنواته انطلاقاً من مفهوم حرية تدفق المعلومات، ووحدة المجالات الإعلامية والاتصالية رغم تشعبها. ورغم اهتمام بعض المعاهد الصحفية في العالم بدراسة مجال واحد من المجالات الإعلامية والاتصالية، كدراسة الإذاعة والتلفزيون مثلاً، أو الصحافة المطبوعة، أو الاتصال الشخصي عبر وسائل الاتصال الحديثة كل على حدى. إلا أننا نعتبر أن مثل تلك الدراسات الناقصة لا تلبي حاجة البحث العلمي في مجال تدفق المعلومات والإعلام والاتصال عن بعد بشكله الملائم والمطلوب على أعتاب القرن الواحد العشرين، في زمن تشعبت فيه قنوات الاتصال عن بعد وتداخلت من خلال شبكات الاتصال عن بعد الحديثة سمة الحقبة الأخيرة من القرن العشرين.
فالأسلوب العلمي الصحيح اليوم يربط بين أساليب الاتصال عن بعد وتقنياته الحديثة كوحدة واحدة تتلاقى فيها قنوات الإعلام أصولاً وفروعاً. رغم التقسيم الذي سار عليه بعض الباحثين حينما فرقوا بين الأبحاث الصحفية، التي حاولوا حصرها بدراسة وسائل الإعلام أو الرسائل الإعلامية Communications فقط، بينما حاول البعض الآخر حصر أبحاث الاتصال بعملية الاتصال Communication فقط.
لأنه من الصعب جداً دراسة وسائل الإعلام الجماهيرية دون الاهتمام بعمليات الاتصال عن بعد والمواقف الاتصالية التي يتم من خلالها توجيه وتبادل المعلومات. فأي بحث يتناول الاتصال يجب أن يهتم بالجانبين معاً. فنحن لا نستطيع فهم ما تنشره وما تنقله أو تذيعه أو تبثه وسائل الإعلام والاتصال عن بعد الجماهيرية، دون أن ندرك جوهر عملية الاتصال، وكيف يؤثر مضمون الرسائل الإعلامية لوسائل الإعلام الجماهيرية على الأفراد والجماعات المختلفة.
وحينما نحاول أن نعرِّف المادة الإعلامية، نجد صعوبة بالغة في وضع حدود واضحة تحدد الأبحاث الإعلامية وتميزها عن غيرها من أبحاث العلوم الإنسانية. فأهداف واهتمامات أبحاث الاتصال المباشر والاتصال عن بعد واسعة جداً، لأنها لا تدرس وسائل الاتصال عن بعد فقط، بل تتعداها لدراسة تفاصيل عمليات الاتصال عن بعد بشكل عام. وهذا يحتم علينا الاهتمام بعلوم إنسانية أخرى منها التربية، وعلم النفس الفردي، وعلم النفس الاجتماعي، والسياسة، والاقتصاد، والقانون، والستسيولوجية، والتاريخ... الخ، فالإعلام والاتصال عن بعد يشاركان فروع العلوم الإنسانية الأخرى مسؤولية الكشف عن مختلف أوجه المشاكل التي تتضمنها عملية الاتصال في مختلف مراحلها.
ولقد أدرك علماء الاتصال عن بعد منذ أواسط القرن العشرين، حقيقة هامة مفادها أنه لا يمكن فهم الاتصال عن طريق وسائل الإعلام الجماهيرية بدون فهم جوهر عملية الاتصال المباشر بين شخص وآخر، وعملية الاتصال داخل الجماعة الصغيرة. فبدون إدراك وفهم عملية الاتصال الفردي، والاتصال داخل الجماعة الصغيرة، لا يمكن فهم عملية الاتصال عن بعد عبر مؤسسات ووسائل الإعلام والاتصال عن بعد الجماهيرية، ولا نستطيع كذلك تقدير تأثير تلك المؤسسات والوسائل.
ومن المسلم به أن فهم ودراسة وسائل الإعلام والاتصال عن بعد الجماهيرية هي من مسؤولية علماء الاتصال والإعلام أساساً، ولكننا لا نستطيع أن ننكر اشتراك علماء السياسة والاقتصاد والمجتمع في هذه المسؤولية بشكل أو بآخر. ولكن المسؤولية تبقى أساساً على عاتق علماء الإعلام والاتصال المسؤولين عن دراسة عمليات الاتصال الجماهيري، والتعرف على تنظيم مؤسسات الإعلام والاتصال عن بعد، وأساليب السيطرة الاجتماعية عليها، ومركز تلك المؤسسات في التنظيم الاجتماعي بشكل عام، ووظيفة تلك المؤسسات وجمهورها ومسؤوليتها، وطريقة اضطلاعها بتلك المسؤوليات، ودراسة طبيعة تأثير تلك المؤسسات. واكتشاف السبل لتحقيق فاعلية الإعلام والاتصال عن بعد المطلوبة، واختيار أنجع الوسائل، والتعرف على طبيعة كل وسيلة منها. وطبيعة الجمهور المتلقي، ومشاكل نقل المعاني والرموز عبر وسائل الاتصال عن بعد المختلفة.
ويمر التطور التاريخي لأي علم من العلوم الحديثة، بمراحل تطور متشابهة تبدأ بالمرحلة الفلسفية، حيث ينصب الاهتمام فيها على تحديد المسارات الأساسية، وتكوين مفاهيم كلية وافتراضات أساسية، وتحديد طرق وأساليب جديدة للبحث العلمي، ويعاد النظر فيها بشكل يمكن بواسطتها جمع المعلومات والحقائق عن العلم المقصود. وتنتهي هذه المرحلة عند التوصل إلى اتفاق عام على بعض المبادئ والافتراضات الأساسية وبعض طرق وأساليب البحث العلمي.
وينتقل الاهتمام في المرحلة الثانية إلى تطبيق أساليب جديدة للبحث، مهمتها قياس صحة الافتراضات التي تم الاتفاق عليها في المرحلة الفلسفية الأولى، يرافقها تجميع حقائق مفصلة عن تلك الافتراضات. وتنتهي المراحل التجريبية بجمع جملة من الحقائق تستخدم في بناء نظرية علمية محددة، وهي المرحلة الثالثة التي تستمر فيها الأبحاث والتجارب التي تؤدي إلى تطور البحث العلمي والوصول إلى نتائج جديدة ومقترحات تؤدي للوصول إلى نظريات علمية جديدة.
وقد بدأت الأبحاث العلمية في مجال الاتصال الجماهيري في الولايات المتحدة الأمريكية خلال العشرينات من القرن العشرين، وركزت الأبحاث الأولى على دراسة وصفية لتاريخ الصحافة، والشخصيات الصحفية التي قامت بإصدار وتحرير صحف كل مرحلة من المراحل المدروسة. وركزت على مفاهيم فلسفية معينة كحرية الصحافة وحق الأفراد في نشر آرائهم بدون تدخل السلطات، ودور الصحافة في المجتمع إلى آخره من الاهتمامات الإعلامية والاتصالية العلمية.
وظهرت في المرحلة التالية دراسات اعتمدت على الأبحاث التجريبية والميدانية والكمية. خرجت بدراسات موضوعية بعيدة عن تحيز الباحث، معتمدة على حقائق علمية ثابتة، مستخدمة أساليب القياس والتجربة للوصول إلى نتائج علمية مقنعة. توصل العلماء بفضلها إلى تكوين نظرية علمية طورت خلال الخمسينات والستينات من القرن العشرين. وتوسع البحث العلمي في مجال الاتصال عن بعد مع انتشار العولمة وتطور تقنيات وتكنولوجيا الاتصال عن بعد خلال النصف الثاني من القرن العشرين، ليشمل دراسات في الإعلام الدولي وطبيعة الإعلام في الدول الأخرى وخاصة تلك التي تختلف مع الولايات المتحدة الأمريكية إيديولوجياً، أو التي تدخل ضمن مجال اهتمامات سياستها الخارجية والمصالح الأمريكية في العالم عامة.
ورافق هذا التطور في الأبحاث العلمية بمجال الإعلام والاتصال عن بعد، اهتمام علماء السياسة والاقتصاد والمجتمع وعلم النفس وعلوم الاتصال بشكل عام، الذين ساهموا في تطوير وبناء نظريات ومفاهيم أساسية لعلم الاتصال. مما أعطى للدراسات الإعلامية طابعاً متميزاً ساهم في اتساعها وإثرائها خلال النصف الثاني من القرن العشرين خاصة بعد أن وظفت بعض اتجاهاتها لأغراض عسكرية هجومية محددة، وبقيت تلك الأبحاث حكراً على الدول المتقدمة التي تحتكر صناعة الوسائل الحديثة للاتصال عن بعد عالية التطور.
وفي تلك الفترة ذاتها تنبأ الكاتب الألماني شارل بروتس بأنه "سيأتي عصر للأمم الصغيرة المستقلة، يكون أول خط دفاعي لها هو المعرفة". وهي المقولة التي اقتنع بها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الذي قام في عام 1953 عندما كان رئيساً للوزارة في عهد الرئيس محمد نجيب، بتأسيس وحدة للشؤون العربية لجمع المعلومات عن العالم العربي كله ! ؟ وكان ذلك في وقت اشتد فيه الصراع بين الشرق الأحمر بقيادة الاتحاد السوفييتي السابق، والغرب الديمقراطي (الاستعماري) بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.
وكان ذلك في وقت لم تزل ترزح فيه أجزاء كبيرة من العالم العربي والإسلامي والنامي للاستعمار الأوروبي البريطاني والفرنسي والإسباني والروسي، وخاضت فيه الأمة العربية حرباً ضروس غير متكافئة مع عدو شرس اغتصب الأرض والحقوق والمقدسات في فلسطين المحتلة، في عدوان مستمر اعتمد فيه على الشرعية الدولية ودعم بعض القوى الكبرى المهيمنة في العالم لتبرير عدوانه أمام الرأي العام العالمي من خلال إدراكه لأهمية الرأي العام في عملية اتخاذ القرارات الهامة، وبراعته في توجيه الخطاب الإعلامي إليه. وفي هذا دليل واضح يشير إلى نموذج من نماذج تعامل واحدة من الأقطار العربية المستقلة مع مشكلة المعرفة والإعلام آنذاك، وتنبهها لأهمية المعرفة ودور الإعلام في الدفاع عن الذات الوطنية والسيادة والاستقلال.
ومعروف أن الإعلام هو قناة لنقل ونشر المعرفة، وهو ما دفع ويدفع ببعض الأقلام أحياناً لتتبارى في الإشارة إلى ضعف قناة المعرفة تلك وضعف وتشتت الخطاب الإعلامي العربي الموجه للرأي العام العالمي، وبعده عن العلمية واستخدام نتائج الأبحاث الإعلامية الأجنبية من ضمن تقنيات الخطاب الإعلامي واختيار القناة الإعلامية المناسبة للتأثير على الرأي العام المحلي والعالمي، رغم الإشارة إلى تفوق الإعلام المضاد دون ذكر الأسباب الجوهرية لذلك التفوق، أو محاولة تقديم حلول مقترحة واقعية قابلة للتحقيق في الواقع الراهن للدول العربية كجزء من الدول النامية، تخرج الإعلام العربي من مأزقه، وتساعده على التصدي للحرب الإعلامية التي يتعرض لها منذ فترة طويلة.
واليوم وبعد أن طورت الدول المتقدمة في العالم أحادي القطبية، وأدخلت أسلوباً جديداً في العلاقات الدولية أطلقت عليه اسم "العولمة" قارعت به بعضها بعضاً وطرقت أبواب الدول الأقل تطوراً والدول النامية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق ومنظومته الاشتراكية، لتضع أمام تلك الدول، والدول المستقلة حديثاً تحديات مصيرية تنال ليس السياسة والاقتصاد والمقدرات والمعتقدات وحسب، بل وتهدد شخصية وثقافات وسيادة واستقلال تلك الدول. اثر توسع الهوة المعرفية بين العالمين المتقدم والأقل تطوراً والنامي، رغم بساطة وتعقد قنوات المعرفة المتاحة اليوم في آن معاً، إثر الانفجار المعرفي والإعلامي الذي سببه التطور الهائل لوسائل الاتصال عن بعد الجماهيرية وتنوع قنواتها. وفي طليعتها الوسائل المتطورة كشبكات الحاسب الآلي العالمية التي وظفت لخدمتها ليس شبكات الاتصال عن بعد الأرضية وحسب، بل وشبكات الاستشعار عبر الأقمار الصناعية، والمحطات الفضائية التي أصبحت مألوفة للإنسان منذ أواسط النصف الثاني من القرن المنصرم.
مما طرح تحديات جديدة سببتها "العولمة الإعلامية" تهدد باكتساح كل شيء، حاملة معها أنواعاً جديدة من الأسلحة أصبحت معروفة بوضوح باسم "الأسلحة الإعلامية"، وأصبحت تستخدم في الحروب والصراعات، لتأخذ حيزاً هاماً من تفكير بعض الدول في العالم المتقدم والأقل نمواً وحتى النامي على حد سواء، وأنشأت له المؤسسات المتخصصة. ودفعت المشكلة ببعض الدول للعمل الجاد من أجل تحقيق أمن إعلامي وطني، وللمطالبة بتحقيق أمن إعلامي دولي يصون الحقوق، ويحمي المقدسات من التطاول والاعتداء والتحريف والتخريب.
وهو ما دفعنا للقيام بهذه المحاولة المتواضعة لدراسة وتسليط بعض الضوء على المشكلة من خلال تعريف مصطلح "العولمة"، ومقدماتها، وعلاقتها بالدولة والسيادة الوطنية، وموقف منظمة الأمم المتحدة من قضايا الأمن الإعلامي الدولي، وتحديات التفوق في تكنولوجيا الاتصال للأمن الإعلامي الوطني والدولي. خاصة وأن البنى الإعلامية والاتصال عن بعد الدولية أصبحت اليوم فوق سيادة الدولة بمفهومها التقليدي، مما خلق تهديدات جديدة لـ"العولمة الإعلامية"، باتت معها بعض الدول شبه مسيطرة على الموارد الإعلامية للغير من خلال قنوات الاتصال عن بعد الإلكترونية.
ولتوضيح الصورة بقدر أكبر كان لابد من تسليط الضوء على "السلاح الإعلامي" ودوره في خدمة الدول الصناعية المتقدمة، وإدارة الصراع بين القوى العالمية. وهو ما تطلب التعرض لمشكلة الأمن الإعلامي الوطني والدولي، ومشكلة مصطلح "الحرب الإعلامية"، ومجالات تأثير الصراع الإعلامي الدولي، من خلال تهديداته للأمن الإعلامي الوطني.
ومن ثم تعرضنا للخصائص الأساسية للأسلحة الإعلامية وأهدافها في: مجالات استخدام السلاح الإعلامي؛ ومجالات الرقابة أو الإشراف على المجال الإعلامي الدولي؛ وسيناريوهات الحرب الإعلامية.
وكل ذلك في محاولة متواضعة لتوضيح مشكلة الأمن الإعلامي الوطني والدولي التي تحتاج لحلول سريعة دون إبطاء لما لها من خطورة بالغة على المجتمع الإنساني. وتناولنا المشكلة سواء من وجهة نظر المعارضين لها أساساً وينفون وجودها، أم من وجهة نظر أولئك الذين تنبهوا لها وباتوا يطالبون بإيجاد الحلول لها ضمن الشرعية الدولية واحترام سيادة الدول. وأخيراً تناولنا مشكلة الأمن الإعلامي الوطني والدولي من وجهة نظر البحث العلمي، وتأثير الأمن الإعلامي على التفاهم الدولي.
وليتكامل البحث تناولنا موضوعاً آخر له ارتباط وثيق بالأمن الإعلامي وهو "المجتمع المعلوماتي"، حيث تعرضنا لمفهوم وخطوات ومصاعب الانتقال إلى المجتمع المعلوماتي، وضرورة وضع ضوابط وخطط شاملة للانتقال إلى المجتمع المعلوماتي، من خلال دور السياسات الحكومية في تطوير البنى التحتية اللازمة للمجتمع المعلوماتي.
وتعرضنا لحتمية الثورة الاتصالية والمعلوماتية في ظل العولمة التي طغت على حياة الناس وغيرت من طبيعة حياتهم اليومية، وخصائص ومتطلبات ومشاكل وشروط بناء المجتمع المعلوماتي في الدول النامية، ولوسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية والدولة القومية في المجتمع المعلوماتي، وتأثير المجتمع المعلوماتي على وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية العربية.
وأتمنى أن أكون قد وفقت في عرض جزء من المشكلة التي تشغل عالم اليوم، خدمة للبحث العلمي العربي في مجالات الأمن الإعلامي والاتصال عن بعد والإعلام الجماهيري بشكل عام.
المؤلف الأستاذ الدكتور محمد البخاري طشقند، 2/5/2002
العولمة والأمن الإعلامي الوطني والدولي: تعريف "العولمة": "العولمة" Globalization حسب تعبير خبراء السياسة في الدول النامية، تحمل معنى "جعل الشيء على مستوى عالمي، أي نقله من حيز المحدود إلى آفاق "اللامحدود". واللامحدود هنا يعني العالم بأسره، فيكون إطاره النشاط والعلاقات والتعامل والتبادل والتفاعل على اختلاف صوره السياسية والاقتصادية والثقافية والإعلامية والاتصالية والعلمية وغيرها، متجاوزاً للحدود السياسية والجغرافية المعترف بها لدول العالم، وهذا المعنى يجعل "العولمة" تطرح ضمناً مستقبل الدولة القومية Nation-State وحدود سيادتها الوطنية، ودورها على الصعيدين الداخلي والخارجي". بعد أن تمكنت وسائط الاتصال والاستشعار عن بعد الإلكترونية المتطورة من اختراق الحدود السياسية والجغرافية المعترف بها لكافة دول العالم.
بينما جاء تعريف "العولمة الإعلامية" حسب المفهوم الأمريكي "بتعميم نمط من الأنماط الفكرية والسياسية والاقتصادية لجماعة معينة، أو نطاق معين، أو أمة معينة على الجميع، أو العالم بأسره". وبما أن "العولمة" بدأت أساساً من الولايات المتحدة الأمريكية، فقد جاءت نظرياً كدعوة لتبني النموذج الأمريكي في الاقتصاد والسياسة والثقافة والعلوم وبالتالي طريقة الحياة الأمريكية بشكل عام.
مقدمات "العولمة": جاءت "العولمة" أساساً كنتاج للثورة العلمية والتكنولوجية، التي كانت نقلة نوعية في تطور الرأسمالية العالمية، في مرحلة ما بعد الثورة الصناعية التي ظهرت في منتصف القرن 18 في أوروبا، نتيجة لاستخدام الطاقة، التي غيرت بشكل جذري أسلوب وعلاقات الإنتاج، لتبدأ معها مرحلة جديدة من مراحل التطور الإنساني، اتصف بالتوسع الاقتصادي، والبحث عن الموارد الطبيعية، وفتح الأسواق العالمية. وهي المسببات التي أدت لظهور الاستعمار التقليدي، وقيام الحروب الأوروبية لتلبية حاجات الرأسمالية الصاعدة.
ومما سارع في شيوع "العولمة" استمرار التطور العلمي والتكنولوجي، وما رافقه من تطور هائل لوسائل الاتصال والاستشعار عن بعد ونقل المعلومات الإلكترونية الحديثة، التي شكلت بدورها تجديداً لنمط وطبيعة الإنتاج والتفاعلات والتعاملات الدولية. وبذلك لم تعد الحروب التقليدية، واستخدام القوة وسيلة لحسم الخلافات بين الدول الرأسمالية كما كان الوضع حتى الحرب العالمية الثانية، بل أصبحت الحاجة ملحة لتوحيد أسواق الدول الصناعية المتقدمة من خلال سوق عالمية واحدة، أي ضرورة تجاوز الحدود السياسية القومية المعترف بها، وإعادة توزيع الدخل القومي، والعمل على رفع المستوى المعيشي للإنسان ليمكن معه توسيع سوق الدول الصناعية المتقدمة، لاستيعاب المنتجات الحديثة، أي خلق مجتمع من نوع جديد أصطلح على تسميته بـ"مجتمع الاستهلاك الكبير Consumer Society".
وشكلت هذه السمات كلها نقطة التحول من "الرأسمالية القومية" إلى "الرأسمالية العابرة للقوميات" التي نعيشها اليوم من خلال الشركات متعددة الجنسيات، التي ارتبط فيها ظهور مفهوم "العولمة" الذي عبر عن ظاهرة اتساع مجال الإنتاج والتجارة، ليشمل السوق العالمية بأسرها. وتجاوز الفاعلية الاقتصادية التي كانت لمالكي رؤوس الأموال، من تجار وصناعيين، الذين كانت تصرفاتهم محكومة في السابق بحدود الدولة القومية التي ينتمون إليها، لتصبح الفاعلية الاقتصادية مرهونة بالمجموعات المالية والصناعية العالمية الحرة، المدعومة من قبل الدول المشاركة في رأس مالها، عبر الشركات متعددة الجنسيات. وهكذا لم تعد الدولة القومية هي المحرك الرئيسي للفاعلية الاقتصادية على المستوى العالمي، بل حل مكانها القطاع الخاص بالدرجة الأولى في مجالات الإنتاج والتسويق والمنافسة العالمية.
و"العولمة" ليست نظاماً اقتصاديا فقط، بل تعدته إلى كافة مجالات الحياة السياسية والثقافية والعلمية والإعلامية والاتصالية. لأن النمو الاقتصادي الرأسمالي العالمي استلزم وجود أسواق حرة، ووجود أنظمة سياسية من شكل معين لإدارة الحكم. كما وتعددت مراكز القوة الاقتصادية العالمية للرأسمالية الدولية الحديثة، وتعددت معها مراكز القوة السياسية، مما خلق بدائل وتعددية في القوى على مستوى السلطة، وهو ما دعم إمكانيات التطور الديمقراطي بكل شروطه، من عدم احتكار السلطة، وتداولها، وتعدد وتنوع مراكز القوة والنفوذ في المجتمع، ومنع تركيز الثروة في يد الدولة وحدها، وفرض توزيعها لتحقق "العولمة" بذلك نوعاً من اللامركزية في الإدارة والحكم.
ومما ساعد على الانتشار السريع لـ"العولمة" انتصار الرأسمالية على الأنظمة الأخرى، من نازية وفاشية وشيوعية، وكان أخر تلك الانتصارات انهيار الاتحاد السوفييتي السابق ودول ما كان يعرف بالمنظومة الاشتراكية أو الكتلة الشرقية التي كان يقودها الاتحاد السوفييتي السابق، لتحل محله الجمهوريات المستقلة الخمس عشرة. وسقوط النظم الشمولية في أوروبا الشرقية، وتحول الأنظمة الجديدة في تلك الدول نحو أشكال جديدة من الحكم الديمقراطي، الذي يربط في جوهره بين التطور الديمقراطي والنمط الرأسمالي، الذي يعتمد على الديمقراطية في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وأتاح الاتصال الإلكتروني المباشر عبر القارات من خلال شبكات الاتصال العالمية للحاسب الآلي ومحطات الإذاعة عبر الأقمار الصناعية المسموعة والمرئية، الفرصة لإبراز ملامح "العولمة الإعلامية" التي أصبحت ملموسة حتى من قبل الأشخاص العاديين في أي مكان من العالم. ومن المنتظر أن يتيح هذا التطور الهائل في تكنولوجيا وسائل الاتصال عن بعد الإلكترونية الحديثة، إمكانية زيادة التواصل والحوار الثقافي بين شعوب العالم، وخلق المجتمع المعلوماتي الذي لابد وأن يساعد على إيجاد آمال وأهداف ومصالح مشتركة تتجاوز المصالح القومية الضيقة للشعوب والدول ولا تتناقض معها،.فيما إذا لم يساء استخدامها.
"العولمة" والدولة والسيادة الوطنية: ومع ذلك فقد أثارت العديد من الحكومات مخاوف وشكوك كثيرة. منها المخاوف السياسية التي يمكن أن تنجم عن بث برامج معادية لأنظمة الحكم، وأفكاراً وأيديولوجيات تهدد الأمن والاستقرار السياسي والاجتماعي داخل الدول عبر تلك القنوات. وعبرت بعض القوى السياسية والاجتماعية المؤثرة في العديد من دول العالم عن خشيتها من النظام الإعلامي المفتوح الجديد الذي قد يهدد ثقافات وتقاليد وعادات ومقدسات الشعوب، وانطلقت الأصوات تطالب بتحقيق أمن إعلامي وطني ودولي يراعي المصالح الوطنية والدولية ولا يتناقض مع المصالح الوطنية لكل دول العالم.
فإذا كانت "العولمة" ترتبط بسيادة نموذج اقتصاد السوق، فإن هذا النموذج بدوره يثير قضية العلاقة بالدولة ودورها، ولا يبرر الانتقال إلى اقتصاد السوق أبداً اختفاء دور الدولة، وكل ما هنالك حدوث تغييرات محدودة لذلك الدور الرتيب الذي اعتادت عليه بعض الدول بطيئة التطور.
ومعظم من كتب في أهمية نظام اقتصاد السوق، كان يقرن طروحاته دائماً بضرورة وجود دولة قوية قادرة على تأمين الأمن والاستقرار، ودون تلك الدولة القوية لا يستطيع اقتصاد السوق أن يقوم بدوره. ومن هنا فليس هناك مجال للحديث عن محاولة إلغاء أو تقليص دور الدولة، بل بالعكس لابد من التأكيد على هذا الدور وأهميته وضرورته، مع ضرورة إجراء تعديلات معينة لهذا الدور ليتوافق مع نظام السوق المنفتح عالمياً.
فالولايات المتحدة الأمريكية مثلاً وهي أكبر دولة رأسمالية في العالم، تتدخل في الحياة الاقتصادية، وتحدد شروط النشاطات الاقتصادية، والسياسات النقدية والمالية والتجارية، والفارق المهم بين النظم المركزية، ونظم السوق، هو أن الدولة تتدخل في الحياة الاقتصادية باعتبارها سلطة، وليس باعتبارها منتجاً. لأن سلطة الدولة لا غنى عنها ولا تتناقض مع تطور الحياة الاقتصادية.
والاقتصاد الحر لا يعني أبداً غياب الدولة عن النظام الاقتصادي. والفرق بين النظام الليبرالي ونظام التخطيط المركزي، ليس في مبدأ "التدخل" ولكن في مضمونه. ففي ظل التخطيط المركزي تقوم الدولة بالإنتاج المباشر للسلع والخدمات، وتسيطر على مجمل النشاطات الاقتصادية، عن طريق القطاع العام. أما في ظل الاقتصاد الحر، فإن الدولة تترك الإنتاج المباشر للسلع والخدمات للأفراد والمشروعات الخاصة، أي تحقق التكامل بين دور الدولة ودور القطاع الخاص، ويكون تدخلها في سير الحياة الاقتصادية، بوسائل أخرى أكثر فعالية، من حيث الكفاءة الإنتاجية وتحقيق العدالة الاجتماعية. من خلال المحافظة على مستويات عالية في نمو الناتج القومي. والقيام بتوفير الخدمات الأساسية في مجالات التعليم والصحة، والقضاء والأمن والدفاع، ويدخل فيها قيام الدولة بمشروعات البنية الأساسية.
ومبدأ الحرية الاقتصادية لا يعني أبداً إهمال مبدأ العدالة الاجتماعية، فالبلاد التي أخذت بهذا المبدأ، هي في مقدمة بلاد العالم من حيث الاهتمام بالفقراء، وتحقيق العدالة في التوزيع، وتوفير شبكة الأمان لكل المواطنين، ضد المخاطر الاجتماعية بما في ذلك البطالة والعجز والشيخوخة، وغيرها من الأمراض الاجتماعية. وهناك علاقة وثيقة بين الكفاءة في الأداء الاقتصادي وبين شروط العدالة. ذلك أن الكفاءة تعني نمو الاقتصاد القومي بمعدلات عالية، وتعاظم قدرة النظام الاقتصادي لتوفير فرص العمل المنتج لكل القادرين عليه، وهي من المقومات الأساسية للديمقراطية وللعدالة الاجتماعية.
والدور الجديد هذا للدولة يؤهلها للتكيف مع المتغيرات العالمية الجديدة، دون الانتقاص من سيادتها الوطنية، في ظل انتشار مفهوم "العولمة"، وشروط النظام العالمي الجديد. الذي يقوم على مبدأ الاعتماد المتبادل وليس على فرض الآراء بين دول وشعوب العالم. والاندماج الإيجابي والواعي في النظام العالمي الجديد. انطلاقا من حقائق أن "العولمة" ليست ظاهرة بلا جذور، بل هي ظاهرة تاريخية وموضوعية نتجت عن التطور الهائل لتكنولوجيا وسائط النقل ووسائل الاتصال عن بعد الإلكترونية ونقل المعلومات الحديثة وتغير طبيعة دورها الاجتماعي، والطبيعة التوسعية للإنتاج الرأسمالي. وعدم جواز البقاء خارج الظاهرة التاريخية هذه، وضرورة اللحاق بما يجري في العالم، والتعامل معه بوعي ووفقاً لقواعد محددة تجنباً للبقاء خارج إطار التاريخ.
والنظام الاقتصادي الجديد جاء نتيجة لإنجازات كبرى في تاريخ تطور البشرية على كافة المستويات العلمية والثقافية والاقتصادية والتقنية والسياسية والفكرية، ويمثل نقطة جذرية مختلفة تماماً عن كل ما سبقتها من نظم. وأن الحضارة العالمية الحديثة قامت على ما خلفته حضارات القرون الوسطى وثقافاتها وخاصة منها الحضارة العربية الإسلامية التي كانت في أوج ازدهارها آنذاك، وفسحت المجال أمام الجميع للانتماء إلى الوطن المشترك والعمل على رفعته وتقدمه دون تفريق، كما هي الحال في أكثر دول العالم الحديث. وزودت الفكر البشري برؤية عقلانية تاريخية تنويرية، بتوجه ديمقراطي يقوم على أساس الشورى واحترام الرأي، والرأي الآخر، والتعددية، وحرية التعبير، وتكريس مبادئ حقوق الإنسان التي لا تعرف الحدود القومية أو الجغرافية أو السياسية.
و"العولمة الإعلامية" تفرض على الدول الأقل تقدماً، القيام بمزيد من خطوات التحديث الشامل الذي لا يمكن دون الدور الفاعل للدولة، التي تضطلع به من خلال الترشيد والأداء الاقتصادي، وتنظيم تفاعلات السوق، وما تتطلبه تلك العملية من وسائل وتقنيات تجعل الساحة والموارد الإعلامية الخاصة والعامة متاحة للجميع ضمن الأطر والأنظمة التي تضبط عملها في إطار العلاقات على صعيد الدولة نفسها وفي علاقاتها مع غيرها من دول العالم. ولكن التجاوزات الكثيرة والأعمال التخريبية التي تعرضت لها الموارد الإعلامية لبعض الدول، إضافة للأخطار التي يتنبأ بها المختصون بين الفينة والأخرى، والحرب الإعلامية التي تشنها بعض وسائل الإعلام العالمية، ويشارك فيها بعض رجال الفكر والسياسة ضد شعب معين، أو ثقافة معينة، أو دين معين، ظلماً وبهتاناً، فرض على المجتمع الدولي ضرورة النظر في خطر جديد أصبح يهدد المجتمع الإنساني وعرف بالأمن الإعلامي الدولي.
موقف الأمم المتحدة من الأمن الإعلامي الدولي: وكانت منظمة الأمم المتحدة دائماً السباقة في دراسة مشاكل التدفق الحر للمعلومات منذ تأسيسها بعد الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم. ولهذا لم يكن غريباً أن تتضمن الوثائق الهامة التي صدرت عن الدورة 54 للهيئة العامة لمنظمة الأمم المتحدة، وثيقة حملت في مضمونها أبعاداً سياسية وإنسانية عميقة، تناولت موضوع "العولمة الإعلامية" واستقرار إستراتيجية العمل السياسي والدبلوماسي في القرن الحادي والعشرين، بعد أن اعترف المجتمع الدولي وللمرة الأولى بوجود مشكلة الأمن الإعلامي الدولي كنتيجة حتمية لـ"العولمة الإعلامية"، على أنها مشكلة تهدد المجتمع الإنساني في المرحلة التالية للقرن النووي. وجاء هذا الاعتراف من خلال القرار 54/49 الذي تناول مشكلة "تحقيق الأمن الدولي في الإعلام والاتصالات المسموعة والمرئية".
فقد برزت تلك المشكلة بحدة بعد التقدم الهائل في تكنولوجيا الإعلام ووسائله المختلفة، وخلق هذا التقدم إلى جانب النواحي الإيجابية التي حملها للبشرية التي تنتظر منه الكثير في المستقبل، مجالاً جديداً تماماً من التهديد تمثل في خطر استخدام منجزات التقدم العلمي والتكنولوجي في وسائل الإعلام والاتصال والاستشعار عن بعد لأغراض تتعارض والمهام المنتظرة منها في دعم وتعزيز التفاهم والأمن والاستقرار العالمي.
ومشكلة الأخطار التي تهدد الأمن الإعلامي للدول الأقل تطوراً، لم تعد مشكلة منتظرة بل حقيقة قائمة خلقت نوعاً من التبعية الواقعية للدول الأكثر تطوراً في كل مجالات النشاط الإنساني داخل المجتمعات المحلية في الدول المستقلة ذات السيادة، وشملت كل النواحي الاقتصادية، والسياسية، والعلمية، والثقافية، والاجتماعية، والإعلامية وغيرها، وأصبحت الحاجة معها ملحة لتأمين نوع من الأمن القومي داخل المصالح الدولية المتشابكة بفعل "العولمة الإعلامية" وابتعاد التبادل الإعلامي الدولي عن دوره الطبيعي، وابتعاد استخدام شبكات التبادل الإعلامي الدولية وشبكات الاتصالات الإلكترونية المرئية والمسموعة العالمية، وتقنياتها ووسائلها عن أداء وظيفتها الإيجابية المنتظرة منها.
