الثلاثاء، 22 سبتمبر 2009

العلاقات الدولية الآسيوية الإفريقية بالأمس واليوم 1 من 5

أ.د. محمد البخاري
العلاقات الدولية الآسيوية الإفريقية بالأمس واليوم
طشقند - 2008
تأليف: الدكتور محمد البخاري: دكتوراه علوم (DC) في العلوم السياسية، تخصص: الثقافة السياسية والأيديولوجية، والمشاكل السياسية للنظم الدولية وتطور العولمة. ودكتوراه فلسفة في الأدب PhD، اختصاص صحافة. بروفيسور قسم العلاقات الدولية والعلوم السياسية والقانونية، كلية العلاقات الدولية والاقتصاد بمعهد طشقند الحكومي العالي للدراسات الشرقية.
فهرس المحتويات
المقدمة العلاقات الدولية والعلاقات الدبلوماسية.
الفصل الأول: الدبلوماسية في إطار العلاقات الدولية: الدبلوماسية في إطار السياسة الخارجية؛ الدبلوماسية في إطار العلاقات الدولية؛ الدبلوماسية والقانون الدولي؛ الدبلوماسية في ظل الحروب والنزاعات المسلحة.
الفصل الثاني: من تاريخ العلاقات الدولية: العلاقات الدولية عند الفراعنة؛ العلاقات الدولية عند الإغريق؛ العلاقات الدولية عند الرومان؛ العلاقات الدبلوماسية الدولية عند البيزنطيين؛ العلاقات الدبلوماسية الدولية عند العرب، وفي الخلافة الإسلامية؛ العرب في ما وراء النهر؛ عرب ما وراء النهر في عصر الأمير تيمور (تيمور لانك) ؛ عرب ما وراء النهر والطرق الصوفية؛ الاستشراق الروسي وعرب آسيا الوسطى؛ حاجات أبناء العمومة العرب.
الفصل الثالث: من تاريخ العلاقات الدولية: العلاقات الدولية التقليدية؛ العلاقات الدولية المعاصرة؛ الأجهزة القيادية والإدارية للعلاقات الدولية في الدول الآسيوية الإفريقية؛ الأجهزة التنفيذية في مجال العلاقات الدولية؛ تنظيم وزارات الخارجية.
الفصل الرابع: العلاقات الدولية الآسيوية والإفريقية: الهدف من العلاقات الدولية الأسيوية والإفريقية؛ آثار السيطرة الاستعمارية على بعض الدول لآسيوية والإفريقية؛ وسائل السيطرة الاستعمارية؛ محاولات الدول الآسيوية والإفريقية التصدي لآثار الأساليب الاستعمارية؛ اقتسام الغنائم الاستعمارية؛ أسلوب إنشاء الدول الفاصلة؛ أسلوب المشاركة في الامتيازات وسياسة الباب المفتوح؛ التطور التاريخي للاستعمار؛ ظاهرة الاستعمار الجديد؛ مفهوم الاستعمار الجديد؛ الدول التابعة سياسياً؛ الدول التابعة اقتصاديا؛ الدول التابعة تبعية كاملة؛ الآثار التي سببها الاستعمار في العلاقات الدولية؛ مشاكل إعادة توحيد الدول المقسمة.
الفصل الخامس: الأدوات الاقتصادية في العلاقات الآسيوية الإفريقية الدولية: التعرفات الجمركية؛ القيود الكمية (الحصص)؛ القيود النقدية؛ حظر المبادلات التجارية مع الدول المعادية؛ المقاطعة الاقتصادية؛ ترتيبات الدمج الاقتصادي الإقليمي؛ الإعانات؛ تجميد أو تأميم أو مصادرة الأرصدة المالية لبعض الدول الأجنبية المعادية؛ الأفضلية في توزيع طلبات الاستيراد؛ إجراءات خفض قيمة العملة المحلية.
الفصل السادس: سياسة المعونات الاقتصادية والمساعدات الفنية الخارجية: سياسة المعونات الاقتصادية الخارجية؛ الترتيبات الثنائية للمعونة الاقتصادية؛ المعونات الاقتصادية من خلال برامج منظمة الأمم المتحدة؛ المعونات الاقتصادية في إطار ترتيبات التعاون الإقليمي؛ سياسة المساعدات الفنية الخارجية.
الفصل السابع: العلاقات الدولية لدول شرق آسيا: العوامل الأساسية لإعادة الاستقرار الإقليمي؛ الاتفاقيات الثنائية؛ الاتفاقيات الجماعية؛ المضمون الاقتصادي للتعاون الإقليمي؛ المنظمات الاقتصادية الإقليمية ذات الطابع التكاملي؛ الدور الجديد لجمهورية الصين الشعبية؛ قضية تايوان؛ حل قضية هونغ كونغ؛ الخلافات الحدودية في منطقة جنوب بحر الصين؛ تطور العلاقات اليابانية الأمريكية؛ جمهورية كوريا "الجنوبية" في السياسة الإقليمية؛ "الخطر النووي" في شبه الجزيرة الكورية؛ العلاقات الدولية في الهند الصينية؛ تهدئة الأوضاع الفيتنامية؛ منغوليا في إطار السياسة الإقليمية؛ تحول السياسة الروسية حيال آسيا والمحيط الهادئ؛ العلاقات الصينية الروسية؛ العلاقات الروسية اليابانية؛ الموقف الروسي من الأوضاع في شبه الجزيرة الكورية؛ العلاقات الصينية الأوزبكستانية؛ العلاقات اليابانية الأوزبكستانية؛ العلاقات الماليزية الأوزبكستانية؛ العلاقات الإيرانية الأوزبكستانية؛ العلاقات الدولية في جنوب آسيا.
الفصل الثامن: الشرق الأوسط في العلاقات الدولية: أثار الغزو العراقي على السياسة الخارجية لدولة الكويت؛ أبعاد العدوان المبيت على دولة الكويت؛ ردود الفعل العالمية على الاحتلال العراقي لدولة الكويت؛ دولة الكويت من الاحتلال إلى التحرير؛ الخسائر التي خلفها عدوان نظام صدام حسين على دولة الكويت؛ الأبعاد النفسية والسياسية لحرب تحرير الكويت؛ التوجهات الدولية للسياسة الكويتية وتأثيرها على الأوضاع الداخلية؛ واقع السياسة الخارجية الكويتية بعد حرب التحرير؛ القضية الفلسطينية والتسوية السلمية لمشكلة الشرق الأوسط.
الفصل التاسع: الجذور التاريخية المشتركة للعرب وشعوب وسط آسيا: العلاقات العربية الأوزبكستانية المعاصرة؛ دور وسط آسيا في إبراز الوجه المعتدل للإسلام في مواجهة حركات التطرف الديني؛ الدور الحضاري لأوزبكستان؛ العلاقات الثنائية العربية الأوزبكستانية؛ العلاقات الثنائية المصرية الأوزبكستانية؛ العلاقات الثنائية الجزائرية الأوزبكستانية؛ العلاقات الثنائية الأردنية الأوزبكستانية؛ العلاقات الثنائية الفلسطينية الأوزبكستانية؛ العلاقات الثنائية السعودية الأوزبكستانية؛ العلاقات الثنائية الكويتية الأوزبكستانية؛ العلاقات الثنائية الإماراتية الأوزبكستانية؛ العلاقات الثنائية السورية الأوزبكستانية؛ العلاقات الثنائية المغربية الأوزبكستانية؛ العلاقات الثنائية التونسية الأوزبكستانية؛ العلاقات الثنائية البحرينية الأوزبكستانية؛ العلاقات الثنائية القطرية الأوزبكستانية؛ العلاقات الثنائية اليمنية الأوزبكستانية؛ العلاقات الثنائية العراقية الأوزبكستانية؛ العلاقات الثنائية العمانية الأوزبكستانية؛ العلاقات الثنائية اللبنانية الأوزبكستانية؛ العلاقات الثنائية الليبية الأوزبكستانية؛ العلاقات الثنائية السودانية الأوزبكستانية؛ العلاقات الثنائية الجيبوتية الأوزبكستانية.
الفصل العاشر: إفريقيا في العلاقات الدولية الحديثة.
الفصل الحادي عشر: بعض مؤسسات التعاون الاقتصادي والفني الدولية والإقليمية: وكالة التنمية الدولية؛ صندوق النقد الدولي؛ الصندوق الدولي للتنمية الزراعية؛ منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية؛ منظمة المؤتمر الإسلامي؛ مشروع كولومبو؛ منظمة الوحدة الإفريقية؛ مؤتمر تنسيق التنمية الاقتصادية لدول جنوب إفريقيا؛ بنك التنمية الإفريقي؛ منظمة الكوميسا؛ الرابطة الاقتصادية لغرب إفريقيا؛ الرابطة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا؛ الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية؛ صندوق أبو ظبي للتنمية؛ منظمة الأقطار العربية المصدرة للبترول (أوابيك) ؛ مجلس آسيا والمحيط الهادئ؛ البنك الأسيوي للتنمية؛ رابطة الدول المستقلة؛ منظمة غوام الإقليمية؛ منظمة التعاون الاقتصادي – إيكو؛ منظمة التعاون الاقتصادي لدول البحر الأسود؛ منظمة تعاون دول بحر قزوين؛ الإتحاد الاقتصادي لجمهوريات آسيا المركزية؛ منظمة تعاون آسيا المركزية؛ منظمة أوروآسيا للتعاون الاقتصادي؛ منظمة شنغهاي للتعاون؛ من مؤسسات التعاون العسكري والسياسي الدولية والإقليمية؛ منظمة معاهدة الأمن الجماعي.
الخاتمة
المراجع المستخدمة في الكتاب
المقدمة: العلاقات الدولية والعلاقات الدبلوماسية. يرجع أصل كلمة دبلوماسي Diplomacy إلى اللغة اليونانية القديمة، وتعني الوثيقة المطوية التي تعطي حاملها امتيازات معينة، أو تحوي ترتيبات خاصة للجاليات الأجنبية. فكلمةDiploun لدى الإغريق معناها يطوي. وكانت الوثائق الرسمية عند الرومان تنسخ على ألواح معدنية، وتطوى بطريقة خاصة تسمى Diplomas. ولما كثر استخدام تلك الوثائق، استعملت كلمة دبلوماسي Diplomacy خلال القرون الوسطى للدلالة على دراسة الوثائق وترتيبها وحفظها.
ومع بداية القرن التاسع عشر بدأت كلمة دبلوماسي تأخذ معناها المتعارف عليه الآن، وخاصة بعد مؤتمر فيينا عام 1815، عندما ظهرت كوادر دبلوماسية متميزة عن رجال السياسة والحكم، مهمتها القيام بالاتصالات والعلاقات الدولية وكان من الطبيعي أن يتطور مدلول الدبلوماسية ونطاقها وأساليبها بتطور المجتمع الدولي نفسه، بحيث أصبح اصطلاح دبلوماسية يطلق للدلالة على معان متعددة. فالدبلوماسية أساساً هي إدارة العلاقات الرسمية بين الدول، لأنها تركز على الاتصالات القائمة بين الدول ويعتبرها البعض طريقة لتنظيم العلاقات الدولية. والدبلوماسية أساساً هي علم وفن: علم: يبحث في طريقة إدارة وتنظيم تلك العلاقات، وتبادل البعثات، وتسوية الخلافات. وفن: يعكس أسلوب ممارسة العلاقات الدبلوماسية من خلال السفراء والمبعوثين كل بطريقته الخاصة.
والدبلوماسية كما هي شائعة اليوم ترمز للطريقة التي تدير بها كل دولة علاقاتها مع الدول الأجنبية تنفيذاً لسياستها الخارجية فيقال: الدبلوماسية الأمريكية، والدبلوماسية الروسية، والدبلوماسية الفرنسية، والدبلوماسية السعودية، والدبلوماسية الكويتية، والدبلوماسية السورية، والدبلوماسية المصرية، والدبلوماسية الهندية، وهكذا.. وقد يطلق مصطلح الدبلوماسية على الطريقة التي تدار بها الاتصالات الخارجية بين الدول فيقال: دبلوماسية قادة الدول، ودبلوماسية القمة، والدبلوماسية السرية، ودبلوماسية التنقل أو الدبلوماسية المكوكية، ودبلوماسية المؤتمرات، ودبلوماسية المنظمات الدولية، والدبلوماسية الشعبية، وهكذا.. وتوسع مفهوم مصطلح دبلوماسي في الوقت الحاضر ليصبح رمزاً للباقة والكياسة وحسن التصرف في التعامل مع الغير.
الفصل الأول: الدبلوماسية في إطار العلاقات الدولية. الدبلوماسية في إطار السياسة الخارجية:
السياسة الخارجية للدولة: هي مجموعة الخطط والأعمال والتصرفات التي تؤديها أجهزة الدولة المتخصصة في علاقاتها الخارجية. والدولة عندما ترسم سياستها الخارجية، تضع في اعتبارها أولاً المصلحة الوطنية العليا، معتمدة على ظروفها الداخلية والتاريخية والثقافية والإقليمية، وقدراتها البشرية والاقتصادية والعسكرية، إضافة لموقعها الجغرافي والإستراتيجي المتميز.
والفارق بين السياسة الخارجية والعمل الدبلوماسي، بأن: السياسة الخارجية للدولة تضعها المؤسسات الدستورية ممثلة بسلطة رئيس الدولة، والسلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية، المستمدة من إرادة الشعب. أي أن السياسة الخارجية في الأصل هي قرار سياسي تتخذه السلطات الشرعية في الدولة، من أجل الدفاع عن مصالحها الوطنية العليا، وفق منظور النظام السياسي السائد في الدولة؛ أما الدبلوماسية فهي أداة لتنفيذ تلك السياسة الخارجية المرسومة للدولة، والتي سبق وشارك الجهاز الدبلوماسي للدولة في رسمها عن طريق تجميع وتحليل وتقييم المواقف والمعلومات عن أوضاع الدول الأجنبية من أجل تحقيق كامل أهداف السياسة الخارجية للدولة في إطار العلاقات الدولية المتداخلة والمتشعبة في عصر العولمة.
الدبلوماسية في إطار العلاقات الدولية: من المعروف أن أية دولة من دول العالم لا تستطيع العيش بمفردها، بمعزل عن باقي دول العالم، لأن لها مصالح حيوية في الاتصال الدائم والمستمر بالدول الأخرى، بغرض دعم مصالحها الوطنية، والاقتصادية، والسياسية، والثقافية، والعلمية، والتقنية، والعسكرية، والدفاع عنها. ورعاية حقوق ومصالح مواطنيها في الخارج والمساهمة في عمليات حفظ الأمن والسلام والاستقرار العالمي. والدولة بحاجة لجهاز متخصص يمثلها ويعبر عن رأيها ويهتم بتبادل المصالح مع غيرها من الدول من أجل إدارة علاقاتها الدولية المتشعبة. وهي الوظيفة التي تقوم بها الدبلوماسية لتحقيق الأهداف الموضوعة.
ومنها أن الدبلوماسية هي نتاج مباشر للعلاقات الدولية، ولابد للدبلوماسيين من دراسة واقع وتاريخ العلاقات الدولية والعلاقات الدبلوماسية، لأن ذلك يشكل القاعدة الأساسية التي تبنى عليها العلاقات الدبلوماسية، والعلاقات الدولية بشكل عام. خاصة وأن العلاقات الدولية المعاصرة تشعبت وتداخلت في عصر العولمة، واتسع نطاق العلاقات الدبلوماسية ليتجاوز الإطار السياسي في التعامل بين الدول، ليشمل الجوانب الاقتصادية والثقافية والعلمية والإعلامية والعسكرية وغيرها من الجوانب، لتصب كلها معاً في نهاية المطاف في إطار العلاقات السياسية الدولية.