الأمن الإعلامي الدولي والتفوق في تكنولوجيا الاتصال: وأدى اتساع وشمولية تلك الشبكات بفضل تكنولوجيا ووسائل الإعلام والاتصال الإلكترونية الجماهيرية الحديثة، إلى زيادة تأثيرها على وعي الأفراد والمجتمعات. مما دفع بالكثير من الدول لإضافتها أو التفكير في إضافتها للإمكانيات العسكرية الهائلة المتوفرة لديها، والتي تملكها بالدرجة الأولى الدول عالية التطور، والمعدة للاستخدام في الصراعات والنزاعات الدولية. مما أدى بدوره إلى خلق تبدلات هائلة أصبحت تؤثر على توازن القوى الدولية والإقليمية.
هذا إن لم نقل أنها أضافت بذلك مصادر جديدة للتوتر بين مراكز القوى التقليدية والناشئة، وإلى خلق مجالات جديدة للصراع لم تكن معروفة لفترة قريبة. وقد أدى تفوق الدول المتقدمة في مجال تكنولوجيا ووسائل الاتصال الإلكترونية، والإعلام الجماهيرية التي تملكها تلك الدول، إلى احتكار الوعي الفكري والاجتماعي. وأدى استغلال التفوق التكنولوجي والإعلامي والسياسي والاقتصادي والثقافي والعسكري، إلى تشجيع تلك الدول على استخدام ما تملكه من إمكانيات "كسلاح إعلامي" لا يتعارض استخدامه وقواعد القانون الدولي الذي لم يتعرض جدياً حتى الآن لهذه المشكلة الهامة والعويصة التي أفرزتها "العولمة الإعلامية".
فالتقدم الهائل في تقنيات وتكنولوجيا الاتصال الإلكترونية والإعلام الجماهيري أصبح اليوم يعادل في خطره، خطر السلاح النووي الذي كان سمة من سمات القرن العشرين. وأصبح فرعاً من فروع سباق التسلح، الذي أصبح مرة أخرى يستنزف موارد ضخمة، كان يجب أن توجه لخير البشرية وليس لتهديدها. خاصة وأن أكثر دول العالم غير مهيأة حالياً وغير مستعدة، أو غير قادرة على إقامة أو تحديث وسائلها الإعلامية التقليدية المؤثرة، رغم أن الكثير منها بدأت بالميل نحو شراء وامتلاك مثل تلك الوسائل، من الدول المتقدمة التي أصبحت مسيطرة تماماً على الأشكال الجديدة من أسلحة الدمار الشامل ومن بينها السلاح الإعلامي. ولم يقتصر الأمر على الدول فقط، بل اتسع ليشمل القوى السياسية المختلفة المتصارعة على السلطة، والتنظيمات الإرهابية وعصابات الجريمة المنظمة، مما خلق نوعاً جديداً وسوقاً مربحة لتجارة الأسلحة الجديدة التي أصبحت تتضمن قوائمها تقنيات وتكنولوجيا وبرامج الحاسب الآلي ووسائل الاتصال الإلكترونية ووسائل الإعلام الجماهيرية.
البنى الإعلامية الدولية فوق الدولة: وفي ظروف "العولمة الإعلامية" وتشابك الحياة على الكرة الأرضية، وظهور وتشكل شبكات وبنى إعلامية دولية فوق الدول، أصبحت تلك البنى الإعلامية بما لا يدع المجال لأي شك تستخدم كسلاح إعلامي مؤثر على العقول والمواقف، ووسيلة لشن حروب واسعة النطاق تطال الإنسان أينما كان، بفاعلية يمكن أن تؤدي نتائجها بل وتعادل قوتها وتأثيرها التدميري وتتفوق في بعض الظروف على أسلحة الدمار الشامل التقليدية المعروفة، وخير مثال على ذلك ما قامت به شبكات التلفزيون العالمية من تغطية حية عبر بث مباشر شد أنظار العالم بأسره تقريباً للأحداث التي وقعت في الولايات المتحدة الأمريكية في 11/9/2001، وانفراد تلفزيون الجزيرة بتغطية أحداث القصف الجوي الأمريكي البريطاني لأفغانستان ببث مباشر قبل انهيار حركة طالبان.
وليس عبثاً أن ترصد بعض الدول المتقدمة في ميزانياتها مخصصات للأمن الإعلامي تعادل بمستواها المخصصات التي ترصد لمواجهة أخطار استخدام أسلحة الدمار الشامل التقليدية. رغم اختلاف استخدام السلاح الإعلامي في الحرب عن الأشكال التقليدية من أسلحة الدمار الشامل، لأن تأثيرها يمكن أن يطال الجبهة الداخلية في الصميم. مع إمكانية استخدام الأسلحة الإعلامية الدولية التي تتميز بالقدرة المؤثرة الكبيرة ضد الأهداف المدنية، كوسيلة من وسائل الصراع على السلطة، وفي الصراعات القومية والعرقية والدينية، والسيطرة على الموارد البشرية للغير. والأمثلة على ذلك في عالم اليوم كثيرة، ولا ينحصر تهديدها الواقعي على القوى البشرية فقط، بل اتسع ليشمل الأنظمة الإعلامية التي تملكها الدول، والمنظمات والهيئات الدولية، من قبل دول معادية أو قوى الإرهاب والإجرام المنظم على السواء، مما أعطى لطابع تأثيرها طبيعة كارثية من خلال ليس التسلل لداخل تلك الأنظمة وحسب، بل وفي تخريب تلك الأنظمة، والتأثير على محتوياتها من معلومات وإتلافها. وهو ما كان الدافع على ما أعتقد لاتخاذ القرار 54/49 أثناء الدورة 54 للهيئة العامة للأمم المتحدة في 1/12/1999.
التهديدات الجديدة لـ"العولمة الإعلامية": وكان من الطبيعي أن تتوصل الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة للتفاهم حول موضوع هام يمس البشرية بأسرها في ظل "العولمة الإعلامية". سبق ونوقش في أيار/مايو 1996 أثناء المؤتمر الدولي للعولمة في المجتمع المعلوماتي الذي انعقد في ميدراند. واستعرض بجدية موضوع التهديدات الجديدة للعولمة الإعلامية، وأسفر عن نتائج واستجابة عاصفة من قبل كل المشاركين في المؤتمر. مما رفع من مستوى القضية لتصبح من بين القضايا الملحة التي تنتظر الحل من قبل المجتمع الدولي، وتتطلب إيجاد حل ملائم لها قبل أن تتفاقم وتصبح مستعصية كغيرها من المشاكل العالقة في إطار العلاقات الدبلوماسية الدولية حتى اليوم.
وقد تبلورت المشكلة أكثر أثناء التحضيرات التي جرت للإعداد للقاء القمة بين رئيس الولايات المتحدة الأمريكية والرئيس الروسي في أيلول/سبتمبر 1998. فقد اقترح الجانب الروسي مشروع بيان مشترك للقاء القمة تناول مشكلة الأمن الإعلامي. لكن الأمريكيين اكتفوا بالإطلاع على المشروع، وامتنعوا عن مناقشته. ورغم ذلك فقد تضمن البيان الختامي للقاء القمة، إشارة صريحة للتهديدات العامة للأمن على عتبة القرن الحادي والعشرين، حيث أعلن الجانبان أنهما: وافقا على "تنشيط الجهود المشتركة للتصدي للتهديدات عبر القوميات في الاقتصاد والأمن للبلدين، بما فيها تلك التي تعتبر جرائم عن طريق استخدام تكنولوجيا الحاسب الآلي وغيرها من الوسائل التكنولوجية المتقدمة"؛ واعترفا "بأهمية الجهود الإيجابية المشتركة لإضعاف التأثيرات السلبية الجارية الآن نتيجة لثورة تكنولوجيا الاتصال، التي تعتبر مهمة وجادة في الجهود الرامية لحماية مصالح الأمن الإستراتيجي للبلدين في المستقبل".
وأصبح واضحاً بعد ذلك عزم روسيا إثارة المشكلة أبعد من ذلك، فقام وزير الخارجية الروسي إيفانوف بتوجيه رسالة خاصة إلى الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة في 23 أيلول/سبتمبر 1998 تضمنت اقتراحا بإدراج مشكلة الأمن الإعلامي الدولي بين مواضيع عمل المنظمة الدولية، والنظر في مشروع قرار خاص حول هذا الموضوع.
وأعلن إيفانوف في كلمته من على منبر الدورة 53 للهيئة العامة للأمم المتحدة، بأن جوهر الاقتراح الروسي يتضمن الاقتراح على الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة، التوصل لمفهوم محدد حول التهديد في مجال الأمن الإعلامي الدولي، وأن تقدم كل دولة تقديراتها الخاصة للمشكلة، بما في ذلك إعداد مبادئ دولية توفر الأمن في ظروف عولمة المنظومات الإعلامية الدولية. وأن تتضمن تلك التقييمات التي تقدمها الدول الأعضاء في المنظمة إلى الأمين العام للأمم المتحدة، إلزامه بتقديم تقرير خاص عن المشكلة يبحث خلال الدورة التالية للهيئة العامة لمنظمة الأمم المتحدة. بشكل تتوضح معه جوانب الصراع المبدئي حول موضوع التهديد باستخدام المنجزات العلمية والتقنية والتكنولوجية الحديثة في أغراض تتعارض مع أهداف تعزيز الأمن والاستقرار العالمي.
وجاء القرار الذي استند على الاقتراح الروسي خلال الدورة 53 للجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة 53/70 عن "المنجزات في مجال الإعلام والاتصالات المرئية في إطار الأمن الدولي" في 4/12/1998، بشكل ملطف عن المشروع الروسي حيث اختفت من القرار الكثير من المقترحات التي حددت الإجراءات اللازمة حسب التصور الروسي، لتنظيم عملية التصدي لإمكانية استخدام التكنولوجيا الإعلامية المتقدمة في الحرب، وشرح خطر تطوير السلاح الإعلامي، وإشعال الحروب الإعلامية.
وبذلك اعترف المجتمع الدولي من خلال منظمة الأمم المتحدة ولأول مرة بوجود الحرب الإعلامية على المستوى الدولي. واعتبر هذا الإنجاز تقدماً سياسياً هاماً رغم عدم استعداد أكثرية الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة لتقبل القضية كمشكلة من كل جوانبها. وعاد المجتمع الدولي وغير من موقفه من المشكلة خلال الدورة 54 للجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة.
فما الذي حدث بين الدورتين 53-54 لمنظمة الأمم المتحدة ؟ وهل جاء تغيير المواقف تلك نتيجة للجهود الدبلوماسية والمجاملات السياسية بين الدول ؟ أم لأن العالم استطاع خلال تلك الفترة من التعرف أكثر على أخطار "العولمة الإعلامية"، والدور المتصاعد للإعلام في عالم اليوم. واستخلص العبر من استخدام سلاح الإعلام في الحروب التي جرت خلال تلك الفترة. ومن خلال أمثلة محددة تم فيها استخدام السلاح الإعلامي في عمليات محددة، اجتاز من خلالها الحدود السياسية والجغرافية المعترف بها لمختلف دول العالم، جنباً إلى جنب مع الأسلحة التقليدية والمتقدمة الأخرى المستخدمة في الاستطلاع والعمليات العسكرية، للقضاء على الخصم أو الحد من إمكانيات دفاعاته الذاتية، وتشتيت موارده البشرية.
"العولمة الإعلامية" والسيطرة على الموارد الإعلامية: فالمعارك للسيطرة على عقول الكثير من الشخصيات السياسية في موقع القرار وتوجيهها هي "حرب غير مرئية" على الرغم من أنها أخذت خطاً واقعياً، وأصبحت بالتدريج تهدد جوهر الصراع من أجل السيطرة على وعي صاحب القرار، ولتحد من إمكانيات أي مواجهة جادة للأخطار الخارجية، إضافة لأخطار التأثير والتخريب المتعمد للموارد الإعلامية المتاحة لكل دولة، ووسائل الحصول عليها وحفظها ونشرها واستعادتها والتعامل معها.
مما دفع ببعض الدول إلى الشروع بتطبيق برامج حكومية طويلة المدى على المستوى القومي، الهدف منها تأمين الأمن الإعلامي القومي وسلامة البنى التحتية الإعلامية الوطنية الأساسية. في نفس الوقت الذي بدأت فيه بالتعامل مع "العولمة الإعلامية" وآثار التشابك المتبادل بين المجالين الإعلامي الوطني والدولي. واضطرت مجبرة على الاعتراف بأن نجاح الجهود الوطنية للحفاظ على الموارد الإعلامية الخاصة بكل دولة، ليست في النهاية سوى جهود حثيثة لرفع مستوى "المناعة السلمية" للنظام الإعلامي الوطني في مواجهة الساحات الإعلامية للدول الأخرى التي أصبحت تشمل دولاً بعيدة عنها جغرافياً، وليس بالضرورة أن تكون تلك الدول مجاورة، ولكن يكفي أن تكون متشابكة معها من خلال شبكات الاتصال الإلكترونية الدولية وفي الموارد الإعلامية بشكل موضوعي ومتشعب يصعب فصله.
وموضوع "السلاح الإعلامي" و"الحرب الإعلامية" أصبح مثاراً للمناقشة من قبل المتخصصين بشكل واسع، منذ بداية الـتسعينات من القرن العشرين، أي مع ظهور بوادر تشكل المجتمع المعلوماتي. ومنذ ذلك الوقت بدأت تظهر أعداداً كبيرة من المقالات والدراسات حول هذا الموضوع الهام في العديد من الصحف والمجلات. وبدأ يناقش ضمن موضوعات الكثير من المؤتمرات واللقاءات العلمية الوطنية والإقليمية والدولية، التي صبت اهتمامها بمعظمها على مواضيع الأبحاث التي لا تتفق ومبادئ السلام العالمي، وبرامج تطوير التكنولوجيا الخاصة بطرق حماية الموارد الإعلامية الوطنية من التأثيرات الخارجية. ولكن كل تلك المناقشات والمقالات والدراسات المنشورة حملت طابع المحلية، وكانت بعيدة كل البعد عن المناقشات الدولية التي كان يجب أن تتناول مشاكل "العولمة الإعلامية، والأمن الإعلامي، والمجتمع المعلوماتي". رغم أن المشكلة حظيت ليس باهتمام المتخصصين وحسب، بل واستحوذت على اهتمام عدد كبير من غير المتخصصين من قادة الرأي. ولهذا يمكننا اعتبار صدور القرار 53/70 عن منظمة الأمم المتحدة بمثابة إنذار يشير بجدية للخطر الجاثم، الذي وقعت فيه البشرية ويهدد صميم النظم الإعلامية الوطنية، ويهدد الإنسانية على عتبة القرن الحادي والعشرين.
بعد أن ظهر جلياً للمجتمع الدولي بما لا يدع مجالاً للشك، أنه أصبح متوفراً لدى العديد من الدول المتقدمة تكنولوجيا إعلامية متطورة، ونتائج أبحاث جاهزة وهامة يمكن استخدامها في التأثير على الساحة والموارد الإعلامية للغير. وحقائق لا تقبل الجدل من أن نتائج الأبحاث تلك أدت إلى صنع وسائل تستخدم في الأغراض العسكرية البحتة، حتى ولو لم يتم تسميتها بالأسلحة الإعلامية.
السلاح الإعلامي في خدمة الدول الصناعية المتقدمة: وأصبح واضحاً أيضاً بعد توفر معلومات كافية، تتحدث عن شروع العديد من الدول الصناعية المتقدمة في إجراء أبحاث للحصول على تقنيات وتكنولوجيا متطورة في مجال الاتصال، وإعداد تكنولوجيا متطورة وتقنيات وطرق لاستخدامها بهدف السيطرة المباشرة على الساحة والموارد الإعلامية للخصم، والتأثير المباشر عليه. حيث أشارت بعض المصادر إلى أن أكثر من 120 دولة من دول العالم وصلت وفي مستويات مختلفة لنتائج ملموسة في هذا المجال الذي لا يقل خطورة عن السلاح النووي. بينما تجرى أبحاثاً لتطوير السلاح النووي في 20 دولة فقط من دول العالم تقريباً.
وتذكر بعض المصادر أن بعض الدول أصبحت تملك وسائل جاهزة للدفاع ضد أخطار السلاح الإعلامي للعدو المتوقع في ظروف الصراعات العسكرية على مختلف المجالات والمستويات، وحتى في زمن السلم. وتشمل تلك الوسائل الإطارين الإستراتيجي والعملياتي التكتيكي، وصولاً إلى أرض المعركة. وأن الاهتمام منصب الآن على مواضيع تتعلق بحماية المجال الإعلامي الخاص بتلك الدول من تأثير استخدام السلاح الإعلامي من قبل دول معادية، تفادياً لتأثير الحرب غير المعلنة في المجال الإعلامي. كما وبات معروفاً أيضاً من أن بعض الدول التي تقوم فعلاً بشن الحرب الإعلامية، أو شنتها قد أدخلت السلاح الإعلامي فعلاً في نظمها العسكرية وتقوم بإعداد وحدات عسكرية مدربة خاصة ومدعومة بالمتخصصين في هذا المجال الهام، للقيام بالعمليات الإعلامية الهجومية وتدمير نظم المعلومات وموارد الخصم المعلوماتية ووسائل سيطرته الإلكترونية كأداة من أدوات الصراع الأخرى لتحقيق النصر العسكري الحاسم على العدو.
ويعتبر المهتمون بالمشكلة أن الستار قد انكشف فعلاً عن استخدام السلاح الإعلامي عملياً في الحروب الأهلية الجارية هنا وهناك، وفي الصراع على السلطة في معظم دول العالم، وفي الصراعات القومية والعرقية والدينية سمة الحقبة الأخيرة من القرن العشرين. وأن الأسلحة الإعلامية أظهرت قدراتها الفريدة على أرض المعركة وتأثيرها النفسي والمادي والمعنوي سواء في وقت السلم أو في وقت الحرب، وتجاوزها عملياً لكافة الحدود الوطنية والسياسية والجغرافية بتجاهل تام لاستقلال وسيادة تلك الدول.
السلاح الإعلامي وإدارة الصراع: ومن خلال الصراعات الداخلية الأخيرة والهامة، أكتشف المراقبون أنها تتم ومع الأسف بمساعدة ودعم كبيرين من الخارج. لنستشف من ذلك أن تلك الصراعات لم تنجو من استخدام بعض الوسائل الإلكترونية الحديثة في الصراع ضمن المجال الإعلامي، والتي يمكن اعتبارها أسلحة إعلامية. وأصبح واضحاً: أن وقت الأشكال التقليدية من "التخريب الإيديولوجي" و"عمليات الاختراق الفكري" و"الحرب النفسية" قد ذهبت، لتحل محلها الوسائل الإلكترونية الحديثة، وعلى مستوى جديد من التأثير. وأن مستوى استخدام تلك الوسائل قد أرتفع بشكل لا يوصف. إذ لا يمكن مقارنة الخطابة أمام حشد من الجمهور يمكن تفريقه، أو مقالة في صحيفة يمكن مصادرتها، أو برنامج إذاعي مسموع أو مرئي يمكن التشويش عليه، بسرعة انتشار المعلومات في كل أنحاء العالم، أو اختفاء تلك المعلومات مباشرة وبسرعة هائلة من كل أنحاء العالم، عبر شبكات الحاسب الآلي وأشهرها شبكة "الانترنيت" العالمية، وهي معلومات أصبحت اليوم مزودة اليوم بالصورة الثابتة والمتحركة، والتسجيلات المرئية والمسموعة. وكلها يمكن أن تعادل بفعاليتها الأسلحة الإعلامية، التي يهدف من استخدامها أن تكون فوق القوميات، وفوق الدول، وثبت عملياً أن في كل أنواع "الحروب الإعلامية الأهلية" وبشكل غير مباشر هناك قوة ثالثة، وضعت ضمن أهدافها الحيوية الاختراق وتخطي الحدود لداخل ضمير تلك المجتمعات الضحية. وظهر ذلك جلياً خلال الأعوام الماضية عندما استخدمت أراض الغير لإدارة هذا النوع من الصراعات كما حدث في العراق (أثناء حرب تحرير الكويت)، وإندونيسيا (أثناء انفصال تيمور الشرقية)، وجمهورية إشكيريا (الشيشان)، وفي حرب الاستقلال التي خاضتها وتخوضها دول الاتحاد اليوغوسلافي السابق، وأثناء وبعد الأحداث الدرامية التي حدثت في 11 سبتمبر/أيلول 2001 في نيويورك وواشنطن، تلك الأحداث التي أظهرت مدى انتشار وتفوق وسائل الإعلام المرئية في الولايات المتحدة الأمريكية، وقدرة تلك الوسائل على دعم الحملة التي تقودها الولايات المتحدة لتصفية الإرهاب في العالم كما تدعي بدءاً بالحرب الإعلامية الشعواء التي تشنها بعض المراكز الإعلامية العالمية (القوة الثالثة المستفيدة مباشرة من تلك الحرب الإعلامية، بغض النظر عن المصالح الحيوية للولايات المتحدة الأمريكية، وللدول الأوروبية والاتحاد الروسي الذين تشن تلك الحرب الإعلامية من أراضيهم) ضد الإسلام والعرب وانتهاء بقصف القوات الجوية الأمريكية والبريطانية لأفغانستان.
فعلى مثال يوغوسلافيا انكشفت محاولات تورط الاتحاد الدولي للاتصالات الإلكترونية من خلال مبادرة الأمم المتحدة في كوسوفو، وقرار تحديد نهايات الأقنية المستقلة للاتصالات الهاتفية والاستيلاء على الرمز الدولي لتلك الدولة، وكان من الممكن أن يبقى ذلك الإجراء شبه مجهول لو لم يعلن. ومثل تلك الخطوة يمكن اعتبارها بالكامل جهوداً إضافية، الهدف منها عزل الأقنية الإعلامية للخصم وبالتالي الحد من تأثيرها وإخراجها من معادلة الصراع.
ومثال أدوات الصراع من أجل استقلال تيمور الشرقية، قيام منظمة: East Timor campaign مباشرة بعد الاقتراع على استقلال المحافظة الإندونيسية السابقة تلك، ومن أراضي إسبانيا والبرتغال وفرنسا بهجوم كاسح استهدف مواقع الحكومية الإندونيسية في شبكة الانترنيت العالمية، خربت بنتيجتها صفحاتWEB ، الخاصة ليس بالحكومة وحدها، بل وصفحات المنظمات الإندونيسية، وأطلقت فيروسات كمبيوتر جديدة، بدأت بالعمل مباشرة للقضاء على المواقع الإعلامية الإندونيسية في شبكات الكمبيوتر العالمية. ولا يمكن أن تعتبر تلك العملية الإعلامية المنفذة من أراضي دول أوروبية بعيدة جداً عن جنوب شرق آسيا، إلا حقيقة تثبت "لا حدودية" استخدام الأسلحة الإعلامية، ومثال لاستخدامات الأسلحة الإعلامية بشكل مباشر من أجل الوصول إلى أهداف سياسية داخلية محددة رغم البعد الجغرافي الشاسع بين المؤثر والمتأثر من استخدام السلاح الإعلامي.
وفي الصراع الدائر بين قوات الحكومة الإشكيرية المتطلعة للاستقلال عن الاتحاد الروسي، والمقاتلين الشيشان من جهة، والقوات الفيدرالية الروسية من جهة أخرى على الأرض الشيشانية، فنرى أن الأسلحة الإعلامية لم تبقى جانباً فقد استخدم المقاتلون الشيشان مختلف وسائل الإعلام، وكانت صفحات الانترنيت واحدة من ساحات القتال من أجل "استقلال إشكيريا" والتخلص من الظلم الروسي. وبفضلها اطلع العالم كله على مواد إعلامية ملموسة وواقعية تتحدث عن الوضع في شمال القوقاز، وعن جهود أعضاء الحكومة والدبلوماسية الإيشكيرية لإطلاع العاملين في مؤسسات العلاقات الخارجية الرسمية بالدول المتقدمة في العالم على الحقائق، من خلال محاضراتهم التي دعتهم لإلقائها بعض أقسام الجامعات في تلك الدول وتحدثوا من خلالها عن الشؤون الشيشانية.
وفي الحالة العراقية عندما أجبرت الحكومة العراقية على إغلاق مواقعها في الانترنيت بعد أن تم التسلل إليها، وتغيير مضمونها لصالح المعارضة العراقية، وفقاً للنبأ الذي أذاعته إذاعة صوت العراق الحر من براغ يوم 3/6/2000.
وفي حالة الولايات المتحدة الأمريكية قيام وسائل الإعلام المرئية الأمريكية ببث مباشر شمل العالم كله تقريباً للأحداث التي تعرضت لها نيويورك وواشنطن، وعرضت دقائق اصطدام الطائرات بالمباني التجارية في نيويورك وآثار الأحداث التي جرت في المناطق الأخرى، وما رافقها من تصريحات وتعليقات غير مسؤولة، وغير مبنية على حقائق ثابتة دبت الرعب والحقد في قلوب الرأي العام ضد العرب والمسلمين وحتى مواطني الولايات المتحدة الأمريكية منهم، ضاربين بعرض الحائط بالمصالح الإستراتيجية الحيوية للولايات المتحدة الأمريكية في العالمين العربي والإسلامي، ومعرضين في نفس الوقت المجتمع الأمريكي للانقسام والتصادم.
وهو نفس الدور الذي قامت به وسائل الإعلام المرئية الروسية بفارق وحيد فقط هو زج وزراء ومسؤولين إسرائيليين ينطقون باللغة الروسية في الحملة الإعلامية تلك، (ولا غرابة فـ 20 % من سكانها من الاتحاد السوفييتي السابق) راحوا يطلقون من خلال المقابلات التي أجريت معهم الاتهامات المزعومة والأكاذيب ضد العرب والمسلمين، وأخذت تلك الوسائل تبث صوراً كاذبة من المناطق الفلسطينية المحتلة "أخذتها من الأرشيف تعرض لقطات من أفراح الشعب الفلسطيني بعد إعلان اتفاق أوسلو"، لتظهر وكأن الفلسطينيين فرحين للأحداث التي تعرضت لها الولايات المتحدة الأمريكية، إضافة للتركيز الشديد والربط بين الأحداث الجارية في شمال القفقاس (القوقاز) المؤثرة على المواطن الروسي، والأحداث الجارية في الأراضي الفلسطينية المحتلة لإظهار إسرائيل المعتدية على حقوق الشعب الفلسطيني ومقدساته وكأنها ضحية لعدوان فلسطيني "متجاهلين تماماً حقيقة الاحتلال الإسرائيلي لكامل فلسطين وتشريد شعبها حتى داخل وطنهم"، والهدف من كل ذلك هو تضليل الرأي العام الروسي الذي كان ولوقت قريب مؤيداً للحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني، ومؤيداً لتطبيق قرارات الشرعية الدولية حيال القضية الفلسطينية. تلك الصورة التي بدأت بالاهتزاز وأخذت تضعف منذ بداية البريسترويكا في الاتحاد السوفييتي السابق وتكللت بسيطرة قوى مؤيدة لإسرائيل على معظم وسائل الإعلام الجماهيرية والبنية التحتية للاتصال عن بعد الروسية.
ومن ضمن الحرب الإعلامية المسعورة تلك التي تشنها تلك الوسائل نلمس حتى حملاتها الإعلامية المضللة ضد الحلفاء التقليديين والمقربين للاتحاد الروسي، مثال الأضاليل التي بثتها وتبثها ضد دول رابطة الدول المستقلة للإيقاع بينها وبين الحكومة الروسية، ومن بينها حملات التضليل التي تعرضت لها أوزبكستان أكثر من مرة وخاصة عند بدء الحملة الدولية ضد الإرهاب، مما دعى الرئيس الأوزبكستاني إسلام كريموف للرد في تصريح له في 5 تشرين أول/أكتوبر 2001، وقيام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالاتصال به تلفونياً في اليوم التالي وما تبع ذلك من تبدل ملحوظ في الخطاب الإعلامي لتلك الوسائل الإعلامية الخاصة التي تبث برامجها من داخل الأراضي الروسية وتغطي عبر الأقمار الصناعية الساحة الإعلامية الناطقة باللغة الروسية في أنحاء مختلفة من العالم وحتى إسرائيل. وما هذا إلا دليل آخر بأن وسائل الإعلام الدولية اليوم أصبحت فوق الدول، وتعرض من خلال النشاطات غير المسؤولة لبعضها المصالح القومية لبعض الدول والعلاقات الدولية لأشد أنواع الخطر.
هذا إن لم نتحدث عن العزل والتعتيم الإعلامي شبه الكامل، من قبل وسائل الإعلام الدولية المؤثرة والتي هي فوق الدول، لرأي الجانب العربي في الصراع الدائر من أجل تحقيق سلام عادل وحقيقي بين العرب وإسرائيل، والاستعاضة عنه بإبراز رأي الجانب الإسرائيلي فقط بشكل سافر وبتحد حتى للشرعية الدولية. وزج الإسلام بأحداث لا علاقة له بها، تحدث هنا وهناك في أنحاء مختلفة من العالم عن طريق تشويه الحقائق بشكل مقصود، مما يوحي بخلق رأي عام دولي متحيز أحادي الجانب يشوه الحقائق وينصر المعتدي على الضحية، ويؤدي إلى حرمان المعتدى عليه ضمن إطار هذا الوضع غير الطبيعي من التعبير عن رأيه وتوضيح الحقائق أمام الرأي العام العالمي. ناهيك عن الحرب الإعلامية غير المعلنة من الخارج لإشعال نار الفتنة وتفعيل الخلافات العربية العربية، والعربية مع دول الجوار الإقليمي، والإسلامية الإسلامية. وهي أحادية الجانب ولا تواجه حتى الآن أية مقاومة تذكر لضعف أدوات وفعاليات الإعلام العربي والإسلامي الموجه نحو الرأي العام العالمي والساحة الإعلامية الدولية في الوقت الحاضر على الأقل.
ولابد أن تلك الصورة التي تأكدت بعد الأحداث الأخيرة هي التي أثرت بشكل نهائي على تقدير المشكلة بالكامل من قبل دول العالم الأقل تطوراً، وهي نفسها التي أدت إلى تغيير مواقف الكثيرين منها بشكل جذري عما كان في السابق. وظهرت جلية خلال مؤتمر جنيف حول الأمن الإعلامي الذي انعقد في آب/أغسطس 1999، والذي نظمه معهد الأمم المتحدة لمشاكل نزع السلاح (يونيدير)، وإدارة قضية نزع السلاح في الأمانة العامة لمنظمة الأمم المتحدة، من ضمن إطار إجراءات تطبيق القرار 53/70 للهيئة العامة للأمم المتحدة. وشارك في المؤتمر ممثلين عن أكثر من 50 بلداً، من بينهم كل اللاعبين الأساسيين على أرض تكنولوجيا الإعلام الدولية المتقدمة، مما سمح برفع مستوى نتائجه، ولو في إثارة المشكلة على المستوى العالمي على الأقل، بعد أن كانت حصراً بلقا آت المتخصصين وحدهم.
مشكلة الأمن الإعلامي والمصالح الوطنية والدولية: كما ويمكننا اعتبار أن الهدف الرئيسي لأكثرية المشاركين في المؤتمر آنف الذكر، كان إظهار الطريقة التي تتعامل فيها كل جهة من الجهات المشاركة، مع مشكلة الأمن الإعلامي الدولي، من خلال المناقشات التي جرت في إطار مواضيع الدورة 54 للهيئة العامة لمنظمة الأمم المتحدة. ولكن كان من الملاحظ أنها لم تكن مستعدة لذلك، مما أدى إلى حصر المناقشات حول الاقتراح الروسي فقط، ومتابعة إعداد كل المواضيع المتعلقة بالأمن الإعلامي الدولي على مستوى خبراء الدول المهتمة، تحت رعاية منظمة الأمم المتحدة. وهذا من حيث الجوهر يعتبر اعترافاً دولياً بأهمية المشكلة ونجاحاً للدبلوماسية الروسية التي أحسنت اختيار التوقيت لعرض الاقتراح سالف الذكر. ومحاولة التأثير في مضمون المشكلة وتوجيهها نحو مداخل تعتبر ذات أهمية خاصة لروسيا، واعتبارها المدخل للتحديد الدقيق لتصور دولي ونهائي تدور من خلاله المناقشات التالية لمشاكل الأمن الإعلامي الدولي، حتى وإن لم تتفق وجهات نظر الكثيرين حول المشكلة، ولكنها قد تساعد كل الأطراف المعنية في المستقبل على إيجاد حلول تتفق وحجم المشكلة الآخذة بالاتساع بوماً بعد يوم، على ضوء التطورات السريعة في عالم تكنولوجيا الاتصالات الإلكترونية الحديثة.
أطر مشاكل الأمن الإعلامي الوطني والدولي: يرى البعض أن مشاكل الأمن الإعلامي الوطني الدولي تنحصر في إطارين اثنين، هما:
الإطار الأول: الذي يؤدي عملياً إلى إلغاء الوحدة الموضوعية للمشكلة ويحاول تجزئتها إلى قضيتين فرعيتين هما: الأولى: وتتناول الجريمة الإعلامية؛ والثانية: وتتناول الإرهاب الإعلامي.