والدبلوماسية أساساً تمثل شخصية الدولة وسيادتها على الصعيد الدولي، وهي ميدان للعلاقات الدولية، ولا تكفي وحدها لإضفاء حالة من الود والصداقة بين دولتين إذا كانت علاقاتهما غير ودية، ولكن العلاقات الدبلوماسية الناجحة قد تنجح في تلطيف الأجواء واحتواء الخلافات ومن ثم تخفيفها تمهيداً لإزالتها، عن طريق تذليل العقبات والرواسب التاريخية غير الودية بين دولتين أو عدة دول، وتقريب وجهات النظر، وصولاً للتفاهم حول المصالح الوطنية لكل منها. الأمر الذي يحتاج لدراسة متعمقة واعية لواقع وتاريخ العلاقات الاقتصادية والسياسية والثقافية الدولية.
الدبلوماسية والقانون الدولي: القانون الدولي هو: مجموعة من الأسس والقواعد والاتفاقيات المبرمة بين دولتين أو أكثر، خارج أو ضمن إطار المنظمات الدولية أو الإقليمية المعترف بها دولياً، كمنظمة الأمم المتحدة ومنظماتها المتخصصة، ومنظمة الوحدة الإفريقية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، وجامعة الدول العربية، ومجلس التعاون لدول الخليج العربية، ومنظمة شنغهاي للتعاون وغيرها، بغرض تنظيم العلاقات بين الدول في إطار تنظيم دولي محدد تتقيد به العلاقات الدبلوماسية.
والارتباط وثيق بين قواعد القانون الدولي والدبلوماسية لأن ما كان بالأمس عرفاً في العلاقات بين الدول، أصبح اليوم خاضعاً للقوانين والقواعد الدولية الناظمة للأطر الدبلوماسية، ويتم من خلال تلك القوانين والقواعد المعترف بها، توفير الحماية والحصانة الدبلوماسية لأعضاء البعثات الدبلوماسية المعتمدة أينما وجدت. بفارق أن العلاقات الدبلوماسية أكثر مرونة من قواعد القانون الدولي ومصدراً من مصادر أحكامه لأن تلك الأحكام تبقى عرفاً متبعاً في العلاقات بين الدول إلى أن يتم إبرامها في اتفاقيات ومعاهدات موقعة ومعتمدة من قبل المؤسسات الدستورية للأطراف المشاركة فيها، بعد جهود دبلوماسية لتقريب وجهات النظر المختلفة لدول العالم.
الدبلوماسية في ظل الحروب والنزاعات المسلحة: تسعى العلاقات الدبلوماسية أساساً لتحقيق أهداف السياسة الخارجية للدولة، والحفاظ على علاقات ودية بين الدول، خدمة للأمن والسلام والاستقرار العالمي، ولذلك فالدبلوماسية لا تتوقف عند نشوب حرب أو نزاع مسلح بين دولتين أو أكثر بل على العكس نراها تشتد وتتكاثف قبل وخلال وبعد النزاعات المسلحة والحروب بقصد الحيلولة دون نشوبها ووقفها والتخفيف أو تصفية آثارها. وتختلف العلاقات الدبلوماسية أثناء الأزمات وفق مواقف ومصالح الدول المعنية في الصراع: فالدولة التي اختارت الحل العسكري لحسم الوضع لصالحها، تسبق العمليات العسكرية وتواكبها بحملة دبلوماسية مكثفة، الهدف منها تبرير وتفسير أسباب لجوئها لاستخدام القوة المسلحة لحسم الوضع لصالحها، وكسب تأييد وتعاطف الرأي العام العالمي، وعدد كبير من دول العالم لقرارها في اللجوء إلى الحرب، أو على الأقل تحييد مواقف الدول التي لا تؤيد موقفها كي لا تتعاطف مع الخصم أثناء النزاع المسلح.
بينما قد تلجأ الدول الصديقة، ومجلس الأمن الدولي التابع لمنظمة الأمم المتحدة، والتجمعات الإقليمية والدولية الأخرى، وبشكل عاجل إلى تكثيف الجهود والاتصالات بكافة السبل والطرق الدبلوماسية لاحتواء الصراع ووقف القتال بين القوات المتحاربة والفصل بينها، منعاً لتهديد الأمن والسلام في منطقة الصراع وانتشاره لمناطق أخرى.
بينما تلجأ الدول والتجمعات الإقليمية والدولية التي تتأثر مصالحها الوطنية من الصراع إلى تكثيف جهودها الدبلوماسية، لعرض الوساطة بين طرفي الصراع، ومحاولة حل النزاع عن طريق طرح المبادرات السلمية بمبادرة منها، كمبادرة 6+2 التي بادر بها الرئيس الأوزبكستاني إسلام كريموف في تسعينات القرن العشرين لوقف الصراع الدامي على الأرض الأفغانية، أو مبادرة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود لحل القضية الفلسطينية أو قيام الدول الصديقة برعاية مصالح الدولتين المتحاربتين، بعد أن تسبب الحرب بقطع العلاقات الدبلوماسية بينهما.
بينما تكثف الدول العظمى جهودها الدبلوماسية المباشرة، وغير المباشرة، ومن خلال المنظمات الدولية والإقليمية، لاحتواء الصراعات الإقليمية حماية لمصالحها، والتأثير على مسار العمليات العسكرية، بالتدخل مباشرة في الصراع لصالح الطرف الحليف المتورط في الصراع، بشكل ينعكس مباشرة على نتائج الحرب لصالحها وصالح حليفها.
والأمثلة على الجهود الدبلوماسية المكثفة في العلاقات الدولية الحديثة كثيرة ومنها: النزاع العربي الإسرائيلي الممتد عبر أكثر من نصف قرن حول القضية الفلسطينية واحتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية ولأراضي الدول العربية المجاورة لها، والنزاع الهندي الباكستاني المستمر حول جامو وكشمير منذ نصف قرن أيضاً، والتورط العسكري الأمريكي في الحرب الفيتنامية في أواخر الستينات وحتى عام 1975، والتدخل العسكري التركي في قبرص عام 1974، والاجتياح العسكري السوفييتي لأفغانستان عام 1979 والذي كان نقطة البداية للحرب الأهلية التي استمرت حتى الحملة الدولية التي قادتها الولايات المتحدة الأمريكية لإسقاط نظام طالبان في أفغانستان عام 2001، والذي كان مصدراً لتهديد الأمن والاستقرار في منطقة آسيا المركزية وأنحاء مختلفة من العالم، والحرب العراقية الإيرانية عام 1980، واجتياح القوات العراقية لدولة الكويت عام 1990، وحرب تحريرها التي شاركت فيها قوات من أكثر من 60 دولة عام 1991، ومن ثم قيام تحالف دولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية باحتلال العراق وإسقاط نظام صدام حسين عام 2003، والنزاعات في يوغسلافيا السابقة (البوسنة والهرسك، وكرواتيا، وكوسوفو)، وغيرها من النزاعات، والحروب التي خاضتها إرتريا منذ استقلالها ضد جارتيها اليمن وإثيوبيا، بسبب النزاع على الحدود.
الفصل الثاني: من تاريخ العلاقات الدولية. العلاقات الدبلوماسية الدولية قديمة قدم التاريخ، وكانت في المجتمعات البدائية وسيلة للتفاهم بين القبائل تفادياً للاشتباكات وتسوية النزاعات حول حقوق الصيد والمراعي. ورافقها أسلوب إرسال المبعوثين الذي أدى بدوره لظهور مبدأ الحصانة الدبلوماسية لتأمين حياة المبعوثين في مهام دبلوماسية.
وقد عرف التبادل الدبلوماسي قديماً في الحضارات اليونانية، والبابلية، والفرعونية، والصينية، والرومانية، والهندية. وذكر الباحث المصري جمال بركات، أن الإمبراطور الصيني "ياو" (نحو الألف الثانية قبل ميلاد المسيح عليه السلام) كان يستقبل البعثات الدبلوماسية من الدول المجاورة وفقاً لمراسم معتمدة. وأن قانون "مانو" في الهند (نحو ألف سنة قبل ميلاد المسيح عليه السلام)، نص على أن "يختار الملك الحكماء لإرسالهم في بعثات دبلوماسية للدول المجاورة"، وقد حملت النصوص المكتوبة التي بقيت من الحضارتين البابلية، والمصرية، نصوص أولى معاهدات الصداقة والتحالف بين الدول في التاريخ ونصوص المراسلات العديدة بين الدول القديمة.
العلاقات الدولية عند الفراعنة: سجل تاريخ العلاقات الدبلوماسية الدولية في العصور القديمة إسهام الحضارة الفرعونية القديمة في وادي النيل بأول معاهدة مكتوبة عرفها التاريخ الإنساني. وأثبتتها الحفريات الأثرية في تل العمارنة في مصر حيث كشفت اللقيات الأثرية تفاصيل معاهدة "قادش" بين رمسيس الثاني، وملك الحثيين خاتو سيل الثالث والموقعة عام 1278 قبل ميلاد المسيح عليه السلام والمحفوظة اليوم في المتحف المصري بالقاهرة.
وتعتبر هذه المعاهدة من حيث إعدادها وصياغتها نموذجاً لأصول المعاهدات في العلاقات الدولية القديمة وتضمنت مجموعة من البنود، أهمها:
إقرار السلام وحسن الجوار بين الدولتين؛ والتحالف الدفاعي ضد العدو الخارجي؛ وتسليم المجرمين السياسيين (خلافاً للمتبع في المعاهدات الدولية المعاصرة)؛ وتحريم الآلهة لنقض المعاهدة.
العلاقات الدولية عند الإغريق: تتفق معظم المصادر على أن العلاقات الدبلوماسية الدولية بدأت عند الإغريق من خلال العلاقات بين الدويلات اليونانية القديمة، واستندت في ذلك على بعض المصطلحات اليونانية القديمة التي استخدمت في نصوص الاتفاقيات آنذاك والتي لم تزل معروفة في اللغات الغربية حتى اليوم. والسبب كان قيام العديد من دويلات المدن المتجاورة، والمشتركة في المصالح، بنوع من العلاقات الدبلوماسية تضبط علاقات التعاون بينها.
ولم تكن البعثات الدبلوماسية آنذاك بعثات دائمة، بل كانت ذات طبيعة خاصة أو مؤقتة، توكل كل واحدة منها لأكثر من سفير يمثل وجهة نظر المدينة الدولة، وكثيراً ما كان أولئك السفراء يختارون عادة من بين الحكماء والخطباء والشعراء، ويختلفون فيما بينهم حول كيفية معالجة المواضيع التي تكفل الدفاع عن مصالح مدينتهم، أثناء تحدثهم أمام مجالس المدن الأخرى. أما المباحثات فقد كانت تجري سنوياً بين المبعوثين الدبلوماسيين الذين يلجؤون إلى كتابة الاتفاق الذي يتوصلون إليه عن طريق حفره على لوح حجري خاص يعرض على الجميع.
وعرف أسلوب الإغريق في المفاوضات بالحياد والتحكيم في المنازعات بين المدن التي كانت تختار لنفسها في بعض الأحيان مدينة حيادية أو شخص ذو سمعة طيبة من الفلاسفة أو الحكماء للتحكيم في النزاع بينها. كما ونشأ عند الإغريق نظام القناصل، وكان القنصل ينتمي عادة لمواطني المدينة التي يسكن فيها، ومهمته المحافظة على مصالح مواطني المدينة التي عينته قنصلاً لها. وهو ما يشبه اليوم نظام القناصل الفخريين المتبع في بعض الدول.
ومع القرن الخامس الميلادي أصبح للمدن اليونانية القديمة قواعد عامة تحكم علاقاتها الدولية سواء في وقت السلم أم في وقت الحرب، وتضبط معاهداتها، وتنظم عقد المؤتمرات الإقليمية، وتبادل السفراء. وتحدد وظائف القناصل ومهامهم وأسس معاملة الأجانب. أدت كلها للاعتراف بوجود مبادئ إلهية وإنسانية تحكم العلاقات الدولية آنذاك.
العلاقات الدولية عند الرومان: التراث الثقافي والقانوني للرومان تراث غني ولكن العلاقات الدبلوماسية في عهدهم لم تتطور بسبب الأسلوب الذي كان يتبعه الرومان، عن طريق فرض آرائهم على الغير بالقوة والسيطرة، وفرض إرادتهم وعاداتهم وتقاليدهم على الشعوب المستعمرة بالقوة والقهر، الأمر الذي سمح لهم بوضع صيغ قانونية صارمة تربط الأمم الخاضعة لسيطرتهم بمعاهدات تلزمهم بها وتجبرهم على احترام نصوصها. ومن المعروف أن الرومان تفوقوا في القانون، فقد وضعوا القانون المدني الذي طبق على الرومان فقط، وقانون الشعوب الذي طبق على الأجانب والرومان معاً، إضافة لمجموعة من القواعد القانونية وضعوها لضبط حالة الحرب وإنهائها، والمفاوضات وأحكامها، والمعاهدات وإبرامها. كما وأدخل الرومان بعض الإضافات على النظم الدبلوماسية التي كانت متبعة في المدن الإغريقية، كتعيين السفراء، وتفويضهم، وتزويدهم بالتعليمات اللازمة من قبل مجلس الشيوخ، واختيارهم من بين أعضائه البارزين، كما وضع الرومان قواعد لاستقبال السفراء في روما وحصانتهم الدبلوماسية، ولم تكن السفارات آنذاك مقيمة بل قصيرة الأمد.
واهتم الرومان بالمراسم والشكليات، إذ كان السفير يقف عند مشارف مدينة روما حتى يؤذن له بدخولها، وعند دخوله كان ينزل في قصر الضيافة حتى يؤذن له بإلقاء خطابه أمام مجلس الشيوخ، وضمن حقه باصطحاب مترجم، وحق أعضاء مجلس الشيوخ بتوجيه الأسئلة إليه بعد انتهائه من إلقاءه لخطابه، وفي حال رفض مجلس الشيوخ الاعتراف بالسفير الزائر أو السماح له بالتحدث أمامه، كان يحرم من الحصانة الدبلوماسية، ويعاد من حيث أتى تحت الحراسة. كما جرت العادة آنذاك على تحديد مدة زمنية قصوى لانتهاء مهمة السفير، فالمدة المتاحة لسفراء مقدونيا مثلاً كانت ستين يوماً للتوصل إلى اتفاق معهم، ويعتبر السفير بعدها جاسوساً، ويقتاد إلى الشاطئ ليعاد من حيث أتى. وهي من أساليب الضغط التي كانت تمارسها الإمبراطورية الرومانية في التعامل من منطق القوة والغلبة في الحرب والسلم على السواء.
كما واتبع الرومان مبدأ الحصول على رهائن من الطرف المغلوب لضمان تنفيذه للمواثيق والمعاهدات الدولية. وفي حال خرق الطرف المغلوب لبنود المعاهدة كانت الرهائن تعتبر أسرى حرب ويوضعوا رهن الاعتقال، وهو الأسلوب الذي ظل متبعاً خلال القرون الوسطى ولكنه تغير اليوم ليصبح متبعاً خلال العمليات الحربية فقط.
العلاقات الدبلوماسية الدولية عند البيزنطيين: بعد انقسام الإمبراطورية الرومانية إلى دولتين: الدولة الرومانية الغربية وعاصمتها روما؛ والدولة البيزنطية الشرقية وعاصمتها القسطنطينية (اسطنبول اليوم). وظهور دول قوية أخرى في تلك الحقبة التاريخية أمثال: الدولة الأموية الإسلامية في الأندلس (إسبانيا اليوم)؛ والدولة العباسية الإسلامية في بغداد؛ ودولة شارلمان في غرب أوروبا (فرنسا اليوم)، التي حاولت التحالف مع بابا روما.
احتاجت الدولة البيزنطية لعلاقات دبلوماسية دولية خاصة بها فقامت بإنشاء إدارات خاصة تابعة للحكومة الإمبراطورية مهمتها تنظيم العلاقات الدولية للإمبراطورية وإعداد متخصصين ومفاوضين مدربين ودبلوماسيين محترفين يمثلونها لدى الدول الأجنبية التي كانت قائمة آنذاك، وكان من المتبع في ذلك الزمن أن يبعث الإمبراطور الجديد لدى تنصيبه بسفراء إلى الدول الأجنبية يبلغونها بالحدث وكان من المتبع آنذاك أيضاً أن يأخذ السفراء معهم بضائع يبيعونها في السوق المحلية للإنفاق على بعثتهم إلا أن هذا الأسلوب أخذ بالاضمحلال تدريجياً لأنه كان يأخذ كثيراً من وقت السفير في التعاملات التجارية تصرفه عن مهمته الأصلية التي أوفد من أجلها.
وتميزت الدبلوماسية البيزنطية بالاهتمام المفرط بالمراسم والاحتفالات التي أنشأ لها إدارة خاصة للاهتمام بالمراسم والشكليات. ولجأت بيزنطة في تعاملاتها الدبلوماسية الدولية إلى التزييف والخداع والرشوة والنفاق، من أجل إشاعة الفرقة وتشجيع الخصومة بين الدول المجاورة، وإيهامها بقوة الدولة البيزنطية ومنعتها.
وتذكر القصص التاريخية أن الإمبراطورية البيزنطية كانت تلجأ عند استقبالها لسفراء الدول الأجنبية، إلى إقامة احتفال عسكري ضخم، تمر فيه الوحدات العسكرية بكامل أسلحتها في ساحة العرض، وتغادرها من باب، لتعود من باب آخر بأسلحة أخرى لإيهام السفير بأنها وحدات عسكرية أخرى.
كما واتبع الأباطرة البيزنطيون في علاقاتهم الدولية أسلوب التزاوج والمصاهرات مع حكام الدول الأجنبية، لتعزيز مركزهم الدولي ونشر الدين المسيحي الأرثوذكسي الذي يعتنقونه. وكانوا يوفدون لهذه المهمة السفراء ويحملونهم الهدايا النفيسة مما ضاعف من نفقات العمل الدبلوماسي كثيراً.
ومن سمات الدبلوماسية البيزنطية كان استخدام سفاراتها في الدول الأجنبية لأغراض التجسس وتدبير المكائد، والتأثير على الوضع الداخلي في الدول الموفدة إليها. وهو الأمر الذي أدى للخلط بين العمل الدبلوماسي والتجسس.
العلاقات الدبلوماسية الدولية عند العرب، وفي الخلافة الإسلامية: عرف العرب العلاقات الدبلوماسية الدولية قبل الإسلام، بفضل الموقع الإستراتيجي الهام الذي تمتعت به شبه جزيرة العرب، كملتقى لطرق القوافل التجارية البرية المتنقلة بين المحيطات عبر البحار في الشمال والجنوب والشرق والغرب، وهو الوضع الذي ساعد على قيام علاقات تجارية قوية بين العرب وجيرانهم في شرق وشمال إفريقيا عبر البحر الأحمر، والبحر الأبيض المتوسط، وروما عبر بلاد الشام، والبحر الأبيض المتوسط، وفارس عبر الخليج والعراق، والهند عبر بحر العرب والمحيط الهندي. وهذا بدوره فرض على العرب واقع لابد معه من قيام علاقات دولية، ثنائية، وجماعية، وتبادل السفراء والمبعوثين الدبلوماسيين بين القبائل العربية فيما بينها، وبينها وبين دول ذلك العصر، وأهمها الإمبراطوريات: الفارسية، والرومانية، والحبشية. وتذكر المراجع التاريخية قدوم سفراء كسرى الفرس، وإمبراطور الروم، وملك الحبشة إلى الجزيرة العربية، للتهنئة والمفاوضات وعقد الاتفاقيات. كما وتذكر سفارة عبد المطلب بن هاشم إلى أبرهة ملك الحبشة لرد الإبل التي استولى عليها الجنود الأحباش أثناء غزوهم لشبه جزيرة العرب.
وتبدلت الأحوال بعد ظهور الدين الإسلامي وأصبح الهدف الأساسي من العلاقات الدولية، والعلاقات مع الجوار، الدعوة للدين الجديد ونشر الدين الإسلامي خارج شبه جزيرة العرب بعد أن استقر فيها واستهل النبي العربي محمد (ص) علاقاته الخارجية بإرسال المبعوثين من الصحابة (رض) يحملون الرسائل إلى القبائل العربية المتناثرة داخل وحول شبه جزيرة العرب، يحثهم فيها على الدخول في الدين الإسلامي، ويعرفهم من خلالها بمبادئه السامية. وأرسل سفراءه يحملون الرسائل لإمبراطور الروم، وكسرى الفرس، وحكام مصر والحبشة لنفس الغرض. ودعى لعقد المؤتمرات لشرح مبادئ الإسلام وترسيخ مبدأ الحصانة الدبلوماسية للسفراء، عندما قال النبي (ص): "والله لولا أن الرسل لا تقتل، لضربت أعناقكما".
ومع انتشار الدين الإسلامي وقيام الدولة الإسلامية واتساع رقعتها، أخذ النبي العربي (ص) بمبادئ: عقد المعاهدات؛ وإعلان الحرب دفاعاً عن الإسلام؛ وإنذار العدو وإعطائه مهلة كافية للرد؛ وتنظيم الهدنة في الحرب؛ وتبادل الأسرى؛ وإقرار مبادئ السلم. وهو الأسلوب الذي اتبعه من بعده الخلفاء الراشدون (رض). وعند قيام الدولة الأموية وانتقال الخلافة الإسلامية من مكة المكرمة في الحجاز، إلى دمشق في بلاد الشام، استمرت السفارات الإسلامية من حيث طبيعة عملها في عهد الرسول (ص) والخلفاء الراشدين (رض) من بعده.
ورافق اتساع الفتوحات الإسلامية توسع مهام الدبلوماسية الإسلامية، وأصبح العمل الدبلوماسي عنصراً مساعداً في الحرب وعقد الهدنة، وفي تنظيم العلاقة المتوترة بين الخلافة الأموية والإمبراطورية البيزنطية في أواخر القرن السابع الميلادي، عندما تكررت المعارك والصدامات على الحدود بين الدولتين العظميين آنذاك. فكانت مهمة السفراء: عقد الهدنة والصلح؛ وتحقيق الاستقرار على الحدود الخارجية؛ وإبرام المعاهدات؛ التي توفر للخلافة الأموية الوقت اللازم، للتفرغ لتصفية الصراعات الداخلية التي كانت تعصف بالدولة الإسلامية آنذاك. ومن السفارات البارزة في عهد الأمويين، إرسال الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك سفارته برئاسة قتيبة بن مسلم إلى الصين عام 96 للهجرة النبوية الشريفة، يدعوها إلى الإسلام ويطالبها بدفع الجزية.
وفي عهد الخلافة العباسية، وانتقال العاصمة من دمشق في بلاد الشام، إلى بغداد في العراق، استقرت الدولة الإسلامية وازدهرت، واتسعت حدودها، فكان لابد من التوسع في العلاقات الدولية وتوسيع إطار العمل الدبلوماسي، لتلبي متطلبات تقوية العلاقات السياسية والتجارية والثقافية مع الدول المجاورة الدانية والقاصية. لأن الحرب لم تعد وحدها لغة التفاهم الوحيدة مع دول الجوار، بعد أن توقفت سياسة الفتوحات الإسلامية التي استمرت منذ عهد الخلفاء الراشدين، واستمرت في عهد الخلفاء الأمويين. فكان أول ما اهتم به الخلفاء العباسيون هو توسيع علاقاتهم الدولية، عن طريق إرسال السفراء، الذين أرسلوا إلى العاصمة البيزنطية القسطنطينية، وروما عاصمة الإمبراطورية الرومانية، وإلى مملكة البلغار، وإلى دولة الفرنجة في غرب أوروبا، وإلى الهند، والصين. وعقد الخلفاء العباسيون هارون الرشيد، والمأمون، والمعتصم، معاهدات صلح مع الإمبراطورية البيزنطية، وتبادلوا الأسرى معها. واستحدثوا دبلوماسية التبادل الثقافي مع البيزنطيين، لدعم الصلات الثقافية وتبادل البعثات العلمية، وتسهيل مهمة الباحثين العلميين في مدارس البلدين بما يشبه مهمة المستشارين والملحقين الثقافيين في السفارات المعاصرة.
وقويت العلاقة بين الخليفة العباسي هارون الرشيد، وشارلمان ملك الفرنجة، وتبادلا السفارات بينهما عام 801م، من أجل تقوية العلاقات والصداقة بين الدولتين. وعاد شارلمان وأرسل سفارة ثانية إلى هارون الرشيد عام 802م، قابلها هارون الرشيد بسفارة ثانية عام 807م، واقترح فيها إقامة تحالف بينهما يضمن جانب الفرنجة ضد بيزنطة، من ناحية أولى؛ ويضمن جانب العباسيين ضد الدولة الإسلامية الأموية التي أسسها عبد الرحمن الداخل في الأندلس لمنافسة الدولة العباسية التي اتخذت من بغداد عاصمة لها، من ناحية ثانية. وهو ما يسمى في عالم العلاقات الدولية اليوم بسياسة التوازن الدولي وحماية المصالح المشتركة وسط القوى السياسية القائمة ومن ضمن سياسة التوازنات الدولية تلك شهدت العلاقات الدولية في ذلك العصر اتجاه الدولة العباسية الإسلامية في بغداد نحو دولة الفرنجة في بلاد الغال (فرنسا اليوم)، للتحالف معها ضد الدولة الإسلامية الأموية في قرطبة عاصمة الأندلس بينما استمرت الإمبراطورية البيزنطية في تقاربها مع العباسيين في بغداد تحاول التحالف معهم ضد دولة الفرنجة.
وبعد تفكك الدولة الإسلامية إلى ممالك، ودويلات، وإمارات، في أواخر الحكم العباسي. تحولت العلاقات الدولية والدبلوماسية إلى دور جديد، مهمته تطبيع العلاقات الثنائية وتوثيقها بين الخلافة العباسية في بغداد، وتلك الممالك والدويلات والإمارات الإسلامية، إضافة للعلاقات الدبلوماسية مع الدول غير الإسلامية الأخرى.
كما وأرسلت الإمبراطورية البيزنطية خلال تلك الفترة التاريخية سفارات إلى مصر في عهد الأسرتين الطولونية، والإخشيدية، تؤكد لهم من خلالها صداقتها لهم وتطالبهم برد أسراها. وسفارات مماثلة إلى سيف الدولة الحمداني في حلب (سورية)، وسفارة إلى العزيز بالله الفاطمي تطلب من خلالها السماح لها بإصلاح كنيسة القيامة في القدس عام 418 للهجرة.
وانحصرت الدبلوماسية خلال الحروب الصليبية بإجراء المفاوضات وعقد الهدنة بين جيوش المسلمين والصليبيين. ومن أشهر تلك المفاوضات، مفاوضات الهدنة بين الملك العادل شقيق صلاح الدين الأيوبي قائد الجيوش الإسلامية، وريتشارد قلب الأسد قائد الجيوش الصليبية، أثناء حصار مدينة عكا في فلسطين عام 1189م، والتي أسفرت عن هدنة استمرت زهاء ثلاث سنوات وثلاثة أشهر بين الأطراف المتحاربة. واتفاق الهدنة بين المسلمين والصليبيين بعد حصار مدينة دمياط في مصر عام 1218م، ومعاهدة يافا في فلسطين للهدنة بين سلطان مصر الملك العادل وفردريك الثاني قائد الجيوش الصليبية التي استمرت لمدة عشر سنوات.
وفي إطار العلاقات الدولية السائدة في تلك الأيام كان تحالف المسلمين بقيادة صلاح الدين الأيوبي، مع الإمبراطورية البيزنطية المسيحية (الأرثوذكسية) الشرقية ضد الصليبيين المسيحيين (الكاثوليك) عام 1185م، في الوقت الذي قام التحالف المسيحي (الكاثوليكي) الغربي بالتحالف مع المغول ضد المسلمين، وأرسلوا إليهم من أجل ذلك السفراء يحثوا المغول على مهاجمة المسلمين، فسير المغول حملة كبيرة بقيادة جينغيز خان وقيادة هولاكو من بعده دمرت بغداد عاصمة الخلافة العباسية عام 1258م، واستمرت حتى تصدت لها الجيوش الإسلامية في منطقة الجليل (فلسطين) عام 1260م، ليثمر انتصار المسلمين على المغول، بفشل التحالف المسيحي (الكاثوليكي) الغربي المغولي. كما وتحمل صفحات التاريخ أنباء تحالف الإمبراطور المسيحي (الأرثوذكسي) البيزنطي مانويل، مع الأمير تيمور المسلم، ضد العثمانيين المسلمين الذين كانوا يهددون العاصمة البيزنطية القسطنطينية في مطلع القرن الخامس عشر الميلادي.
وعلى ضوء ذلك لم تستمر الحالة بين ملوك أوروبا الغربية والعالم الإسلامي على تلك الحالة وسرعان ما تبادلت الدول الأوروبية السفارات مع الدول الإسلامية. وبعثت البندقية، وجنوا، وفلورنسا وغيرها من الدول الغربية بسفرائها إلى العواصم الإسلامية آنذاك، في حلب (سورية) في القرن الثالث عشر الميلادي، وإلى مصر، وإلى بلاط الأمير تيمور في سمرقند (أوزبكستان اليوم) خلال القرن الخامس عشر الميلادي. كما وأقامت فلورنسا تمثيلاً دبلوماسياً دائماً لأول مرة في الإسكندرية (مصر) فكانت تلك العلاقات أساساً لقيام البعثات التمثيلية الدائمة بين العالمين الغربي والإسلامي. إضافة للسفارات التي تبادلتها الدول الإسلامية في شمال إفريقيا، وشرق البحر الأبيض المتوسط، وآسيا الصغرى والمركزية، والهند، والصين.
ويذكر تاريخ العلاقات الدولية العربية والإسلامية الكثير من القواعد والمبادئ التي تتضمن صفات السفراء وشروط اختيارهم وقواعد المراسم والاستقبالات والحصانة الدبلوماسية، وكان الخلفاء والملوك والأمراء المسلمون، يختارون سفرائهم إلى الدول المجاورة والبعيدة ممن كان كريم المنبت، عريق المحتد، ذا فصاحة وحسن خلق، وذا صبر وحكمة وسعة حيلة.
ومع اتساع العلاقات الدولية للمسلمين مع الدول المجاورة لهم خلال القرنين الثالث عشر، والرابع عشر الميلاديين، ظهر مبدأ التخصص في السفارة، فكان يبعث مثلاً بأحد رجال الجيش للتفاوض على عقد هدنة، أو إرسال سفارة تضم أكثر من شخص واحد "أحدهما صاحب سيف، والآخر من أهل الشريعة، وقد تعزز بثالث من الكتاب. وصاحب الشريعة يقرر ما يسوغ منها وما لا يسوغ، وصاحب السيف يرتب مالا مضرة فيه على الملك ولا جنده ولا حيف ولا مخاطرة، والكاتب يحفظ قوانين السياسة ورسوم المكاتبات وأدب المخاطبات".