وفي هذا الإطار يمكن الاستمرار في إعداد الأسلحة الإعلامية وتطويرها مما يهدد بخطر اندلاع الحروب الإعلامية. ولا يعترف المؤيدين لهذا الإطار بوجود المشكلة أساساً، بل يعتبرونها أعراضاً ثانوية يمكن علاجها. وبالتالي وبشكل منطقي كامل تصبح وفق وجهة النظر تلك مشكلة نزع السلاح الإعلامي ملغاة تلقائياً، ولا حاجة لمناقشها. وهو ما يسمح بإخراجها من إطار منظمة الأمم المتحدة وتحويلها إلى المنابر الإقليمية والمتخصصة، لتبقى المشكلة هامشية وعالقة إلى الأبد، وتتحول من لجنة إلى أخرى وهكذا دواليك.
الإطار الثاني: ويمثل خط الدول التي أظهرت استعدادها الفوري للمشاركة في إعداد آليات وأطر دولية محددة تواجه إقامة واستخدام الوسائل المؤثرة على الموارد الإعلامية خارج إطار الشرعية والقانون الدولي. واقترحت تلك الدول عرض المشكلة على المجتمع الدولي، واتخاذ تدابير من بينها إحداث محكمة دولية خاصة للنظر في الجرائم الإعلامية. والقيام في نفس الوقت بإعداد تكنولوجيا عالية التطور ضمن إطار التعاون الدولي للوقاية من الهجمات والتعديات الإعلامية الدولية.
ورغم ذلك فإنه يمكننا اعتبار الاعتراف بالمشكلة دولياً، والاعتراف بضرورة إيجاد حلول لها في إطار قرارات الشرعية الدولية من خلال قرارات الهيئة العامة للأمم المتحدة، ودفعها إلى الأمام لتصبح واحدة من المشاكل التي تناقش في إطار منظمة الأمم المتحدة من أهم النتائج التي توصل إليها المؤتمر آنف الذكر. وبذلك يكون الهدف النهائي من القضية إعداد برامج عملية في الإطار الدولي تمكن الدول من اتخاذ إجراءات ذاتية أو مشتركة لمواجهة خطر التهديدات الإعلامية الدولية. مما يسمح بتحويل نتائج المؤتمر آنف الذكر من حيث الجوهر إلى مرحلة تحضيرية لنقل المشكلة الناتجة عن العولمة إلى إطار الهيئة العامة للأمم المتحدة، بغض النظر عن الخلافات في وجهات النظر حول الاعتراف بالمشكلة، أو بطرق التعامل معها بشكل علني ومكشوف، انطلاقا من مصالح الأمن الوطني والقومي والعالمي.
المصطلح والحرب الإعلامية: ومن القضايا الهامة التي تنتظر الحل من قبل المجتمع الدولي اليوم، وخاصة من الأوساط الأكاديمية الدولية، وفي إطار المنظمات الدولية المتخصصة، مشكلة الاتفاق من حيث المبدأ على المصطلح والتوصل لتعريف مشترك لماهية الحرب الإعلامية غير المرئية تلك، وأسلحتها وأدواتها ووسائلها المشتركة في جوهر الصراع. لتؤدي في النهاية إلى الاعتراف بالحرب الإعلامية، مثلها مثل الاعتراف بالحروب التقليدية، والمحدودة، والنووية، والباردة، والأسلحة التقليدية وغير التقليدية المستخدمة في الصراعات بين الدول. ورغم ضيق الهوة الكبيرة حول فهم الخبراء في الدول المختلفة للمصطلح، فقد لوحظ تباين واضح في التوجهات. التي يمكن تحديدها ببعض الاتجاهات الرئيسية والتي نلخصها بالتالي:
الحرب الإعلامية: ويمكن أن تعبر عن المواجهات الإعلامية التي تهدف إلحاق الضرر أو تخريب الأنظمة الإعلامية الهامة للخصم، وتخريب نظمه السياسية والاجتماعية، وزعزعة الأمن والاستقرار داخل المجتمع والدولة الخصم.
الصراع الإعلامي: ويمكن أن يعبر عن شكل من أشكال الصراع بين الدول، من خلال تأثير دولة ما معلوماتياً على نظم إدارة الصراع في غيرها من الدول أو على قواتها المسلحة، والتأثير على القيادات السياسية والعسكرية وحتى المجتمع بأسره. وكذلك التأثير على الأنظمة الإعلامية ووسائل الإعلام الجماهيرية لتلك الدول من أجل تحقيق أهداف محددة ومناسبة لها، والحد من تأثير أية ممارسات مشابهة قد تخرق المجال الإعلامي للقائم بالصراع.
التأثير الإعلامي: ويمكن أن يعبر عن الفعل الموجه ضد الخصم باستخدام الأسلحة الإعلامية المختلفة.
الأسلحة المعلوماتية: ويمكن أن تعبر عن مجموعة من الوسائل التكنولوجية وغيرها من التقنيات والأساليب والتقنيات المستخدمة من قبل القائم بالصراع بغرض: السيطرة على الموارد الإعلامية والإمكانيات المعلوماتية والتقنية المتاحة للخصم؛ التدخل في عمل أنظمة إدارة الخصم وشبكاته المعلوماتية والإعلامية، ونظم اتصاله وغيرها، بهدف تخريبها عملياً، وإخراجها تماماً من حيز العمل. والتسلل للمواقع المعلوماتية والإعلامية للخصم بهدف الاستيلاء على موارده المعلوماتية والإعلامية فيها، وتحريف مضمونها أو إدخال معلومات مغايرة، أو استبدالها بمعلومات أخرى، أو تخريبها بشكل موجه ومدروس؛ نشر معلومات أخرى منافية، أو معلومات مضللة من خلال نظم تشكيل الرأي العام ومراكز اتخاذ القرار، لصالح القائم بالصراع؛ إتباع مجموعة من الأساليب الخاصة باستخدام وسائل تؤثر على وعي وسلوك القيادة السياسية والعسكرية، وتؤثر على الحالة المعنوية للقوات المسلحة، وأجهزة الأمن الوطني، ومواطني الدولة الخصم، لتحقيق التفوق عليها أو إضعاف تأثيرها الإعلامي.
الأمن الإعلامي، ويمكن أن يعبر عن: إجراءات محددة لحماية المجال المعلوماتي والإعلامي والموارد الإعلامية، بشكل يؤمن تشكلها وتطورها لصالح المواطنين والمؤسسات والمنظمات والدول؛ إجراءات محددة لحماية النظم المعلوماتية والإعلامية الخاصة بالأفراد والمنظمات والدول، التي يتم من خلالها استخدام المعلومات ومواردها بأشكال محددة ودقيقة، وضمان عدم التأثير السلبي عليها أثناء الاستخدام؛ إجراءات محددة لحماية المعلومات المخزونة في شبكات المعلوماتية التي تحمل طابع السرية ومواردها، لضمان عدم وصول الغير إليها بسهولة، وتوفير إجراءات تؤكد صعوبة الوصول إليها أو تخريبها، والمحافظة على خصائصها وسريتها وسلامتها، واسترجاعها عند الحاجة من قبل الأشخاص والجهات المصرح لها بالوصول إلى تلك المعلومات.
المجال الإعلامي: ويمكن أن يعبر عن مجال النشاط الإنساني الذي يتضمن إحداث وتشكيل واستخدام نظم المعلومات من أجل: تشكيل الوعي المعرفي الفردي والاجتماعي؛ توفير الموارد المعلوماتية والإعلامية، أي البنية التحتية المعلوماتية والإعلامية بما فيها مجموعة الأجهزة والأنظمة، والتجهيزات التكنولوجية والتقنيات، والبرامج وغيرها، التي تؤمن تكوين وحفظ المعلومات، وإعدادها والتعامل معها وإرسالها واستردادها وتدفقها؛ تكوين وتوفير المعلومات الخاصة وتأمين تدفقها.
الجريمة الإعلامية، ويمكن أن تعبر عن أي تصرف يؤدي إلى حدوث تأثير سلبي على المجال المعلوماتي والإعلامي وموارده، لفرد أو جماعة أو منظمة أو دولة، أو لأي جزء منه بشكل مخالف للقانون. وينتج عنها أضراراً اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية أو ثقافية بما فيها تخريب المجال المعلوماتي والإعلامي للغير وموارده، لأهداف أيديولوجية أو اقتصادية أو سياسية أو عسكرية.
مجالات تأثير الصراع الإعلامي الدولي: لا يستطيع أحد في الوقت الحاضر، أن ينكر الصعاب الكثيرة التي تعترض توفير الأمن المعلوماتي والإعلامي في ظروف الصراع الإعلامي الإقليمي والدولي. الذي أصبح يستهدف كل مجالات حياة الإنسان اليومية. الأمر الذي دعى الكثير من الخبراء للنظر في ضرورة اتخاذ إجراءات عاجلة توفر الأمن المعلوماتي والإعلامي في المجالات التالية:
السياسية: بما فيها بنية النظام السياسي والاجتماعي والحكومي للدولة، ونظم دراسة وإعداد واتخاذ القرار السياسي. والأجهزة المختصة بإجراء الانتخابات والاستفتاء العام وغيرها من أدوات قياس الرأي العام. ونظم الإدارة المحلية والمركزية والإقليمية، والهياكل المعلوماتية والإعلامية ووسائل الاتصالات المرئية والمسموعة، وشبكات الحاسب الآلي التابعة لأجهزة السلطات الحكومية والإدارية.
الوعي الاجتماعي والتربوي: وتشمل نظم التعليم، ووسائل تشكيل الرأي العام، ووسائل الإعلام الجماهيرية المقروءة والمسموعة والمرئية، والأحزاب السياسية والمنظمات والاتحادات والهيئات الاجتماعية والثقافية والدينية والقومية والوطنية؛
الاقتصادية: وتشمل نظم الإدارة الاقتصادية، ونظم جمع وتخزين واسترداد وإعداد المعلومات الخاصة بالمقدرات الإنتاجية للاقتصاد الوطني، ونظم التحليل الاقتصادي العامة، وتوقعات تطور الاقتصاد الوطني العام والخاص، ونظم الإدارة والتنسيق في المجالات الصناعية والزراعية والمواصلات، ونظم الإدارة والإمداد المركزية للطاقة، ونظم اتخاذ القرار والتنسيق في حالات الطوارئ، ونظم الإعلام الاقتصادي المقروءة والمسموعة والمرئية، وشبكات الحاسب الآلي؛
المالية: بما فيها بنوك المعلومات وشبكات الاتصال وتبادل المعلومات، بين البنوك والاتحادات المصرفية، ونظم الاتصال الخاصة بالتبادل المالي والحسابات المالية، الخاصة والحكومية والدولية؛
الدفاعية: وتشمل موارد المعلومات الخاصة بالقوات المسلحة، والهيئات العلمية والمنشآت العاملة في المجالات الصناعة الدفاعية، ونظم إمداد وإدارة القوات المسلحة، ونظم السيطرة والمراقبة الدائمة، وقنوات تدفق المعلومات ذات الطبيعة الإستراتيجية والعملياتية والاستطلاعية؛
العلمية والتكنولوجية: بما فيها نظم إجراء البحوث العلمية النظرية والتطبيقية، ونظم جمع وتخزين واستعادة المعلومات الخاصة بالبحوث العلمية الجارية، والاكتشافات العلمية، والاختراعات التي تم التوصل إليها، سواء أكانت في المجالات التكنولوجية أم في مجالات العلوم الإنسانية أم في مجالات العلوم الحية وغيرها من المواضيع الخاصة بالملكية الفكرية؛
الأمن الداخلي: وتشمل نظم التحقيق، والتحقق، والنيابة العامة، والإجراءات العدلية، والموارد المعلوماتية والإعلامية لأجهزة الأمن، ومنظومات جمع وحفظ وإعداد واسترجاع المعلومات والإحصائيات الخاصة بالجريمة، بما فيها بنوك معلومات الشرطة الدولية (الإنتربول).
التهديدات المتوقعة للأمن الإعلامي الوطني: لما كان الأمن الإعلامي الدولي أساساً يشمل كل ما يدخل في مجالات تهديد الأمن الإعلامي الوطني، من:
تهديدات البنى التحتية المعلوماتية والإعلامية: التي تستهدف تخريب مواقع تبادل المعلومات الفورية عبر شبكات الحاسب الآلي، وتكنولوجيا معالجة المعلومات، وتقنيات التسلل للمواقع الخاصة في شبكات الحاسب الآلي، وجمع وتخزين واستخدام ونشر المعلومات بشكل مخالف للقانون.
تهديدات الأمن الإعلامي: الموجهة أصلاً ضد الخصائص الهامة التي يجب أن تتمتع بها المعلومات مثل السلامة والسرية وقيود أو حرية الوصول إليها.
تهديدات الحياة الأخلاقية للمجتمع: والتي تتم من خلال إدخال أو بث أو نشر معلومات دينية أو سياسية مغلوطة في وعبر أجهزة الإعلام الحكومية ووسائل الإعلام الجماهيرية بشكل يهدد المصالح الوطنية العليا والمصالح الخاصة، ومصالح المجتمع والدولة بشكل عام. أو عن طريق الاحتكار والحجب المتعمد للمعلومات الموجهة للمواطنين. أو في ترويج وبث الأنباء الكاذبة، والإخفاء أو التحريف المتعمد للمعلومات بشكل يؤدي إلى تحريف وتشويه الوسط الإعلامي المحلي ويزعزع الحالة النفسية للمجتمع، ويخرب ويشوه التقاليد الدينية والثقافية، ويفسد الأخلاق العامة، ويشوه القيم الجمالية والتربوية لدى الفرد والمجتمع.
تهديدات حقوق الفرد والحريات العامة: والتي تطال المجال المعلوماتي والإعلامي، من خلال القواعد القانونية المتبعة، والتي تحد من حقوق وحريات المواطنين في مجالات الحياة الخاصة، والعامة، والمعتقدات الدينية، والسياسية، والنشاطات المعلوماتية والإعلامية الفردية. بما فيها الأفعال التي تهدد نظم جمع وحفظ واسترداد وتدفق المعلومات الشخصية التي من خصائصها: السرية في التداول مثل المعلومات الطبية، والوثائق المدنية الشخصية، والمعلومات الخاصة عن عمل ودخل المواطنين وغيرها. فالأمن الإعلامي الوطني مطالب في مجتمع الديمقراطية وسيادة القانون بتأمين سرية المعلومات عن الحياة الخاصة للمواطنين والأحاديث الصريحة والخاصة التي تتم بين شخصين عبر وسائل الاتصال عن بعد الحديثة.
وهكذا نرى أن الهدف الرئيسي من استخدام الأسلحة الإعلامية هو تحقيق أهداف إستراتيجية موجهة ضد الأجهزة الحكومية الحساسة، ومن الطبيعي أن تطال وعي وأمن المجتمع بأسره. وهو ما يسمح ولو بالتلميح بأن نقول السلاح الإعلامي هو سلاح مدمر جديد دخل فعلاً ترسانة أسلحة الدمار الشامل. وهو سلاح جديد آخذ بالتطور والانتشار السريع. فماذا سيحدث لو لم تتمكن الأبحاث العلمية الحديثة من وضع أسس ملموسة للوقاية منه، أو الحد من تأثيره كما هي الحال مع الأسلحة التقليدية وأسلحة الدمار الشامل الأخرى ؟ لأن الأسلحة الإعلامية الجديدة تتميز عن غيرها من الأشكال التقليدية من الأسلحة السابقة بسرعة الانتشار والتأثير الفعال والسريع على الهدف الذي تستخدم ضده.
فما هي الخصائص الأساسية للأسلحة الإعلامية وأهدافها ؟ من أجل الإجابة على هذا السؤال لا بد من إلقاء نظرة تحليلية في بعض ما تم نشره من أبحاث حتى الآن، والتي تلقي بعض الضوء على بعض الخصائص الأساسية للأسلحة الإعلامية، انطلاقاً من إمكانياتها الأساسية في التأثير على الأهداف المستخدمة ضدها، وهي:
أنظمة نقل المعلومات: وتتألف من نظم وشبكات الاتصال عن بعد، ونظم وشبكات المعلومات والحاسب الآلي، وبنوك تخزين وإعداد وتوزيع وتبادل المعلومات الخ؛
الوعي الاجتماعي (الرأي العام) ونظم تشكيله: ويتضمن التأثير على الحالة النفسية الاجتماعية، وأدوات تشكل القيم الأخلاقية والدينية والتربوية في المجتمع، ووسائل الإعلام الجماهيرية، ووسائل الاتصال عن بعد، ونظم إعداد وتنشئة وتربية الأطفال والشباب وغيرها من الوسائل والنظم؛
وأخيراً الوعي الفردي أو الشخصي: فالأسلحة الإعلامية ليست وسائل "للتخريب الفكري" وحسب، بل هي وسائل تهدف أساساً التأثير على البنية التحتية لتدفق المعلومات الضرورية للنشاطات العلمية والفكرية والتي تطال وتصب داخل الوعي الاجتماعي. لتحقيق الأغراض التالية:
التأثير الفعال على نظم المعلومات العلمية والسياسية والاقتصادية والمالية والعسكرية والثقافية والتربوية والإحصائية. وحتى المعلومات المخزنة داخل أجهزة السيطرة على أسلحة الدمار الشامل والأسلحة المتطورة التي تستخدم الحاسب الآلي لمراقبة وتحديد واختيار والوصول إلى الأهداف وتدميرها، ووسائل نقل وإطلاق وتفجير تلك الأسلحة. أو تضليل أسلحة العدو المتطورة أو شلها أو إخراجها من ساحة المعركة. وهل يمكن تصور الأخطار المحدقة بالبشرية لو حدث تسلل إلكتروني لأجهزة التحكم بأسلحة الدمار الشامل التي تملكها إحدى الدول وهي كثيرة في عالم اليوم ؟
التأثير النفسي والتخدير وشل قدرات العدو على استخدام نظم معلوماته أو السيطرة عليها، والقضاء على إمكانياته المتاحة للاتصال عن بعد والتنسيق داخل الدولة أو بالعالم الخارجي.
مجالات استخدام السلاح الإعلامي: يتم استخدام السلاح الإعلامي عادة عبر وسائل الإعلام الجماهيرية، أو وسائل الاتصال عن بعد الإلكترونية، من خلال حاسب آلي (كمبيوتر شخصي) مزود ببرامج خاصة، أو من خلال غيره من أشكال الأسلحة الإعلامية الأخرى. فـ"الفيروس" المرسل من كمبيوتر شخصي عبر شبكة "الانترنيت" العالمية هو الآن أكثر فتكاً من تأثير السلاح النووي أو الجرثومي من حيث النتائج على الحضارة الإنسانية. فنشر الجراثيم الحية لحمى "إيبولا"، أو القرحة السيبيرية (الجمرة الخبيثة)، أو مرض نقص المناعة "الإيدز" وغيرها من الأمراض الخطيرة، يمكن التصدي لها وحصرها ووقف انتشارها وحتى معالجتها، أما فيروسات الحاسب الآلي "الكمبيوتر" مثل: Melissa )) و( I Love you ) أو"تشر نوبل" أو(DIR ) وغيرها من الفيروسات الجديدة التي تظهر كل يوم، من خلال شبكات الحاسب الآلي الدولية، لها مفعول مدمر لا يمكن التصدي له حتى الآن، وخلال ثوان فقط تدمر محتويات ملفات كاملة، وجهود سنوات طويلة من جمع وإعداد وتخزين المعلومات، لتختفي إلى الأبد من على شاشات الحاسب الآلي ومن ذاكرته.
والمصيبة أن ذلك يأتي في ظروف غير متوقعة، وفي لحظة حرجة تؤدي إلى إرباك كبير. ولنتصور معاً نتائج تخريب مواقع شبكات الحاسب الآلي للعمليات المالية الدولية، أو شبكات خطوط النقل الجوي والبري والبحري العالمية، أو شبكات السيطرة على أسلحة التدمير الشامل، أو شبكات الشرطة الدولية "الإنتربول". فالإنسانية أصبحت اليوم أكثر تهديداً من قبل، بسلاح جديد فتاك يصعب مواجهته، ولا نقول لا يمكن مواجهته، لأن هذا يحتاج إلى رغبة الدول التي أصبحت تملك مثل تلك الأسلحة والقادرة على تطوير وسائل قادرة على التصدي لمثل تلك الأسلحة، وعلى الأقل ضد أولئك الذين يستخدمون تلك الأسلحة بشكل مخالف للقانون. وعلى مستوى قرار تلك الدول وجديتها في تطوير واستخدام هذا السلاح الجديد ووسائل الوقاية منه يتوقف الكثير. ولابد أن قرار دولي من هذا النوع سيكون من الأهمية أكثر بكثير من الأهمية التي تمتعت بها اتفاقية الحد من انتشار الأسلحة النووية في العالم لعام 1968.
الرقابة أو الإشراف على المجال الإعلامي الدولي: ولكن الخوف بعد مؤتمر جنيف يأتي من إمكانية فرض الدول المتقدمة نوعاً من الرقابة أو الإشراف على المجال الإعلامي العالمي ! ليبرز خطر حقيقي يهدد التدفق الإعلامي الدولي الحر. ويحد من الدور الحقيقي للإعلام، ويجعل من الدول الأقل تطوراً والدول النامية والدول الفقيرة رهينة لمشيئة تلك الدول، وتصبح الساحات الإعلامية للدول الأقل تطوراً والنامية مكشوفة أمام تلك الدول، ويحرمها وهي من دون ذلك محرومة من التدفق الإعلامي المتطور القادم من الدول المتقدمة في الشمال الحريصة على عدم انتقال التكنولوجيا المتطورة للدول الأقل تطوراً والدول النامية في الجنوب بشكل عام. وهو ما يعني أيضاً إشراف بعض الدول المتقدمة على الساحة الإعلامية الدولية على الأرض وفي الفضاء الكوني في آن معاً، وعلى مختلف أوجه النشاط الإنساني وتوجيهها لصالحها والسيطرة عليها.
سيناريوهات الحرب الإعلامية: وانطلاقاً من تلك التوقعات نرى أن الكثير من مراكز البحث العلمي المتخصصة في مجالات الاتصال عن بعد والإعلام والحرب الإعلامية، راحت منذ مدة طويلة تعد خططاً وسيناريوهات للحرب الإعلامية المحتملة. وراحت تعد إستراتيجيات خاصة بها، الغرض منها السيطرة على الساحة الإعلامية ليس للغير وحسب، بل ومن أجل أن تكون "عولمة الإعلام" خاضعة لإشرافها فقط. ولنستعرض الآن بعضاً من نتائج تلك الأبحاث العلمية من خلال السيناريوهات التي أصبحت معروفة، وهي:
السيناريو الأول: وفيه تكون الدولة المبادر الأساسي في شن الحرب الإعلامية بما تملك من تفوق ساحق في مجال الأسلحة الإعلامية الهجومية، ومن إمكانيات الحد من صلاحية النظم الدفاعية لأي من الدول الأخرى، ومنها إخراج شبكات الاتصال والسيطرة والرادارات من ساحة المعركة "الحالة على الجبهات العربية في عدواني عام 1967 و 1982" و"الحالة العراقية أثناء حرب تحرير الكويت وما بعدها" و"الحالة اليوغسلافية". وفي هذه الحالة تفرز تلك الدولة قسماً مما تملكه من وسائل وأسلحة الحرب الإعلامية لتستخدم من قبل حلفائها، أخذة على نفسها مهمة تنسيق الجهود والعمليات، في الهجوم وفي الحد من التهديدات الإعلامية المشابهة التي قد تتعرض لها من قبل الخصم، والمواقع التي يمكن أن ينطلق منها الخصم لتوجيه الضربة المعاكسة. بحيث تضمن لنفسها التفوق وتحقيق النصر مهما كان نوع "العدوان الإعلامي" الذي تقوم به بمفردها أو مع حلفائها ضد الخصم، أو الذي تتعرض له هي أو أي من حلفائها من قبل الخصم في الحرب الإعلامية غير المعلنة وغير المرئية في أكثر الحالات.
السيناريو الثاني: احتفاظ عدد محدود من الدول المتقدمة بقدرات وإمكانيات شن الحرب الإعلامية واحتكار تلك الدول للسلاح الإعلامي، بشكل يسمح لها بالتفوق الكامل والقدرة على امتلاك أجهزة وشبكات معلومات مستقلة. في هذه الحالة لابد لواحدة من تلك الدول من الاحتفاظ بالتفوق في هذا المجال. وبذلك يصبح هذا الوضع عامل تخويف للدول الأخرى، تمنعها من استخدام الأسلحة الإعلامية ضدها أو ضد أي من الدول التي تشرف عليها وبذلك تضمن التفوق حتى في المستقبل.
السيناريو الثالث: ويركز على الدولة المتفوقة تكنولوجياً ومعلوماتياً وإعلامياً، ونظم دفاعاتها غير القابلة للقهر ضد أي شكل من أشكال الأسلحة الإعلامية. مما يجبر أكثر دول العالم على الامتناع عن امتلاك أي شكل من أشكال الأسلحة الإعلامية الهجومية، أي الرضوخ التام. لأنها لا تستطيع مواجهة الهجمات الإعلامية ضدها بسبب عدم امتلاكها للتكنولوجيا المعادلة للدولة المتفوقة. وفي هذه الحالة تستطيع الدولة المتفوقة إعلامياً فرض نظامها الخاص للإشراف الإجباري على الأسلحة الإعلامية ونزعها وتدميرها، بما يشبه ما تفعله الولايات المتحدة الأمريكية من خلال برنامج تدمير أسلحة الدمار الشامل العراقية منذ مطلع التسعينات في الرقابة الإلكترونية والاستطلاع الجوي والفضائي الدائم، وإلى حد ما الحالة الأفغانية قبل وأثناء القصف الأمريكي البريطاني للقضاء على حكم طاليبان، وتنظيم القاعدة الذي تدعمه. وبالنتيجة يمكن منع الحرب الإعلامية ضد الدولة المتفوقة أو تخفيض خطرها إلى الحد الأدنى، والسيطرة على وسائل استعمالها المتوفرة لدى الخصم المتوقع بما يمكن من إزالتها وتدميرها. مما يوفر أرضية منطقية لإعطاء مثل تلك الخطوات الشرعية في ظروف التفوق الساحق لتلك الدولة، لتفرض على المجتمع الدولي اتخاذ قرارات دولية مناسبة تتفق ومصالح تلك الدولة المتفوقة.
وإشراف كهذا على المجال الإعلامي العالمي أصبح شبه واقعي على ضوء التفوق الشامل الذي يسمح لدولة معينة، أو لمجموعة قليلة من الدول، بالتأثير على النظم الإعلامية الدولية من خلال الإمكانيات الفعلية التي تملكها تلك الدول، وهو ما يسمح لها بفرض رأيها على الآخرين، بما يعني أن تكون "العولمة الإعلامية" مقرونة بإشراف المتفوق. وهو ما يؤكد وفق المعايير الإقليمية والإنسانية أنها ملكت وبالتأكيد الحد الأقصى من إمكانيات الإقناع أثناء الحروب المعلوماتية وفرض أو منع المعلومات على هواها، وفرض عمليات حفظ السلام وفق منظورها الخاص فقط.
الأمن الإعلامي الدولي من وجهة نظر المعارضين للمشكلة: ولهذا يعتمد خصوم وجهة النظر التي تطالب بالنظر العاجل في قضايا الأمن الإعلامي في إطار منظمة الأمم المتحدة على حجج ترى من وجهة نظرهم: أن المشكلة لا تتضمن جوانب عسكرية. وأن الحقيقة هي في خطر استخدام المعلوماتية في المجالات الإجرامية والإرهابية فقط.
وهنا يبرز سؤال هام، مفاده ماذا سيفعل المجتمع الدولي حيال إرهاب الدولة، وحيال الجرائم المرتكبة من قبل دولة ضد دولة أخرى، أو شعب ضد شعب آخر لأهداف التطهير العرقي أو إبادة العرق الآخر أو لأهداف توسعية واقتصادية وسياسية، وعدم الاعتراف بالحقوق الشرعية للغير كما هي الحال في الصراع العربي الإسرائيلي من أجل تحقيق السلام العادل، وتأمين الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وإعادة المقدسات والأراضي المحتلة ؟ فهل يمكن تسمية ذلك بغير الحرب المستمرة ؟ أو ليست الحروب وفق المفاهيم الإنسانية جرائم ترتكب بحق البشرية ؟ حتى ولو قامت بها دولة معينة أو مجموعة من الدول ضد دولة أخرى أو مجموعة من الدول بقصد العدوان وليس الدفاع عن النفس، كما هي الحال بالحرب الإعلامية الشعواء التي تشنها بعض وسائل الإعلام من أراضي الدول المتقدمة ضد العرب والمسلمين. ومن يستطيع إثبات أن تلك الحروب والجرائم والأعمال الإرهابية تتم دون استخدام الأسلحة الإعلامية التي كانت سمة من سمات الحقبة الأخيرة من القرن العشرين ؟ ومن الخطأ إخراج الجريمة المنظمة والإرهاب الدولي من مفهوم الأمن الإعلامي الدولي، لأنها تهدد الكيان الإنساني برمته. وأنه لا وجود للأسلحة الإعلامية وهي ليست سوى عبارة عن وسائل للتأثير على نظم الإعلام وشبكات الاتصال فقط، ولا تشمل غيرها من الوسائل والطرق التي هي من أشكال الأسلحة التي تستخدم في تنفيذ الحروب النفسية. وأنه لا يمكن متابعة وتسجيل وضبط القائمين بالتأثير الإعلامي. وهذه بحد ذاتها حجة واهية لأن الحقائق تثبت عكس ذلك، والتاريخ يتضمن أمثلة محددة على ذلك منها: حل مشكلة تحديد مواقع إطلاق الصواريخ العابرة للقارات، والحجم الكبير للقضايا الجنائية المرفوعة ضد المتسللين إلى شبكات الحاسب الآلي الخاصة، ومخربي محتويات شبكات الحاسب الآلي، مما يثبت إمكانية وفعالية الإجراءات المتبعة حتى الآن والتي يمكن تطويرها والزيادة من فعاليتها كل يوم لو توفرت النوايا الحسنة. وأن غياب المصطلحات الموحدة وغياب المداخل الموحدة لمفهوم الأمن الإعلامي يؤدي إلى الخلاف في الاتجاهات نحو تناول المشكلة وفق المفهوم الدولي. وهي مشكلة تحتاج للحل قبل النظر في المشكلة جدياً ضمن إطار منظمة الأمم المتحدة كهيئة سياسية دولية وحيدة تملك حق النظر في قضايا "العولمة الإعلامية" وآثارها. وأن القوانين الوطنية التي تلبي المصالح القومية العليا لمختلف الدول غير متوافقة، وهو وضع يجب تصحيحه.
وهنا يبرز السؤال التالي: على أي أساس يجب تصحيحه ؟ هل على أساس قوانين دولة مختارة من دول العالم ؟ ومن هي تلك الدولة المختارة صاحبة الحظ السعيد؟ ومن يملك الحق بنشر مفاهيمه القانونية الوطنية ومصالحه القومية العليا على كافة دول العالم ؟ ومن هي تلك الدولة التي ستكون المبادرة في فرض قوانينها الوطنية، والمبادرة لفرض مفهومها وإجراءاتها في الدفاع عن المجال الإعلامي وأمنه على غيرها من دول العالم ؟ فهذا غير واقعي وغير منطقي تماماً. لأن المرجعية والأساس يجب أن يكون للقانون الدولي فقط، وهو ما دعت إليه الهيئة العامة لمنظمة الأمم المتحدة في قراريها 53/70 و 54/49. وأخيراً حجة عدم كفاية الدراسات اللازمة للإعداد لعرض الموضوع على الهيئة العامة للأمم المتحدة، وضرورة الانتظار حتى اكتمال واستلام نتائج البحوث العلمية والقانونية الجارية في بعض الدول، وهي أبحاث لا يمكن أن تنتهي كالتطور البشري الذي لا يمكن أن ينتهي إلا بمشيئة الله.
الأمن الإعلامي الدولي من وجهة نظر البحث العلمي: والجدال حول هذه النقطة صعب لأن الأبحاث العلمية الأساسية المنتهية والمنشورة والمناقشة على مستوى الخبراء كثيرة، وتم اقتراح الكثير من الحلول التطبيقية للمشكلة من قبلهم. مما يفسح المجال للشك في النوايا التي يمكن أن يكون الغرض منها الانتظار حتى تنتهي بعض الدول من إعداد الوسائل العسكرية التي تعمل على إنشائها، للوصول إلى التفوق المنتظر الذي يتيح لتلك الدول الفرصة الكاملة لفرض وجهات نظرها على الغير. ولعزل الدول التي لم تبدأ بعد بالقيام بمثل تلك الإجراءات والحيلولة دون أن يكون لها صوت مؤثر في حل تلك المشكلات الخطيرة. ولتبقى الثغرات في الأنظمة المعلوماتية والإعلامية لمختلف دول العالم قائمة، ولتبقى الدول الضعيفة عرضة للعدوان الإعلامي دون القدرة حتى على الدفاع عن النفس. ولتبقى الطريق أمام الدول المتفوقة مفتوحة لشن الحروب الإعلامية وفرض السيطرة والإشراف الإعلامي على النظم الإعلامية للدول الأضعف.