ولعل أبرز قواعد العلاقات الدبلوماسية العربية والإسلامية ما نقل عن معاوية بن أبي سفيان أول خلفاء بني أمية في دمشق، وأحد أدهى الحكام العرب المسلمين في عصره، قوله: "لو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، إذا أرخوها شددتها، وإذا شدوها أرخيتها"، وقد أعتبر هذا الأسلوب ذروة في الحنكة والمرونة في السياسة والحكم والعلاقات الدبلوماسية. وكان من قواعد المراسم والاستقبالات في العالم الإسلامي، أن يزود السفراء الموفدين بخطابات اعتماد من قبل الخليفة، أو الملك، أو الأمير، يحررها ديوان متخصص، هو ديوان الرسائل باللغة العربية، أو الفارسية، أو التركية، وأحياناً يصحب السفير مترجم يجيد لغة أهل البلد المرسل إليه.
أما السفراء الوافدون فكانوا يستقبلون بالحفاوة والتكريم اللائق بمرتبتهم. وفي بعض الأحيان يرسل وفداً إلى حدود الدولة لاستقبال السفير وحاشيته، ومرافقته إلى العاصمة حيث ينزل في قصر الضيافة لفترة معينة ليحظى بعدها بمقابلة الخليفة أو السلطان أو الملك أو الأمير. وهو تقليد لا يختلف كثيراً عن ما هو متبع اليوم. وتمسك المسلمون بقواعد "الأمان" للسفراء والمبعوثين، التي شملت حصانة السفير وحاشيته ومتاعه، تمكيناً له من إنجاز مهمته التي أرسل من أجلها. وهي مرادفة للحصانة الدبلوماسية المتبعة في الوقت الراهن. وذكر تاريخ العلاقات الدولية العربية والإسلامية الكثير من القواعد التي لم تزل متبعة حتى اليوم، كوثائق التفويض، وأسلوب توقيع السفير بالأحرف الأولى على الاتفاقية، لتتم الموافقة النهائية عليها وإبرام الاتفاقية من قبل صاحب الشأن.
وأدت الفتوحات الإسلامية إلى انتشار العرب للسكن كغيرهم من شعوب العالم الإسلامي آنذاك في مدن ومناطق مختلفة شملت أنحاء الدولة الإسلامية، وكان لهم خلال قرون عديدة تأثير واضح على البنية السكانية في الدولة الإسلامية والعلاقات بين شعوبها في ذلك الوقت. وكان من نتائج الاستعمار الأوروبي لأنحاء شاسعة من العالم الإسلامي بث شعارات قومية لبذر الفرقة بين أبناء تلك الشعوب وتحارب الوجود العربي بالذات في تلك الأماكن لأنهم كانوا من عوامل الوحدة الفكرية لتلك الشعوب وللقدرة على رص الصفوف لمواجهة الاحتلال والاستعمار الأوروبي، وكمثال نستعرض مصير التواجد العربي في وسط آسيا.
العرب في ما وراء النهر: وتذكر المراجع السوفييتية أن العرب أثناء حملاتهم الأولى لفتح ما وراء النهر تواجدوا في مناطق لوحظ فيها مناطق سكنها العرب في مايمورغ جنوب شرق سمرقند عام 654م، وشاهنيان في حوض نهر سورخانداريا عام 667م، وراميتان وغيرها من المناطق القريبة من بخارى خلال عامي 673 و674م، وفي مناطق بخارى وسمرقند في عام 676م، ومناطق بخارى وسمرقند وحجند خلال الأعوام من 680م وإلى 683م، وترمذ في عام 689م. وتذكر المراجع أن القائد العربي قتيبة بن مسلم قاتل خلال عامي 705 و706م في بلخ، وشومان، وشاهنيان، وباي قند، وبخارى. وفي عام 710م في نسف (الاسم القديم لمدينة قارشي جنوب أوزبكستان اليوم حيث تتركز أكبر نسبة من السكان المنحدرين من أصول عربية في جمهورية أوزبكستان)، وكيش (مدينة شهر سابز اليوم، وهي مسقط رأس الأمير تيمور جنوب أوزبكستان اليوم). وخلال الأعوام من 710م وحتى 712م في خوارزم، وخلال عامي 713م و714م في فرغانة، ومدينة شاش (طشقند عاصمة أوزبكستان اليوم).
وتذكر المراجع مشاركة قبيلة بني بخيل التي ينتمي إليها قتيبة بن مسلم نفسه في تلك الحملات. وفي وقت لاحق من القرن العاشر كما أشارت المراجع ظهرت القبائل العربية: مضر، وربيعة، واليمانية في بخارى حيث أسكنهم قتيبة. وتذكر بعض المراجع أن قتيبة كان ليس كقائد عربي فقط بل حمل لقب بخارخودات قتيبة، وهو ما يثبت أن القبائل العربية سكنت بخارى خلال خمسينات القرن الثامن الميلادي. وهو ما يؤيده برتولد في كتابه "تركستان في عصر الاجتياح المغولي"، وأن حملات الغزاة العرب (كما يسميهم برتولد) امتدت إلى الشمال والجنوب، وشملت بشكل أساسي مجموعات من بني قيس وبني كليب. ومن عرب الشمال بني نزار، وبني معد، ومضر، وربيعة، ووائل، وبكر، وتغلب. وتحدث برتولد في كتابه "التركيبة العرقية للعالم الإسلامي" عن الخلافات الشديدة والتناحر بين القبائل العربية الجنوبية والقبائل العربية الشمالية، وحتى بين الشماليين أنفسهم وهدفه من ذلك معروف.
ويذكر غفوروف ب.غ. في كتابه "الطاجيك في التاريخ القديم والقرون الوسطى"، أن الوالي العربي على خراسان أسد بن عبد الله أثناء حربه ضد خوتاليا (حوض نهري وحش، وقولياب)، في عام 737م، انسحب مع قواته عبر منطقة بنج في جبال الملح (صور، جبال حجي مؤمن). ويتوقع أنه استخدمها للعبور من تشوبك (صور، منطقة موسكو بمحافظة قولياب في طاجكستان اليوم) إلى شام ستان على الأرض الأفغانية.
ومن دون أدنى شك أن تلك المرحلة شهدت أولى حملات الفتح العربي الإسلامي للمنطقة، إضافة للحاميات العسكرية الإستراتيجية التي تركزت في المدن، وبعض التجمعات السكانية العربية في المناطق الزراعية كما يشير بوشكوف ف. ي.، في كتابه "سكان شمال طاجكستان (التشكل والاستيطان)" سكنت القبائل العربية في المناطق الزراعية هناك. وعلى كل حال فهناك إشارة واضحة بأن الحملات الإسلامية تلك في نهاية القرن السابع وبداية القرن الثامن الميلاديين، كان الهدف منها للعرب التعرف بشكل جيد على الأوضاع المعيشية في المناطق الجديدة بالنسبة لهم، من أجل البدء باستعمارها اقتصاديا بشكل مخطط ! ! ؟ (كما ذكر بشكوف بالحرف الواحد). ويتابع أنه ليس صدفة أن قائمة المناطق التي حاربت فيها مجموعات المقاتلين العرب في تلك المرحلة تتطابق بالكامل مع المناطق التي عاشت فيها مجموعات سكانية عربية بشكل دائم حتى القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.
ويثبت ظهور مبعوثي الدولة العباسية في خراسان وما وراء النهر خلال العشرينات والأربعينات من القرن الثامن الميلادي، لنشر الدعوة ضد الدولة الأموية، أن القبائل العربية التي سكنت هناك كانت بالدرجة الأولى من القرشيين الذين ينتسب إليهم الهاشميين وأن سكانها اعترفوا بحقهم بالخلافة. بينما ذكر غفوروف ب.غ.، حقيقة تثبت بطريقة غير مباشرة أن العرب الذين سكنوا خراسان وما وراء النهر كانوا من القرشيين من خلال الحادثة التالية: "أنه بعد وفاة حاكم خراسان عبد الله بن خازم في عامي 691/692م، طلب الموالي في خراسان من الخليفة عبد الملك، أن يولي عليهم أحد الأمويين، لأنه "لا يستطيع أن يحقق الاستقرار في خراسان المضطربة سوى قرشي". نقلاً عن برتولد الذي أكد تواجد بني ثقيف، في بخارى، والقبائل اليمانية في خوتالي وخراسان.
ويذكر غفوروف أن نقطة الارتكاز التي اعتمد عليها العرب الذين تقدموا بعناد نحو الشمال، لعبوا دوراً هاماً في مستقبل التاريخ الإثنوغرافي للمنطقة، من خلال استيطان 50 ألف أسرة عربية في خراسان، هاجرت من البصرة، والكوفة (تقريباً 300 ألف نسمة) ضمن خمس مجموعات بعد الحملات الأولى، خلال الفترة الممتدة مابين الأعوام من 654 وحتى 667م. بينما أشار برتولد "إلى أنه كان تحت قيادة قتيبة في خراسان 40000 عربي من البصرة، و7000 من الكوفة، و7000 عميل (المسلمين المحليين كما يسميهم برتولد).
ويذكر برتولد في كتابه "تركيا، الإسلام والمسيحية" أن القبائل العربية تمكنت خلال الحكم الأموي من الوصول إلى الهند. ويؤكد في كتابه "تركستان في عصر الاجتياح المغولي" تواجد بني أسد، وبني سعد في بخارى والمناطق المحيطة بها، وقبيلة بني أسد المنحدرة من أسد بن عبد الله الكوشيري والي خراسان في القرن الثامن الميلادي، وزعيم الحزب اليماني، وأنهم من القرشيين استناداً لمراجع الجغرافيين العرب في القرن العاشر الميلادي. ويذكر بولشاكوف و.غ.، في كتابه "تاريخ الخلافة" أن تسمية بني سعد جاءت من اسم الشخصية العربية علاء سعدي، التي يمكن أن تكون قرشية أيضاً.
كما ويورد برتولد في كتابيه: "البلعمي"، و"المسيحية في تركستان قبل المرحلة المغولية"، ظهور قبيلة بني تميم في بخارى ومحيطها، وهي القبيلة التي ينتمي إليها ابن البلعمي ووالده، اللذان تقلدا منصب الوزارة في الدولة السامانية، وأن أحفادهما سكنوا المدينة في القرن الثاني عشر، وأن البلعمي الأب سجل لهم عدداً من المباني في مدينة بخارى. وظهور بني حنظله في بخارى خلال القرن العاشر الميلادي. ويذكر فولين س.ل.، في كتابه " تاريخ عرب آسيا الوسطى" نقلاً عن الإصطخري، أن "ويدار وغيرها كانت تابعة لقوم من قبائل بكر بن وائل. اشتهروا باسم بني صبيعة، وكان لهم الحكم في سمرقند".
وهكذا نرى وفق المصادر الروسية أنه عاشت في بخارى والمناطق المحيطة بها، وفي سمرقند وبعض مناطق جنوب أوزبكستان وطاجكستان خلال الفترة الممتدة من القرن السابع والقرن العاشر الميلاديين، قبائل عربية ينحدر بعضها من القرشيين، وبني هلال، وبني ثقيف، والعرب اليمانيين، والبكريين، والمضريين، وبني ربيعة، وبني تميم. جاءت الأربع الأولى من جنوب الجزيرة العربية، والبقية من القبائل العربية الشمالية، الذين تجمعت أكثريتها في ما وراء النهر قادمة من خراسان في الجنوب.
ورغم اتفاق أكثر المصادر على أن العرب الأوائل في ما وراء النهر، قد استقروا في المدن، واندمجوا بسرعة بالسكان المحليين. نراهم يترددون في اعتبار العرب المعاصرين في مدن وسط آسيا من أحفاد الفاتحين العرب الأوائل. ومن ضمن هذا الاتجاه، جاءت آراء بعض الباحثين عن أنه "من غير المستبعد، أن يكون العرب المعاصرون في بخارى ولينين آباد (حجينت) من سلالة أولئك المستوطنين الأوائل في القرون الأولى للإسلام" وتذكر كارميشيفا ب.خ.، في كتابها " مقالات في التاريخ العرقي للمناطق الجنوبية من طاجكستان وأوزبكستان "، وتورسونوف ن.و.، في كتابه " حجينت وسكانها في نهاية القرن الـ 19 وبداية القرن الـ 20" استناداً لبعض المصادر أن التحقق من تسمية الحي العربي طبيعي في بخارى، ولكنه صعب في حجينت، حيث ورد في بعض المراجع، أن حيين يحملان اسم "عربٌ"، عاش في واحد منها أحفاد العرب، بينما حمل الحي الآخر هذا الاسم بعد أن سكنته في السابق أسرة عربية، لم يعرف مصيرها اللاحق. ومن خلال دراسة توضع الأحياء القديمة بالمقارنة مع القسم الحديث من المدينة، والملامح التي يحتفظ بها أحفاد العرب، وتوصل الباحثون إلى نتيجة مفادها أن عرب حجينت سكنوا المدينة منذ وقت قريب. بينما أورد تورسونوف ن.و.، وكوشاكوفيتش أ.أ.، في كتابهما "معلومات عن منطقة حجينت"، أنه للعرب كان في حجينت 92 بيتاً، في بداية القرن العشرين.
وأظهرت الأبحاث الحديثة صورة أكثر تعقيداً. تقول أنه لم تبقى حتى عام 1991 في الحي الجنوبي الشرقي، حيث عاش العرب في السابق، سوى أربع أسر من أصل عربي. ومعهم بقيت أسطورة تقول: أنه في القرن السابع الميلادي (أي أثناء الحملات العربية الأولى!) وصل إلى حجينت سبعة من العرب القرشيين، سكنوا البادية خارج أسوار المدينة، وبدؤوا بالدعوة للإسلام، وتمكنوا خلال فترة قصيرة من دعوتهم إدخال ألف شخص من السكان المحليين في الإسلام، واحتفظوا بدينهم الجديد سراً لبعض الوقت. بينما تذكر مصادر أخرى أن عرب حجينت وصلوا إليها في القرن الثامن الميلادي قادمين من خراسان، أي أنهم من العرب الأوائل.
وتؤكد المصادر والدراسات الميدانية وخاصة التي جرت خلال عام 1991 انصهار العرب بالمحيط المحلي خلال فترة طويلة، والتأكد من أن مناطق سكن العرب حملت تسمية عرب خانة (الحي العربي) كما هو معروف اليوم في المنطقة، وليس "عربٌ" كما ورد في بعض المراجع الروسية السابقة. وأن انصهار العرب في المحيط المحلي تم عن طريق التزاوج واختلاط الأنساب. مثال: زواج جدة شيخ حي عرب خانة أحمد أمير سعيدوف من طاجيكي، كان أبوه في مرحلة الاحتلال الروسي للمنطقة حاكماً لمدينة حجينت.
واستناداً لنتائج الدراسات الميدانية خلال عامي 1987، 1991، فقد تشكل حي عرب خانة الحالي في حجينت، بعد إنشاء آخر أسوار للمدينة. وإضافة للأسر الأربعة التي سبق ذكرها من أحفاد العرب الأوائل، يعيش في الحي الحالي عرب قادمين من أوراتيوبه، وكاني بادام، وبيشاريك، ومرغيلان، وبشقارد (بشكيريا في الفدرالية الروسية حالياً) وغيرها من الأماكن. وفي نفس الوقت اضطر عرب حجينت أنفسهم بسبب ضيق المكان للانتقال للسكن على أطراف المدينة. حيث انتقلوا للسكن في قرية غازيون المعاصرة، حيث تقع مقابرهم (عند مزار كليتش برهان الدين)، وأنشئ في القرية حي عرب خانة، ويسكن فيه اليوم أولاد خالق باي باتشا. بينما انتقلت بعض العائلات للسكن في داشتاك (أولاد ملا سانغيد مولاي عالم) وأونجي أولاد الذين يعيشون في الوقت الحاضر في قرية زاكر عرب.
ولم يحتفظ أحفاد العرب الذين يعيشون الآن في حجينت بأي ملامح مميزة لهم لا في العادات، ولا في التقاليد، ولا في الثقافة العربية، ولا في اللغة، ولا في الطعام، ولا في الملبس، ولا في المنطق، ولا في تقاليد الدفن، بعد أن أصبحت كلها متطابقة مع المحيط السكاني الطاجيكي. إلا في بعض الخصائص المميزة في إضافة عبارة "سيد" التي تشير لانتمائهم إلى سلالة الرسول (ص). وفي حفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب (قارئ)، وهذا ينطبق على النساء اللاتي يطلق عليهن تسمية "بيوتون" وهن النساء اللاتي يقمن بالواجبات الدينية بين النساء. ورغم أن أغلبية العرب في حجينت كانوا من المزارعين، إلا أنه يمكن أن يصادف بينهم نجارون ونحاتون على الخشب، وشعراء محترفون. وأصحاب مطاعم شعبية، ومنهم من حصل على تعليم تقني عالي. بينما تميزت النساء العربيات تقليدياً بالتطريز (سوزاني دوز وريسيداني رسمون) وصنع الخيوط الحريرية.
كما وتذكر نتائج الدراسات الميدانية أن أحفاد العرب يعيشون اليوم أيضاً في قرية كيستاكوز، وفي محيط مدينة أوراتيوبه، وفي قرية كالاتشي عرب، وتوتكي، وتشورباغ. ويذكر بوشكوف، وكارميشيفا أن وضع عرب مدينة كاني بادام وضواحيها، مختلف تماماً عن غيرها من المدن، حيث يعيش فيها من القدم مجموعة كبيرة ومتماسكة من العرب، داخل المدينة ضمن الحي العربي (عرب خانة) الذي يقع في المركز التاريخي للمدينة. إضافة للعرب الذين عاشوا في الأحياء الشرقية من المدينة في حي زاردبيت، وحي عَرَبوني بولو، وعَرَبوني بَيون. إذ من المعروف أن تلك الأحياء قد سكنت أثناء توسيع حدود المدينة مع بداية القرن العشرين. واستناداً لبعض المصادر الروسية فإن العرب سكنوا أطراف المدينة في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وخاصة في قرية باتار (باتاره بالطاجيكية تعني: خاص، باسدار أو بادار فتعني جامع الضرائب أو الحارس)، ويمكن أن يكون العرب قد أنشأوها. وقرية شوركورغان (توره كورغان)، وقرية داشت قره يانتاك، وكانابادام. وكلها تثبت أن العرب يعيشون فيها منذ القدم.
وكما ويورد تورسونوف، وبوشكوف ذكر مزار هاشت صاحبي الذي تم تشييده في القرن العاشر الميلادي على ضريح ثمانية من القادة العسكريين العرب القادمين من المدينة المنورة وسقطوا في المعارك ضد الكفار في منطقة آشت بشمال طاجكستان. ويربط روزييف بين مزار حظرتي بابا الذي شيد في نفس الفترة بقرية تشوركو والعرب. ويتحدث بوشكوف في دراساته كذلك عن "وادي أسامة بن عبد الله البخيلي" (سور كاخ) إلى الشرق من قرية واروخا ويربط بينه وبين حاكم المنطقة آنذاك القائد العسكري العربي البخيلي المشهور حفيد قتيبة. وعن مزار المحدث أبي هريرة في الطريق بين قرية قيزلي وقرية تاغاياك بمنطقة غانتشي. وتشير الروايات إلى أنه دفن فيه احد أوائل الدعاة المسلمين. ومزار خوجه عبد الله أنصاري، في القرية الجبلية أوغوكي (سويداك في المرحلة المبكرة للقرون الوسطى)، والذي يعتبره السكان المحليون موفداً من قبل الرسول العربي محمد (ص)، ويؤكدون أنه جاء إلى المنطقة قادماً من بلاد العرب عبر شمال أفغانستان. وهو ما يؤكده أيضاً برتولد في كتابه "العالم الإسلامي"، عندما يشير إلى أن ظهور العرب في ما وراء النهر كان انطلاقا من خراسان وشمال أفغانستان خلال القرن الهجري الأول، وعاشوا هناك بأعداد ضخمة ضمن مجموعات قبلية كبيرة خلال القرون الوسطى. ومن ثم انصهروا في بوتقة المجتمع الإسلامي المحلي، وفقدوا نتيجة لذلك لغتهم وثقافتهم ونسبهم القبلي والعشائري نتيجة للاختلاط والتزاوج.
عرب ما وراء النهر في عصر الأمير تيمور (تيمور لانك): تتحدث المراجع الروسية كثيراً عن العلاقة المتأزمة التي كانت بين عرب آسيا المركزية والأمير تيمور (تيمورلانك)، وخاصة عرب جنوب طاجكستان، وسمرقند، وقشقاداريا، وبخارى. وتربط بعضها حضور العرب للمنطقة بتاريخ تلك الحقبة التاريخية الهامة من حياة المنطقة. ومنها ما كتبه غريبينكين أ.د. في كتابه "الشعوب الصغيرة في مقاطعة زرافشان (تركستان الروسية آنذاك، وفي أوزبكستان اليوم)" الذي نشر في سانت بتربورغ، عام 1872؛ وأندرييف م.س. في كتابه "بعض نتائج البحث العرقي الميداني بمحافظة سمرقند في عام 1921" الذي نشر في طشقند عام 1924؛ و بوريكينا ن.ن.، وإيزمايلوفا م.م. في كتابهما "بعض المعلومات عن لغة العرب في قرية جوغاري بمقاطعة بخارى في جمهورية أوزبكستان " الذي نشر في ليننغراد عام 1930؛ وكارميشييف ب.خ. في كتابه "عرب آسيا الوسطى" ومواد البحث الميداني الذي أجرته ماداميدجانوفا ز.م. في عام 1987. وتنحصر الروايات التي يوردونها في إطارين:
الأول ويعتمد على ما كتبه أندرييف م.س. عام 1921 عن عرب كاتاكورغان وسمرقند، وذكر أن الأمير تيمور جاء بهم من دمشق، وأورد أندرييف أن الأمير تيمور "كان غير راض عنهم، وقرر نفيهم إلى الصين عبر تركستان. وعندما عبر المنفيون ما وراء النهر، شاهدهم أستاذ الأمير تيمور وملهمه الروحي مير حيدر، وتأسف لحالهم، وطلب من الأمير تيمور الذي وافق على طلبه وأسكنهم سمرقند وكاتتاكورغان. وعرفاناً بالجميل له التزم العرب بدفع ضريبة خاصة لمير حيدر تنتقل من بعده لأحفاده عن أملاكهم وأنفسهم وأحفادهم" وتؤكد المراجع أن قسماً من أولئك العرب موجود اليوم في طاجكستان.
والإطار الثاني ما ذكرته ماداميدجانوفا عام 1987 نقلاً عن العرب الذين يعيشون في الوقت الحاضر في جنوب طاجكستان، وذكروا أنهم جاؤا إلى المناطق التي يعيشون فيها الآن منذ قرابة 400 سنة. وقبلها كانوا يعيشون في الهند التي جلبهم منها الأمير تيمور وأبقاهم للعيش في بلخ. ونتيجة لترحالهم بحثاً عن الكلأ والمرعى انتقلوا من بلخ في أفغانستان، ومن ثم استقروا في وادي بيشكينت، وشغلوا الأراضي الخالية في جنوب طاجكستان. وأن خان بخارى الذي لم تحفظ الروايات اسمه أجبر العرب على تغيير انتمائهم القومي العربي ؟ والانتماء إما للطاجيك أو للأوزبك. ويرجح البعض أن تكون الأسباب الداعية لذلك دينية بحتة. لأن أولئك العرب كانوا من الشيعة، في الوقت الذي كان فيه السكان المحليون هناك من السنة. ولما رفض العرب ما خيرهم عليه خان بخارى، فرض عليهم ضريبة خاصة. فهب للدفاع عنهم مير حيدر، فدفعوا له تلك الضريبة عن طيب خاطر. وذكرت أيضاً أن القسم الآخر من عرب جنوب طاجكستان، جاؤا للاستقرار هناك من غيسارة مع نهاية القرن التاسع عشر.
وللتأكد من الحقائق التاريخية ذكرت الباحثة نقلاً عن غفوروف أن الأمير تيمور كان قد احتل دمشق عام 1401م، وقضى على سكانها الآمنين بقسوة بالغة. واستناداً لما ذكره روي غونزاليس دي غلافيخو أحد أعضاء السفارة الأوروبية لبلاط الأمير تيمور عن مشاهداته في سمرقند عام 1404م، أنه شاهد في المدينة مجموعة كبيرة من العرب الحرفيين، كان جلبهم الأمير تيمور معه إلى سمرقند من دمشق. وهو ما يثبت تلك الحقائق وتقطع الجدل القائم بين الباحثين حول العرب المجلوبين من دمشق، رغم عدم ذكرهم في قصة حياة الأمير تيمور. ومنها ما ذكره فولين س.ل. في كتابه "شعوب آسيا الوسطى وقازاقستان".
كما وتطالعنا المراجع بما يؤكد تجنب الأمير تيمور رغم قساوته وجبروته، لأي صدام مباشر مع رجال الدين، بل على العكس اعتماده عليهم في الكثير من الحالات. وأن أول ملهم ديني له، كان معلم والده في شهر سابز الشيخ شمس الدين قلل (أي الفاخوري). وأن أول حدث هام في حياة الأمير تيمور بعد استيلائه على بلخ عام 1370م ، استقباله لكبار الشيوخ الذين جاؤا إليه من ترمذ، ومن بينهم الشقيقان أبو المعالي وعلي أكبر، الملقبان بـ"خوداواند زادة"، وأسفر لقاءه بهم عن توطيد العلاقة بينه وبين رجال الدين الإسلامي، تلك العلاقة التي لم تنقطع طيلة فترة حكمه. وتذكر المراجع أيضاً لقاءه في نفس العام مع الشيخ سعيد بركة، المولود في بعض الروايات في مكة المكرمة وفي بعضها الآخر في المدينة المنورة، والذي ظل الأمير تيمور على علاقة حميمة معه حتى وفاته، وتم دفنه إلى جواره بعد مماته. وتتحدث المراجع أيضاً عن إقطاع الأمير تيمور الشيخ سعيد بركة، مدينة أندهوي في شمال أفغانستان، التي ظل يحكمها وأحفاده من بعده حتى القرن 15 الميلادي.
ويذكر برتولد في كتابه "أولوغ بيك وعصره"، وكتابه "مقبرة تيمور" أن سعيد بركة توفي عام 1403 أو 1404م في قره باغ (الجبل الأسود)، ودفن في البداية في أندهوي، ومن ثم نقلت رفاته ودفنت إلى جوار قبر الأمير تيمور في سمرقند. ويذكر أن حكم أندهوي بعد وفاة الأمير تيمور انتقل إلى شاه روح. وهو ما يؤكد وجود العرب في شرق خراسان آنذاك.
وتتحدث المصادر عن النفاق الديني الذي كان يتبعه الأمير تيمور في المناطق التي استولى عليها، فتارة كان يفرض المذهب السني، وتارة يفرض المذهب الشيعي. وأن البناء الهام والوحيد الذي شيده الأمير تيمور خارج عاصمته سمرقند ومسقط رأسه شهر سابز، كان الضريح على قبر الشيخ أحمد يسوي، المقدس عند الشيعة ؟ بما فيهم أتباع الطريقة الحيدرية. وأنه أعطى سعيد بركة الأصل المكاوي أو المدني في أندهوي لأنها كانت محاطة بالعرب الرحل. ولأن أندهوي كانت وقفاً للمدن المقدسة مكة المكرمة والمدينة المنورة، أو أن سعيد بركة طلب إعطاءه ضرائب مدينة أندهوي لتلك الأسباب المنطقية والقانونية. خاصة وأن بعض المراجع تذكر أن سعيد بركة من أشراف مكة، وجاء إلى خراسان للإشراف على أوقاف المدن الإسلامية المقدسة فيها، وبعد أن رفض الأمير حسين (منافس الأمير تيمور على السلطة) وضع الأوقاف تحت تصرفه، توجه بطلبه للأمير تيمور وسلمه شارات السلطة الطبل والراية، لقاء وعد منه بتسليمه أموال الوقف. كما ويذكر فولين في كتابه "تاريخ عرب آسيا الوسطى" أن عرب جيناو (في أوزبكستان اليوم)، أكدوا أن الأمير تيمور أسكنهم المنطقة، التي وصلوها من أندهوي، أي إقطاعية الشيخ سعيد بركة. وهو ما يفسر أن علاقة الأمير تيمور بالعرب ورجال الدين قد بدأت من سمرقند، وقارشي، وشهر سابز، ومن هناك امتدت إلى بلخ، وأندهوي، ومن ثم إلى شرق خراسان.
عرب ما وراء النهر والطرق الصوفية: كما وتتعرض بعض المصادر المختلفة لعلاقة العرب بالطرق الصوفية في تلك المرحلة التاريخية، ومنها الطريقة الحيدرية التي كانت واحدة من الطرق الصوفية المنتشرة في خراسان وغيرها من المناطق المجاورة خلال القرون الوسطى. وتربط تلك المصادر هذه الطريقة باسم مؤسسها الشيخ كتب الدين حيدره زاواي (تركي، من آسيا الوسطى، توفي عام 1221م، ودفن في زاويه، تحمل اسم "تربتي حيدري") في خراسان مع نهاية القرن 12 الميلادي. وتذكر بعض المراجع من ضمن هذا الإطار أنها تشكلت في نهاية القرن الـ 14م كطريقة جديدة عرفت بطريقة مير حيدري، نسبة لمؤسسها السلطان مير حيدر توني (توفي في تبريز عام 1427م). وكان لتلك الطريقة أتباع كثيرون ليس في خراسان وحدها، بل وفي بعض مناطق ما وراء النهر وأفغانستان وشمال الهند.
وتربط بعض المصادر الروسية ظهور الطرق الصوفية تلك بالأحداث السياسية والعسكرية العاصفة التي شهدتها المنطقة في بداية القرن الخامس عشر الميلادي. من خلال محاولة رجال الدين الإسلامي وسعيهم للسيطرة والهيمنة على السلطة وأصحاب القرار السياسي والعسكري، ولا تنفي تلك المصادر مسعى مؤسسي تلك الطرق لحسم أوجه الصراع المختلفة التي كانت منتشرة بين السنة والشيعة آنذاك، وخاصة ما يتعلق منها بأموال الوقف الإسلامي، وبيت مال المسلمين. وهو ما ربطته بعض الدراسات بالضريبة الخاصة التي دفعها العرب لمير حيدر في البداية، ومن ثم لشيخ الطريقة من بعده.