ولكن هل ستقبل الدول الأقل تقدماً بهذا الوضع المختل ؟ في حال غياب آلية دولية للحد من السباق في مجال امتلاك واستخدام السلاح الإعلامي، وبالتالي منع قيام الحروب الإعلامية. ففي ذلك الوضع ستفقد الأمم المتحدة دورها الريادي في "العولمة الإعلامية"، مما يؤدي إلى الفوضى الإعلامية الدولية مع كل النتائج الوخيمة التي لابد وأن تؤثر في صميم الثقافة الإنسانية، وتدفن إلى الأبد أية إمكانية لقيام حوار ديمقراطي عادل ومفتوح بين الثقافات، ولتحل مكانه ثقافة مفروضة من قبل الدولة الأقوى المهيمنة على الساحة الإعلامية الدولية.
الأمن الإعلامي والتفاهم الدولي: ومن الصعب الآن بعد أن توضحت الصورة إيجاد شكل محدد لتلك الآلية الدولية دون تحقيق التفاهم داخل المجتمع الدولي. ويكون التفاهم فيه مبنياً على مبادئ عامة دولية، مدعومة من البداية بوثيقة دولية متعددة الأطراف تحت رعاية منظمة الأمم المتحدة، تتضمن تصور شامل للأمن الإعلامي الوطني في إطار دولي. ويأخذ في اعتباره طبيعة كل التهديدات العسكرية والإجرامية والإرهابية، بما فيها استخدام سياسة الفرض والإكراه لفرض هيبة القانون سواء في المجال العسكري أو في المجال المدني والإنساني. وهذا يتطلب من وجهة نظر أنصار "عولمة الأمن الإعلامي" القيام بما يلي: إعداد نظم للفهم المشترك، تستخدم أثناء تحليل ومناقشة المشاكل المطروحة حول الأمن الإعلامي، وتحديد المصادر التكنولوجية وطبيعة الأخطار المتوقعة؛ إعداد المبادئ الأساسية لبناء "عولمة النظم المعلوماتية" لتأمين الأمن الإعلامي الدولي؛ إصدار بيان متعدد الأطراف في إطار منظمة الأمم المتحدة يخلق تصور للأمن الإعلامي الدولي على أساس المبادئ الأساسية المعلنة؛ إعداد اتفاقية تتضمن المواضيع الخاصة، مثل قضايا مكافحة الإرهاب الإعلامي الدولي والجريمة في مجال الإعلام، تتفق ومبادئ المنظمات الدولية العاملة والقائمة في مجال الإعلام والاتصالات المرئية، ووسائل الإعلام الجماهيرية وحقوق الإنسان؛ إعداد المبادئ الأساسية الخاضعة للمحاسبة في إطار منظمة الأمم المتحدة للنظر في ملائمة القوانين الوطنية بهدف التوفيق بينها؛ إدخال جميع الدول الأعضاء لإضافات وتغييرات في قوانينها الأساسية بما يتفق والمبادئ الأساسية المعلنة؛ إعداد المبادئ الأساسية لتنظيم آلية للرقابة والسيطرة في مجال الأمن الإعلامي الدولي، وضمان تناسقه مع النظم العالمية العاملة في مجال المعلوماتية والاتصالات المرئية ووسائل الإعلام والاتصال عن بعد الجماهيرية وحقوق الإنسان، والرقابة على تصدير مواد وتكنولوجيا الإعلام. ويعني هذا العمل المشترك في أجهزة الرقابة على تصدير واستيراد المنتجات والخدمات في مجال المعلوماتية والاتصالات المسموعة والمرئية، وخاصة منها التي يمكن أن تستخدم عسكرياً أو للاستخدامات الثنائية، بما فيها المواد المخصصة لإنتاج أسلحة الحرب النفسية.
ويرى أنصار هذا الاتجاه أن تتوج المرحلة الختامية بتوقيع كل الدول الأعضاء في المجتمع الدولي على اتفاقية متعددة الأطراف لها صبغة نهائية تؤكد مبادئ الأمن الإعلامي الدولي، وتفرض آلية دولية معينة لمراقبة مجال الأمن الإعلامي الدولي ووضعه حيز التطبيق.
رؤية عربية للأمن الإعلامي والتفاهم الدولي: تعتبر الأدبيات العربية التي تناولت مشكلة الأمن الإعلامي أن المجتمع الدولي بكل ثقافاته وأديانه مدعو اليوم أكثر من أي زمن مضى للمشاركة الجماعية في التصدي لظواهر الإرهاب والإرهاب الإعلامي والتطاول على الأمن الإعلامي الدولي، والأمن الإعلامي الوطني والقومي للدول النامية والأقل تطوراً في العالم.
وتعتبر أن منظمة الأمم المتحدة خاصة والمنظمات المتخصصة والإقليمية والقارية بشكل عام لا تزال المؤهلة والقادرة على التعامل مع تلك الظواهر، من خلال جهودها لوضع أسس لاتفاق دولي حول المبادئ الأساسية وطرق مواجهة ظواهر الإرهاب والإرهاب الإعلامي، وبشروط تتفق عليها كل دول العالم صغيرها وكبيرها دون انحياز أو الكيل بمكيالين كما هو حاصل اليوم، سيما وأن الأمر يتعلق بمبادئ حفظ الأمن والاستقرار في العالم برمته.
خاصة وأن عالم اليوم يشهد حملة شعواء تقودها بعض وسائل الإعلام الجماهيرية الدولية، ويشارك فيها بعض المفكرين والمحللين السياسيين من دول مختلفة لإلحاق ظاهرة الإرهاب بحضارة أو ثقافة أو دين معين. رغم أن الإرهاب الدولي بكل أشكاله قد اخترق حضارات وثقافات وديانات مختلفة، وطال كل أرجاء العالم دون تمييز انطلاقاً من بواعث واضحة ومتباينة. وهو ما يؤكد ضرورة أن يكون مقر الأمم المتحدة الساحة التي يجب أن تشهد جهوداً دولية وثيقة في التعاون من أجل التصدي لكافة ظواهر الإرهاب ومن بينها طبعاً الحروب الإعلامية والإرهاب الإعلامي.
وترى بعض الدول أنه لابد من الدعوة إلى مؤتمر دولي لمكافحة الإرهاب بكل أشكاله ومن ضمنه الإرهاب الإعلامي، تحت رعاية الأمم المتحدة انطلاقاً من قواعد الشرعية الدولية للحفاظ على الأمن والاستقرار العالميين، وانطلاقاً من مجلس الأمن الدولي باعتباره صاحب الاختصاص والمسؤولية في عملية حفظ السلام والأمن الدوليين، وانتهاء بالجمعية العمومية للأمم المتحدة التي يجب أن تتعامل مع كل ما يهدد السلم والأمن الدوليين.
ومؤتمر كهذا يمكن أن يرسي قواعد واضحة تكفل عدم قيام أية دولة من دول العالم بتقديم أي دعم أو ملاذ يشجع الإرهاب بكل أنواعه ومن ضمنه الإرهاب الإعلامي، أو يجنب القائمين به العقاب العادل. سيما وأن منظمة الأمم المتحدة كانت قد قامت عبر تاريخها الحافل وحتى الآن بجملة من الخطوات في هذا المجال الحيوي والهام للبشرية بأسرها، ومنها:
الاتفاقيات والقرارات الدولية التي أكدت أن الإرهاب يشكل أحد العناصر التي تهدد السلام والأمن الدوليين، وحثت الدول على اتخاذ تدابير فعالة وحازمة وفقاً لأحكام القانون الدولي والمعايير الدولية لحقوق الإنسان من أجل القضاء على الإرهاب الدولي بكل أشكاله. إلا أن الباحث العربي أحمد القرعي يعتبر أن تلك الاتفاقيات والقرارات بحاجة إلى إطار متناسق ليتحول إلى مدونة قانونية ملزمة تعكس تضافر جهود المجتمع الدولي في التصدي لظاهرة الإرهاب، ومحاصرتها وحرمانها من المأوى والملاذ والتمويل.
لأن المرجعية والأساس يجب أن يكون للقانون الدولي فقط، وهو ما دعت إليه الهيئة العامة لمنظمة الأمم المتحدة في قراريها 53/70 و 54/49، وإعلانها بشأن التدابير الرامية إلى القضاء على الإرهاب الدولي الذي أصدرته خلال الدورة 49 للأمانة العامة عام 1994. التي يمكن اعتبارها منهاجاً للعمل الجماعي الدولي في مواجهة كل ظواهر الإرهاب بما فيها الإعلامية، حيث أوردت جملة متكاملة من المبادئ الأساسية والإجراءات والتوصيات التي تخاطب مختلف دول العالم وتدين جميع الأعمال الإرهابية وأساليبها وممارساتها باعتبارها انتهاكاً خطيراً لمبادئ منظمة الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، التي تهدف إلى تحقيق الرخاء والعيش بسلام والحفاظ على مستقبل البشرية.
ومن بين المبادرات الدولية الكثيرة في هذا المجال كانت المبادرة المصرية عام 2000 التي تعكس حسب رأي القرعي صوت الجنوب والدول النامية، وصوت الأغلبية المتضررة من الفجوات الخطيرة بين مستويات التقدم، وضرورات الحياة الحديثة وأساسياتها. واعتمدت مصر في رؤيتها لغة الحوار العالمي الحضاري لرسم إطار مستقبل العمل الجماعي الدولي في العقود القادمة مؤكدة على أن هناك مكاناً للتعايش والتناسق بين الحضارات لبناء الحياة الجديدة سوياً في إطار المبادئ والضوابط العادلة، وفي مقدمتها: أن تقدُّم الفكر، واتساع قاعدة المعلوماتية الدولية وفتح قنوات انتقال المعلومات بحرية، لا يعني ولا يجب أن يعني نشر ثقافة التحدي للحضارات الأخرى أو التحدث عن الصراع معها، وكأنها لا تطيق الحياة مع الحضارات والثقافات الأخرى بكل ما تمثله من تراث وتقاليد عريقة. وكأن العالم اليوم أمام خيار هيمنة قيم ومبادئ حضارة واحدة بعينها، ومطلوب من الجميع أن يسلموا بها، وهو ما يمثل صراعاً من أجل البقاء ويهدد الثقافات الأضعف العاجزة عن الوقوف أما ذلك المد الجارف أحادي الجانب الذي تفرضه العولمة لإعلامية. وأنه لابد من شراكة حقيقية بين دول الشمال المتقدمة ودول الجنوب النامية، ودعم حقيقي من قبل الدول والمؤسسات المالية المانحة لجهود القضاء على التخلف والفقر باعتبارها هدفاً أساسياً لتحقيق المجتمع الدولي العادل الذي يحقق الأمن والاستقرار في العالم بأجمعه. وأنه لابد من تضييق الفجوة المعرفية والعلمية وتكنولوجية المعلومات بين دول الشمال ودول الجنوب للدفع بخطوات التنمية الوطنية ودمج الدول النامية بشكل إيجابي في الاقتصاد العالمي من خلال التعاون المثمر بين الدول المتقدمة والأقل نمواً والنامية.
وأخيراً تعتبر أنه لابد من الحوار والتعاون البناء لتحقيق نظام أمن جماعي مستقر في إطار الديمقراطية الدولية، لضمان الحق في العيش بسلام واستقرار، بعيداً عن أهوال الدمار الشامل والحروب الإعلامية والنزاعات والاستيلاء على أراضي وثروات الغير بالقوة المسلحة، والحق في حياة كريمة خالية من التخلف والفقر والعوز، والحق في العيش في مناخ صحي خال من التلوث والأمراض والأوبئة القاتلة والظواهر الاجتماعية السلبية. لأن محاولة إلقاء تبعات تحقيق التنمية والقضاء على الفقر على الدول النامية وحدها هي محاولة تتسم بالخطورة وقصر النظر، لأنها تقوض أركان التعاون الدولي باعتباره ركناً أصيلاً من أركان النظام العالمي، وتتجاهل انعكاسات الفجوة المعلوماتية والاجتماعية والاقتصادية الآخذة في الاتساع بين الدول الغنية في العالم وفقرائها، الفجوة التي اتسعت ستة عشر ضعفاً عما كانت عليه في عقد الستينات من القرن العشرين.
وخلاصة القول أنه هناك مشكلة حقيقية ماثلة للعيان تهدد الأمن الإعلامي الوطني والقومي للدول الأقل تطوراً والدول النامية، وتعاني منها الدول العربية والإسلامية، وتهدد الأمن الإعلامي الإقليمي والدولي، وتعيق التفاهم الدولي، وتضع البشرية أمام مسؤولية التصدي لها وتقديم الحلول الناجعة لمعالجتها، قبل أن تصبح مفاتيح المشكلة حكراً على البعض المتمكن فقط، ومستعصية على البعض الآخر غير المتمكن الآن على الأقل، ويؤدي استخدامها إلى اندفاع البشرية نحو تطوير أنواعاً جديدة من الأسلحة الفتاكة، التي أصبح الاتجاه فيها يتطلع نحو الفضاء الكوني من قبل دول تتحدث دائماً عن حقوق الإنسان وتستخدمه ذريعة للتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وتستثني نفسها منه وتتجاهل حق الإنسان الأساسي الذي وهبه له الله، ألا وهو الحق في الحياة الحرة الكريمة البعيدة عن التسلط والفرض والإكراه.
ونرى أن يجري البحث عن الحلول في إطار العلاقات الدولية انطلاقا من مبدأ الاحترام المتبادل، واحترام السيادة الوطنية لمختلف الدول، وفي إطار الدبلوماسية الدولية داخل أروقة منظمة الأمم المتحدة، وعلى مستوى منظماتها المتخصصة، والمنظمات الإقليمية التي هي أدرى بمصالحها الوطنية الإقليمية المرتبطة بالمصالح الإنسانية لعالم اليوم. وهذا يحتاج قبل كل شيء إلى إعادة النظر في السياسات الإعلامية الحالية، وتحديد مواقف الحكومات والقوى السياسية من المشكلة وفق منظور المصالح الوطنية العليا لكل دولة، وتوحيدها على ضوء المصالح القومية للدول العربية، والإسلامية التي تجمع الدول الإسلامية والمسلمين في العالم قاطبة، والمصالح الإنسانية التي تجمع شعوب العالم بأسره.
وهنا يبرز دور جامعة الدول العربية وأجهزتها المتخصصة، ومجلس تعاون دول الخليج العربية، والاتحاد المغاربي، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، ومنظمة الوحدة الإفريقية وغيرها من التجمعات الإقليمية والدولية التي تشارك فيها الدول العربية والإسلامية، والدبلوماسية الثنائية بين الدول، في تنسيق الجهود والمواقف والعمل الجماعي من خلال المنظمات الدولية ومن خلال مواقف محددة من المشكلة، المواقف التي يمكن أن تساعد على إيجاد أطر للعمل الجماعي لمواجهة المشكلة، من ضمن إطار الشرعية الدولية لتحقيق أوسع تعاون دولي مفيد وواقعي وممكن يساعد على حل مشاكل الأمن الإعلامي الوطني والقومي والإقليمي والدولي. ويضمن تنفيذ الإجراءات الجماعية المتخذة لحل المشاكل الجديدة والصعبة الناتجة عن دخول الإنسانية عصر "العولمة والمجتمع المعلوماتي". وتوفر الأمن الإعلامي الوطني والدولي الواقعي الذي يضمن سيادة المصالح الوطنية ومساواتها لجميع دول العالم صغيرها وكبيرها، فقيرها وغنيها. ويتصدى لأي عدوان خارجي أو إجرامي أو إرهابي يتعرض له المجال الإعلامي من قبل أي كان، لأي دولة من دول العالم دون تفريق.
وهذا على ما أعتقد لا يعفي الدول العربية والإسلامية القادرة، من واجب إعادة النظر في سياساتها الإعلامية الداخلية والموجهة إلى مختلف شعوب العالم، والشروع بإنشاء مؤسسات متخصصة للقيام بالدراسات والأبحاث الضرورية التي تمكنها من مواجهة وامتلاك ناصية تقنيات وتكنولوجيا سلاح القرن الحادي والعشرين "السلاح الإعلامي"، وإنتاج أنظمة تسليح ووسائل حرب المعلومات، لتقدمها دعماً للدول الشقيقة عند الضرورة، ولمواجهة عدو شرس ينتشر كالأخطبوط في كل أنحاء العالم ويتربص بالجميع ويملك أفتك صنوف الأسلحة التي تفتقت عنها العبقرية البشرية، ومن بينها طبعاً "السلاح الإعلامي" الذي برع حتى الآن باستخدامه والتفوق به، لشل قدرة خصومه على المواجهة، وخداع الرأي العام العالمي، وحجب الحقائق عنه، وإقناعه بحقائق محرفة تخالف حتى الثوابت التاريخية والثقافية غير القابلة للجدل، ويعمل دائماً على إيجاد المبررات لتنصله من تنفيذ قرارات الشرعية الدولية، وحتى من تنفيذ بنود اتفاقيات سبق ووقع عليها مع أطراف عربية منذ أكثر من نصف قرن مضى وحتى اليوم.
العولمة وهموم المجتمع المعلوماتي: تمهيد: مع بدايات تسعينات القرن العشرين التي رافقت انهيار الاتحاد السوفييتي السابق ودول ما كان يعرف بالكتلة الشرقية التي كان يقودها الاتحاد السابق ، وعلى ضوء التطورات الهامة التي جرت على جميع الأصعدة العلمية والتقنية والتكنولوجية في العالم، وخاصة تكنولوجيا وسائل الإعلام الجماهيرية والاتصال والاستشعار عن بعد، انطلقت بشدة شعارات تدعو للتكامل بين المجتمعات الصناعية المتقدمة، وفتح باب المنافسة الحرة وإزالة العوائق أمام انتقال الخبرات والبضائع ورؤوس الأموال إلى الأسواق العالمية التي يجب أن تكون حسب رأي البعض مفتوحة تماماً أمام نهم الشركات متعددة الجنسية دون أية رقابة أو اعتبار. ورافق تلك الشعارات بشائر ميلاد المجتمع المعلوماتي الذي يمكن أن تشارك في بنائه كل عناصر التركيبة الاجتماعية، في عملية تفاعل معلوماتي متساوي باتجاهين أخذاً وعطاءاً.
واعتبر الكثيرون أن ميلاد المجتمع المعلوماتي يبشر بالتحول من تقديم الخدمات الإعلامية للمتلقي السلبي في عملية الاتصال، الذي يتلقى سيل المعلومات الموجهة إليه ولمجتمعه دون مشاركة إيجابية منه في اختيار أو إعداد أو في أساليب نشر تلك المعلومات عبر وسائل الاتصال عن بعد والإعلام الجماهيرية التقليدية المختلفة، إلى مشاركة عناصر التركيبة الاجتماعية القادرة كلها في عملية اختيار وإعداد وتخزين وتوجيه ونشر والاستفادة من المعلومات، والمشاركة المؤثرة والفاعلة في عملية التبادل والتفاعل الإعلامي داخل المجتمع الواحد بكل عناصره وشرائحه، وبين المجتمعات المختلفة بشكل عام، بما يوفر فرص الحوار الثقافي والحضاري، والتفاهم، والتفاعل البناء لصالح تقدم الإنسانية جمعاء.
ومعروف أن الأساليب الإعلامية المستخدمة والمنتشرة بشكل واسع حالياً، لم تكن إلا نتاجاً للتقدم العلمي والتقني في مجال وسائل الاتصال عن بعد والإعلام الجماهيري، ونتيجة للأبحاث العلمية التامة في مجال الإعلام بفروعه المختلفة: الاقتصادية والسياسية والعلمية والطبية والزراعية والصناعية والتجارية والمالية والثقافية وغيرها من فروع المعرفة الإنسانية، التي جرت خلال النصف الأول من القرن العشرين ولم تزل مستمرة في التطور داخل العالم المتقدم كله حتى اليوم. وكان وكما هو معروف أيضاً أن نشر تلك المعلومات يتم بالطرق التقليدية عبر الكلمة المطبوعة، والمسموعة والمرئية أحادية الجانب أي من المرسل إلى المستقبل، دون أن تكون هناك أية إمكانية للتفاعل الإيجابي بين المرسل والمستقبل عبر الطرق التقليدية السائدة لنقل المواد الإعلامية التي حملتها إليه شتى وسائل إدخال ونقل وتخزين وإيصال المعلومات المقروءة والمسموعة والمرئية.
ولكن الثورة التي تفجرت بشدة خلال الربع الأخير من القرن العشرين في مجال تقنيات ووسائل الإعلام الجماهيرية والاتصال والاستشعار عن بعد، وضعت البشرية أمام منعطف تاريخي حاسم تشارك فيه اليوم كل عناصر التركيبة الاجتماعية القادرة على المشاركة في عملية التأثير والتفاعل المتبادل من خلال عملية التبادل الإعلامي المستمرة داخل المجتمع المحلي والدولي، عبر وسائل الاتصال الحديثة التي أصبحت فيها تقنيات الحاسب الآلي الحديثة دائمة التطور تشكل العنصر الهام والفاعل في حسم القضية كلها لصالح العولمة بكل أشكالها وأبعادها.
وأصبح الحاسب الآلي الشخصي المرتبط اليوم بشبكات المعلومات المحلية والإقليمية والدولية، يخزن وينقل وينشر المعرفة بكل أشكالها المقروءة والمسموعة والمرئية، ليحدث بذلك ثورة حقيقية داخل الأنظمة الإعلامية التقليدية، وأنظمة تراكم المعلومات والتعامل معها واستعادتها. وأصبح يساهم في تطوير عملية نقل المعرفة التقليدية داخل المجتمعات بعد أن انتقلت لاستخدام تقنيات الأنظمة المعلوماتية الإلكترونية الحديثة في مجالات العلوم والبحث العلمي والتعليم إلى جانب فروع الأنشطة الإنسانية المختلفة. مما وفر فرصة كبيرة لرفع مستوى الأداء العلمي والمعرفي وأفسح المجال أمام عملية الحصول على المعارف المختلفة ودمجها وإعادة نشرها، وتسهيل استخدامها في عملية تفاعل دائمة ومستمرة لا تتوقف.
وأصبح هذا الواقع الجديد بديلاً للطرق الإعلامية التقليدية، وبمثابة التحول من المألوف في أساليب الإعلام وطرق التعليم المستمر والإعداد المهني والمسلكي المتبعة حتى الآن في بعض الدول الأقل حظاً في العالم، إلى أساليب أكثر تطوراً وأكثر فاعلية من ذي قبل. ويرتبط هذا التحول بظاهرة العولمة والتكامل المتنامية في النشاطات الإعلامية الضرورية واللازمة لتطور الثقافة والعلوم والتعليم والبحث العلمي، في إطار ما أصبح يعرف اليوم بالمجتمع المعلوماتي.
مفهوم المجتمع المعلوماتي: ومن أجل تسهيل فهم القصد من العولمة الإعلامية التي حملت لنا معها مفهوم المجتمع المعلوماتي إن جاز هذا تعبير، لابد لنا من محاولة التعريف بجوهر هذا المجتمع، فهو حسب رأي العديد من الباحثين في شؤون الإعلام الجماهيري والاتصال عن بعد: المجتمع الذي تتاح فيه لكل فرد فرصة الحصول على معلومات موثقة من أي شكل ولون ومذهب واتجاه من أي دولة من دول العالم دون استثناء، عبر شبكات المعلومات الدولية، بغض النظر عن البعد الجغرافي، والعوائق الاقتصادية والسياسية، وبأقصى سرعة وفي الوقت المناسب للمشارك في عملية التبادل الإعلامي الدولي المستمرة؛ والمجتمع الذي تتحقق فيه إمكانية الاتصال الفوري والكامل بين أي عضو من أعضاء المجتمع، وأي عضو آخر من المجتمع نفسه أو من المجتمعات الأخرى، أو مع، أو بين مجموعات محددة من السكان، أو مع المؤسسات والأجهزة الحكومية، أو الخاصة بغض النظر عن مكان وجود القائمين بعملية الاتصال عن بعد والتبادل الإعلامي داخل الكرة الأرضية أو حتى خارجها في الفضاء الكوني؛ والمجتمع الذي تتكامل فيه نشاطات وسائل الإعلام الجماهيرية والاتصال التقليدية، وتتسع فيه إمكانيات جمع وإدخال وحفظ وإعداد ونشر المعلومات المقروءة والمسموعة والمرئية، من خلال التكامل مع شبكات الاتصال عن بعد، والمعلومات الإلكترونية الرقمية الدولية دائمة التطور والنمو والاتساع. الشبكات التي تشكل بالنتيجة وسطاً إعلامياً مقروءاً ومرئياً ومسموعاً ينشر معلوماته عبر قنواته التي تشمل حتى وسائل الإعلام الجماهيرية والاتصال التقليدية من خلال شبكات الاتصال عن بعد الإلكترونية، وشبكات المعلومات المحلية والإقليمية والدولية؛ والمجتمع الذي تختفي معه الحدود الجغرافية والسياسية للدول التي تخترقها شبكات المعلومات والاتصال عن بعد، وهو الاختراق الذي يشكل تهديداً مباشراً وخطيراً لأمن وقوانين الدول وللأعراف والتقاليد والمعتقدات الدينية والثقافية داخل المجتمعات المختلفة، وخاصة في الدول الأقل حظاً من التطور والدول النامية بشكل عام كما سبق وأشرنا.
وتعتبر عملية إدخال وانتقال ونشر المعلومات دون عوائق أو قيود من أساسيات تشكل المجتمع المعلوماتي، الذي يعتمد بالكثير على المنجزات والاكتشافات العلمية في مجال تقنيات الإعلام الجماهيري والاتصال عن بعد. وهو ما يضع الأوساط العلمية أمام واجب التصدي لمشاكل غير متوقعة، ناتجة عن تداعيات تشكل المجتمع المعلوماتي، سواء أكانت تنظيمية أم اجتماعية أم اقتصادية أم قانونية. والهدف من التصدي لتلك المشاكل هو خلق الظروف الملائمة لتلبية حاجات السوق الاستهلاكية المعلوماتية، دون الإضرار بمصالح الدول وحقوق المواطنين وأمن وسلامة أجهزة السلطات الدستورية، والمؤسسات الاقتصادية والمنظمات الشعبية والمهنية والعلمية، والهيئات العامة والخاصة، من خلال إيجاد الضوابط الكفيلة بتوفير شروط الأمن الإعلامي الشامل عند تشكيل وتداول الموارد المعلوماتية باستخدام تكنولوجيا الإعلام الجماهيري والاتصال عن بعد المتطورة.
خطوات الانتقال إلى المجتمع المعلوماتي: وبالفعل نرى أن الكثير من دول العالم المتقدم تقوم فعلياً بإعداد، أو تعد برامج للانتقال إلى المجتمع المعلوماتي، وتتخذ العديد من الخطوات العملية من أجل تحقيق مثل تلك البرامج في الواقع العملي. وتنتظر تلك الدول من تطبيق تلك البرامج الوصول إلى الأهداف التالية: رفع مستوى التكامل والحوار بين الهياكل الحكومية، والصناعية، ورجال الأعمال، والأفراد في المجتمع، بهدف تحقيق الاستخدام الأقصى لإمكانيات تقنيات الإعلام الجماهيري والاتصال عن بعد الحديثة من أجل تطوير المجتمع اقتصادياً وتحقيق فرص عمل جديدة لكل الشرائح السكانية؛ تحديث وتوسيع وتقوية البنية التحتية لوسائل الإعلام الجماهيرية والاتصال عن بعد التقليدية ورفع مستوى فاعلية أدائها الوظيفي؛ الدفاع عن مصالح المجتمع، وحقوق الأفراد أثناء استخدام تكنولوجيا إدخال وتخزين ونقل المعلومات؛ حماية موارد المعلومات المتوفرة في الشبكات المعلوماتية الإلكترونية؛ وتوسيع إمكانيات استخدام تكنولوجيا الإعلام الجماهيري والاتصال عن بعد في كافة المجالات العلمية والتطبيقية للاقتصاد الوطني؛ تشجيع وتعميم استخدام تكنولوجيا الإعلام الجماهيري والاتصال عن بعد وتعميم أساليب المعلوماتية الحديثة في الأجهزة الحكومية، قبل غيرها بغية تأمين حقوق المواطنين في تبادل المعلومات والحصول عليها من خلال تلك الأجهزة؛ تعميم استخدام تكنولوجيا الإعلام الجماهيري والاتصال عن بعد على جميع الأنشطة الإنسانية، مثل: الإحصاء، والتجارة، والعمل، والمواصلات، وحماية البيئة، والصحة وغيرها من الأنشطة الإنسانية التي تهم المجتمع بأسره؛ وتوفير إمكانيات المنافسة الحرة والشريفة في إطار المجتمع المعلوماتي الديمقراطي؛ وتحسين ظروف وصول وتداول المعلومات العلمية التكنولوجية والتقنية والبيئية والاقتصادية وغيرها من الموارد المعلوماتية عبر شبكات الإعلام الجماهيرية والاتصال عن بعد؛ وتطوير البحوث العلمية والبحوث التمهيدية في مجال تطوير تكنولوجيا المعلومات وتقنيات الإعلام الجماهيري والاتصال عن بعد؛ وتنسيق الجهود الوطنية والقومية والإقليمية والدولية أثناء وضع سياسة الانتقال إلى المجتمع المعلوماتي بما يضمن تحقيق المصالح الوطنية العليا من التعاون الدولي والاعتماد المتبادل بين الدول.
وفي هذه الحالة يجب أن يصبح المجال الإعلامي الدولي ليس أحد أهم مجالات التعاون والتبادل الإعلامي الدولي وحسب، بل ومجالاً رحباً للتنافس الحر والشريف بين الدول الأكثر تطوراً والتي تتفرد حتى الآن بملكية البنية التحتية الإعلامية الحديثة، والدول الأقل نمواً والنامية، من خلال وضع مقاييس تكنولوجية موحدة لمنتجاتها من تكنولوجيا وتقنيات وسائل الإعلام الجماهيرية والاتصال عن بعد. وأن تقدمها للمستهلكين من الدول غير المصنعة لتلك الوسائل أي الدول النامية، دون فرض أية شروط على كيفية تشكيل واستثمار البنى التحتية الإعلامية المتشكلة في تلك الدول، وأن ينحصر تأثير الدول المتقدمة على تطوير المجالات الإعلامية الجماهيرية للدول غير المصنعة لتكنولوجيا الإعلام والاتصال فقط، دون التأثير على مواردها المعلوماتية، بما يضمن عدم المساس بالأمن والمصالح الوطنية العليا للدول الصناعية المتطورة والدول الأقل تطوراً والدول النامية على حد سواء، أثناء وضع سياسات تطوير وتوفير وحماية أمن المجالات الإعلامية للدول الصناعية المتطورة.
مصاعب الانتقال إلى المجتمع المعلوماتي: وبغض النظر عن الوضع المالي الصعب الذي تعاني منه بعض الدول النامية والدول الأقل تطوراً من بين الدول المتقدمة كروسيا مثلاً بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، وحرمانها من الموارد الضخمة التي كانت تحصل عليها من الجمهوريات المستقلة والدول التابعة للمنظومة الاشتراكية الدائرة في فلك الاتحاد السابق، فإننا نرى أن روسيا قد استطاعت الحفاظ على بعض الاتجاهات الأساسية للعلوم المرتبطة بالتطور الصناعي. من حيث تطوير شبكة معلومات المؤسسات العلمية، والحفاظ على مستوى التأهيل المهني فيها، وتطوير المدارس التقنية، وتطوير نظام إعداد الكوادر ورفع مستواها المهني عن طريق تفعيل التدريب المستمر طيلة مدة الخدمة الفعلية لتلك الكوادر، واستطاعت المحافظة على كمية وتنوع المجلات العلمية المتخصصة، مستفيدة إلى أبعد الحدود من التعاون الدولي المتاح لها.
ولكن المشكلة الرئيسية في روسيا كغيرها من تلك الدول بقيت في مستوى الحصول على المعلومات العلمية المتطورة من الدول المتقدمة، وحجم ونوعية وطبيعة البنى التحتية المعلوماتية اللازمة في مجال العلوم والتعليم والبحث العلمي.
لأن مشكلة إعداد نظم الاتصال عن بعد الكفيلة بتوفير الموارد المعلوماتية الضرورية لتطور العلوم النظرية والتطبيقية في ظروف إصلاح النظم الإعلامية القائمة والتطور الاقتصادي، تحتم على تلك الدول أن يكون التصدي لهذه المشكلة من المهام الأساسية للسياسة الحكومية وواجباتها لتلبية احتياجات نمو وتطور الاقتصاد الوطني بشكل عام. سيما وأن العنصر الرئيسي اللازم للأبحاث العلمية والاستفادة العملية من نتائجها، يبقى مرتبطاً بالكامل بأشكال وأساليب توفير المعلومات والحقائق العلمية الحديثة والمتطورة. آخذين بعين الاعتبار أهمية مؤشرات ونوعية الموارد المعلوماتية المتاحة لكوادر البحث العلمي في أي بلد من بلدان العالم. لأن أي قصور في تأمين حاجة الباحثين العلميين من المعلومات الضرورية لمواضيع أبحاثهم العلمية سيؤدي حتماً ومن دون أدنى شك إلى تأخير في عملية تطور البحث العلمي الوطني، وبالتالي إلى تخلف حركة التطور العلمي والاقتصادي والثقافي والمعرفي في جميع فروع الاقتصاد الوطني.
وتحت تأثير مجموعة من الأسباب الموضوعية القائمة في الدول الأقل تطوراً وفي الدول النامية بشكل عام، نرى أنه لابد من إعادة النظر بكل مستويات أنظمة توفير الموارد المعلوماتية العلمية للمجتمع بآسره، وخاصة في مجالات التعليم والبحث العلمي والاقتصاد الوطني بشكل عام. والتي هي عادة أقل كلفة مما هي في الدول المتطورة، خلال فترة المرحلة الانتقالية من مجتمع الخدمات الإعلامية إلى المجتمع المعلوماتي المنفتح عالمياً.