ويفسر البعض بذلك ترحيل الأمير تيمور لقسم من العرب من شمال الهند إلى بلخ، التي أسست فيها في أواسط القرن الرابع عشر الأخوة الصوفية الجلالية السهروردية، التي تنتسب إليها مجموعة مير حيدري. ويعتبرون أن أولئك العرب كانوا من تلك الجماعة التي فرضت عليها ضريبة خاصة لقاء رفضها الاندماج بالطاجيك أو الأوزبك، بعد توغلها في عمق خانية بخارى (تحولت بخارى إلى إمارة في عام 1785)، وبالتالي دخولهم ضمن نطاق سلطة بخارى. مما أدى لتعارض صريح في المصالح بينهم وبين السلطات المحلية، لأن العرب يتمتعون بميزة دينية، وهي الميزة التي دفعوا لقاءها ضريبة خاصة سميت خلال القرون الممتدة من القرن الـ 15 وحتى القرن 17 بـ"مال الجهاد". وهو ما يشبه الضريبة التي فرضها الأمير تيمور على القبائل العربية كـ"عقاب" لهم انطلاقا من المصالح السياسية الناتجة عن المعتقدات الدينية لتلك القبائل، ومن المرجح أن تكون بسبب رفضهم المشاركة في الصراع الدموي الدائر على السلطة في المنطقة آنذاك، ورغبتهم بعدم الانحياز لأي طرف من الأطراف المتصارعة.
ويورد برتولد في كتابه "تاريخ الحياة الثقافية في تركستان"، ورسولوف في مقالته "تنظيم جيوش خانيتي بخارى، وقوقند، في القرن التاسع عشر الميلادي" أن عرب قارشي لم يقدموا لجيش أمير بخارى حيدر (1800-1826) سوى 100 من الرماة، مما اضطره لفرض ضريبة كبيرة على العرب لتغطية نفقات جيشه الكبير الذي ضم مقاتلين من عرب سمرقند، وميانكال، وقارشي، وكان في تلك الضريبة ظلماً وإجحافاً شديدين. ومن دون أدنى شك كان ذلك سبباً لتوتر العلاقة بينهم وبينه.
الاستشراق الروسي وعرب آسيا الوسطى
ومن نظرة متفحصة في المراجع الصادرة خلال الفترة الأخيرة من الحكم السوفييتي لآسيا الوسطى وقازاقستان، نطالع تسميات غير واضحة عن نسب القبائل العربية، ولابد أن ذلك حدث بسبب التشويه الكبير الذي لحق بتاريخ المنطقة أثناء الاحتلال الروسي والحكم السوفييتي. فنطالع أسماء قبائل: بالوي، اسكندري، قريش، لورهابي، ميوي، ناوروزي، سعدي، باخشي باي، غورجي، زانغي باي، مير حيدري، رشيدي، سانوني، خوجاغي، شيباني وغيرها من الأسماء. ونرى أن الباحثون قسموا القبائل العربية إلى مجموعات ثلاثة، هي: مجموعة القبائل العربية الأصيلة التي واكبت الفتح العربي للمنطقة؛ ومجموعة عرقية ظهرت خلال القرون الوسطى المتأخرة وحملت تلك القبائل تسميات جغرافية ويعتقد أن بينها قبائل عربية أصيلة؛ والسلالات القبلية العربية الأصيلة التي سكنت المنطقة خلال فترة لا تزيد عن 150 سنة.
ويذكر بولشاكوف في كتابه "تاريخ الخلافة" أن عرب المجموعة الأولى، تنتمي لقبائل جاءت من قلب الجزيرة العربية وهي: قريش، وبني هاشم، وأبو القيس، وبني أبي وقاص، والسادة بني سعدي، وقبائل بني تميم، وبني سعدوني (سعدي، أو سعيدي)، وقبائل عرب الجنوب (اليمنية): قبائل صنعاني، ورشيدي، وقبائل عرب الشمال: شيباني، وبكر بن وائل (بني بكر، بني وائل). ومجموعة قبائل جنوب طاجكستان: عباسي. ويذكر أن التسمية الصحيحة للقبيلة القرشية أبو قويس، هو: بني أبي وقاص، نسبة لمؤسسها سعد بن أبي وقاص، والأصح لاسم جده، وهو أحد صحابة الرسول العربي محمد (ص)، أو القبيلة القرشية بني زهرة. وينسب قبيلة شيباني للبكريين أي بني بكر بن وائل، ويعتقد أن لها قرابة مع القرشيين.
وينسب قبيلة سعدوني، إلى بني سعده ويعتبرها واحدة من القبائل المدنية، التي عقدت مع النبي (ص) اتفاقية رباعية أطلق عليها بولشاكوف اسم "دستور المدينة"، ويذكر أنه كان من بينها قبيلة يهودية عظيمة، ولا يستبعد أن المعاصرين من عرب المنطقة قد احتفظوا بالتاريخ الثقافي للقبائل المرشدة (بيرا سعيدة جلال الدين حسين) من شمال الهند. ويستند إلى فولين الذي ذكر أن وثائق القرن 15 الميلادي، أوردت أن قبيلة بني سعد سكنت خراسان، وتحركت منها نحو الغرب إلى إيران وبالعكس. ويذكر بولشاكوف أيضاً أن القبائل العربية الجنوبية: رشيدي، وصنعاني عاشت في وسط آسيا أيضاً. رغم أن قبيلة رشيدي لم يذكرها المؤرخون في ما وراء النهر في كتاباتهم عن القرون الأولى للإسلام. ويعتقد أن تسمية عباسي قد يكون مصدرها سياسياً بحتاً، وظهرت مع قدوم الدعاة العباسيين للمنطقة. ولا يستبعد أن تكون تلك القبيلة جزء من بعض القبائل التي جاءت للمنطقة مع بداية الفتح الإسلامي في القرن الثامن الميلادي إلى وسط آسيا ومن ضمنها القبائل القرشية.
ويدخل ضمن المجموعة الثانية حسب تصنيف بشكوف، ومادامينوفا، مجموعة القبائل التي حصلت على تسمياتها خلال مرحلة الازدهار في القرون الوسطى (القرون 12-17م)، ومنها قبائل: مير حيدري، واسكندري، وزانغوي (زانغي باي أو زانغوي)، وسعدي خوسا (أو سعد خوسا)، وبهلوي، ولورخابي (أو ليارخوبي)، وغورجي، ونوروزي، وميوي. التي يقسمانها إلى مجموعتين: الأولى لها صلة بالصوفيين الذين انتشروا خلال القرون الوسطى في خراسان، وأفغانستان، وما وراء النهر، وشمال الهند. ويعتبرانها من ملاك الأراضي. ويذكران أن قبيلة زنغي باي جاءت من بابي سينغي، ويعني بابا سينغيين، من شمال أفغانستان، ويمكن أن يكون أصلهم من وسط غيريرود في جبال سينغي سيبا، على وسط الطريق بين هيرات وشهري ناو، ورباطي سينغي من باسين بمنطقة كوشك على الطريق من سلسلة جبال باراباميز إلى قرية سينغي سيبا.
أما سعدي خوسا، وتعني "تابعة لسعد"، فيذكر يوسوبوف في مقالته "بكوية كوباديان في نهاية القرن التاسع عشر"، أنها من قبائل السلالة المعروفة المنسوبة لأحد شيوخ جوبر خوجة سعد بن حجة الإسلام (المتوفي عام 1563م)، الشخصية المؤثرة في قصر عبد الله خان. وكان سعد من كبار ملاك الأراضي في خانية بخارى، كان يملك إضافة لتلك الأراضي، أراض في منطقة كاباديان. ومن افتراض أن تلك الأراضي كانت غير تابعة لسعد، توقع أن تكون مجموعة عرب سعدي خوسا قد توقفت عملياً عن الترحال مع نهاية القرن 16، وتحولت إلى مزارعين عاديين اختلطت بالسكان المحليين، ورافقت مرحلة إنعاش المناطق والأراضي المهجورة التي نهبت وخربت نتيجة لاجتياحها من قبل قبائل الرحل المغولية والتركية، حيث قام شيوخ جوبر وسعد هناك بإنشاء قنوات للري. ويدعم إدعاء شيوخهم نسبهم للنبي (ص) وأحقيتهم بحمل لقب خوجة الذي حمله أمثالهم، بأن قسماً من تلك الأراضي (بما فيها شمال طاجكستان) سكنها القرشيين، وسكنتها من بعدهم واحدة من المجموعات العربية، ومن بينها خوجة غي، التي سميت في الماضي خوجة جوبر أو مازينداران.
أما نسب إسكندري فهو معقد جداً، لعدم وجود أية شخصية معروفة حملت هذا الاسم في القرون الوسطى يمكنها المطالبة بدور رئيسي بين القبائل العربية. وهذا ينطبق على اسكندر بن أفراسياب، أحد أصحاب الأمير تيمور، الذي حكم لبعض من الوقت غرب مازيندران، وقام بعد ذلك بالعصيان ضد سيده وقتل خلال إحدى المعارك. ولا اسكندر بن هيندوبوكا، أحد القادة العسكريين الذين خدموا ألوغ بيك، ونائبه في سمرقند أثناء غيابه عنها. ولكن من المثير ربط هذه التسمية باسم السلطان اسكندر حفيد الأمير تيمور، لأن هذا من غير المعقول، فالسلطان اسكندر كان حاكماً لفرغانة، وتسلم عام 1403م حكم حمدان، وخلال 1409-1415م تسلم حكم فارس وأصفهان، وقتل عام 1416م ولم يلعب أي دور في حياة عرب المنطقة لا من قريب ولا من بعيد.
ويرجح البعض نسب أولئك العرب، لأحد الشيبانيين المشهورين وهو عبد الله بن اسكندر (33/1534-1598م)، الذي تسلم عن جده جاني بيك نتيجة القسمة عام 12/1513م حكم مدينتي كرمين وميانكال، وهي الأماكن التي ظهر فيها فيما بعد العرب الإسكندريين. وقد ولد عبد الله بن اسكندر في قرية أفاريكينت (برينكينت على الطريق من إشتيهان إلى سمرقند في جمهورية أوزبكستان اليوم). وبعد عودة اسكندر خان إلى كرمان، ظهر عبد الله وللمرة الأولى كحاكم، وصد عنها الهجوم الذي تعرضت له عام 1551م من طشقند وسمرقند. وبعد عدة إخفاقات وهو يحاول التثبت في بخارى وقارشي، وشهرسابز، أقام حكمه عام 1555 أو 1556م في كرمان وشهر سابز، واستولى عام 1557م على بخارى. وبعد معارك طاحنة أخضع لحكمه بلخ وسمرقند وطشقند وفرغانة (1573-1583م). واستولى في الجنوب الشرقي على بدهشان، وفي الغرب على خراسان وغيليان، وفي الشمال على خوارزم وبعد فترة قصيرة من وفاته ومقتل ابنه انتقلت السلطة في ما وراء النهر إلى أسرة أخرى.
كما ويتوقع فولين بأن يكون قسم من العرب الذين استوطنوا الشاطئ الأيمن لنهر أموداريا حصلوا على التسمية عام 1513م، عند قيام جاني بيك خان وعبيد الله بتمشيط خراسان وبلخ بعد الاستيلاء عليهما، وإخضاع قسم من سكانهما. وهو ما لا يخلوا من الأساس، خاصة وأن تلك الحوادث كانت قد بدأت خلال مرحلة خاصة من المرحلة الثانية من تاريخ عرب آسيا المركزية، بما فيهم عرب قبائل بهلوي وميرحيدري وإسكندري، لأنه مع نهاية تلك المرحلة، وأثناء حكم عبد الله خان قام بتوطين أبناء جنسه، الذين حملوا اسم أبيه إسكندر. وحسب روايات سكان ما وراء النهر فإن عبد الله بن إسكندر كان يشغل مكانة لا تقل عن المكانة التي شغلها الأمير تيمور في تاريخ ما وراء النهر، وكان اسمه كاسم الأمير تيمور مرتبط بالكثير من الأحداث التاريخية التي عاشها العالم الإسلامي. ويفهم ذلك أيضاً من أن اسم إسكندر ظهر أثناء الأحداث التي جرت خلال القرنين الـ 12 و 13 الميلاديين، وأبقاه جده من بعده في تلك الأماكن التي عاش فيها أولئك العرب.
ويدخل بعض الباحثين ضمن المجموعة الثانية، التي ترتبط تسمياتها، بتسميات جغرافية: كقبيلة بهلوي، مؤكدين نسبها للقبيلة العربية المشهورة بني بهلي التي سكنت أثناء حياة محمد (ص) في المنطقة الشمالية للمدينة المنورة، ويشكك بروك، وبرتولد بذلك لأنه من المعروف على سبيل المثال، أن العرب بعد غزوهم (حسب تعبير برتولد) لما وراء النهر، أطلقوا على أراضي الصغد تسمية "إيران العليا"، وأثناء الاندماج أصبحت بهلوي، تنطق بوليوي، بوليي وغيرها. وأخذت بالانتشار الواسع في خراسان، وشمال أفغانستان، وآسيا الوسطى. وفي نفس الوقت لا يستبعدان، انتسابها للأصل، رغم تأثرها بالمحيط الأجنبي وأخذها الشكل الإيراني اشتقاقاً من الكلمة الفارسية، الطاجيكية (بالا، بولو "أعلى") التي تعني " عالي، أو خارجي، أو نسبة لعرب الشمال" لتمييزهم عن القبائل العربية للمناطق الواقعة إلى الجنوب من إيران، وحتى المناطق الجنوبية من إيران نفسها، لتصبح ذات مدلول جغرافي.
وتأتي ضمن المجموعة الثانية أيضاً قبيلة غورجي، والتي قد تعني "جورجي"، ولكن البعض يعتبرونها تحريف لغورجاتي، أي من غورجاتا في شمال الهند، ونوروزي نسبة لقرية نوروز آباد على نهر غيريرودي، وميوي أي من مرو. ويتوقعون أن تكون تسمية لارخابي، تحريفاً للاهوريين، أي من مدينة لاهور في شمال الهند، وكذلك الحال بالنسبة لقره باغي، وهي تحريف للقره باغيين، أي من قرية قره باغ الواقعة بين قارشي وياكّاباغ. ويربطون بينها وبين الأحداث التاريخية والسياسية التي جرت خلال القرون الوسطى في المنطقة، وسببها انتقال القبائل العربية من مناطق سكنها السابقة لأماكن جديدة فيها.
أما المجموعة الثالثة وتتضمن قبائل اشتقت أسماؤها من اللغات العربية والفارسية والتركية، كغيردون التي يمكن أن تكون من الأصل الطاجيكي غادوندان أي رحل، وكاتتا بو من الأصل الأوزبكي كاتتا "كبير"، وبو "قدم"، أي القدم الكبيرة، ويمكن أن يكون أصلها عربي وجاءت على صيغة الجمع من كلمة "كتب - كتبوا" إشارة إلى الدور الثقافي الذي كانوا يلعبونه في تعليم أهل المنطقة اللغة العربية وتعاليم الدين الإسلامي الحنيف، و"أيوا جا" المعنى العامي لأصل "نعم جاء"، وملاغولي وهي مشتقة من ملا "رجل دين" وغول "أي زهرة". بينما بقيت أمام الباحثين مجموعة كبيرة من القبائل العربية المختلفة النسب والمصدر، مجهولة بالنسبة لهم، كتسميات بني علي، وجمالي، وبيت يمني. ويتوقعون أن تسمية بيريندي يمكن أن تكون مشتقة من تسمية قرية برادان على الفرات الأوسط في العراق، أو من الاسم المؤنث بورادوخت، وهو اسم بنت خوسروف الثاني، الذي حكم إيران لبعض الوقت في القرن السابع. ولا يستبعدون أن تكون هذه التسمية مرتبطة بالأسطورة التي ترددت في القرن التاسع الميلادي عن نبأ "زواج الحسين بن علي بن أبي طالب وزوجته فاطمة الزهراء (رض)، من ابنة آخر الملوك الساسانيين". وتسمية باخشي باي أو باخشاوي، التي جاءت كما يعتقدون من منصب باخشي، وهو اسم كان يطلق على المنشدين في قصور التيموريين. وتسمية قبيلة سورخانوبوش، التي تترجم بالحرف الواحد إلى اللغة العربية بـ "لابس الأحمر"، التي سكنت سورخانداريا، وقبائل بونصاري، وميغليادي، وموشكاكي، وسالبور، وشولبوش، وشوني التي لم يتمكن الباحثون ذكر شيء عنها.
ومن المجموعات الكبيرة من العرب، المجموعة التي تحركت من أندهوي في الجنوب إلى أراضي وسط آسيا، والتي يمكن أن تكون قبيلة شيبانية، قدمت وفق ما ذكرته بوريكينا ن.ن.، وإيزمايلوفا م.م. لزيارة ضريح (مزار) بهاء الدين نقشبندي بالقرب من بخارى واستقرت هناك. وتمت دراستهم في الثلث الأول من القرن العشرين، في قرية جوغاري بمنطقة كيجدوفان بولاية بخارى، واكتشف أنهم قد فقدوا لغتهم العربية. ويذكر فولين س.ل. أن آخر دفعة كبيرة من القادمين العرب جاءت في نهاية القرن السابع عشر. وتتفق المراجع على أن القرن السابع عشر، يمثل المرحلة التي شهدت تغيير الأسر الحاكمة القديمة في آسيا الوسطى، وانهيار التقسيم الإداري والسياسي القديم للمنطقة، الذي بني على أساس التقسيم الجغرافي. ويسجل التاريخ السياسي لتلك المرحلة التاريخية، غياب أي نوع من السلطة المركزية في وسط آسيا، وكثرة تبدل الأسر الحاكمة فيها، نتيجة للحروب الداخلية والغزوات الخارجية الكثيرة، وخاصة في خراسان، وبلخ، وما وراء النهر. وظهرت في الحركة الكبيرة للعرب الكتتاكورغانيين، والسمرقنديين، والطاجيك، التي كانت وفق ما ذكره برهان الدين خاني كوشكيكي، في كتابه "كاتتاغان وبدهشان" نتيجة للحروب الداخلية في بخارى وبدهشان خلال النصف الثاني من القرن السابع عشر. ومن المعروف أنه أثناء حكم صوبخان قولي خان (1680-1702م) لبلخ، كانت هناك قبيلة كبيرة من الأوزبك الكاتاغانيين المتذمرين من هذا الخان، وانتقالها من ضواحي سمرقند للسكن في غيسار وبعد ذلك في قندوز. ومن هناك استولى الكاتاغانيين على غيسار، وقولياب ومقاطعات شمال أفغانستان وشرق خراسان، وهو ما أدى إلى تحديد حركة بعض القبائل، وأدى بالتالي إلى تحرك قسم من عرب أفغانستان إلى مناطق مشتركة بين طاجيكستان وأوزبكستان، بما فيها تلك التي عاشت في السابق في كاتاغاني. وهو ما أكدته روايات عرب قارشي التي أشارت بدقة إلى تلك المرحلة التاريخية.
وقد شهدت تلك المرحلة تنقلات كبيرة للعرب من وراء أموداريا ليس أكثر، وبدأ عرب خانية بخارى (إمارة) بالتدريج بشغل مناطق محددة من أراضي الخانية، وتأقلموا ضمن العلاقات الاقتصادية والاجتماعية في الوسط متعدد القوميات لخانية بخارى. وتعتبر المراجع أن سبب استقرار العرب في تلك المناطق، أنهم كانوا من الرحل، وآثروا السكن هناك لتلاءم الظروف الطبيعية والأحوال الجوية التي تسمح لهم بالتمسك باقتصادهم التقليدي، على الحدود الفاصلة بين الأراضي الزراعية والواحات والبادية بينما اختاروا في الشتاء العيش في الوديان المعزولة قليلة الثلوج، وخرجوا للبادية في الربيع وإلى الجبال في الصيف. وفي نفس الوقت قربهم الدائم من المراعي والمدن المركزية الكبيرة، مما سهل عليهم عملية تبادل المنتجات والمحافظة على استقرار اقتصادهم الخاص داخل النظام الاقتصادي والاجتماعي في إمارة بخارى. وشغلوا فيها موقعاً معيناً سمح لهم بتحقيق بعض المكاسب السياسية، والحفاظ على حد أدنى من التبعية لحكام بخارى، وبسهولة التحرك إلى أطراف الإمارة في حال حدوث أي صدام. وهو ما تؤكده المراجع التاريخية، التي ذكرت أن عرب بخارى شكلوا وحدة إدارية خاصة في العلاقات الاقتصادية، في مناطق ما وراء أموداريا حتى أواسط القرن التاسع عشر، تحت رئاسة ميرخازورامي المنصب الذي ينتقل بالوراثة، وكان شاغل هذا المنصب مسؤولاً أيضاً عن جباية الضرائب والعطاءات. ومع الزيادة الكبيرة في عدد سكان الإمارة، وحضور مجموعات كبيرة العدد من الشمال، شغلت الأراضي المحيطة بأراضيهم التقليدية، أضطر بعضهم إلى ترك الترحال، والانتقال إلى الحياة المستقرة. ومن تلك الدراسات التي راجعناها نجد أن تاريخ العرب على الشاطئين الأيمن والأيسر لنهر آموداريا في وسط آسيا قد قسمته المراجع الروسية إلى مراحل نلخصها في:
المرحلة الأولى: التي رافقت وصول العرب الفاتحين إلى آسيا المركزية خلال القرنين السابع والثامن الميلاديين، واستقرارهم في المنطقة حتى بداية الحملات العسكرية التي قام بها الأمير تيمور في نهاية القرن الرابع عشر الميلادي. عاش خلالها العرب داخل مناطق جديدة بالنسبة لهم، وقاموا خلالها بإيجاد مكان لهم داخل التركيبة الاقتصادية والسكانية للمجتمع المحلي مستفيدين من العامل الديني الهام والدور السياسي الكبير الذي لعبه الدين الإسلامي في حياة المنطقة وحافظ العرب خلالها على ترابطهم وأنسابهم ولغتهم وثقافتهم، وكان لهم مركزاً دينياً خاصاً منحهم الكثير من الميزات الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والسياسية.
المرحلة الثانية: وبدأت مع انطلاق حملات الأمير تيمور ونتج عنها تحطيم التركيبة التقليدية السياسية والاقتصادية السائدة في المنطقة بأسرها، وإلى إعادة توزيع الأدوار السياسية والاقتصادية في المنطقة، التي دفعت نحو تشكيل أرضية جديدة غيرت واقع تسمياتها. وأحلت مكانها تسميات جديدة، ارتبطت في الكثير من الحالات بالمواقف التي اتخذتها الطبقة العليا في المجتمع، وحددت من خلالها علاقاتها القبلية والعشائرية ونفوذها بين جميع القبائل، واستمرت حتى مجيء الغزاة الروس محتلين إلى المنطقة، وشروعهم بتغيير ملامحها السكانية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وفرض ثقافة غريبة عليها، وما نتج عنه من تشويه وطمس مقصود لتاريخ المنطقة، وكان أول المتضررين منه عرب وسط آسيا الذين تمكنت الإدارة الروسية من القضاء على شخصيتهم اللغوية، والدينية، والثقافية، والسياسية، والاقتصادية، تنفيذاً للسياسة الاستعمارية التي رسمتها لنفسها منذ بداية القرن الثامن عشر.
وكان الدور الكبير في طمس معالم التاريخ العريق وتشويهه للاستشراق الروسي الذي بدأ بالتوجه نحو دراسة لغات الشعوب الإسلامية العربية، والفارسية، والتركية، عام 1716 بإيفاد عدد من الطلاب الروس للدراسة في أصفهان عام 1717، رغبة من القيصر الروسي آنذاك بإعداد كوادر روسية خالصة لخدمة المصالح الإمبراطورية الروسية. وأوضح الدور الذي لعبه المستشرقون الروس لتحقيق أهداف الإمبراطورية الروسية في القرن الثامن عشر، والتي حددها غيورغي ياكوب كير، (ولد في شليزينغين عام 1692 وتوفي قي سانت بيتربورغ عام 1740) ماغيستر جامعة ليبزغ، وهو أول مستعرب في أوروبا قرأ الخط الكوفي، وهو الخبير في اللغات السامية والإسلامية، في مشروعه الذي قدمه للحكومة الإمبراطورية الروسية عام 1733. وأوردها برتولد في مقالته"الاستشراق في روسيا في القرن الثامن عشر"، وتتلخص فيما يلي: "خدمة الإدارة الحكومية الروسية، وتأمين حاجتها من المترجمين في اللغات الشرقية، للترجمة وإدارة المناطق التابعة لروسيا، وللعلاقات مع الدول الشرقية، وخدمة توسع الإمبراطورية الروسية، والاستيلاء على تركيا وآسيا الوسطى، ونشر الدين المسيحي بين المسلمين. ولهذا الغرض دراسة اللغات العربية والتركية والفارسية والسريانية والسومرية والإثيوبية واليونانية والصينية والمنشورية والمغولية وغيرها من اللغات الشرقية". ومن نظرة متعمقة نجد أن الأكثرية المطلقة من مؤسسي مدرسة الاستشراق الروسية كانت من الأوربيين الذين قدموا للاستيطان في روسيا، وهم أولئك الذين ربطوا بين تدريس اللغتين العربية والعبرية، وتاريخ أديان وقوانين وعلوم وفنون وعادات العبرانيين والعرب في جامعة موسكو منذ عام 1811، وهو ما أدى إلى نشأة جيل من المستعربين اليهود الروس الذين التحقوا بالدراسة أصلاً لتعلم اللغة العبرية، وكانت لهم اليد الطولى في توجيه حركة الاستعراب ليس في روسيا وحسب، بل وفي مستعمراتها الإسلامية، من خلال الدراسات التي قاموا بها دون سواهم، والمواقع الحساسة التي شغلوها في معاهد الاستشراق التي أسست في أنحاء مختلفة خلال العهد السوفييتي. واستفادوا من ذلك الوضع في كل الظروف والمناسبات لدعم حلمهم بإقامة دولة إسرائيل، الأمر الذي تطلب أولاً القضاء على آخر خلافة إسلامية في الدولة العثمانية، كما حدث فعلاً في مطلع القرن العشرين، ومن ثم العمل بدأب ومثابرة للقضاء على اللغة العربية أو محاربة أو تشويه تدريسها في كل مكان وجدوا فيه، وهي اللغة التي تعتبر من مقومات الحفاظ على نقاء الدين الإسلامي. ولم يألوا جهداً في الإساءة للعرب وتدنيس تاريخهم في كل المناسبات وسخرية القدر أن ذلك كله يتم تحت أبصار البشرية جمعاء تحت شعار الدفاع عن السامية، وكأن العرب لا يمتون لها بصلة خاصة وأنه من المعروف أن العرب والعبرانيين أبناء عمومة وينحدرون من أصل سامي واحد.
ولعل ذلك كان من أسباب الحملة الشعواء التي تعرض لها عرب وسط آسيا، دون سواهم الذين تعرضوا لحملات طمس للشخصية الثقافية التي ميزتهم داخل المجتمع في تركستان الروسية منذ الأيام الأولى للاحتلال، وزادت حدتها خلال الفترة الممتدة مابين ثلاثينات وستينات القرن العشرين. وهي الفترة التي شهدت تركيزاً على دراسة ونشر أبحاث عن لغة عرب آسيا الوسطى السوفييتية قام بها تسيريتلي، وفينيكوف وغيرهما. تمهيداً لشطبهم نهائياً من بين الأقليات العرقية في الاتحاد السوفييتي السابق، وهم وكما تعترف الموسوعة السوفييتية الكبيرة، أنهم: "من الشعوب التي تعيش في وسط آسيا، ضمن مجموعات صغيرة، وخاصة في محافظتي بخارى، وسمرقند في أوزبكستان، بين السكان المحليين الأوزبك، والطاجيك، والتركمان، منصهرين بالتدريج فيهم !؟ (بالحرف الواحد كما ورد في النص وفيه إشارة واضحة للهدف من ذلك)، وعددهم حوالي 8000 شخص، وفق إحصائيات عام 1959. ويتحدث أكثر من 34% منهم بلهجات اللغة العربية، واللغات الأوزبكية والطاجيكية والتركمانية. وتشير الدراسات إلى أنهم من أحفاد العرب القادمين من بلاد الرافدين، وشبه جزيرة العرب، وجاؤا إلى وسط آسيا خلال فترات مختلفة من شمال أفغانستان، ومنها انتقلوا إلى الضفة اليمنى لنهر أموداريا. وثقافتهم وحياتهم شبيهة بثقافة وحياة الأوزبك والطاجيك، ولو أنهم احتفظوا ببعض ملامح ثقافتهم القديمة، ويدينون بالدين الإسلامي، المذهب السني"، ونلاحظ أن العرب اختفوا وبالفعل تماماً من الإحصائيات السكانية التي جرت في الاتحاد السوفييتي السابق بعد ذلك التاريخ، فماذا حل بهم؟ ولماذا هذا الانقراض السريع؟
والجواب نجده في السياسة السوفييتية المعلنة آنذاك، والتي تقول (بالحرف الواحد) في واحدة من الموسوعات السوفييتية: أنه "في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية، هيئت كل الظروف لتطور كل الشعوب والقوميات، وفي المجتمع الاشتراكي "القومية" و"اللغة الأم" يعتبران مفهومان مستقلان، لهذا في برنامج تعداد السكان لعام 1920 اعتبرت اللغة الأم هي اللغة التي يتحدث بها أفراد الأسرة، وفي الأسر المختلطة اعتبرت لغة الوالدة اللغة الأم للأسرة. وفي إحصاء عام 1926، اعتبرت اللغة الأم هي اللغة التي يتحدث بها الشخص المعني بطلاقة (الغريب أن هذا المبدأ طبق على عرب الاتحاد السوفييتي فقط، ولم يتعرض لسواهم من الأقليات التي فقدت لغاتها الأصلية فيه)، وفي إحصائيات عامي 1939 و1959، اعتبرت اللغة الأم هي اللغة التي يفضلها الشخص ذاته. وهو الأسلوب الذي أتبع في إحصاءات السكان خلال عامي 1970، و1979. وفي نفس الوقت أخذت اللغة الثانية التي يتحدث بها الشخص بطلاقة بعين الاعتبار".