كما ونلمس في تلك الدول مدى محدودية الإمكانيات والموارد المالية المتاحة التي لا تكفي حتى لتزويد المكتبات الوطنية ومراكز المعلومات الوطنية فيها بالإصدارات الدورية العلمية والتقنية المتخصصة الوطنية والأجنبية، سواء أكانت المطبوعة منها أم الإلكترونية. ومع ذلك فإننا نلمس تفاؤلاً كبيراً في تلك الدول يتجه نحو إمكانية حل تلك المعضلات في إطار برامج التعاون العلمي الإقليمية والدولية، وإطار الاعتماد المتبادل بين دول العالم المختلفة من أجل تحسين أداء شبكات الموارد الإعلامية العلمية الإلكترونية الإقليمية والدولية، وتخفيض تكاليفها، وأجور استثمارها في مجالات البحث العلمي للدول التي تعاني من مشاكل مالية على الأقل. ومساعدة تلك الدول على إقامة شبكاتها الإعلامية العلمية وبنوك المعلومات الخاصة بها، ومكتباتها الإلكترونية ووضعها تحت تصرف المستخدمين في تلك الدول.
خاصة وأننا نرى من خلال نظرة سريعة في عالم اليوم أن المؤسسات العامة والخاصة على السواء، في أكثر دول العالم تقوم اليوم باستخدام تكنولوجيا المعلومات المتقدمة والحديثة، بغض النظر عن المشاكل المالية والاقتصادية التي تعاني منها تلك الدول. وأن العديد من دول العالم تقوم اليوم بإنتاج مصنفات معلوماتية إلكترونية على الأسطوانات المضغوطة وغيرها من التقنيات الناقلة للمعلومات. إضافة لظهور آلاف النوافذ وصفحات Web في شبكة الانترنيت Internet العالمية، فتحتها وتقوم بتشغيلها المؤسسات الحكومية والعامة والخاصة وحتى الأفراد في مختلف دول العالم. وتحوي تلك النوافذ على كم هائل من المعلومات المتنوعة العلمية والثقافية والتجارية وغير التجارية والاقتصادية والسياسية والترفيهية والثقافية وغيرها. إضافة للبرامج التعليمية والتربوية والتثقيفية بما فيها برامج التعليم المستمر والتعلم عن بعد.
كما ونرى أن مؤسسات التعليم العالي والمتوسط والمكتبات العامة وحتى المتاحف ووسائل الإعلام الجماهيرية التقليدية المغمورة في مختلف دول العالم تسعى اليوم وبشكل حثيث لفتح نوافذها وصفحات Web الخاصة بها في شبكة الانترنيت العالمية.

الأمن الإعلامي وهموم المجتمع المعلوماتي في عصر العولمة 2 من 2

أ.د. محمد البخاري
الأمن الإعلامي وهموم المجتمع المعلوماتي في عصر العولمة 2 من 2
ضرورة وضع ضوابط وخطط شاملة للانتقال إلى المجتمع المعلوماتي: وهو الوضع الذي يفرض في الظروف الحالية على الأقل، على تلك الدول ضرورة الإسراع في وضع خطط شاملة تنطلق من أسس موضوعية وواقعية وموجهة في إطار برامج ومشاريع التنمية الشاملة لإنشاء بنية تحتية إعلامية جماهيرية وطنية تعتمد على برامج التعاون الإقليمي والدولي في هذا المجال الهام. وتوجيه تلك البرامج والمشاريع لخدمة وتطوير البحث العلمي وتأمين توزيع الموارد المعلوماتية توزيعاً سليماً وحمايتها، بما يكفل الوصول إلى المستوى العالمي المطلوب للخدمات المعلوماتية عبر الشبكات الإلكترونية في كل المجالات العلمية والتعليمية والثقافية والطبية والاقتصادية والمواصلات وغيرها من المجالات الهامة لمشاريع التنمية، والاقتصاد الوطني بشكل عام.
وضرورة إقامة نظام متكامل للموارد المعلوماتية الوطنية والدولية وتوزيعها، تعني إقامة شبكات اتصال إلكترونية عن بعد، تعتمد على الحاسبات الآلية الشخصية، تستخدم مقاييس معينة متفق عليها لإدخال واسترجاع المعلومات بشكل مدروس وممنهج، وإعادة توزيع تلك المعلومات على المستخدمين محلياً وإقليمياً وعالمياً. ومشروع كهذا على ما نعتقد يمكن أن يبدأ في إطار شبكة المؤسسات الحكومية التي يمكن أن تتكامل مع شبكات الموارد الإعلامية وبنوك المعلومات الأخرى الكبرى داخل الدولة، وداخل دول الجوار الإقليمي، والشبكات العالمية، آخذين بعين الاعتبار مصالح الأمن القومي والمصالح العليا للدولة في إطار هذا التكامل، والذي يمكن أن يأخذ الشكل التالي: شبكات المعلومات الإلكترونية المرتبطة بوزارة الإعلام والمؤسسات الإعلامية الأخرى، أي المشروع الوطني لبنوك المعلومات؛ شبكات المعلومات الإلكترونية العلمية للمكتبات ومراكز المعلومات لمؤسسات التعليم المتوسط والعالي ومراكز البحث العلمي. والتي بدورها يمكن أن تتكامل مع شبكات المعلومات الإلكترونية الإقليمية والدولية. والإنفاق على مثل تلك الشبكات يمكن توفيره من خلال التعاون المشترك وتضافر الإسهامات المالية المحلية والإقليمية والدولية للمعنيين بتنظيم تراكم ومعالجة وتداول تلك المعلومات.
والأهم من كل ذلك أن يتم تنظيم البنية التحتية الأساسية للموارد المعلوماتية العلمية الوطنية، وتنظيم تكاملها الشبكي مع الموارد المعلوماتية الإقليمية والدولية من خلال قاعدة قانونية يتم الإعداد لها بشكل دقيق وتشمل حمايتها عن طريق وضع: الضوابط القانونية لحماية الملكية الخاصة، وحقوق الملكية الفكرية المشتركة، التي تصبح في ظلها أية مادة إعلامية أو أي مصنف معلوماتي إلكتروني في الظروف التقنية الحديثة سهل السحب والنسخ؛ والوضع القانوني للإصدارات الإعلامية الإلكترونية ونشرها؛ والضوابط القانونية لضمان عدم مخالفة مضمون المصنفات الإعلامية الإلكترونية للقوانين النافذة؛ والوضع القانوني للقائمين على تقديم وتقييم الخدمات الإعلامية عبر شبكات المعلومات الإلكترونية المسموعة والمرئية؛ والأوضاع القانونية والمالية لموزعي المعلومات، وخاصة المؤسسات الممولة من ميزانية الدولة وغيرها من المؤسسات؛ وفاعلية الرقابة على تنفيذ مشاريع تنظيم البنية التحتية للموارد المعلوماتية العلمية الوطنية، وتكاملها الشبكي الإقليمي والدولي؛ وضوابط الوصول للمعلومات الإلكترونية عن نتائج الأبحاث العلمية الوطنية، وشروط الاستفادة من تلك النتائج خدمة للأوساط العلمية المحلية والإقليمية والدولية في إطار التبادل الإعلامي الدولي المتكافئ.
إضافة إلى ضرورة وضع الأدلة (الفهارس) الإلكترونية والمطبوعة، ووضع أسس لنشرها في وسائل الإعلام الجماهيرية والاتصال عن بعد الإلكترونية والتقليدية على السواء وتوزيعها، لضمان تسهيل عمليات الوصول للموارد المعلوماتية العلمية المحكمة عبر البنى التحتية للموارد الإعلامية الوطنية، وعبر شبكات المعلومات الدولية بما فيها شبكة الانترنيت العالمية. لأنه دون التعريف بعناوين وطرق الوصول لتلك الموارد الإعلامية العلمية المحكمة لا يمكن الاستفادة منها ومن الكم الهائل من المعلومات المتوفرة حتى الآن في شبكات المعلومات الإلكترونية الوطنية والإقليمية والدولية بشكل كامل.
تطوير البنى التحتية اللازمة للمجتمع المعلوماتي رهن بالسياسات الحكومية: ولا أحد ينكر أن تطور البنى التحتية المعلوماتية الإلكترونية يحتاج إلى موارد مادية هائلة، وأنها تعتبر من مهام بناء المجتمع المعلوماتي الذي يعتبر بدوره جزءاً لا يتجزأ من حضارة القرن الحادي والعشرين، وهي رهن بالسياسات الحكومية الرسمية، وأن عملية بناء المجتمع المعلوماتي هي عملية متكاملة، تحتاج لتكثيف جهود الجميع، ومختلف الاتجاهات العلمية، آخذين بعين الاعتبار كل التخصصات العلمية، ومصطلحاتها ومشاكلها الناشئة نتيجة لدخولها عصر المجتمع المعلوماتي. ولا بد من دراسة المشاكل الفلسفية والاجتماعية والاقتصادية، وتأثيرها الناتج عن الانتشار الواسع والسريع للمعلومات وتكنولوجيا الاتصال عن بعد المتقدمة، والقيام بمجموعة من الأبحاث العلمية النظرية والتطبيقية، دعماً للجهود المتواصلة لخلق الظروف المواتية للانتقال إلى المجتمع المعلوماتي سمة القرن الحادي والعشرين.
لأن عالم اليوم يعيش ثورة معلوماتية حقيقية، طغت على حياة الناس وغيرت من طبيعة حياتهم اليومية بشكل جذري، وبدلت من تطلعاتهم، وخصائص تشكلهم داخل شرائح اجتماعية في المجتمع المحلي، حتى أنها كادت تمس علاقة الفرد بذاته.
وعلى العكس من الثورات التكنولوجية السابقة التي انطلقت من المادة والطاقة، فإن هذه التغييرات الجذرية الجديدة التي نعيشها اليوم وتعرضت لمفاهيمنا عن الزمان، والمكان، والأفق، والمسافة، والمعرفة، أخذت تشكل في جوهرها اليوم ثورة معلوماتية ناتجة عن التطور الهائل لتكنولوجيا المعلومات ووسائل الإعلام الجماهيرية والاتصال المتنوعة، التي توصلت إليها عبقرية الإنسان خلال القرن العشرين.
ورغم عدم كفاية واكتمال الدراسات العلمية التي تناولت مرحلة الثورة المعلوماتية التي تمر بها البشرية في الوقت الحاضر، فإننا نلمس من حيث الجوهر أنها قربت لنا مفاهيم الثورة المعلوماتية التي أضحت أكثر فهماً ووضوحاً من ذي قبل.
العولمة والتكنولوجيا والمجتمع المعلوماتي: ومع حلول عصر العولمة بتداعياتها العلمية، والتعليمية، والإعلامية، والاقتصادية، والسياسية، والعسكرية، والثقافية، والصحية، برزت على الساحة آراء مختلفة تتباين في تقديرها لمدى تأثير تلك العولمة، وخاصة الاقتصادية منها على تطور بعض الدول وعلى الحضارة الإنسانية بشكل عام. لأن العولمة كانت نتاجاً واقعياً لتطور وسائل وتقنيات وتكنولوجيا المعلومات والإعلام الجماهيري والاتصال والاستشعار عن بعد، ووسائل نقل وتخزين والتعامل مع المعلومات واسترجاعها. الأمر الذي سمح في الوقت ذاته بإحداث نقلة نوعية وتغيير في الأدوار التي أصبحت تؤديها وسائل الإعلام الجماهيرية التقليدية في المجتمع بعد حلول عصر العولمة المعلوماتية، وانتقالها من دور تقديم الخدمات الإعلامية للمجتمع، إلى دور المشارك الفعال في الشبكة الكثيفة متعددة الأطراف التي تشبه اليوم إلى حد ما نسيج خيوط العنكبوت، يتصل من خلالها ويتفاعل مع غيره عبر اتصال كثيف وتبادل معلوماتي مباشر، ملايين البشر على الكرة الأرضية، دون عوائق أو قيود تذكر، في مجتمع أصبح يطلق عليه تسمية "المجتمع المعلوماتي" المتشابك بواسطة شبكات كثيفة من الحاسبات الإلكترونية الشخصية المنتشرة في كل أرجاء العالم النامي والمتقدم.
وصناعة وتطوير وانتشار واستخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصال عن بعد والإعلام الجماهيري، كأي تكنولوجيا أخرى توصلت إليها عبقرية الإنسان، مرتبطة بالمواقف والقرارات السياسية السليمة التي تأتي دون تأخير في الوقت المناسب، والمبنية على التقديرات الاقتصادية والمصالح الإستراتيجية والأمنية الوطنية العليا.
وتكنولوجيا المعلومات والإعلام الجماهيري والاتصال عن بعد كغيرها انطلقت من فكرة رفع الطاقة الإنتاجية للإنسان وتحسين أداؤه في بعض المواقع المحددة، وهو ما سبب ظهور بعض الإخفاقات التي واجهتها تكنولوجيا المعلومات والاتصال عن بعد، بسبب أخذها بعين الاعتبار النواحي التقنية فقط، وإهمالها للنواحي الاجتماعية الناشئة عن استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصال عن بعد والإعلام الجماهيري بشكل عام. ذلك لأنها تشكل معاً نهايات ثلاثية الأبعاد في المجتمع المعلوماتي، بحيث تكون مقبولة، ومدعومة اجتماعياً، وتلبي حاجة أفراد المجتمع دون تفريق.
وفي ظل المجتمع المعلوماتي يجب أن تكون تلك الثلاثية الأرضية التي ينطلق منها لتحقيق تطور هادف في وعي وحياة الإنسان، وتدعم مواقف جميع الشرائح الاجتماعية بكل اتجاهاتها مما يزيد من لحمتها، وإسهامها في تطوير المجتمع المعلوماتي بحد ذاته.
وتكنولوجيا الاتصال والإعلام الجماهيري تنتشر اليوم من الدول المتطورة وتنتقل منها إلى الدول الأقل حظاً والدول النامية، حاملة معها ثقافات جديدة، تختلف كثيراً عن تلك الثقافة التي ولدت في إطارها تلك التكنولوجيا. وتحمل في طياتها ثقافة تعميم آليات ونظم الحاسب الآلي المعقدة والمتنوعة لتلك النظم صعبة الفهم.
وفي أكثر الحالات نرى أن تلك الدول تتهيب من الخطر الناتج عن حتمية التأثير على حياة الأفراد والمجتمعات، وهو التأثير الذي يصعب فهمه وقبوله في بعض الحالات. ومن أجل تجنب الجمود في المجتمع المعلوماتي، كان لا بد من الوصول إلى تصور واضح ودقيق عن التأثيرات الناتجة عن دخول تكنولوجيا الاتصال عن بعد والإعلام الجماهيري المتطورة إلى الحياة الاجتماعية اليومية، ومنها نتائج الصدمة التكنولوجية وما يرافقها من تخريب في السلوك والآداب والأخلاق العامة، وفقدان فرص العمل في بعض التخصصات التقليدية، إضافة لشيوع جرائم الحاسب الآلي وغيرها، من تلك التي تهدد الأمن الإعلامي الوطني والدولي.
حتمية الثورة الاتصالية والمعلوماتية في ظل العولمة: ومع ذلك فإن الثورة الاتصالية والمعلوماتية التي تعمل على تغيير ملامح العالم بسرعة هائلة، وحتمية تلك التغييرات تجعلها في وضع ملزم ولا مفر منه. وكل يوم تزداد سرعة التغييرات تلك التي تمس معالم الحياة البشرية بشكل دائم ومتصاعد. ولكن تختلف النتائج الاقتصادية لتلك التغييرات من حيث الجوهر، لأنها تجلب معها فوائد ليست أقل أهمية وفاعلية ومؤثرة على القيم الإنسانية، من فوائد الثورات الإنسانية السابقة في مختلف دول العالم، ومن بينها الدول الأقل نمواً والدول النامية.
ومن ظواهر التفوق المعلوماتي اليوم للدول المتقدمة، أن الإنسان أصبح يتفاعل مع الثورة المعلوماتية والاتصالية والإعلامية الجماهيرية بالمقارنة مع غيرها من الثورات الإنسانية السابقة في دول العالم، بأشكال أصبحت تطال المجتمع الإنساني بأسره. وأصبح مصطلح "المعلوماتية" اليوم يملك وقعاً سحرياً بالفعل، بعد أن أصبحت تكنولوجيا المعلومات والاتصال عن بعد والإعلام الجماهيرية الحديثة اليوم القوة المحركة الحقيقية والمتحكمة بالاقتصاد العالمي والتقدم التكنولوجي في العالم بأسره، وأصبحت مصدراً هاماً لمضاعفة المعارف والقيم المستحدثة والجديدة لدى الإنسان، خاصة بعد توسع وانتشار مجالات استخدام المنجزات العلمية والتكنولوجية للقرن العشرين.
وللحكم على مدى تشكل المجتمع المعلوماتي في أية دولة من دول العالم، لابد من إلقاء نظرة فاحصة تشمل واقع وآفاق تطور وسائل الإعلام الجماهيرية والاتصال التقليدية في تلك الدول، على ضوء استيعابها لتكنولوجيا المعلومات ووسائل الإعلام الجماهيرية والاتصال عن بعد المتطورة، وعلى آفاق تطور البنية التحتية لتلك الوسائل في العالم. والنظر كذلك إلى مستوى التعليم العام والمتخصص والقاعدة القانونية التي تستند عليها عملية التطور المعلوماتي في تلك الدول بشكل عام. ومدى إمكانية الوصول إلى مصادر المعلومات المتاحة، المحلية والإقليمية والدولية من خلال شبكات الاتصال عن بعد الإلكترونية وخاصة شبكة الانترنيت العالمية. ودراسة مضمون ومدى تأثير الموارد المعلوماتية المفتوحة تلك على علاقات الإنتاج، والنشاطات الإنسانية والعلمية والتجارية والاقتصادية، والأهم من كل ذلك مدى تلبية تلك الوسائل للحاجات الأساسية للمواطن وللمجتمع بكل شرائحه.
لأن الإنسان في المجتمع المعلوماتي يقف وجهاً لوجه أمام فضاء إعلامي واحد متنوع ومفتوح، تعتبر فيه وسائل الإعلام الجماهيرية والاتصال عن بعد التقليدية من أهم وسائل التفاعل بين المواطن والسلطة، بفروعها الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية. لأنها تساعد في تأكيد شفافية عمل تلك السلطات، وعلنية التفاعلات السياسية في المجتمع.
أما تقنيات الاتصال عن بعد الحديثة في ظل "العولمة" والمجتمع المعلوماتي فقد أضافت عنصراً جديداً هو إمكانية الحوار الدولي المستمر الذي انبثق عنه "مجتمع الأربع والعشرين ساعة" (twenty-for-hour-society)، ذلك المجتمع الذي يعمل على مدار الساعة دون توقف، مضيفاً إمكانيات هائلة جديدة، منها على سبيل المثال: تكامل الدورة المعلوماتية المالية الاقتصادية التي أصبحت تعمل دون توقف أيضاً، بحيث تبدأ في آن معاً من أية نقطة في العالم وتعود إليها من جديد ودون توقف، مما فرض على العاملين في المجالات الاقتصادية والمالية والمعلوماتية، ضرورة إعادة النظر في جداول أعمالهم بما يتلاءم مع هذه الدورة الاقتصادية المعلوماتية. ومجتمع الأربع والعشرين ساعة هذا أصبح يمس اليوم كل نواحي الحياة الاجتماعية دون استثناء، ومنها وسائل الإعلام الجماهيرية والاتصال عن بعد التقليدية التي أصبحت تملك قنوات جديدة للحصول على المعلومات ونشرها تفوق القدرات التقليدية المعروفة لقنوات الاتصال عن بعد.
تطور تكنولوجيا ووسائل الاتصال كقاعدة أساسية لتطور المجتمع المعلوماتي: ومن نظرة سريعة في تاريخ تطور الوسائل التقنية والتكنولوجية التي أخذت تحدد موقعها كقاعدة أساسية لتطور المجتمع المعلوماتي التي تعتبر من الأسس التي يجب أن يتطور على قاعدتها المجتمع المعلوماتي. لابد من استعراض مراحل تطور وسائل وتقنيات وبرامج الحاسب الآلي، التي جاءت في المرحلة الأولى عندما صنع "و. بيرو" في عام 1888 أول آلة حاسبة قادرة على جمع أرقام كبيرة في ذلك الوقت. وخلال عامين فقط استطاع "غ. هولريت" بناء آلة تعتمد على استخدام البطاقات المثقوبة. وفي عام 1906، اخترعت مؤسسة "بيلا"، أول جهاز تلفون وحصلت على براءة لاختراعها، وقامت بعد ذلك بتصميم وصنع "منظم" مهمته حفظ النبضات الكهربائية في سلسلة متصلة مستمرة إلى أن يستطيع جهاز التشغيل من القيام باتصال ثابت. وفي عام 1925، قام "بوش" بصنع أول حاسب إلكتروني معروف، وخلال 12 سنة من ذلك التاريخ صنع جهاز "التحليل الحسابي" الذي يقوم بإجراء عمليات حسابية. وفي الفترة الممتدة ما بين عامي 1937- 1942 أعد "أتاناسوف" وصنع أول حاسب آلي، ولكنه لم يستطع تسجيل براءة اختراعه آنذاك لرفض شركة IBM تسجيله وبقي هو واختراعه مجهولاً. وفي عام 1944 صنع "إيكين" من جامعة هارفارد في الولايات المتحدة الأمريكية "حاسب إلكتروني أوتوماتيكي بإدارة مستمرة" (digital computer) يبلغ وزنه 4,5 طن وأطلق عليه اسم “MARK 1”. وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية تمكن العالمان "إيكرت"، و"موكلي" من جامعة بنسلفانيا من صنع أول حاسب إلكتروني أطلق عليه اسم: (Electronic Numerical Integrator and Computer “ENIAC”).
وفي عام 1946 توصل "فون نيمان" لنظام لإدارة أنظمة آلات الحساب الثنائية، وأعد مبدأً لإدخال المعلومات وحفظها آلياً، مع حفظ أوامر التشغيل. وفي عام 1951 تم صنع أول حاسب إلكتروني تجاري في العالم UNIVAC، الذي اشترى أول جهازين منه مكتب تعداد السكان في الولايات المتحدة الأمريكية، وشركة "جنراك إليكتريك". وفي نفس الوقت تقريباً قام المهندس الألماني "تسوزي" ولأول مرة في تاريخ تكنولوجيا الحاسبات الإلكترونية بصنع جهاز يتضمن برنامج مستمر لحساب الأرقام “Z 3”. وحتى بداية ستينات القرن العشرين تم وضع الأسس النظرية لنظام "الكيبيرنيتيكا". وبعدها فقط بدأ العلماء والمفكرون، بالتنبه ولأول مرة إلى النواحي الفلسفية للعلم الجديد "الكيبيرنيتيكا" وما يترتب عنها من نتائج أخلاقية واجتماعية على الإنسانية. وفي عام 1971 ظهر أول حاسب إلكتروني صغير الحجم، تبعه في عام 1974 ظهور أول حاسب آلي للاستخدام الشخصي في الأسواق التجارية.
وحتى عام 1960 بلغ عدد الحاسبات الإلكترونية المستخدمة في العالم حوالي السبعة آلاف جهاز. ولكن المنعطف التاريخي الكبير في استخدام الحاسبات الإلكترونية حدث في عام 1993 عندما تجاوز وللمرة الأولى حجم إنتاج الحاسبات الإلكترونية الشخصية، حجم إنتاج السيارات الخفيفة حيث بلغ 35,4 جهازاً. وبعد عام واحد ارتفع حجم الإنتاج بمعدل 27 % ووصل إلى 48 مليون جهازاً، وحتى عام 1995 ارتفع مرة أخرى بمعدل 25 % ووصل إلى 60 مليون جهازاً تقريباً. وأصبحت أجهزة الحاسب الإلكترونية الشخصية اليوم في بعض الدول كالولايات المتحدة الأمريكية تنتج وتباع أكثر من أجهزة الاستقبال التلفزيونية وهو ما يؤكد ظاهرة انتشار أجهزة الحاسبات الإلكترونية شعبياً في الدول المتطورة.
من الحاسب الإلكتروني الشخصي إلى شبكات الاتصال المفتوحة: ومع ارتفاع نسبة إنتاج وانتشار أجهزة الحاسبات الإلكترونية للاستخدام الشخصي، بدأ التفكير يتجه نحو الانتقال من المجتمع الصناعي إلى المجتمع المعلوماتي. وكانت أجهزة الحاسب الإلكتروني حينها تعمل بمعزل عن بعضها البعض، وتطلب الأمر التفكير في الوسائل التي تمكن تلك الأجهزة من العمل مع بعضها البعض في شبكة واحدة، لتحقيق عنصر التفاعل المعلوماتي بين المعلومات المخزونة في تلك الشبكة، ومن هنا انطلقت الحاجة إلى توحيد نظم تلك المعلومات لتحقيق مبدأ التفاعل الفعلي بين المعلومات المختزنة والقائمين بعملية الاتصال عن بعد، والحاجة إلى توظيف البنية التحتية للاتصالات المسموعة والمرئية التقليدية لخدمتها جنباً إلى جنب مع خطوات تطوير تلك البنى التحتية لتلبي متطلبات التكنولوجيا المتطورة. وبهذا تم الوصول لقاعدة مكنت المجتمع الإنساني من الانتقال النوعي من المجتمع الزراعي الصناعي المتطور إلى المجتمع المعلوماتي سمة عصر العولمة.
وحدث هذا التطور خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين حيث جرت تغييرات جوهرية في تكنولوجيا الحاسبات الإلكترونية، بدلت النظرة السائدة من استخدامها. بحيث أصبحت نظم الحاسبات الإلكترونية حتى عام 1994 مفتوحة على بعضها البعض، وأصبحت نظم إدارة المعلومات، ونظم معالجة النصوص، ونظم إدارة وتمرير المعلومات، وحتى تقنيات نقل الصور المتحركة، كلها تستخدم كوسيلة عادية داخل آليات العمل في المؤسسات الحكومية والشركات والمؤسسات العامة والخاصة، وكوسيلة من وسائل نظم الإدارة والتنسيق والسيطرة والتوجيه والمتابعة فيها. وما أن حل عام 1995، حتى تبدل الوضع من جديد وأصبحت نظم الحاسبات الإلكترونية المنفتحة على بعضها البعض تتغير بسرعة، وشملت مختلف دول العالم المتقدمة والنامية على حد سواء، ولكن بوتائر متفاوتة وبأشكال ومستويات مختلفة.
وأصبح الاتجاه العام للتطور يتجه نحو الدمج والتوحيد، وخاصة بعد أن تم الاعتراف دولياً بشبكة المعلومات الدولية "الانترنيت"، الآخذة بالتطور والتوسع السريع بمعدلات تتراوح ما بين الـ 10 و15 % في الشهر الواحد. وهذا النظام المتنامي يومياً يربط اليوم بين عشرات الملايين من المشتركين، المشاركين في عملية الاتصال عن بعد، والتبادل الإعلامي الدولي على الساحة الوطنية والإقليمية والدولية، من خلال أكثر من 9,5 مليون حاسب إلكتروني شخصي، وأكثر من 250 ألف محطة ارتباط WWW منتشرة في أنحاء متفرقة من العالم.
ورغم التفوق الذي تتمتع به شبكة "الانترنيت" العالمية التي خضعت عملياً للاختبار أكثر من مرة، إلا أننا نلاحظ رفضاً شبه إجماعي للتسليم بها، رغم المليارات الضخمة التي تم توظيفها من أجل تطوير الشبكات الوطنية للانفتاح عليها كشبكة عالمية، ولتوحيد مقاييس ونظم تداخل الشبكات الوطنية عبر شبكة "الانترنيت" العالمية. وبالنتيجة نرى أن تكنولوجيا وسائل التعامل مع المعلومات أصبحت خاضعة اليوم لعملية تطوير دائمة في اتجاهات متعددة، تدفعها في نفس الوقت نحو التخصص في معايير الأداء الوظيفية المحددة، التي هي في النهاية لابد وأن تتكامل من حيث الوظائف ومعايير الأداء على المستوى العالمي.
ومع ارتفاع حجم المعلومات المختزنة إلكترونيا خلال السنوات الأربعين الماضية إلى نحو 130 مرة، كان لابد من ظهور تكنولوجيا حديثة مناسبة للتعامل مع هذا الكم الهائل من المعلومات، يتميز بسهولة الاستعمال وصغر الحجم، وفعلاً ظهرت مكونات للحاسبات الإلكترونية لا يتعدى حجمها حجم ظفر الإنسان، بإمكانها تخزين معلومات تعادل مضمون 100 كتاب، كل منها يحتوي على 500 صفحة. وبعد أن كانت أجهزة الحاسبات الإلكترونية لعشر سنوات مضت بوزن يتجاوز السبعة كيلو غرامات، نرى أن أجهزة الحاسبات الإلكترونية الشخصية المحمولة الخارقة الإمكانيات والوظائف اليوم لا يتجاوز حجمها حجم دليل الهاتف. إلى جانب انتشار الحاسبات الإلكترونية متعددة الوظائف للاستعمال الشخصي بحجم لا يتجاوز حجم كف اليد.
كما ويتوقع الخبراء أن يظهر في القريب العاجل حاسب إلكتروني محمول باليد، يمكنه تزويد حامله بالمعلومات الضرورية عن آخر الأنباء، ونشرة الأحوال الجوية، والنشرة المالية، وحركة وسائل المواصلات البرية والبحرية والجوية، وأفضل السبل لتجنب الاختناقات على طرق السيارات في المدن الكبيرة، وتحديد الوقت وغيرها الكثير، الكثير من المعلومات التي يحتاجها الإنسان في حياته اليومية المعاصرة.
التقنيات الرقمية بديلة للتقنيات التقليدية في المجتمع المعلوماتي: وعندما نتحدث عن تطور تكنولوجيا الحاسبات الإلكترونية التي تعتبر محرك الثورة المعلوماتية المعاصرة، لابد لنا من التعرض للدور الذي لعبته التقنيات الرقمية المتطورة في عملية تطوير وسائل الإعلام الجماهيرية والاتصال عن بعد التقليدية في ظروف المجتمع المعلوماتي. وهنا لابد من أن نأخذ بعين الاعتبار عدة حقائق تحدد ملامح انتقال وسائل الإعلام الجماهيرية والاتصال عن بعد، من التقنيات التقليدية إلى استخدام التقنيات الرقمية الحديثة، ومن أهمها: أن الصحف أخذت تدريجياً بتجميع وإخراج صفحاتها على الحاسبات الإلكترونية (التنضيد الضوئي)، وأصبحت النسخة الإلكترونية الجاهزة تنقل إلى أي مكان من العالم عبر شبكة الانترنيت العالمية، ليتم طبعها في أماكن عدة متفرقة من العالم في آن معاً؛ وأصبحت برامج الإذاعتين المسموعة والمرئية تنقل عبر ترددات إذاعية رقمية تزيد من إمكانيات انتشارها ووصولها للمستهدف من عملية الاتصال عن بعد بصفاء ووضوح تام. وهي البرامج نفسها التي يمكن سماعها ومشاهدتها عبر أجهزة الحاسبات الإلكترونية الشخصية، الموصولة بشبكة المعلومات الدولية "الانترنيت".
مما جعل من تلك العملية سهلة جداً وميسرة، تؤمن تواصل كل وسائل الإعلام الجماهيرية التقليدية مع بعضها البعض وفي نفس الوقت مع الساحة الإعلامية الواسعة جداً، مما يوحي بتوحيد خدمات وسائل الإعلام الجماهيرية والاتصال عن بعد التقليدية، واتصالها واندماجها مع بعضها البعض، ليس عير شاشات الحاسب الآلي الشخصي وحسب، بل وعبر شاشات التلفزيون التقليدية بعد إضافة مستقبل إلكتروني (set-top-box) على جهاز الاستقبال التلفزيوني المنزلي، الذي يقوم بتحويله إلى ما يشبه الحاسب الإلكتروني الشخصي الذي يمكن من خلاله متابعة البرامج التلفزيونية، وقراءة الصحف، وسماع البرامج الإذاعية، ومتابعة صفحات شبكة المعلومات الدولية "الانترنيت".
وأصبح الدمج هذا ممكناً من خلال تقنيات الدمج المتوفرة حالياً بين تقنيات الحاسب الإلكتروني الشخصي، وأجهزة الاستقبال التلفزيونية، أو على قاعدة جهاز الاستقبال التلفزيوني فقط، بعد توصيله عن طريق جهاز خاص بشبكة المعلومات الدولية "الانترنيت"، أو عن طريق الحاسب الإلكتروني الشخصي الذي تتحول شاشته إلى ما يشبه جهاز الاستقبال التلفزيوني. وكل ذلك تحقق بفضل تقنيات الدمج بين تكنولوجيا الحاسب الإلكتروني الشخصي وتكنولوجيا أجهزة الاستقبال التلفزيونية الآخذة بالتطور يوماً بعد يوم، وهو ما فتح آفاقاً جديدة لانتشار وسائل الإعلام الجماهيرية التقليدية بشكل واسع عبر شبكة الانترنيت العالمية.
شبكة الانترنيت ووظائف وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية في المجتمع المعلوماتي: والمجتمع المعلوماتي كما هو معروف هو مجتمع المعرفة “Knowledge Society” ولفهم دور شبكات المعلومات الدولية في تلك المجتمعات التي تلعب فيها وسائل الإعلام الجماهيرية التقليدية حسب ظروفها الذاتية، الدور الهام لاجتياز الحاجز النفسي الذي يعيق من فهم المجتمع المحلي لدور شبكات المعلومات الدولية ومن بينها شبكة "الانترنيت" في الوسط الإعلامي للمجتمع المعلوماتي الجديد، الذي يبشر بالانفتاح على المعارف وخبرات ومنجزات الحضارة الإنسانية، ويفسح المجال واسعاً للوصول لأوسع المعلومات المتوفرة في شبكات المعلومات الدولية.
لابد من التوقف عند مشكلة الارتفاع المفاجئ لمستوى الخدمات الإعلامية المتوفرة في المجتمع المعلوماتي، ومدى تطور إمكانية وصول الفرد في ذلك المجتمع إلى مختلف المعلومات والمعارف الجديدة عبر وسائل الإعلام الجماهيرية والاتصال عن بعد التقليدية، ومدى محافظة تلك الوسائل التقليدية على وظائفها التقليدية كالسبق الصحفي، وجمع وحفظ وإعداد ونشر وتوثيق المعلومات، ومنها انتقال المعلومات عن آخر الأحداث التي هي دائماً في مقدمة اهتمامات ووظائف صحافة الحدث، بعد دخول المنافس الجديد للساحة الإعلامية الذي يوفر المعلومات التي يحتاجها الفرد من خلال شبكات المعلومات الدولية، التي أصبحت بدورها تمثل اليوم المؤثر الخارجي الأكثر فعالية وتأثيراً في الساحة المعلوماتية، بعد أن أصبح لها شأناً كبيراً في تحديد مستوى الوعي الفردي والاجتماعي من خلال احتكاك الفرد بمضمون تلك الشبكات.
وفي اللغة الإنكليزية هناك مفهومين اثنين للمجتمع المقصود، الأول (information society) أي "المجتمع المعلوماتي"، والثاني (informational society)، "إعلام المجتمع" أي المجتمع الذي تعتبر فيه المعلومات وسيلة للتواصل والحوار والاتصال، الذي يؤثر في صلب المجتمع، ولهذا فضلنا أن نختار له المفهوم الأول أي "المجتمع المعلوماتي".
ويعتقد البعض أن الوصول للمعلومات الموثقة لا يمكن دون وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية التقليدية، التي لابد وأن تبقى الوسيلة الرئيسة والأهم لإعلام الرأي العام والإسهام في تطويره، وخاصة منها الوسائل المطبوعة، لسهولة الرجوع إليها من خلال ما تسجله على صفحاتها من معلومات يمكن أن تحفظ وتنتشر أكثر داخل الساحة الإعلامية إن كان بطرق التوزيع التقليدية، أو من خلال أجهزة الحاسب الآلي الشخصية المتصلة بشبكات المعلومات والاتصال المحلية والإقليمية والدولية داخل المجتمع الواحد.
والسبب هو الكلفة الزهيدة التي تدفع لقاء الحصول على الصحف والمجلات والكتب الشعبية والاستفادة منها، لأن ما يدفع ثمناً لها بالمقارنة مع تكاليف استخدام شبكات المعلومات الإلكترونية الحديثة، للحصول على نفس مواد تلك الصحف، والمجلات، والكتب الشعبية ولقاء سماع البرامج الإذاعية المسموعة والمرئية هو زهيد جداً. ولأن تكاليف سماع ومشاهدة البرامج الإذاعية المسموعة والمرئية بالطرق التقليدية خارج شبكة الانترنيت لا تكلفنا سوى قيمة استهلاك أجهزة الاستقبال الإذاعية والتلفزيونية، وقيمة الطاقة الكهربائية المستهلكة، وهذا بحد ذاته يعتبر من الحقائق الهامة التي تؤكد حتمية التطور اللاحق لوسائل الإعلام الجماهيرية والاتصال عن بعد التقليدية بأشكالها المقروءة والمسموعة والمرئية.
إلا أن استخدام شبكات المعلومات الإلكترونية يصبح في نفس الوقت وبالتدريج حاجة ملحة بعد انتشارها وتعدد استخداماتها وقنواتها داخل المجتمعات الحديثة. لأن تلك الشبكات تصبح الناقل لصفحات الصحف والمجلات قبل وصولها للمشتركين عبر شبكات التوزيع التقليدية بزمن كبير، هذا إن لم نتحدث عن جودة وصفاء الصوت والصورة للبرامج الإذاعية والتلفزيونية المنقولة من أماكن بعيدة جداً عبر شبكات المعلومات الدولية. والعائق الوحيد يبقى في الحاجز اللغوي الذي يحاول البعض تجاوزه عن طريق نشر اللغة الإنجليزية، كلغة للحوار الثقافي والتبادل الإعلامي والاقتصادي الدولي، والبعض الآخر عن طريق حل المشاكل التقنية لتستقبل وترسل أجهزة الحاسبات الإلكترونية أينما وجدت مختلف لغات شعوب العالم الراغبة بالحوار والتواصل الإعلامي، ومن بينها بعض اللغات الأوروبية واسعة الانتشار كالفرنسية والإسبانية والروسية، واللغات الآسيوية والإفريقية كالعربية والتركية وغيرها من لغات العالم المعاصر.
ومع ذلك نلاحظ في بعض الدول كالنرويج والسويد وفنلندا وحتى داخل الولايات المتحدة الأمريكية نفسها المتقدمة جداً في هذا المجال، أن استخدام شبكات المعلومات الإلكترونية لم يؤثر سلباً على أعداد المشتركين في الصحافة الدورية، بل على العكس ظهر أن عددهم كان أعلى بكثير من عدد المشتركين بشبكة الانترنيت الدولية. وهو ما يؤكد أن دور وسائل الإعلام الجماهيرية والاتصال عن بعد التقليدية وخاصة الصحافة المطبوعة في المجتمعات المتطورة سيبقى مهماً حتى في المجتمع المعلوماتي، الذي سيضيف أشكالاً متنوعة وجديدة وأكثر فاعلية وواقعية للخدمات الإعلامية المباشرة في ظروف الانفلات والانفتاح الإعلامي. وهو ما يمكن اعتباره عنصراً هاماً من عناصر تطوير النظام التقليدي لوسائل الإعلام الجماهيرية والاتصال عن بعد، وخاصة وظيفة نقل المعلومات عبر العالم بحرية ودون عوائق أو قيود، تلك التي يتفق الجميع على أنها من خصائص المجتمع المعلوماتي.
خصائص المجتمع المعلوماتي: وقد تباينت وجهات النظر حول خصائص "المجتمع المعلوماتي"، ولهذا سنحاول هنا التقريب بين وجهات النظر تلك لنجملها بالخصائص التالية وهي أن المجتمع المعلوماتي هو: مجتمع من شكل جديد، تشكل في الدول المتقدمة نتيجة للعولمة والثورات العلمية والمعلوماتية والتقنية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والعسكرية، التي نتجت عن التطور الهائل لتكنولوجيا وتقنيات وسائل الإعلام الجماهيرية والاتصال عن بعد؛ ومجتمع المعرفة، الذي يتحقق فيه لكل إنسان وفي أية دولة من العالم الرفاهية والتقدم والنجاح عن طريق الوصول الحر للمعلومات التي يحتاجها دون أية حواجز أو معيقات. وكل ما يحتاجه الإنسان هنا هو إتقان مهارات استخدام وسائط ووسائل الاتصال عن بعد، عبر شبكات المعلومات الوطنية والإقليمية والدولية والتعامل مع المعلومات التي تتيحها له تلك الشبكات؛ ومجتمع العولمة الإعلامية، الذي لا يوجد فيه ما يعيق تبادل المعلومات، من وقت ومساحة، وحدود سياسية أو موانع جغرافية؛ وهو المجتمع الذي تتحول فيه المعلومات تدريجياً إلى وسيلة من وسائل التكامل المتبادل للحضارات والثقافات المختلفة، ولا يعيق من جانب آخر خلق الإمكانيات الجديدة للتطور الذاتي لكل مجتمع.
وبذلك يتحول المجتمع المعلوماتي حسب رأي البعض بالتدريج إلى "مجتمع الحكمة"، من خلال القدرة على التعامل العلمي والواعي والمدرك لأبعاد الكم الهائل من المعطيات والمعلومات المتوفرة في شبكات المعلومات المحلية والإقليمية والدولية، والقدرة على تحليل ذلك الكم الهائل انطلاقا من أسس علمية سليمة تمهيداً لأخذ شيء منه عند اتخاذ أي قرار هادف لتحسين ظروف ومستوى الحياة بشكل عام. وبذلك تصبح الحكمة أساساً لاتخاذ القرارات المبنية على المعطيات والمعلومات التي تساعد على النهوض بالمجتمع نحو الأفضل، المجتمع المنفتح على المجتمعات الأخرى، المجتمع الذي يأخذ في اعتباره مصالح وأمن الدول والمجتمعات وإمكانياتها الذاتية، ويشجع على مشاركة كل أعضاء المجتمع الدولي في النشاطات الفكرية والإنتاجية التي تأخذ في اعتبارها الجوانب الثقافية والاجتماعية للحياة التي هي ليست أقل أهمية من الجوانب المادية والاقتصادية.
بينما يرى العلماء الألمان أن المجتمع المعلوماتي، هو المجتمع الذي تتحكم فيه في نهاية المطاف الطرق التي يتم من خلالها الحصول على المعلومات، وطرق التعامل معها وحفظها ونقلها وتداولها ونشرها، وكذلك استخدام المعارف المستمدة من خلال الكم الهائل للمعلومات المختزنة في شبكات المعلومات، والتي لابد وأن تتيح إمكانية توفير فرص الاعتماد المتبادل بين الدول في التعامل مع المعلومات، وهو ما يحتاج بدوره إلى تطوير التكنولوجيا اللازمة ورفع إمكانياتها بشكل مستمر.
ونعتقد أنه في المستقبل لابد وأن تبرز وتأخذ بالتشكل أشكال أخرى جديدة للمجتمع المعلوماتي، كما كانت الحال في السابق عندما تعددت نماذج وأشكال نظم الإدارة والحكم، ونماذج وأشكال المجتمع الصناعي، ونماذج وأشكال النظم الاقتصادية وهكذا. ولكن مع ذلك تبقى الملامح الرئيسية للمجتمع مع تبلور ملامح المجتمع المعلوماتي معتمدة على مستوى توفير المساواة في الحقوق والواجبات لجميع المواطنين في الوصول إلى الموارد المعلوماتية الرئيسية؛ ومستوى مساهمة كل فرد في حياة المجتمع الذي هو عضو فيه، وتحقيق الذات الفردية لكل من يعاني من نقص في إمكانياته وقدراته الجسدية.
ومن الخصائص الهامة للمجتمع المعلوماتي أيضاً، التركيز على الإنتاج الفكري والمادي، اعتماداً على قطاع الخدمات المعلوماتية الذي لابد وأن توفر خدماته وتخفض من الهدر في الجهد والوقت، وفي استخراج واستثمار وتصنيع المواد الخام، وتقلل من النفقات واستهلاك الطاقة وغيرها. ومع تطور الخدمات المعلوماتية في المجتمعات لابد وأن تحدث تغييرات جوهرية من حيث تكثيف الاعتماد على النواحي العلمية وتركيزها.
وهو ما نلمسه من خلال إلقاء نظرة سريعة لما يجري في هذا المجال في الدول الأوروبية الآخذة في الانتقال الحثيث نحو المجتمع المعلوماتي الآخذ بالتطور بشكل تدريجي، حيث نلاحظ أن أكثر من نصف (55 %) الموارد في الصناعة المعلوماتية خصصت لتشكيل الموارد المعلوماتية، بينما خصصت (45 %) فقط لإنتاج تكنولوجيا المعلومات والاتصال؛ بينما بقيت الهوة في ازدياد واتساع في صناعة وسائل الاتصال التي خصص (80 %) منها لقطاع خدمات الاتصالات التلفزيونية، و(20 %) فقط خصصت لإنتاج وسائل الاتصال عن بعد.
وكما هو معروف فإن كل خصائص المجتمع المعلوماتي مرتبطة إلى حد ما بطبيعة "العولمة" الآخذة بالتشكل والاتساع التدريجي لتشمل العالم بأسره، من خلال إصرارها على إزالة الحدود السياسية والحواجز بين الدول والمجتمعات، لتبدل جذرياً من تركيبة الاقتصاد العالمي الذي أخذ بالتحول التدريجي إلى اقتصاد السوق المفتوحة. مما فرض بإلحاح قضايا جديدة منها الحاجة لتحقيق الذات القومية التي تتطلب من الجميع مراعاة أمن ومصالح كل دولة من الدول مهما بلغ حجمها وثقلها الدولي في ظروف العولمة، وفي نفس الوقت إيلاء أهمية خاصة لتطور البنى التحتية الإعلامية الوطنية والقومية، لتأمين دخولها الفاعل والمتساوي إلى الساحة المعلوماتية الدولية.
متطلبات المجتمع المعلوماتي: خاصة بعد أن جاء التقدم التقني والتكنولوجي لوسائل الإعلام الجماهيرية والاتصال والاستشعار عن بعد بأنواع جديدة تماماً من التقنيات المعلوماتية لم تكن معروفة من قبل في العالم المتقدم والنامي معاً، دمجت بين النص المكتوب، والصوت، والصورة الثابتة والمتحركة، وبدورها أوجدت أشكالاً جديدة من الخدمات الإعلامية والمعلوماتية، تطلبت كلها ابتكار وسائل جديدة لنقل المعطيات والمعلومات، تعمل كلها بشكل متبادل يكمل بعضه بعضاً، وأدت بدورها أيضاً لظهور نزعة يساندها البعض لتوحيد تلك التقنيات في وحدة متكاملة. وهذا إن تم مع تطور تقنيات وتكنولوجيا وسائل الإعلام والاتصال التقليدية، فلابد من أن يجر من وراءه تحولات جذرية ونوعية عميقة في كل مجالات حياة الأفراد والمؤسسات والمجتمعات والدول.
وكل ذلك يعتبر من الملامح المميزة للمجتمع المعلوماتي، التي تتضمن حرية انتقال ووصول المعلومات والتعامل معها ونشرها دون أية عوائق. وهذا بحد ذاته يدعوا دول العالم كلها إلى ترشيد النظم الديمقراطية والشفافية داخل مجتمعاتها، بما يؤدي إلى رفع مستوى النشاطات الاجتماعية والإنتاجية، وإلى تطور المنافسة الشريفة بما يضمن حقوق الجميع، وخاصة حقوق المستهلك في ظل اقتصاد السوق المفتوحة التي تدعوا وتصر عليها العولمة الاقتصادية. ورغم التشكيك في قدرات العولمة من قبل خصومها ومؤيديها على السواء، يرى البعض أنها يمكن أن تحد من خطر انفراد الطبقات الحاكمة بالسيطرة على الاقتصاد الوطني دون غيرها، وتفرد الاحتكارات الدولية في السيطرة على الاقتصاد العالمي بشكل عام. وتعتقد بأن العولمة قد يمكنها إيقاف تفشي البيروقراطية والأشكال الاحتكارية غير الفاعلة، وتحد من الانعزال الاقتصادي والفساد المستشري في بعض الدول.
لأن توفير المعلومات الكاملة ووضعها في متناول الجميع، والاعتماد عليها عند إجراء الدراسات التحليلية والعلمية لابد وأن يساعد على اتخاذ قرارات صحيحة وموزونة عند وضع السياسات التنموية الاقتصادية والاجتماعية والعلمية، ولتوجيه النشاطات الإنتاجية نحو رفعة وتقدم ورفاهية كل أمة وشعب في العالم المعاصر. ومن هذه النظرة التفاؤلية نرى أن المجتمع المعلوماتي قد يحمل في طياته إمكانيات كبيرة تتيح فرصة ترشيد بناء الدولة القومية والمجتمع القومي، وتتيح الظروف المثلى لاستخدام الموارد والمقدرات المحلية، وتوظيفها عملياً في خدمة كل ما يساعد على رفع فاعلية ووتائر الإنتاج. وهذا على ما نعتقد لا يمكن أن يتم دون تطوير البنى التحتية للخدمات العامة، وتطوير التعليم الوظيفي بما يتلاءم واحتياجات المجتمع المعلوماتي الآخذ بالانتشار، ومن أجل الوصول بالاقتصاد إلى مرحلة الاستثمار الأمثل للموارد الطبيعية، وحماية البيئة والمحافظة عليها سليمة معافاة للأجيال القادمة. والانتقال عبر مراحل التطور المتعاقبة بشكل سليم يضمن حماية الأمن القومي والمصالح الوطنية العليا لكل دولة من دول العالم مع مراعاة المصالح الحيوية للدول الأخرى.
فاستخدام وسائل الاتصال عن بعد، ونقل وتخزين واسترجاع المعلومات الإلكترونية المتطورة بشكل واسع، يفرض على جميع الدول ضرورة إعادة النظر الفورية وبشكل جذري بنظم التعليم التقليدية القائمة، وخاصة في الدول النامية والأقل حظاً من غيرها في عصر العولمة الإعلامية ومن بينها طبعاً الدول العربية. لأن تلك الدول تعتبر من أكبر المجتمعات التي يستفاد فيها من فرص التعلم عن بعد أو ما يعرف بنظام التعليم الحر، أو عبر البرامج التعليمية التي تنشرها وتبثها وسائل الإعلام والاتصال التقليدية، أو التي أصبحت تنقل عبر شبكات المعلوماتية الإلكترونية المتطورة، وكلها تصب في إطار برامج التعلم المستمر مدى الحياة الذي أخذت الحاجة إليه تزداد في ظروف العولمة أكثر من أي وقت مضى.
وتتطلب برامج التعلم المستمر، وخاصة منها تلك التي تتم عن بعد، مهارات فردية أكثر من ذي قبل للتعامل مع السيل الهائل من المعلومات التي توفرها العولمة الإعلامية، ومن أجل تحقيق مبدأ رفع الكفاءة الذاتية تجنباً لاتساع هوة التخلف التي تهدد المجتمعات النامية في القرن الحادي والعشرين، ولا بد من تحسين إعداد الفرد المتخصص، وتحسين برامج تدريبه المستمرة، بالشكل الذي يتيح للشركات والمؤسسات العامة والخاصة آفاقاً وفرصاً جديدة تساعدها في إدارة شؤون العاملين فيها، وتدريبهم المستمر الذي يضمن رفع مستوى أدائهم، والطاقة الإنتاجية، بشكل عام. وهذا يتطلب قبل كل شيء أن يدرك العاملين أنفسهم بأن الكفاءة الفردية وحسن الأداء الوظيفي هو الطريق الأمثل نحو المستقبل الواعد الأكثر نجاحاً، المستقبل الذي تحدده وتتحكم به دوافع وفرص العمل وحدها.
ومن الإمكانيات الأخرى التي يوفرها المجتمع المعلوماتي، إمكانية تحسين نظم الوقاية الصحية عن طريق نشر معلومات الوقاية الصحية عبر وسائل وشبكات الاتصال عن بعد الإلكترونية، وإتاحة الفرصة أمام مؤسسات الوقاية الصحية لاستخدام شبكات الحاسبات الإلكترونية لتبادل المعلومات الطبية والوقائية والصيدلانية بشكل مشترك، والتوسع باستخدام الدارات التلفزيونية المغلقة، وهي التي تتحول تلقائياً إلى دارات تلفزيونية مفتوحة عبر شبكات الاتصال عن بعد الإلكترونية، بما يتيح أمام المؤسسات الطبية في العالم فرصة تبادل المعلومات والمشاركة بالخبرات الطبية بشكل عاجل عند الضرورة. وهي الظروف نفسها التي يمكن أن تنطبق أيضاً على تبادل المعلومات الأخرى في المجالات العلمية والثقافية والتعليمية والتربوية .. وغيرها.
والمجتمع المعلوماتي يعتبر الوسط الملائم لتطور الطبقة المتوسطة من المجتمع، وهي الطبقة الاجتماعية الأساسية في معظم دول العالم، وهي الطبقة نفسها التي تمثل الشريحة المثقفة من المجتمع في جميع الدول المتقدمة والأقل تقدماً والنامية في العالم على حد سواء. ومن المعروف أن هذه الشريحة تشغل كل الوظائف التقليدية في المجتمع، من تعليم، وصحة، وبناء، وصناعة، وزراعة، ومواصلات، وخدمات، وإعلام .. وغيرها.
والأكثر أهمية هنا أن هذه الشريحة تتضمن الفئة المنتجة في مجالات التأليف والبحث العلمي سواء في التعليم أم في العلوم والثقافة أم في الإنتاج والتكنولوجيا. ومنه نستطيع أن نستنتج مدى مصلحة هذه الشريحة الاجتماعية من وجود المجتمع المعلوماتي الذي يتم فيه تبادل المعلومات دون حواجز أو عوائق. وكذلك مدى استعداد هذه الشريحة الدائم لخلق الظروف المواتية لتشكيل وتطوير المجتمع المعلوماتي الذي يخدم ويحمي مصالحها، ضمن ظروف دولية تسعى فيها كل الدول المتقدمة لاحتلال موقع القيادة دون غيرها في تشكيل والسيطرة على الموارد المعلوماتية للمجتمع المعلوماتي الآخذ بالانتشار. وهو الاتجاه الذي يحتاج لدراسة علمية وتحليلية عميقة ومتأنية أكثر من غيره من اتجاهات المجتمع المعلوماتي في الدول النامية، لأنه يتشابك مع الأمن الإعلامي الوطني، والمصالح الوطنية لكل دول العالم.
المجتمع المعلوماتي ووسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية في الدولة القومية: يتحدث الكثيرون اليوم عن اضمحلال الدولة القومية في ظروف العولمة والانتقال التدريجي نحو المجتمع المعلوماتي. بينما يختلف معهم البعض الآخر الذي يؤكد أن المعلوماتية تأتي في إطار الدول والثقافات القومية، لأن المجتمع المعلوماتي أساساً يحمل في طياته عناصر ثقافية قومية عابرة للقوميات، تتخطى الحدود القومية عبر النشاطات العالمية للمؤسسات الثقافية والدينية والمالية والاقتصادية والسياسية والعسكرية الدولية، وعبر الاتحادات والشركات متعددة الجنسيات. ومن الأمثلة الواقعية للتطور الناجح للمجتمع المعلوماتي في إطار الدولة القومية نلاحظ فنلندا، والسويد، والدانمرك وغيرها من الدول الاسكندينافية التي تملك كل منها نظاماً متزناً خاصاً بها لوسائل الإعلام الجماهيرية والاتصال عن بعد الوطنية كاف لحماية خصائصها القومية الخاصة بها عند التواصل الثقافي والحضاري مع الغير في إطار العولمة والمجتمع المعلوماتي.
أما فيما يتعلق بشبكات الاتصال العابرة للقوميات، فإن تلك الدول تشجع قيام جماعات محلية تمثل مختلف الشرائح الاجتماعية، ومن بينها طبعاً النخبة المثقفة ورجال الإعلام، للحوار ومخاطبة مثيلاتها من النخب المثقفة ورجالات الإعلام في الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وروسيا، واليابان والصين وغيرها من دول العالم، بغض النظر عن المسائل القومية الخاصة بتلك الدول.
ويؤدي هذا الحوار وبشكل عفوي إلى ظهور اتحادات إعلامية عابرة للقوميات بين المتحاورين، تتطور تلقائياً وتتعزز نشاطاتها مع اتساع رقعة حوارها عبر الدول والثقافات القومية. ومن هنا يرى البعض أن حوار كهذا في بعض الأحيان قد يكون صعباً بسبب التناقضات العميقة والمشاكل صعبة الحل بين بعض الجماعات الدينية والقومية المتشددة، وهو ما يوحي بأن العولمة ليست حلاً للمشاكل الثقافية والمواقف القومية المستعصية، بل هي أسلوباً متقدماً للحوار الذي قد يساعد مع مرور الوقت ودوام الحوار الإيجابي على إزالة العقبات من طريق التفاهم بين تلك الجماعات، وبالتالي المساهمة في إزالة مشاكل التطور القومي عن طريق الحوار الواعي والبناء في إطار المجتمع المعلوماتي المنفتح عالمياً، ولوسائل الإعلام الجماهيرية والاتصال عن بعد طبعاً دوراً هاماً يجب أن تلعبه فيه.
شبكة الانترنيت العالمية والمجال الإعلامي للدول النامية: ولكن من المعروف أن أوضاع وسائل الإعلام الجماهيرية والاتصال عن بعد التقليدية في الدول النامية اليوم في وضع لا تحسد عليه، وحتى في بعض الدول الأقل تطوراً من الدول المتقدمة، ولا نبالغ إن قلنا أن من بين تلك الدول دولة عظمى هي روسيا ومعظم الدول التي حصلت على استقلالها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق والمعسكر الشرقي الذي كان يقوده.
فعدد نسخ الصحف الصادرة في تلك الدول أصبح منخفضاً جداً، ويرافقه انخفاض مستمر في عدد قراء الصحف، بسبب ارتفاع أسعار الصحف اليومية والإصدارات الدورية الأخرى بالمقارنة مع الدخل الفردي للمواطن في تلك الدول. وبذلك تبقى الخدمات الإعلامية المقدمة للمواطنين في تلك الدول حكراً على الإذاعتين المسموعة والمرئية دون غيرها من وسائل الإعلام الجماهيرية والاتصال عن بعد التقليدية الأخرى، وهو الأمر الذي تنبهت إليه بعض القوى العالمية النافذة وقامت باستغلاله إلى أبعد الحدود، عندما عملت منذ اللحظات الأولى لانهيار الاتحاد السوفييتي السابق على التغلغل إلى الساحة الإعلامية المقروءة والمسموعة والمرئية في تلك الدول أولاً، ومن ثم السيطرة مالياً وإدارياً عليها وتوجيهها بالتالي، وفقاً لمصالحها كقوة ضاغطة على أصحاب القرار السياسي كما نرى اليوم في تلك الدول، من خلال تشكيلها لرأي عام موال لها عبر السيل الهائل من المعلومات أحادية الجانب المتدفقة عبر تلك القنوات الإعلامية المسجلة في الدول المعنية كقنوات وطنية، تتفق ومصالح وتوجهات تلك القوى العالمية المهيمنة معرضة أمن واستقرار تلك الدول ومصالحها الوطنية العليا لأخطار شديدة لا تحمد عقباها.
ويمكننا هنا أيضاً إضافة احتكار استخدام تكنولوجيا المعلومات وشبكات الاتصال عن بعد الحديثة ومنها شبكة الانترنيت العالمية من قبل فئة ميسورة محدودة جداً من القادرين على الإنفاق على مثل تلك الوسائل والتقنيات المتطورة باهظة التكاليف مقارنة بمعدل دخل الفرد المتوسط، وضمن تلك الفئة المحدودة تأتي دور النشر وإدارات وسائل الإعلام الجماهيرية الوطنية التقليدية المطبوعة والمسموعة والمرئية غير القادرة على تحمل تلك النفقات الباهظة بالنسبة لها، وهي الوسائل التقليدية التي ستبقى على المدى المنظور المصدر الأكثر منالاً للمعلومات، للأكثرية المطلقة من شرائح الساحة الإعلامية في تلك الدول، ومصدراً شبه مجاني للدول المتقدمة عبر نوافذ تلك الوسائل التقليدية في شبكة الانترنيت، رغم أن تلك الوسائل الإعلامية لم تلعب كما هو ملاحظ الدور المنتظر منها في مجتمعاتها بشكل كامل منذ إنشائها وحتى الآن، حسب تعبير البروفيسور ياسن زاسورسكي، عميد كلية الصحافة بجامعة موسكو.
ويأتي في صلب المشكلة أن المجتمع المعلوماتي آخذ بالتطور والتوسع والثبات في دول العالم المتقدم، والتأخر عنه يزيد من هوة التخلف عن الركب الحضاري الإنساني سريع التطور، إن لم تتخذ حكومات تلك الدول المتأخرة عنه إجراءات عاجلة تؤدي إلى تحقيق نقلة نوعية في البنى التحتية لوسائل الإعلام الجماهيرية والاتصال عن بعد التقليدية فيها. عن طريق إقامة البنى التحتية الأساسية الحديثة لتكنولوجيا المعلومات والاتصال عن بعد، وإعداد الأجيال الناشئة وتمكينها من استخدام تقنيات وتكنولوجيا الاتصال والمعلومات الحديثة التي تكفل دخولها المتكافئ إلى المجتمع المعلوماتي الدولي الذي تفرضه العولمة وتجعله حتمياً لا مفر منه. الأمر الذي يدفعنا للتساؤل عن مستقبل وسائل الإعلام الجماهيرية والاتصال عن بعد في الدول الأقل حظاً في ظل العولمة ؟
والجواب على هذا التساؤل يكمن في أن تكنولوجيا المعلومات والاتصال عن بعد الحديثة نفسها التي فتحت آفاقاً جديدة تماماً للحصول على المعلومات، وهو ما غير بشكل جذري من صورة اللوحة الاتصالية التقليدية، وفتح آفاقاً جديدة أمام عملية إيصال ونشر المعلومات. وظهرت قنوات وسبل جديدة، وتشكلت قنوات جديدة عديدة للحصول على المعلومات. وباتت الوسائل التقليدية كالصحف، والإذاعتين المسموعة والمرئية، وسيلة اتصال تقليدية بين وسائل غير تقليدية تمثلها شبكات المعلومات الدولية ومنها شبكة "الانترنيت" وبنوك المعلومات المرتبطة بها. إضافة لتشكل حالة متطورة أحدثت ثورة في عالم المعلوماتية تمكن معها الفرد من الحصول على المعلومات حتى غير الجماهيرية منها، وتبادلها مع الآخرين بصورة فورية ودون أية عوائق تذكر. وهو الأمر الذي دفع بالبعض للتنبؤ بانحسار دور وسائل الإعلام الجماهيرية التقليدية، ولو جزئياً، مع التركيز التدريجي على استخدام وسائل نقل المعلومات الحديثة.
وهو الوضع الذي طرح للنقاش وبحدة موضوع مستقبل وسائل الإعلام الجماهيرية التقليدية وإمكانية احتفاظها بوجودها ودورها في المجتمع المعلوماتي القادم. والطريقة التي يمكن أن تكيف تلك الوسائل نفسها في الظروف الجديدة الناشئة عن الانتقال من تقديم الخدمات الإعلامية للمجتمع إلى مجتمع معلوماتي منفتح عالمياً.
ولكننا نعتقد هنا أنه من الضروري النظر إلى المشكلة مثار النقاش من الناحية الموضوعية واقعياً، ومن خلال التركيز على بعض الخصائص الهامة التي يتميز بها دور وسائل الإعلام الجماهيرية التقليدية من خلال وظيفتها الاجتماعية التي لا بد وأن تستمر حتى بعد الانتقال إلى المجتمع المعلوماتي. فلوسائل الإعلام الجماهيرية التقليدية دور بارز وهام في مختلف المجتمعات، لأنها تقدم الخبر والتحليل عن الأحداث المحلية والدولية، والنشاطات الرسمية، ونشاطات المجتمع بكل منظماته وهاءاته وتشكيلاته المختلفة، وتسلط الضوء على ما يدور من أحداث ونجاحات وإخفاقات على جميع الأصعدة الاقتصادية والسياسية والعسكرية والاجتماعية وغيرها، إضافة للأحداث الجارية على الساحة العالمية.
وهذا الدور لوسائل الإعلام الجماهيرية التقليدية ليس بجديد، لأن الوظيفة تلك أخذت بالتبلور منذ الإجراءات الدستورية والتشريعية التي ضمنت حقوق الإنسان وحرية الكلمة في فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من دول العالم المتقدم منذ عدة قرون. ورافقت تلك الإجراءات الديمقراطية عملية ظهور الصحافة المقروءة في تلك الدول وساعدت تلك الإجراءات بشكل عام على تطور وسائل الإعلام والاتصال عن بعد الجماهيرية التقليدية تباعاً.
والمجتمع المعلوماتي المنفتح عالمياً، هو مجتمع يتناقض مع المجتمع الشمولي الذي يقيد المجتمع بشدة، ويقيد حرية الكلمة ووسائل الإعلام الجماهيرية والاتصال عن بعد. ويؤمن الانفتاح الإعلامي، ويتيح الوصول إلى مختلف المعلومات بشتى السبل، بما فيها حرية الوصول إلى المعلومات الرسمية وشبه الرسمية المفتوحة. لتصبح عملية الحصول على المعلومات وعملية التبادل الإعلامي في المجتمع المعلوماتي أداة تخدم المجتمع، وحقيقة ملموسة تخدم تقدم المجتمع ومنعته لو أحسن استخدامها.
ومع ذلك فإننا نرى فعلاً أن ظهور شبكات المعلومات الإلكترونية الدولية وخاصة شبكة "الانترنيت" وما رافقها من تشييد وانتشار بنى تحتية للمعلومات الإلكترونية عبر العالم، رافقه انخفاض ملحوظ لدور وسائل الإعلام الجماهيرية التقليدية. وأوضاعاً تهدد فعلاً بانقسام المجتمع إلى مجموعة كبيرة تحصل عل المعلومات من خلال الصحافة المطبوعة رخيصة الثمن، والإذاعتين المسموعة والمرئية المسيطر عليها بشكل أو بآخر. ومجموعة محدودة جداً في المجتمع تحصل على المعلومات من شبكات المعلومات والاتصال الإلكترونية الحديثة وقنوات المؤسسات الإعلامية الضخمة عبر شبكة "الانترنيت" باهظة التكاليف في الدول النامية والفقيرة.
مما جعل الكثير من الباحثين يرون في ذلك خطراً يهدد الديمقراطية في العلاقات الدولية ومن بينهم بروفيسور جامعة واشنطن في الولايات المتحدة الأمريكية شاليني فينتوريللي الذي أشار إلى تشعب وانقسام المجتمع في الكثير بالمقارنة مع الأوضاع التي سبقت ظهور المجتمع المعلوماتي.
وفي الحقيقة فإن تطور المجتمع المعلوماتي يأتي معه بأخطار اجتماعية جديدة غير متوقعة، ولا بد من البحث عن طرق لحلها، وتجاوزها قبل انتشارها واستفحالها واستعصاء حلها. ومن أهم تلك الأخطار الصراعات الجديدة الناتجة عن التقسيم المتسع للسكان وفق درجة اشتراكهم وفعالية مشاركتهم في فعاليات الوسط المعلوماتي. وخطر ازدياد الهوة بين الأغنياء معلوماتياً، والفقراء معلوماتياً، وبين الشرائح الاجتماعية المختلفة التي يتشكل منها المجتمع الواحد، وهي الفرو قات التي دفعت بالاتحاد الأوروبي للتفكير الجدي بإعداد برامج خاصة به موجهة نحو الحد من تلك المشاكل والتناقضات داخل المجتمع الأوروبي المتقدم نفسه. وهي الفروقات نفسها التي أخذت تظهر بحدة في بعض الدول المتقدمة والدول الغنية، ودول العالم الأقل حظاً والدول النامية والفقيرة. ضمن إطار ما يعرف منذ وقت طويل بدول الشمال الغني ودول الجنوب الفقير.
إضافة للتناقضات داخل الدول نفسها والتي تدور ضمن إطار التركيبة الاجتماعية الداخلية غير المتجانسة، ومنها التناقض بين الشرائح المثقفة القادرة على التعامل مع التقنيات الإعلامية الحديثة، والشرائح محدودة الثقافة أو شبه الأمية أو الأمية العاجزة عن التعامل مع تلك الوسائل، والتناقض بين القادرين على شراء أجهزة الاتصال الحديثة، والقادرين منهم على ربط تلك الأجهزة بشبكات المعلومات الدولية، وأولئك الذين لديهم إمكانية الوصول إلى تلك الأجهزة واستعمالها عند الحاجة دون امتلاكها، وأولئك الذين لا يملكون تلك الإمكانية بتاتاً.
إضافة للتناقضات الطبيعية بين أفراد الأسرة الواحدة من بين الأسر القادرة على امتلاك الحاسب الإلكتروني الشخصي وتوصيله بشبكات المعلومات الدولية، والمتمثلة بالتناقض بين كبار السن الذين يستخدمون في بعض الأحيان خدمات الحاسب الإلكتروني الشخصي وشبكة المعلومات الدولية "الانترنيت" دون الإلمام بالتكنولوجيا الحديثة التي يستخدمونها فعلاً، وجيل الشباب الذين يقضون معظم أوقاتهم ليلاً ونهاراً أمام شاشات الحاسبات الإلكترونية الموصولة بـ"الانترنيت". ويبدوا أن هذا التناقض يظهر أكثر حدة في الأوساط الطلابية وخاصة طلاب السنوات الأخيرة من الدراسة الجامعية في الدول الأقل حظاً من دول العالم، ناهيك عن طلاب الدول النامية والفقيرة الذين لا نشك من أنهم يجيدون نظرياً على الأقل استخدام التكنولوجيا الحديثة، والتعامل مع شبكات المعلومات الدولية ومن بينها طبعاً شبكة "الانترنيت" نتيجة لدراستهم مبادئ التعامل مع التكنولوجيا الإعلامية الحديثة في الجامعة، ويحتاجون لمعلومات شبكات المعلومات الدولية لدراستهم ومشاريع تخرجهم، ولكنهم لا يملكون إمكانية الوصول الكافي لتلك الشبكات.
وقد أبرزت إحدى الدراسات أن نسبة ضئيلة جداً من طلاب كلية الصحافة بجامعة موسكو على سبيل المثال تملك إمكانيات الوصول لأجهزة وشبكات المعلومات والاتصال الحديثة، وأن أكثر من 70 % من طلاب السنة الأولى من طلاب الجامعات في روسيا لا يملكون مثل تلك الإمكانية عملياً حسب تعبير عميد الكلية البروفيسور زاسورسكي، وهي من الدول التي تنتمي إلى الدول المتقدمة ولكنها لا تنتمي إلى الدول الغنية في مجال تقنيات الإعلام الحديثة نوعاً ما، وتعاني اجتماعياً من مشاكل كثيرة في التعامل مع تكنولوجيا المعلومات والاتصال الحديثة.
وهذا الوضع يشمل تقريباً كل جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق ودول أوروبا الوسطى والشرقية الأقل تطوراً عن مثيلاتها الأوروبيات. وقد ظهر هذا جلياً في الأبحاث الميدانية الاستكشافية عن استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصال الحديثة في خمس دول من المعسكر الشرقي السابق وهي: بولونيا وبلغاريا وهنغاريا ورومانيا وروسيا. وتبين من نتائج تلك الأبحاث أن مصادر المعلومات في روسيا مثلاً موزعة بين عدة مصادر وفي أكثر الأحيان تحمل طابع الشكلية والعرضية.
وظهر أن الإدارة المركزية للإحصاء في روسيا الاتحادية لا تقوم بإحصاء أجهزة الحاسب الآلي ولا أجهزة الهاتف المحمولة، ولا الأجهزة الموصولة فعلاً بشبكة المعلومات الدولية "الانترنيت". وتقوم بإعطاء معلومات سطحية تتحدث عن أنه في روسيا الاتحادية هناك حاسب آلي شخصي واحد لكل 10000 نسمة تقريباً، مما دفع بالباحثين للتشكيك بدقة تلك الأرقام معتبرين أنها غير مفيدة في عملية البحث العلمي التي نفذوها.
وقد أثبتت نتائج الأبحاث الجارية على أن الوضع يتفاوت من منطقة إلى أخرى في تلك الدول، وأن من أكثر المناطق استيعابا لتكنولوجيا المعلومات والاتصال الحديثة في روسيا هي: العاصمة موسكو، وسانت بيتربورغ، ومقاطعة ناديم التي أشارت الأبحاث إلى أن كل ثالث أسرة فيها تملك حاسب إلكتروني شخصي نتيجة لعائدات النفط والغاز في المقاطعة.
ومنه استنتج الباحثون أن روسيا وتلك الدول التي أشرنا إليها لم تزل تعاني من خلل إعلامي واضح، إضافة لانعدام الجهود المخلصة لتطوير البنى التحتية الإعلامية الحديثة التي تعتبر المدخل الأساسي للانتقال إلى المجتمع المعلوماتي، وأن الرأي العام داخل روسيا الاتحادية مثلاً غير مهيأ بعد لتقبل تكنولوجيا المعلومات والاتصال الحديثة.
كما ويورد البروفيسور زاسوركي في إحدى مقالاته مثالاً آخر عن الخلل الإعلامي في الاتحاد الروسي استمده من القاموس الموسوعي الموجز الصادر في موسكو عام 1998، والذي لم يعثر فيه على أي ذكر أو أي تعريف أو إشارة لشبكة المعلومات الدولية "الانترنيت"، مما يثبت أن الناشر لم يقم حتى بتحديث أو ترشيد المعلومات الواردة في القاموس، واكتفى بالمعلومات القديمة الواردة في الطبعات السابقة فقط، وهو ما يثبت حسب رأيه واقع سيطرة مصادر المعلومات التقليدية على الوعي الجماهيري في روسيا. وفي نفس الوقت يعكس عدم اهتمام الأوساط العلمية والرسمية الروسية بمشاكل المجتمع المعلوماتي، التي أصبحت تشكل عنصراً هاما من العناصر التي تعيق المجتمع المعلوماتي وتعيق التطور اللاحق في مجالات الحياة الاقتصادية والمالية والتعليم والثقافة وغيرها. ومن هنا نستطيع أن نضع تصوراً للواقع الأكثر تخلفاً في الدول النامية والفقيرة على الإطلاق.
مشاكل تشكل المجتمع المعلوماتي في الدول النامية: وهنا لابد لنا من الاعتراف بأن الثورة المعلوماتية، والعولمة الإعلامية قد جلبتا معهما ملامح المجتمع المعلوماتي إلى الدول النامية، ذلك المجتمع الذي لابد أن تتحول فيه الخدمات الإعلامية المتاحة لكل الشرائح الاجتماعية من مجرد خدمات إلى أعصاب وشرايين تتحكم بحياة المجتمع وتقدمه. ولابد أيضاً من الاعتراف بأنها جلبت معها العولمة الاقتصادية سريعة السيطرة والانتشار، وجاءت بالخطر الأساسي الذي يهدد عملية تطور الإنتاج ويشجع على الاستهلاك في الدول النامية والأقل نمواً في العالم، إضافة إلى أنها تعزز سلطة الاحتكارات والاتحادات الإنتاجية والصناعية والاقتصادية والمالية العالمية. وأصبحت تلك السلطة تهدد أمن وسلامة المجتمع والبيئة في الدول النامية والأقل تطوراً على السواء، وأصبحت تهدد بانتشار البطالة وتقليص فرص العمل التقليدية المتوفرة عالمياً.وهو وضع أشبه ما يكون بالوضع الذي رافق الثورة الصناعية في الدول الأوروبية المتقدمة.
وهو وضع تستفيد منه الدول المتقدمة فقط ويصب في مصلحة اقتصاد الدول الأكثر تطوراً، والاحتكارات الدولية والشركات متعددة القوميات، إن لم تحسن الدول النامية والأقل نمواً التصرف خلال الفترة الانتقالية التي قد تمتد وقد تقصر حسب ظروف كل دولة من دول العالم على حدى. وهذا التصرف مرتبط كما نرى بمدى تجهيز البنى التحتية لوسائل الإعلام الجماهيرية والاتصال عن بعد التقليدية والموارد الإعلامية وتجديد قنواتها ومضمونها. وتهيئة المجتمع للتعامل مع الظروف الجديدة التي أصبح لا مفر منها، ومحاولة توظيفها بالشكل الذي يخدم رفاهية المجتمع، ويعزز الديمقراطية والسلطة الوطنية والاقتصاد والأمن الوطني.
ومن الطبيعي أن تظهر في ظروف استخدام شبكات المعلومات الدولية أشكالاً جديدة من التعديات على الموارد المعلوماتية وحتى حالات من العدوان الثقافي تهدد فيه الدول الأكثر تقدماً الأمن الإعلامي الوطني، وثقافة الدول الأقل تطوراً والدول النامية، بما يلوح بخطر ضياع الثقافات الوطنية والخصائص والملامح القومية لمجتمعات بأكملها، وتهدد بضياع الخصائص اللغوية المميزة للأمم الضعيفة والمغلوبة على أمرها. وتنتشر مع تلك التعديات عملية فرض وتعويد الإنسانية على عادات استهلاكية تتفق ومصالح مجموعة ضيقة من الدول المتطورة والقوية والاحتكارات والشركات متعددة القومية. وكلها تتطلب من الدول النامية والأقل تطوراً الإسراع بتحصين وإعداد مجتمعاتها المحلية لمواجهة أخطار الانفتاح الإعلامي الذي يبشر به المجتمع المعلوماتي، وتدريب مجتمعاتها على الطرق الفاعلة لمواجهة هذه أو غيرها من أخطار العولمة والانفتاح الإعلامي، والمشاركة الإيجابية في عملية إنشاء المجتمع المعلوماتي الذي يحمي المصالح الوطنية وينفتح على المجتمعات الأخرى بصورة إيجابية أخذاً وعطاء، ويجنب تلك الدول خطر الانغلاق على الذات الذي يفوق خطره أخطار العولمة نفسها.
وهي الأخطار التي تجاوزت عملياً خطر الانتشار الواسع لثقافة الشاشة الفضية الصغيرة أحادية الجانب، لتقف وجهاً لوجه أمام أخطار الساحة المعلوماتية العاملة باتجاهين، والتي يلعب فيها الفرد دور المتلقي ودور المرسل في نفس الوقت، بانفتاح على العالم دون حدود، مما يخلف مشاكل وأثاراً نفسية واجتماعية لا حصر لها، إن لم نضف إليها خطر الخلط بين كم المعلومات الهائل الذي يتعرض له الفرد الذي أصبح عاجزاً تقريباً عن التمييز بين الواقع والخيال في مضمون هذا الكم الهائل من المعلومات، وعاجزاً عن حماية نفسه من أخطارها.
ومع اتساع إمكانية الوصول السهل للشبكات المفتوحة المليئة بالمعلومات، تظهر مشاكل تستدعي ضرورة الحد من إمكانية الوصول للمعلومات التي تشكل خطراً على التقاليد القومية والمجتمع والثقافة والاقتصاد. إضافة إلى مشكلة انتشار المعلومات الشخصية على الشبكات الإلكترونية، ومشكلة النخبة الإعلامية، التي تحظى بإمكانية الوصول إلى تكنولوجيا وموارد المعلومات بما يحقق لها التفوق الإعلامي دون الشرائح الأخرى في المجتمع الواحد. إضافة لمشكلة احترام حقوق التأليف وحقوق منتجي المعلومات الإلكترونية صعبة الضبط. ولحل مثل تلك المشاكل وغيرها في المجتمع المعلوماتي لابد من تضافر الجهود الحقيقية للمختصين في كل المجالات في إطار الدول القومية، وإطار الجزء المتضرر في عالم اليوم، وبعلاقة إيجابية منفتحة على العالم المتقدم في هذا المجال الهام.
شروط بناء المجتمع المعلوماتي في الدول النامية: وهذا التعاون يمكن أن يتم من خلال تحقيق الشروط الأساسية لبناء المجتمع المعلوماتي والتي تتلخص في: تشكيل ساحة معلوماتية عالمية موحدة. وتعميق عمليات التكامل الإعلامي والاقتصادي للأقاليم والدول؛ وإنشاء القاعدة المادية التي تعتمد على المنجزات العلمية والتكنولوجية الحديثة، ومنها تكنولوجيا المعلومات، وشبكات الحاسبات الإلكترونية، وشبكات الاتصال المسموعة والمرئية عبر الأقمار الصناعية، ووضعها في خدمة المجتمع والاقتصاد الوطني، الذي لا بد وأن يعتمد على استخدام تكنولوجيا المعلومات وإمكانياتها الواعدة؛ وإنشاء سوق المعلومات، واعتبارها أحد عوامل الإنتاج مثله مثل الموارد الطبيعية، وقوة العمل، ورأس المال، لأن الموارد المعلوماتية هي من موارد التطور الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي، والعمل على تلبية الحاجات الاستهلاكية للمجتمع من المنتجات والخدمات الإعلامية؛ وتطوير البنى التحتية للاتصالات عن بعد المسموعة والمرئية، والمواصلات، وتنظيمها؛ ورفع مستوى التعليم بمستوياته وتخصصاته المختلفة، وتطوير العلوم والتكنولوجيا والثقافة من خلال توسيع إمكانيات نظم تبادل المعلومات على المستوى القومي والإقليمي والعالمي، ورفع مستوى الكفاءة المهنية للفرد والمجتمع، وتشجيع المواهب الإبداعية؛ وتوفير سبل حماية الأمن الإعلامي للفرد، والمجتمع، والدولة؛ ووضع السبل الكفيلة باحترام وحماية حقوق الأفراد والمؤسسات العامة والخاصة في حرية الاتصال والوصول والحصول على المعلومات وتوزيعها كشرط من شروط التطور الديمقراطي للمجتمع.
وهنا لابد من الإشارة إلى ضرورة السعي أثناء تشكل المجتمع المعلوماتي، نحو تعميم مهارات استخدام المنجزات العلمية والتقنية والتكنولوجية لوسائل الإعلام الجماهيرية والاتصال عن بعد الحديثة على جميع أفراد المجتمع، لتمكينهم من الاستفادة والتعامل مع الخدمات الإعلامية المتاحة لهم، والتي لابد وأن توفر شروط التنافس الشريف بين المؤسسات الإنتاجية والخدمية قدر الإمكان. والعمل على توفير أقصى قدر ممكن من التكامل بين الشبكات المعلوماتية الوطنية والقومية والإقليمية والدولية من خلال تطوير وسائل الاتصال عن بعد ونقل المعلومات المرئية والمسموعة وتحديثها بشكل دائم.
وطبعاً تحقيق هذا لا يمكن أن يتم بجهود حكومية فقط، بل بتضافر جهود كل الشرائح الاجتماعية والقطاعين العام والخاص، والقطاع المشترك، وجهود المؤسسات العلمية والهيئات والمنظمات الشعبية والمهنية ووسائل الإعلام والاتصال عن بعد الجماهيرية التقليدية.
وتطور المجتمع المعلوماتي لابد وأن يجر وراءه توفير فرص عمل جديدة، لم تكن معروفة من قبل وتحتاج لإعداد مهني رفيع المستوى من نوع خاص ، وإلى إعادة تأهيل الكوادر المهنية القائمة على عملها بشكل دائم. وهو ما يفرض الحاجة لتنظيم حملة وطنية تعليمية شاملة ودائمة، يشترك في إعدادها وتنفيذها كافة الإدارات والمؤسسات الحكومية والعامة والخاصة والمنظمات المهنية والشعبية، ومؤسسات التعليم والبحث العلمي والهيئات الاستشارية وغيرها.
ولضمان نجاح الحملة التعليمية الوطنية لابد من ضمان حصول المشاركين في الدورات القائمة على المعلومات الجديدة في هذا المجال، واستخدام أحدث المنجزات العلمية والتكنولوجية في مجال الإعلام والاتصال عن بعد، وإدخال الإعلام المرئي ضمن وسائل التعليم المفتوح، والتوسع في تحديث نظام تأهيل وإعادة تأهيل المعلمين والمحاضرين والمدربين القائمين على الحملة الوطنية التعليمية الدائمة والشاملة، لإعداد وتهيئة الإنسان القادر على تقبل واقع المجتمع المعلوماتي الجديد.
ولابد أيضاً من تدخل الدولة من أجل وضع مستوى مقبول من الأجور والتعرفات الخاصة باستخدام، وخدمات شبكات المعلومات والاتصالات عن بعد الوطنية والإقليمية والدولية. ووضع تعرفات مخفضة خاصة بمؤسسات البحث العلمي ومؤسسات التعليم العالي والجامعي وحتى ما قبل الجامعي والطلاب والمدرسين، والعاملين في وسائل الإعلام الجماهيرية التقليدية.
ومن الشروط الضرورية لنجاح الانتقال إلى المجتمع المعلوماتي أيضاً الاستمرار في إجراء واستكمال الأبحاث العلمية الجارية في مجالات تقنيات وتكنولوجيا ووسائل الإعلام الجماهيرية والاتصال عن بعد وتطويرها، والعمل على تطبيق نتائجها في مختلف مناحي الحياة وخاصة منها فروع الاقتصاد والأمن الوطني مع مراعاة حاجة ومتطلبات السوق الإعلامية المحلية. والأخذ بنتائج تلك الأبحاث لدى وضع البرامج الخاصة بتطوير عملية إدخال واستخدام المعلومات العلمية والتقنية في خدمة المجتمع المعلوماتي.
ومراعاة حاجة جميع الشرائح الاجتماعية من المعلومات الإلكترونية المفتوحة للاستخدام العام، ونوعية وخصائص المعلومات الإلكترونية ذات الاستعمال الخاص، وخاصة منها المعلومات الرسمية، والمرتبطة بأسرار الأبحاث العلمية الهامة، والأسرار التجارية والمالية والاقتصادية والعسكرية وكل ماله علاقة بالأمن القومي والإعلامي والمصالح الوطنية العليا، وأخذها كلها بعين الاعتبار عند العمل على توحيد مقاييس الانفتاح والتكامل مع الشبكات المعلوماتية الإلكترونية القومية والإقليمية والدولية في ظروف العولمة والمجتمع المعلوماتي، وعدم الاكتفاء بالنوايا الطيبة وحدها فيما يتعلق بالساحة الإعلامية المنفتحة.
الشخصية أو الذات الفردية في المجتمع المعلوماتي: يتحدث الكثيرون ممن تناولوا موضوع الانتقال إلى المجتمع المعلوماتي عن حتمية هذا الانتقال. ويعتبرون المجتمع المعلوماتي، الأكثر ملائمة لتبادل ونقل المعلومات بانفتاح كامل ودون أية عوائق، بين مواطني المجتمع الواحد، والمجتمعات الأخرى.
ويعتبر البعض الآخر أن المجتمع المعلوماتي ينقذنا أخيراً من الاحتكارات الإعلامية! ومن استغلال الاحتكارات الإعلامية الدولية! ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا ألا يساعد ذلك على ظهور أنواع جديدة من الاحتكارات المسيطرة على شبكات نقل المعلومات الدولية والتعامل معها؟ ومنها مثلاً على سبيل المثال احتكار المتمكنين فقط من استخدام شبكات المعلومات الإلكترونية الحديثة عالية التكاليف، بما ينبئ بتحولها إلى وسيلة للحوار بين شرائح متميزة معينة داخل كل مجتمع، وبين المجتمعات الإنسانية المختلفة.
ومن نظرة إلى السيل الجارف للمعلومات التي تحملها شبكات المعلومات الإلكترونية، نرى أنها تحمل سيلاً جارفاً من المعلومات التجارية والمالية، ونشرات أسعار البورصات العالمية، وأسعار الأسهم، ونشرات أسعار صرف العملات الأجنبية، وخدمات شركات التأمين، والإعلانات المختلفة، وحركة وسائط النقل البري والبحري والجوي، وخدمات شركات النقل، ونشرات الأحوال الجوية، وكلها معلومات تهم أساساً رجال الأعمال، وكلها طبعاً تسرع من عملية تطور التعاون الدولي وتكامل النظم المالية في الدول المختلفة سلباً وإيجاباً في آن معاً.
وهنا تظهر بحدة مشكلة الإدارة والتحكم بسيل المعلومات المتدفق إلى داخل المجتمع المعلوماتي، والمفترض أن تكون مفتوحة وحرة ولا تتعرض لأية حواجز أو عوائق. فأسلوب التحكم من الأعلى إلى الأسفل لا يصلح إذاً للمجتمع المعلوماتي. لأنه من المستحيل فيه تعميم المعلومات من خلال مركز واحد، لأن شبكات المعلومات الإلكترونية هي شبكات منفتحة ومتعددة الأطراف، وهو ما يتطلب خلق نوع من العدالة في توزيع تلك المراكز والسيطرة عليها.
خاصة وأن شبكات المعلومات الإلكترونية اليوم تقدم المعلومات الواردة من شتى الاتجاهات والمستويات المختلفة إلى حد كبير، ويلبي هذا التنوع حاجات إقامة أسس لبنية كل خلية من خلايا شبكات تبادل المعلومات. ولكن هذه الخلايا والشبكات ليست بالضرورة بنى ديمقراطية تحترم فيها حقوق كل الأطراف المشاركة فيها. ولكن من الطبيعي جداً أن تطغى معلومات شرائح النخبة بإمكانياتها المادية والتقنية والتكنولوجية على المجال الإعلامي لتلك الشبكات، بحيث تصبح شبكات شرائح النخبة المسيطرة التي تحظى بمجال أكبر للحركة ونشر المعلومات داخل المجتمع المعلوماتي المنفتح عالمياً.
المجتمع المعلوماتي ووسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية العربية: لا أحد يستطيع إنكار أن تكنولوجيا الإعلام ووسائل الاتصال عن بعد المتقدمة قد فتحت فعلاً آفاقاً جديدة واسعة أمام وسائل الإعلام الجماهيرية التقليدية: المقروءة والمسموعة والمرئية. وأن استخدام شبكات الحاسب الآلي وخاصة شبكة الانترنيت العالمية قد أتاح سرعة تلقي المعلومات وحفظها والتعامل معها. وأن تلك الشبكات ساعدت على انتقال ملفات كاملة تتضمن صحفاً وكتباً ومجلات بكاملها لتطبع في أماكن أخرى بعيدة جداً عن مقرات إدارة تلك الصحف والمجلات ودور النشر، وساعد على انتقال ملفات برامج إذاعية وتلفزيونية كاملة لأشهر المحطات العالمية، لتبث بسرعة كبيرة ووضوح خارق عبر موجات محطات بث أخذت منذ تسعينات القرن العشرين تسجل وتعامل كمحطات إذاعية مرئية ومسموعة وطنية في بلدان بعيدة جداً جغرافياً عن دولة المنشأة.
ومن ناحية أخرى أتاح سرعة الانتشار عبر صفحات WIB في شبكات المعلومات الإلكترونية الحديثة لتلك الوسائل والقنوات، وساعدها على الإسراع في تقديم مضمون صفحاتها وبرامجها اليومية عبر شبكة الانترنيت العالمية، التي تتيح للمشترك ليس مطالعة الصحف والمجلات والكتب، والاستماع لبرامج الإذاعتين المسموعة والمرئية فقط، بل وإعادة استخدم الملفات والمعلومات الواردة عبرها.
وهو ما يؤكد تكامل وسائل الإعلام والاتصال عن بعد الجماهيرية التقليدية مع وسائل الإعلام والاتصال عن بعد الحديثة، مما يؤكد ويعزز من دورها الفاعل داخل المجتمع المعلوماتي القائم في الدول المتقدمة، والقادم منها إلى الدول النامية والأقل نمواً في العالم.
ومن الملاحظ أيضاً أن تكامل الأداء بين وسائل الإعلام الجماهيرية التقليدية، ووسائل الاتصال عن بعد الحديثة أدى بالضرورة إلى تحسين نوعية الأخبار المقدمة للجمهور الإعلامي، بسبب الازدحام الهائل للأخبار المنقولة من وعبر أطراف الاتصال عن بعد ضمن شبكة المعلومات الدولية "الانترنيت"، وساعد في نفس الوقت على تحسين شكل ومضمون الصحف والمجلات، وأتاح لأطراف عملية التبادل الإعلامي في الساحة الإعلامية الدولية استخدام الموارد الإعلامية والتسجيلات الإخبارية والتحليلية الفريدة التي تملكها وسائل الإعلام والاتصال عن بعد التقليدية وتراكمت لديها عبر السنين. ومن مظاهر التكامل أيضاً قيام وسائل الإعلام الجماهيرية والاتصال عن بعد التقليدية بنشر مواد ترشد إلى كيفية استخدام العناوين المعلوماتية الإلكترونية المتاحة في شبكة الانترنيت الدولية.
ولكننا نرى أن هذا التكامل القائم والآخذ بالتوسع يوماً بعد يوم بين شبكات المعلومات الدولية ووسائل الإعلام الجماهيرية التقليدية، لم يدرس بشكل كاف حتى اليوم بعد في العديد من دول العالم وخاصة الدول النامية، وهو يحتاج لدراسة عميقة وتحليل جدي لمعرفة مدى تأثيره وفاعليته في المجتمع المعلوماتي المعاصر، والرد على التخوفات التي يطلقها البعض، والآمال التي يعقدها البعض الآخر بشكل علمي دقيق. ولعله من المناسب التذكير بما قيل عند ظهور الإذاعة المسموعة، وتنبؤ البعض بقرب نهاية الصحف، وتنبؤ البعض مع ظهور الإذاعة المرئية بتضاؤل دور الصحافة المكتوبة والمسموعة. والتذكير بأن تلك التوقعات والتنبؤات كلها لم تجد ما يبررها خلال القرن العشرين بكامله، وهو ما يتيح لنا بالتنبؤ بأن وسائل الإعلام والاتصال عن بعد الجماهيرية التقليدية ستحافظ على وجودها وتأثيرها حتى في القرن الحادي والعشرين وأنها ستتطور وتزدهر في ظروف التعددية الإعلامية التي يتيحها المجتمع المعلوماتي.
ولابد للتجمعات القارية والإقليمية ومن بينها مجلس التعاون لدول الخليج العربية، ودول إعلان دمشق، والاتحاد المغاربي، وجامعة الدول العربية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، ومنظمة الوحدة الإفريقية من أن تحذو حذو الاتحاد الأوروبي والمجلس الأوروبي للاتصالات اللذان قاما بإعداد مشروعات خاصة بهما جديدة للانتقال المدروس إلى المجتمع المعلوماتي الذي تحدثنا عنه بإسهاب، والذي يحتاج إلى معدات وتقنيات غالية الثمن وباهظة التكاليف تعجز عنها دولة نامية بحد ذاتها.
وظروف المجتمع المعلوماتي بالنسبة للدول العربية، لابد وأن تساهم بشكل فعال في عملية التفاعل المشترك بين وسائل الإعلام الجماهيرية والاتصال عن بعد التقليدية العربية كقناة لتوصيل المعلومات، والساحة الإعلامية التي تشكل السوق الاستهلاكية الكبيرة للموارد الإعلامية التي تتيحها تلك الوسائل عبر شبكات الحاسب الآلي الآخذة في الانتشار يوماً بعد يوم.
وفي ظروف الدول العربية التي تملك ساحة إعلامية ضخمة تمتد من الخليج إلى المحيط ومن شواطئ البحر الأبيض المتوسط إلى أواسط إفريقيا، إضافة للعمق الجغرافي الإسلامي الكبير الذي يشمل معظم دول العالم، لابد من تطوير وتحسين قنوات اتصالها بشبكة الانترنيت العالمية، وتطوير البدائل اللغوية لمواردها الإعلامية لجعلها في متناول أكبر ساحة ممكنة من الساحة الإعلامية العالمية وبلغاتها القومية، أخذاً وعطاء، ولتوضيح وجهة النظر العربية من القضايا الراهنة للعالم أجمع، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: مشكلة الضرائب التي تفرضها الدول المتقدمة (المستهلكة) على النفط ومنتجاته مما يؤدي إلى ارتفاع أسعاره بشكل كبير، والآثار السلبية لذلك الارتفاع في الأسعار على الدول المنتجة للنفط وخاصة دول الخليج العربية المنتجة للنفط. وعدالة القضية الفلسطينية التي أخذت تهتز في تصور المجتمع الدولي تحت تأثير الإعلام المسيطر عالمياً والمنحاز والمؤيد في معظمه للمواقف الإسرائيلية فقط حول قضية الحل السلمي لقضية الشرق الأوسط، وهي الوسائل الإعلامية نفسها التي تعمل على مدار الساعة من أجل تشويه صورة العرب والمسلمين وإلحاق شتى التهم الباطلة بهم على الساحة الدولية.
والحفاظ في نفس الوقت على أمن وسلامة الساحة الإعلامية العربية وتطويرها بما يكفل الحوار الثقافي متعدد الأطراف، ويضمن انتقال المعلومات العلمية والتقنية المتطورة من العالم المتقدم إلى المستخدم العربي ليساهم بدوره في عملية تطوير المجتمع العربي اقتصادياً وعلمياً وثقافياً واجتماعياً. ويضمن للعرب وجوداً أكثر فاعلية على الساحة الإعلامية الدولية، وليكون له تأثيراً أكبر على الرأي العام العالمي الذي هو اليوم أسيراً وحكراً للإعلام المعادي والصهيوني الذي يتحكم به كما يشاء ودون منازع.
وهي الصورة التي أوضحها بعفوية وصدق البابا شنودة، بابا الأقباط في مصر، وهو الإنسان غير المتخصص بتقنيات ووسائل الإعلام والاتصال عن بعد الجماهيرية، في واحدة من مقابلاته الصحفية، عندما قال: أن "اليهود ... لم يرجعوا إلى الأراضي المقدسة بوعد من الله وإنما رجعوا بوعد من بلفور ... فعلى الرغم من أن اليهود أعداء للعالم كله فإنهم يخططون بطريقة خطيرة ومدروسة منذ زمن طويل، فرغم قلتهم استطاعوا أخذ وعد بلفور، ثم دخول الأراضي الفلسطينية تحت الوصاية البريطانية، وفي هذا الوقت كان العرب يشجبون ويدينون، وهم استطاعوا أن يتغلغلوا داخل الإعلام الأمريكي والأوروبي، وكذلك داخل السياسة والاقتصاد حتى جاء وقت كان عمدة نيويورك يهودياً، فهم ناس يخططون ويصلون إلى تنفيذ ما يخططون له، ونحن نزعق ونشجب ولا نعمل، والمفروض أن يوجد "لوبي" عربي في البلاد الأوروبية وفي أمريكا ينشط منها ويكون له نشاط سياسي مثلما فعل اليهود .. ثم لماذا لا يقوم العرب بما لديهم من أموال ضخمة وبترول بإنشاء إذاعة وتلفزيون خاصة بهم في أوروبا وأمريكا تنطق بلغاتهم وليس بلغتنا وكذلك صحف تتحدث باللغات الأجنبية تدخل البلاد الأجنبية وتؤثر عليهم وعلى سياستهم". ونعتقد أن ما قاله لا يحتاج لأي شرح أو تعليق بل إضافة أن التجربة تتكرر في الساحة الإعلامية الناطقة باللغة الروسية، التي تشمل جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق ودول ما كان يعرف بمجموعة الدول الاشتراكية وخاصة أوروبا الشرقية (وحتى إسرائيل التي تتحدث المصادر عن أن نسبة المهاجرين اليهود الناطقين بالروسية فيها بلعت 20 % من مجموع السكان)، والتي كانت مؤيدة للحقوق العربية حتى بداية التسعينات من القرن العشرين، ومن ثم تركت ودون منازع لتأثير وسائل إعلامية قوية مؤيدة لإسرائيل وحدها منذ ذلك التاريخ وحتى الآن.
ومن ناحية أخرى فإننا نرى، أن الصحافة العربية تواجه العديد من التحديات الخارجية، ويأتي في مقدمتها تحدي العولمة الإعلامية، التي أدت إلى زيادة هيمنة وسائل الإعلام الغربية، مثل: وكالات الأنباء والقنوات الفضائية والصحف والمجلات وشبكات الاتصال الإلكترونية، ومنها طبعاً شبكة "الانترنيت" على الصعيد العالمي. وإضعاف قدرة الصحافة ووسائل الإعلام الاتصال الجماهيرية، ليس في الوطن العربي وحسب، بل وفي الدول النامية عموماً، على المنافسة في مواجهة التدفق الهائل لوسائل الإعلام الجماهيرية والاتصال عن بعد الغربية. وتعتمد هذه الهيمنة الإعلامية على العديد من الوسائل والآليات، وفي مقدمتها بطبيعة الحال واقعة التطور التكنولوجي والقدرات المادية الضخمة وطغيان النموذج الغربي، بالإضافة إلى أن وسائل الإعلام الجماهيرية والاتصال عن بعد الغربية تستخدم كل الوسائل والتقنيات المتاحة لها، مثل حرية تدفق المعلومات، من أجل التغلغل في الدول النامية ومن بينها الدول العربية وفرض هيمنتها الإعلامية عليها، وتيسير المزيد من التدفق للأنباء والمعلومات الغربية إلى مجتمعات العالم الثالث بأسره.
وخلال الآونة الأخيرة، اتخذت العولمة الإعلامية العديد من المظاهر والتجليات الجديدة، ولعل أبرزها كان اتجاه بعض وسائل الإعلام الجماهيرية وكبريات الصحف والمجلات الأمريكية والغربية نحو ترجمة بعض برامجها الإذاعية المسموعة والمرئية وإصداراتها الأسبوعية والشهرية إلى العربية، وبثها وتسويقها وتوزيعها في الدول العربية، وهو ما يمثل نموذجاً مصغراً لظاهرة يمكن أن يتسع نطاقها في المستقبل.
وإذا لم يتم تطوير وسائل الإعلام الجماهيرية والاتصال عن بعد التقليدية العربية، فإن قطاعات واسعة من القراء والمستمعين والمشاهدين قد يتجهون نحو تفضيل البرامج الإذاعية المسموعة والمرئية والصحف والمجلات الغربية، وبالذات الأمريكية، سواء باللغات الأصلية أو المترجمة إلى العربية، وهو ما يمثل دافعاً إضافياً أمام الدول العربية لتطوير وسائل إعلامها الجماهيرية التقليدية وتحسين أدائها.
فهناك فارق أساسي بين متابعة البرامج الإذاعية المسموعة والمرئية والصحف الغربية بغرض متابعة ما ينشر فيها، والتعرف على وجهات النظر الغربية الواردة فيها، وبين أن تصبح تلك البرامج والصحف مصدراً رئيسياً أو وحيداً للمتابعة والثقافة والمعرفة للجمهور العربي، وهو ما نحذر منه ومن خطره على الأمن القومي والمصالح العربية بشدة.
وبالتالي، فإن هذه التحديات تؤكد أن هناك ضرورات متنوعة داخلياً وخارجياً، للتفكير في مستقبل وسائل الإعلام والاتصال عن بعد التقليدية العربية، والاتجاهات الضرورية لتطويرها، فإن المطلوب هو تقوية وتعزيز وتوسيع أدوار وسائل الإعلام والاتصال عن بعد الجماهيرية التقليدية العربية في المستقبل من خلال التطوير العلمي والتكنولوجي والمؤسسي والقانوني والمهني والسياسي والتكاملي بينها، لتكون قادرة على مواجهة الحرب الإعلامية التي تواجهها على الساحة الإعلامية الدولية، وليس فقط، بل وداخل الساحة الإعلامية العربية أيضاً، والتي تنبئ بخسارة فادحة للعرب أمام الرأي العام الدولي والعربي إن لم يتم التصرف معها بسرعة وحذر.
وعلى المستوى القانوني والمؤسسي، لابد من التركيز على معالجة الثغرات القانونية والمؤسسية التي تحد من انطلاق وسائل الإعلام والاتصال عن بعد التقليدية العربية، وذلك من خلال مواصلة الجهود لتبني مشروع جديد لقانون عربي للصحافة يضمن تكاملها الإيجابي تعده الجهات المختصة بالتعاون مع الخبراء والفقهاء العرب البارزين، والتحاور بشأنه مع القيادات السياسية والمؤسسات الدستورية، تمهيداً لإصداره في الدول العربية. بالإضافة إلى ضرورة تنقية القوانين والأوامر التنفيذية الحالية من القيود غير المبررة والمعارضة للواقع الراهن الذي تفرضه العولمة والمجتمع المعلوماتي، سواء من أجل الوصول بحرية الإعلام ضمن الأطر الدستورية والتشريعية إلى أعلى مستوياتها أو من أجل ضمان التجانس والانسجام التشريعي بين الدول العربية فيما يتعلق بالإعلام والصحافة المقروءة والمسموعة والمرئية.
وفي الوقت نفسه لابد من العمل على ضمان التمتع بالحق في الإعلام والمعلومات والنص على هذا الحق في المشروع القومي لقانون الإعلام العربي، وغيره من التشريعات ذات الصلة في حالة صدورها، والعمل على تفعيل ميثاق الشرف الصحفي العربي والدفاع بحزم عن أخلاقيات المهنة، وتشجيع ارتياد مجالات الإعلام الإلكترونية والصحافة المسموعة والمرئية لتدعيم اقتصاديات مهنة الصحافة، واستخدام آليات المناقشة والحوار ونبذ الخلافات وتفعيلها في حوار إيجابي وبناء بين وسائل الإعلام والاتصال عن بعد الجماهيرية العربية التقليدية، ودفعها للحوار الإيجابي والفعال مع وسائل الإعلام الأجنبية سواء أكانت في الدول المتقدمة أم في الدول الإسلامية أم في الدول النامية على السواء، وهي التي تشكل بمجملها الرأي العام العالمي.
أما على المستوى المهني، فإن التركيز يجب أن ينصب كما أعتقد على النهوض بوسائل الإعلام والاتصال عن بعد العربية التقليدية، واستعادة ريادتها العربية أولاً ومن ثم ريادتها على الساحة الإعلامية الإقليمية والدولية، والوصول بها إلى أعلى مستويات المصداقية والتنافسية والجدارة على المستويين العربي والإسلامي والدولي، بما يمكنها من مواجهة الإعلام المضاد والحرب الإعلامية التي تمارسها بعض وسائل الإعلام داخل المجتمعات الأجنبية ضدها.
وهناك العديد من المجالات التي ينبغي العمل بها، في مقدمتها التحديث التكنولوجي وزيادة كفاءة نظم الإنتاج والتوزيع الإعلامي، وتوسيع سوق الاستهلاك الإعلامية والإعلان على المستوى العربي وضبطها وخاصة فيما يتعلق بالمواد الأجنبية منها بالتحديد، والعمل على تحقيق التوازن المطلوب بينها، والسعي لحل وإنهاء الاختناقات التمويلية التي تعاني منها بعض وسائل الإعلام الجماهيرية العربية، وضرورة إسهام الدول العربية في الوفاء بمتطلبات تطوير وسائل الإعلام والاتصال عن بعد الجماهيرية العربية التقليدية وخاصة من خلال الإعانات والهبات غير المشروطة، وإسقاط الديون وتخفيف العبء الضريبي وإعفاء المؤسسات الإعلامية الصغيرة منه وتشجيعها في نفس الوقت على الاندماج فيما بينها لتشكل وسائل إعلامية مؤثرة.
والعمل على نشر الوعي في الأوساط الإعلامية العربية، بمتطلبات النهضة العلمية والتقنية لوسائل الإعلام والاتصال عن بعد الحديثة بدرجة أكبر تتفق ومتطلبات الثورة الإعلامية والعولمة، ولتشجيع المؤسسات الصحفية على تنويع أنشطتها، وقيام المؤسسات الصغيرة بأنشطة تعاونية مشتركة فيما بينها، وحثها على الاندماج والتركز في مؤسسات أو اتحادات إعلامية عربية قوية، ولتكوين هياكل أكبر عندما يكون ذلك مناسباً، لأن الاندماج والتركيز حتمياً لبقائها واستمرارها وازدهارها في عصر العولمة والمجتمع المعلوماتي. ولا بد من قيام الأجهزة والاتحادات والمؤسسات الإعلامية على مستوى مجلس التعاون لدول الخليج العربية، والجامعة العربية، والاتحاد المغاربي وغيرها من الأجهزة والمؤسسات الإعلامية والبحث العلمي العربية بوظائف أكثر حيوية وأوسع نطاقاً في مساندة التركيز والدمج بين تلك المؤسسات، بدلاً من مساندة جميع تلك المؤسسات وخاصة الصغيرة منها.
وفي الوقت نفسه، فإن النهوض بوسائل الإعلام والاتصال عن بعد العربية التقليدية يتطلب أيضاً ابتكار صيغة عامة للمشاركة بين المؤسسات الإعلامية والجماعات المثقفة والعلماء والباحثين العرب في داخل الوطن العربي وخارجه، من أجل استنباط أطر جديدة ومتنوعة للتعاون. ولا بد هنا من التركيز على مسائل التمويل وتنظيم الأنشطة المكلفة التي تتطلب درجة عالية من المخاطرة، مثل التوسع في فتح المكاتب الخارجية، ونشر النشاط الصحفي والإعلامي العربي ليشمل أكبر ساحة إعلامية من المجتمع الدولي، وتغطية الأحداث المهمة في المناطق البعيدة والقيام بالدراسات والبحوث العلمية، وعمليات الاستيراد والتصدير ذات الصلة بالنشاط الصحفي والإعلامي، وبحوث التسويق والتوزيع داخل الوطن العربي وخارجه وغيره من النشاطات المرتبطة بالتحقق من الانتشار والتوزيع.
يضاف إلى ذلك، أن التعاون بين تلك الجهات سوف يساعد على النهوض بوسائل الإعلام العربية التقليدية من خلال تنمية التعاون بينها من أجل التوسع في إنشاء مراكز البحوث والدراسات الإعلامية المشتركة القادرة على الأداء المثمر، وعقد ورشات للعمل، ومنح فرص أكبر للمفكرين والباحثين للإسهام بالرأي لتطوير وسائل الإعلام والاتصال عن بعد الجماهيرية العربية التقليدية، الرأي الذي يمكن أن يساعد على تقصير الطريق نحو ولوجها السليم لعصر العولمة والمجتمع المعلوماتي الذي أصبح يطرق أبواب المجتمع العربي بحدة.
وهنا تبرز مسألة تدريب الكوادر الإعلامية التي يجب أن تأخذ مكان الصدارة بين القضايا المهنية الحيوية والملحة، لأن الكادر الإعلامي والإنسان الصحفي بالذات هو جوهر عملية نهوض وتطوير وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية وتقنياتها. ولهذا لابد من الاهتمام بالوصول بالإعلامي العربي إلى أعلى المستويات المهنية المتوفرة على الساحة العالمية من خلال التدريب الشامل والمستمر، بهدف زيادة المستوى المهني والتقني للمؤسسات الإعلامية وللصحفيين العرب بشكل عام.
وهو الأمر الذي يفرض الاهتمام ببرامج التدريب المستمر على مهارات استخدام تقنيات وتكنولوجيا الحاسبات الإلكترونية وبرامجها المتطورة، وتقنيات استخدام شبكات المعلومات الدولية وخاصة شبكة "الانترنيت" العالمية، والاهتمام بدراسة اللغات الأجنبية لأنها عصب عملية الاتصال، والتي اعتبرها بروفيسور الأكاديمية الدبلوماسية الروسية، غيورغي خازن دليلاً للثقافة الرفيعة. وكحد أدنى اللغات الأكثر انتشاراً والمعتمدة في عمل المنظمات التابعة لمنظمة الأمم المتحدة وهي: الإنجليزية، والفرنسية، والإسبانية، والصينية، والروسية، والعربية إضافة للغات الألمانية والتركية بلهجاتها المختلفة والفارسية. لأن اللغات الأجنبية هي صلب ومحور عملية الاتصال والتبادل الإعلامي الدولي.
ولا بد كذلك من التوسع في إرسال واستقبال البعثات الإطلاعية والوفود الصحفية، وإيفاد البعثات التدريبية إلى الدول الأجنبية المتقدمة من أجل الوصول إلى أعلى مستويات الأداء الإعلامية العالمية، وزيادة الكوادر الإعلامية المهنية والتقنية من أجل تقديم خدمات حقيقية ومتطورة للساحات الإعلامية المستهدفة من عملية الإعلام والاتصال عن بعد، وهو ما يمثل ضرورة قصوى في ظل الثورة المعلوماتية التي يشهدها المجتمع الدولي في مجال وسائل الإعلام والاتصال عن بعد الجماهيرية والمعلومات.
وختاماً أقول أنه لابد من مضاعفة التركيز على الرأي العام العالمي خدمة للمصالح القومية العربية. ومما سبق نرى أن الانتقال إلى المجتمع المعلوماتي مرتبط بالعولمة التي تهيمن فيها وسائل الإعلام الجماهيرية والاتصال عن بعد في الدول المتقدمة فقط على الساحة الإعلامية الدولية حتى الآن، ولا يمكن مواجهة أخطارها في دول العالم الثالث والدول العربية من بينها، عن طريق الانغلاق أو منع التدفق الإعلامي الخارجي، وإنما يمكن مواجهة أخطارها عن طريق تحصين المتلقي أينما كان ومهما كان مستواه العلمي والثقافي ومركزه الاجتماعي لمواجهة سيل المعلومات والإعلام الجماهيري المتدفق عليه من الدول المتقدمة، بحيث يستطيع المتلقي العربي كغيره من المتلقين في دول العالم الثالث الاستفادة من إيجابيات الإعلام الخارجي، وخاصة في مجال العلوم والتكنولوجيا والتقنيات الحديثة، وتحييد سلبياته التي تستهدف كيان الإنسان العربي ووجدانه، كما أنه من الضروري زيادة قدرة وسائل الإعلام الجماهيرية والاتصال عن بعد العربية على المنافسة في الساحة الإعلامية الدولية، ومخاطبة الرأي العام العالمي.
ويأتي هذا عن طريق التركيز على كل المجالات والقضايا المهمة التي تمس وجهات النظر والمصالح العربية من مختلف القضايا العربية والإقليمية والعالمية، وعدم الاكتفاء بنقل المواقف ووجهات النظر العربية إلى الرأي العام العربي فقط كما هي الحال في الوقت الراهن على الأقل، بل مضاعفة التركيز على الرأي العام العالمي وبلغاته القومية في عملية النقل تلك، لمواجهة أي تحريف أو تشويه بشأن تلك القضايا الهامة والملحة من وجهة النظر العربية، والتصدي للمغالطات والأكاذيب والافتراءات التي تنشرها بعض وسائل الإعلام الجماهيرية والاتصال عن بعد في الدول المتقدمة والمتسللة منها إلى الدول النامية والأقل تطوراً ضد المصالح العربية، من خلال الحرب الإعلامية الشعواء التي تشنها تلك الوسائل ضد العرب خاصة والمسلمين عامة دون كلل أو الملل.
وأخيراً فإنه هناك دوراً حقيقياً ومهماً ينبغي على وسائل الإعلام الجماهيرية والاتصال عن بعد العربية أن تقوم به مجتمعة على المستوى الاقتصادي، والسياسي، والثقافي، والعلمي، والأمن القومي استمراراً لدورها الرائد والطليعي في خدمة القضايا القومية والدفاع عن القيم الديمقراطية والحريات العامة وحقوق الأمة العربية، ومنها أن تخوض وسائل الإعلام الجماهيرية والاتصال عن بعد العربية التقليدية والحديثة على السواء، المعركة الإعلامية الدولية بهدف التصدي للحرب الإعلامية المركزة والموجهة ضد العرب والمسلمين، وتوضيح الحقائق الأساسية الناتجة عن أزمات النفط وأسعاره التي تسببها وتخلقها دائماً الاحتكارات والدول المتقدمة المستهلكة للنفط وهي نفسها التي تخلق مشاكل كثيرة للدول المنتجة للنفط وخاصة لدول الخليج العربية التي يعتمد اقتصادها وخططها التنموية أساساً على الموارد النفطية.
وعن استغلال الصراعات الحدودية مع دول الجوار التي خلقها وخلفها وراءه الاستعمار الأوروبي، وتغذيها وتؤججها بعض القوى الخارجية التي لها مصلحة في إبقاء التوتر وعدم الاستقرار في المنطقة العربية، إضافة للصراع والظلم التاريخي الذي لحق بالشعب الفلسطيني الأسير داخل وطنه والمشرد خارجه، وفضح ممارسات العدوان الإسرائيلي المستمر والمتعاظم ضد الشعب الفلسطيني والشعوب العربية والإسلامية بشكل عام، جنباً إلى جنب مع خوض معركة السلام العادل والمطالبة بالتطبيق الكامل لقرارات الجمعية العمومية للأمم المتحدة، ومجلس الأمن الدولي، ومناهضة التطبيع الاقتصادي والمهني والسياسي مع إسرائيل قبل اعترافها وإعادتها للحقوق الفلسطينية والعربية المغتصبة وفقاً لقرارات الشرعية الدولية. لأن الإعلام هو ساحة المعركة الرئيسية من أجل تحقيق السلام العادل وخلق نوع من الثقة المتبادلة بين أطراف الصراع.
كما أنه من الضروري الدفاع عن حقوق ومصالح جميع الشعوب العربية والإسهام في إنهاء النزاعات والصراعات العربية – العربية، والعمل على تصفية نظام العقوبات المجحد الذي تعاني منه عدة أقطار عربية منذ سنوات طويلة، ومن بينها العراق وليبيا والسودان، لرفع الظلم والمعاناة الأليمة عن شعوب تلك الدول من جراء الحصار الطويل، عن طريق الحوار البناء الدائم والإيجابي مع الرأي العام الدولي المؤثر والذي يشكل الساحة الإعلامية الدولية والتأثير الإيجابي على رموز تلك الساحة الإعلامية.
ويتطلب تحقيق تلك الأهداف حشد كل القدرات والإمكانيات الاقتصادية والعلمية والتقنية والمعرفية، والاستعانة بالإنجازات الحديثة لتكنولوجيا المعلومات والإعلام وتقنيات الاتصال عن بعد المتطورة.
ومن أجل هذا أكرر أنه لابد من إعداد الكوادر غير التقليدية المتخصصة والمدربة بشكل جيد للقيام بهذه المهمة على الصعيد الدولي، وتمكينها من التأثير على الرأي العام ليس المحلي فقط كما هي الحال في الوقت الراهن، بل على الرأي العام العالمي في كل أرجاء العالم بما فيه التأثير الإيجابي على الرأي العام حتى داخل إسرائيل والرأي العام المؤيد لإسرائيل خارجها. من خلال توضيح أهداف ومرامي الخيار الاستراتيجي للعرب الذين اختاروا السلام العادل هدفاً لحل الصراع المحتدم منذ أكثر من نصف قرن مضى.
ولابد من تعزيز التعاون بين وسائل الإعلام الجماهيرية والاتصال عن بعد العربية، والمؤسسات الإعلامية مع دول الجوار للدول العربية والدول الإسلامية من خلال دعم كل صور التبادل العلمي والفكري والثقافي على المستوى القومي معها، وهي مهمة تقع في رأيينا على عاتق أصحاب القرار السياسي في الدول العربية، واتحاد الصحفيين العرب، ومعه كل المنظمات والهيئات المعنية الإعلامية العربية للاضطلاع بالمهام القومية في المجال الإعلامي والفكري والعلمي، والعمل على تعزيز قدرة وسائل الإعلام الجماهيرية والاتصال عن بعد العربية على إرساء أسس السلام وتعزيز الأمن والاستقرار قطرياً داخل الأقطار العربية وإقليمياً داخل المنطقة ودول الجوار الإقليمي وفي العالم أجمع، دون إغفال أهمية التعاون الإيجابي مع الاتحادات والمؤسسات الإعلامية العالمية المعنية بتقدم الإعلام وحرية التعبير والثقافة، وهي مسألة تأخر فيها العرب كثيراً حسب رأي الصحفي العربي المعروف إبراهيم نافع.
وأرى أنه لابد من وضع برنامج منطقي وواقعي ممكن التطبيق على المستوى العربي لتحقيق التعاون والتنسيق في العمل، بالشكل الذي يتعزز فيه مشاركة الصحفيين العرب من خلال نقاباتهم المهنية ومؤسساتهم الإعلامية في الملتقيات الإعلامية والمهنية العالمية، ومشاركتهم الفاعلة في صناعة الخبر عن أهم الأحداث العالمية الجارية هنا وهناك. وقبل ذلك وبطبيعة الحال، فإنه من الضروري تنمية علاقة المشاركة والتعاون البناء بين الأوساط الصحفية العربية والدولة ومؤسساتها السياسية والدستورية في كل الأقطار العربية، على أساس من العمل المشترك لمصلحة الوطن والنهوض به قطرياً وعربياً، وفي الوقت نفسه الاضطلاع بالمهام المطلوبة على المستوى الإقليمي والعالمي.
وهذا يتطلب الإسراع في وضع وتطبيق برنامج إعلامي عربي يضمن فاعلية أكبر لوسائل الإعلام الجماهيرية العربية، ويضمن لها دوراً أكثر فاعلية ويساعدها في أداء أدوارها المتنوعة في مجالات التوعية العلمية والاقتصادية والتقنية والمعرفية والتنويرية والتثقيفية والتربوية وفي التصدي لأعباء التنمية الشاملة. كما أنه سوف يساعد أيضاً على الارتقاء بوسائل الإعلام الجماهيرية العربية إلى مصاف كبريات وسائل الإعلام الجماهيرية العالمية، وسوف يساعد بالضرورة على تمكين وسائل الإعلام الجماهيرية والاتصال عن بعد العربية من الأخذ بدورها الريادي والطليعي من كل القضايا الوطنية والقومية، أثناء الانتقال التدريجي إلى المجتمع المعلوماتي المنفتح عالمياً، وهو المجتمع الذي تمخض عن العولمة وتداعياتها الإعلامية بشكل أكثر إيجابية وفاعلية وتأثيراً.
ويسعدني أن أهدي هذا العمل لمن سار على دربي الإعلامي العلمي ابني الغالي مؤنس مع تمنياتي له بالنجاح والتوفيق.
المراجع والمصادر
باللغة العربية والروسية:
1. د. أحمد يوسف القرعي: دعوة مصر لعقد مؤتمر دولي لمواجهة الإرهاب. // القاهرة: مجلة السياسة الدولية، 2001/العدد146.
2. د. أسامة الغزالي حرب: الأحزاب السياسية في العالم الثالث. // القاهرة: سلسلة المعرفة. 1987 سبتمبر.
3. أندريه فلاديميروفيتش كروتسكيخ، وأليكساندر فلاديميروفيتش فيدر وف: عن الأمن الإعلامي الدولي. // موسكو: مجلة الحياة الدولية، العدد 2 لعام 2000. (باللغة الروسية)
4. إسلام كريموف: أوزبكستان، طريقها الخاص للتجديد والتقدم. ترجمة: أ.د. محمد البخاري. جدة: دار السر وات، 1999.
5. إسلام كريموف: أوزبكستان، نموذجها الخاص للانتقال إلى اقتصاد السوق. ترجمة: أ.د. محمد البخاري. جدة: دار السر وات، 1999.
6. إسلام كريموف: أوزبكستان على طريق الإصلاحات الاقتصادية. بيروت: شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 1996.
7. إبراهيم نافع: مستقبل الصحافة في مصر. // القاهرة: الأهرام، 29 يونيو/حزيران 2001، العدد 41843.
8. د. بطرس غالي: حقوق الإنسان في 30 عاماً. // القاهرة: مجلة السياسة الدولية 1979/يناير.
9. د. جيهان أحمد رشتي: الأسس العلمية لنظريات الإعلام. دار الفكر العربي، القاهرة:
10. حسام عبد القادر: البابا شنودة في لقاء مفتوح. // القاهرة: أكتوبر، العدد 1288، 1/7/2001.
11. د. حازم الببلاوي: العرب والعولمة. // القاهرة: الأهرام 30/12/1997.
12. خازن غ.س.: فوق حاجز اللغات. // موسكو: مجلة الولايات المتحدة وكندا، العدد 9/2000. ص 104. (باللغة الروسية)
13. زاسورسكي يسن نيكولاييفيتش: المجتمع الإعلامي ووسائل الإعلام الجماهيرية. http://intra.rfbr.ru/pub/vestnik/V3_99/2 _1.htm (باللغة الروسية)
14. سيونتيورينكو و.ف.: المجتمع المعلوماتي والمعلومات العلمية. http://intra.rfbr.ru/pub/vestnik/V3_99/1_1.htm (باللغة الروسية)
15. د. شمس الدين عبد الله شمس الدين: نظرية المعلومات: مفاهيم ومقولات وقضايا أساسية. دمشق: مجلة المعرفة العدد 450/2001.
16. د. صابر فلحوط، د. محمد البخاري: العولمة والتبادل الإعلامي الدولي. دمشق: دار علاء الدين، 1999.
17. طريق روسيا إلى المجتمع المعلوماتي (الأسس، المؤشرات، المشاكل، والخصائص). تأليف: غ.ل. صاموليان، د.س. تشيريشكين، و.ن. فيرشينسكايا، وآخرون. موسكو: معهد نظم التحليل في أكاديمية العلوم الروسية، 1997. (باللغة الروسية)
18. عاطف الغمري: الأسلحة الجديدة في ترسانة الهجوم الاقتصادي العالمي. // القاهرة: صحيفة الأهرام 1996/يناير 30.
19. غاكوف ف.: الحاسب الآلي على البخار. // موسكو: مودوس، 1999، العدد 2 (81). (باللغة الروسية)
20. كليمينكو س.، أورازميتوف ف.: وسط حياة المجتمع المعلوماتي // ИФВЭ، МФТИ. – Протвино: РЦФТИ، 1995. (باللغة الروسية)
21. د. محمد سامي عبد الحميد: أصول القانون الدولي العام. 1979.
22. د. محمد عابد الجابري: قضايا في الفكر العربي المعاصر. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1997.
23. د. محمد علي العويني: الإعلام الدولي بين النظرية والتطبيق. القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 1990.
24. د. محمد البخاري: العولمة وطريق الدول النامية إلى المجتمع المعلوماتي (1-6). // أبو ظبي: صحيفة الاتحاد، 27 سبتمبر-13 أكتوبر 2001.
25. د. محمد البخاري: الحرب الإعلامية والأمن الإعلامي الوطني. // أبو ظبي: صحيفة الاتحاد، الثلاثاء 23 يناير 2001.
26. د. محمد البخاري: الأمن الإعلامي الوطني في ظل العولمة. // أبو ظبي: صحيفة الاتحاد، الاثنين 22 يناير 2001
27. د. محمد البخاري: العلاقات العامة كهدف من أهداف التبادل الإعلامي الدولي، مقرر لطلاب الماجستير. طشقند: جامعة طشقند الحكومية للدراسات الشرقية، 2001. (باللغة الروسية)
28. د. محمد البخاري: العولمة والأمن الإعلامي الدولي. // مجلة "معلومات دولية" دمشق: العدد 65/ صيف 2000.
29. د. محمد البخاري: وكالات الأنباء والصحافة الدولية في إطار العلاقات الدولية. طشقند: جامعة طشقند الحكومية للدراسات الشرقية، 2000. (باللغة الروسية)
30. د. محمد البخاري: مبادئ الصحافة الدولية والتبادل الإعلامي الدولي. مقرر لطلاب البكالوريوس. طشقند: جامعة طشقند الحكومية للدراسات الشرقية، 1999. (باللغة الروسية)
31. د. محمد البخاري: مبادئ الصحافة الدولية والتبادل الإعلامي الدولي. طشقند: جامعة ميرزة أولوغ بيك الحكومية. 1997.
32. د. محمد نعمان جلال: العولمة بين الخصائص القومية والمقتضيات الدولي. // القاهرة: مجلة السياسة الدولية، عدد 145، يوليو 2001.
33. محمود خليل: الأمن القومي العربي والمتغيرات الإقليمية والدولية الجديدة. // القاهرة: مجلة السياسة الدولية، العدد 146/2001 أكتوبر.
34. د. ممدوح شوقي: الأمن القومي والعلاقات الدولية. // القاهرة: مجلة السياسة الدولية 1997/العدد 127.
35. ميليوخين ي. س.: تكنولوجيا المعلومات والعمل الحر. موسكو: غارانت – بارك، 1997. (باللغة الروسية)
36. نبيل عمر: ذئب المخابرات الأحمر: الباب السري لجمال عبد الناصر. عرض: إمام أحمد. // القاهرة: الأهرام الاقتصادي، العدد: 1681/2001.
37. د. هالة مصطفى: العولمة .. دور جديد للدولة. القاهرة: مجلة السياسة الدولية، 1998 العدد 134.
38. د. هالة مصطفى: المشروع القومي في مصر: دور الدولة الأساسي. // القاهرة: الأهرام 1997/4.28.
39. د. هالة مصطفى: المشروع القومي بناء الداخل أولاً. // القاهرة: الأهرام 1997/3.31.
40. د. هالة مصطفى: حقوق الإنسان، وفلسفة الحرية الفردية. // القاهرة: "نشطاء" البرنامج الإقليمي لدراسات حقوق الإنسان. 1997 العدد3. أكتوبر.
41. وارطانوفا يي. ل.: النموذج الفنلندي على عتبة القرن الجديد. المجتمع الإعلامي ووسائل الإعلام الجماهيرية الفنلندية في الآفاق الأوروبية. – موسكو: جامعة موسكو الحكومية، 1999. (باللغة الروسية)
42. وارتانوفا يي.ل.: الاتحاد الأوروبي في البحث عن المجتمع المعلوماتي. // موسكو: فستنيك جامعة موسكو. سلسلة الصحافة. 1998، الأعداد 4 و 5. (باللغة الروسية)
43. يرشوفا ت.ف.: آفاق قضايا الانتقال إلى المجتمع المعلوماتي في القرن الحادي والعشرين. http://intra.rfbr.ru/pub/vestnik/V3_99/1_5.htm (باللغة الروسية)
44. يرشوفا ت.ف.، خوخلوف يو.يي.: المجتمع المعلوماتي ومستقبل المكتبات // المعلومات التربوية، 1997، العدد 4. (باللغة الروسية)
باللغات الأجنبية الأخرى:
45. Building the European Information Society for us all: Final policy report of the high-Level expert group, April 1997 / European Commission. Directorate- General for employment, industrial relations and social affairs. Unit V/B/4. - [Brussels, manuscript completed in April 1997]
46. Castells M. The Information Age. Economy, Society and Culture. Volume I. The Rise of the Network Society. - Oxford: Blackwell Publishers, 1996.
47. David Manning White, "Mass Communication Research: A Vuew in Perspective", in Lewis Antony Dexter and David Manning White (eds.) People, Society and Mass Communication (Glencoe, Illinois: The Free Press, 1964.
48. Edward N. Luttwak, The Global Setting of U.S. Military Power-Washington. 1996.
49. Francis Fukuyama, End of History, National Interest, summer. 1989.
50. Hans Morganthue, Political Nations, Calcutta, Scientific Book Agency, 1965, Chap. 28.
51. Information Socity: Challenges for Politics, Economy and Society. - http://www.bmwi-info2000.de/gip/fakten/zvei e/index.html
52. Information Society: Concepts, Work Programme and Examples of Public and Private Initiatives.
53. James N. Rosenau, New Dimensions of Security: The Interaction of Globalizing and Localizing Dynamics, Security Dialogue, 1994, Vol. 25 (3).
54. Jan AART SCHOLTE, Global Capitalism and the State, International Affairs, Vol. 73, No. 3, July 1997.
55. John C. Maloney, "Advertising Research and an Emerging science of Mass Persuasion", in Lee Richardson (ed.) Dimensions of Communication (N. Y.: Appleton Century Crafts, 1969)
56. “Joint Doctrine for Information Operations", Joint Chief of Staffs, Joint Pub. 3-13, October 9, 1998.
57. Karl W. Deutsch, "The Nerves of Government: Models of Political Communication and Control" (Clencoe, Illinois: The Free Press, 1963)
58. Le Monde. Dossir et Documents. - 1997, Mai, No 254.
59. Paul Kennedy, Globalization and its Discontents, New Perspectives Quarterly, Vol. 13, No. 4. Fall 1996.
60. Peter Drucker, The Second Infuriation Revolution, New Perspectives Quarterly, Vol. 14, No. 2, spring 1997.
61. The Information Society and the Developing World: A South Africa Perspective (Draft 5, Version 5.1, April 1996).
62. The Global Information Infrastructure: Agenda For Cooperation / R. H. Brown, L. Inving, A. Prabhakar, S. Katzen. - [1994].
63. Vartanova E. National Infrastructure for the New Media in Russia // Changing Media and Communications / Ed. by Yassen N. Zassoursky and Elena Vrtanova. - Moscow: Faculty of Journalism/ICAR, 1998.
64. Venturelli S. Prospects for Human Rights in the Political and Regulatory Design of the Information Society // Media and Politics in Transition / Ed. by Jan Servaes and Rico Lie. - Leuven, 1997.
65. Wege in Informationsgesellschaft: Status quo und Perspekttiven Deutschland's im international Vergleich / Fachverband Informationstechnik.
- http://www.bmwi-info2000.de/gip/fakten/status/index.html
66. W. Schramm, "The Challenge to Communication Research". in Ralph O. Nafziger and David Manning White (Eds.) Introduction to Mass Communications Research (Baton Rouge, Louisiana State University Press, 1958)
طشقند في 9/1/2008