وخلال الأعوام من 1970 وحتى 1979 تضاعف عدد الأوزبك الذي يتكلمون اللغة الروسية بطلاقة 5,5 مرات، ووصلت نسبتهم في عام 1979 إلى 52,9% من عدد الأوزبك، بينما كانت 13,1% عام 1970. وبلغ عدد أبناء القوميات الأخرى الذين يقطنون أوزبكستان عام 1979، ويعتبرون اللغة الأوزبكية اللغة الأم لديهم 133.680 نسمة، بينما كان عددهم 72.618 نسمة في عام 1970". ونعتقد أن العرب قد واجهوا الضغوط التي وجهت ضدهم طيلة فترة الاحتلال باختيار اللغة الأوزبكية والحياة في كنف إخوتهم الأوزبك في أوزبكستان، والطاجيكية في طاجكستان، وهكذا في بقية جمهوريات وسط آسيا، هرباً من سياسة الاضطهاد الروسي والسوفييتي. وهو الخيار الصائب الذي اختاروه. وأعتقد أننا لا نحتاج هنا إلى تعليق، بل إلى إضافة أن السلطات السوفييتية استبدلت الحرف العربي بالحرف اللاتيني في الكتابة بآسيا الوسطى في 1/12/1928، واستبدلته بالحرف الروسي في 9/1/1940، قاطعة بذلك الصلة بين شعوب المنطقة وثقافتهم وتاريخهم المكتوب. وأرفقتها بمضاعفة حملتها الشعواء ضد الأديان، وإغلاق المساجد والكنائس، ومحاربة رجال الدين، وهو ما يمكن تصوره من الحالة المرثية التي وصل إليها الناطقين بالضاد خلال تلك الفترة العصيبة من تاريخ وسط آسيا، الذين تعتبر لغتهم من مسببات استمرار زخم الدين الإسلامي الحنيف في المنطقة وهو ما اعتقد به السوفييت أيضاُ، حيث فقدت الأقلية العربية بذلك ليس ثقافتها ولغتها وحسب، بل وفقدت شخصيتها الذاتية داخل المجتمع المحلي التي هي جزء لا يتجزأ منه أصلاً، وبقي الدين الإسلامي في قلوب شعوب المنطقة رغماً عن أنف المستعمر، الدين الذي يلقى رعاية الدولة رغم فصل الدين عن الدولة في دستورها. وخير مثال على ذلك افتتاح الجامعة الحكومية الإسلامية بطشقند رسمياً في احتفال خاص جرى تحت رعاية رئيس جمهورية أوزبكستان إسلام كريموف، وألقى خلاله أبو بكر عباس رفيع سفير المملكة العربية السعودية، والدكتور ممدوح شوقي سفير جمهورية مصر العربية في أوزبكستان كلمات في المناسبة التي جرت في 1/9/1999. إضافة إلى إنشاء صندوق الإمام البخاري الدولي والتوسع في تدريس اللغة العربية والدين الإسلامي في المؤسسات التعليمية الحكومية على جميع المستويات قبل ذلك، وإصدار أول مصحف شريف باللغة العربية مع تفسير معانيه إلى اللغة الأوزبكية في طشقند عام 2001.
حاجات أبناء العمومة العرب: وما يحتاجه أبناء عمومة العرب اليوم هو تكثيف العلاقات الدبلوماسية مع دول المنطقة والاستثمارات الإنتاجية الكبيرة التي تؤمن فرص العمل المنتج وفتح الأسواق العربية بأفضلية أمام منتجات المنطقة من أجل تحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الحالية وتدعيم اقتصاد دول المنطقة خلال الفترة الانتقالية الصعبة. لأن الاستثمارات وخلق المصالح الاقتصادية المشتركة، هي من أفضل السبل التي يمكن أن تبنى على أساسها مبادئ التعاون العلمي والثقافي الذي يعزز من شخصية وشأن الأقلية ذات الأصول العربية شبه المجهولة اليوم في وسط آسيا في الإحصائيات الرسمية على الأقل. والاستثمارات هي الطريق الذي يمكن أن تشجع أطراف المعادلة في العلاقات الثنائية المشتركة بين الحكومات العربية القادرة وحكومات دول وسط آسيا، على دفع التعاون العلمي والثقافي بين مؤسسات التعليم العالي ومراكز البحث العلمي نحو العمل المشترك، وخاصة في مجال الأبحاث التاريخية لخلق جو بناء يساعد على الحوار والتفاهم والعمل المشترك نحو إزالة ما علق بصورة العرب من تشويه ورثته دول المنطقة عن العهد البائد، وتستغله اليوم بعض الجهات المشبوهة للتأثير السلبي على العلاقات المشتركة بين المنطقتين العربية ووسط آسيا وخاصة خلال السنوات الأخيرة، بسبب تقصير البعض، والتسرع والحماس الزائد للبعض الآخر، وجهل الآخرين لحقيقة ما يجري في تلك الجمهوريات الفتية. لأن الاستثمارات العربية في مشاريع التنمية الاقتصادية الإنتاجية في وسط آسيا تخلق نوعاً من الاعتماد المتبادل والثقة بين الدول، وتعزز من الشخصية العربية داخل المجتمع المحلي متعدد القوميات وتعزز من أواصر الصداقة والتفاهم والتعاون المشترك بين الشعوب والحكومات، وتخلق مصالح اقتصادية من صالح الجانبين الدفاع عنها وتعزيزها لما فيه من مصلحة للطرفين.
الفصل الثالث: من تاريخ العلاقات الدولية. العلاقات الدولية التقليدية: تشكلت العلاقات الدولية بشكلها التقليدي المعروف اليوم، خلال القرنين الخامس عشر، والسادس عشر الميلاديين. عندما أنشئت أول بعثة دبلوماسية دائمة في جنوا (إيطاليا) عام 1450م، بتشجيع من دوق ميلانو فرانشيسكو سفورزا. وخلال عقدين من ذلك التاريخ حذت باقي الدول الأوروبية حذو ميلانو وأنشأت بعثات دبلوماسية تمثلها في الخارج. والسفراء لم يكونوا دائماً من بين مواطني الدول التي يمثلونها بل قد تختارهم الدولة المعنية من بين مواطني الدول الأخرى. والنظرة من السفراء في تلك الحقبة التاريخية كانت نظرة شك وريبة وحذر حتى أن البعض كانوا يعتبرونهم جواسيس أجانب. وحسبما جرت العادة كان السفراء يزودون بنوعين من التعليمات: تعليمات علنية الغرض منها توثيق العلاقات التجارية؛ وتعليمات سرية تتعلق بمصادر المعلومات وعقد الصفقات السياسية، ورعاية مصالح البلد الموفد.
وكان من أهم واجبات السفير المعتمد التعرف على أحوال البلد الموفد إليه، والحصول على المعلومات، وإبلاغها بسرعة للدولة التي يمثلها. لأن الصحافة لم تكن معروفة بعد في أوروبا آنذاك، ولهذا كان على السفير أن يلازم حكام البلاد المعتمد فيها لمعرفة ما يدور سراً في قصور الحكم. وفي تلك الحقبة التاريخية وضع نيكولا ميكيافيلي ضمن كتابه "الأمير" الذي صدر عام 1513م، نظريته الشهيرة، والتي تقول بأن الغاية تبرر الوسيلة، أي أن من حق الحاكم اللجوء عند الضرورة للكذب والخديعة والغدر، من أجل فرض سيطرته وتثبيت دعائم حكمه، وأن لا دخل للأخلاق في ذلك. وسرعان ما انتشرت الميكيافيلية في العلاقات الدبلوماسية، وانتشر أسلوب سرقة الوثائق السرية، والرشوة للحصول على المعلومات، والعمل في جو من السرية والخفاء.
وتأثر العمل الدبلوماسي خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر بالأسلوب الفرنسي، الذي ترافق مع ظهور أولى قواعد القانون الدولي، التي نادى بها الدبلوماسي السويدي غروسيوس، الهولندي الأصل، والذي لجأ إلى فرنسا عام 1620م قبل أن يعين سفيراً للسويد في باريس، ضمن كتابه "قانون الحرب والسلام" عام 1625، وتتلخص أفكار غروسيوس بأنه يجب أن يكون هناك قانون طبيعي ينبع من عقل وضمير الإنسانية، ويكون فوق الملوك والحكومات، وطالب بإنشاء جهاز خاص يسهر على تطبيق ذلك القانون على جميع الأطراف.
ويعود الفضل في تأسيس أول وزارة للشؤون الخارجية في العالم عام 1626، لأبرز الشخصيات السياسية المعروفة في ذلك العصر الكاردينال الفرنسي رشيليو، الوزير لدى بلاط ملك فرنسا لويس الثالث عشر. كما ويرجع الفضل لريشيليو في تثبيت مبدأ مصلحة الدول فوق أية اعتبارات أخرى. وهو أيضاً الذي مارس مبدأ المفاوضات واحترام الاتفاقيات والالتزام ببنودها، وحاول توعية الرأي العام بسياسته عن طريق إصدار النشرات للتعريف بأهداف السياسة الخارجية الفرنسية. وتذكر المراجع أنه كان لفرنسا مع نهاية القرن السابع عشر أكثر من عشر سفارات دائمة في العواصم الأوروبية.
وفي القرن الثامن عشر كانت فرنسا مهد لأهم مراجع العلاقات الدبلوماسية في ذلك العصر، عندما صدر كتاب دي كاليير أحد كبار الدبلوماسيين الفرنسيين آنذاك "أسلوب المفاوضة مع الملوك"، الذي أعتبر أساس الدبلوماسية الثقة وليس الخديعة، وهو عكس ما دعى إليه ميكيافيللي الإيطالي. وذكر دي كاليير في كتابه أن المفاوض الناجح يجب أن يتحلى: بالوضوح؛ والأمانة؛ وقوة الملاحظة؛ ودقة الحكم على الأشياء؛ والقدرة على الإنصات؛ والدهاء؛ وحسن التصرف؛ والمجاملة؛ وطيب المعشر.
وإلى جانب الدعوة التي نادى بها كاليير في ذلك العصر، ظهرت الازدواجية في العلاقات الدبلوماسية، التي كانت تفرق بين التعليمات الرسمية، والتوجيهات غير الرسمية. وظلت الدبلوماسية الفرنسية نموذجاً للعلاقات الدبلوماسية. وظلت اللغة الفرنسية لغة العلاقات الدبلوماسية خلال القرن الثامن عشر. واتسمت التعليمات التي زود بها السفراء الفرنسيون آنذاك بالشمول والإحاطة بكل نواحي الحياة السياسية في البلد الذي يعملون داخله، وتضمنت تفصيلات تتعلق بالمراسم والأقدمية وغيرها من الأمور الدبلوماسية التي لم تزل مستخدمة حتى اليوم. والسفير آنذاك كان يزود بخطاب تقديم من وزير الخارجية إلى بعض الشخصيات الرسمية الهامة في البلد الذي سيعتمد فيه. وتميزت تقارير السفراء الفرنسيين إلى حكوماتهم بالإفاضة، والدراية بمجريات الأمور السياسية والاقتصادية في البلد المعتمدين فيه.
بينما لم تهتم بريطانيا بالعلاقات الدبلوماسية إلا في عام 1708، عندما أصدرت الملكة آن قانوناً لحماية المبعوثين الدبلوماسيين من الإجراءات القضائية، بعد الحادثة الشهيرة للسفير الروسي الذي أوقف بقرار من القضاء، لعدم سداد دين ترتب عليه، مما أدى إلى سحب السفير من قبل القيصر الروسي بطرس الأكبر، دون أن يقدم أوراق اعتماده.
وخلال القرن التاسع عشر، استمرت اللغة الفرنسية كلغة للمراسلات الدبلوماسية، وتميزت المرحلة بسيطرة الدول الأوروبية على مصير شعوب العالم آنذاك. فكانت بعض الدول الأوروبية الكبرى، بفضل إمكانياتها الاقتصادية والعلمية والتقنية والعسكرية، تسيطر على مقدرات مستعمراتها المنتشرة في أنحاء العالم وتتحكم بمصائر شعوبها، وتهيمن على الدول الصغرى انطلاقا من مصالحها الخاصة. بحجة المحافظة على السلام الدولي، عن طريق إقامة توازن للمصالح بين الدول الأوروبية الكبرى. وهو ما أدى بدوره إلى ظهور نظرية التحالف، وقيام "الحلف الأوروبي" بين الدول الأوروبية الكبرى من أجل معالجة القضايا العالقة بينها، وفرض ما تقرره على شعوب المستعمرات والدول الصغرى بوسائل الضغط المختلفة المعروفة في العلاقات الدولية المعاصرة.
العلاقات الدولية المعاصرة: تأثرت الدبلوماسية والعلاقات الدولية المعاصرة بثلاثة عوامل، هي:
العامل الأول: التقدم الهائل في وسائل الاتصال الحديثة (المبرقة السلكية، الهاتف السلكي، المبرقة اللاسلكية، الهاتف المحمول، التلكس، التيلي فاكس، الاتصال عن طريق الأقمار الصناعية، شبكات الكمبيوتر العالمية)، التي وفرت للمبعوثين الدبلوماسيين فرصة الاتصال بحكوماتهم وإرسال المعلومات والتقارير، واستلام الردود والتعليمات، أولاً بأول خلال دقائق وفور وقوع الأحداث بدلاً من أشهر وأسابيع كما كان في السابق.
العامل الثاني: التقدم الهائل في وسائل النقل الحديثة براً وبحراً وجواً، الأمر الذي سمح بانتقال الدبلوماسيين جواً عبر العالم خلال ساعات بدلاً من شهور كما كان في السابق. مما سهل عملية التشاور بين الدبلوماسيين وحكوماتهم بسرعة كبيرة.
العامل الثالث: تحرر معظم المستعمرات السابقة وظهور أنواع من الديمقراطيات المتباينة، وتقلص الحكم المطلق، ومشاركة ممثلي الشعب في السلطة من خلال البرلمان، والحكم من خلال المشاركة في اتخاذ القرارات الهامة. وخروج الدبلوماسية من دائرية السرية والكتمان المطلق إلى الدبلوماسية العلنية تحت ضغط الرأي العام، ووسائل الإعلام الجماهيرية (الصحافة المكتوبة والمسموعة والمرئية). ونتيجة مباشرة لنتائج الحرب العالمية الأولى، وقيام عصبة الأمم عام 1920، التي جاء في بيان تأسيسها:"رغبتنا وإرادتنا في أن تكون إجراءات السلام .. علنية، ولا نسمح بأي تفاهم سري من أي نوع، وقد انتهى عهد الفتح والتوسع وعقد الاتفاقيات السرية".
وأدى إعلان الرئيس الأمريكي ويدرو ويلسون لمبادئه الأربعة عشر إلى بروز وامتداد دور الولايات المتحدة الأمريكية كمدافعة عن الحرية والديمقراطية وزعيمة للعالم الغربي بعد زوال النظام الاستعماري التقليدي، وأثناء الحرب الباردة بين الشرق والغرب قبل انهيار المنظومة الاشتراكية التي كان يقودها الاتحاد السوفييتي السابق، وكزعيمة مهيمنة وحيدة للعالم بعد انهياره.
وبعد فشل عصبة الأمم المتحدة في منع نشوب الحرب العالمية الثانية عام 1939، شعرت دول العالم بخطورة المصير الذي يتهدد البشرية نتيجة لتطور صناعة الأسلحة الفتاكة، وأسلحة الدمار الشامل، والعجز عن حل المنازعات عن طريق التفاوض بالطرق الدبلوماسية المعتادة، فشاركت خمسين دولة بعد انتهاء الحرب في مؤتمر سان فرانسيسكو (الولايات المتحدة الأمريكية)، ووقعوا جميعاً في 26/6/ 1945 ميثاق يعلن عن قيام منظمة الأمم المتحدة، وجاء في الميثاق الذي أصبح نافذاً اعتبارا من 24/10/ 1945، المبادئ التالية: إتباع الدبلوماسية العلنية؛ والقضاء على المعاهدات السرية؛ وحق الشعوب بتقرير مصيرها؛ وتحسين العلاقات بين الدول، عن طريق إذكاء روح التسامح وإنماء فكرة التفاهم؛ والمساواة في السيادة بين الدول من الناحية القانونية. ومن أبسط حقوق السيادة إيفاد المبعوثين الدبلوماسيين، وقبولهم، بناءً على الرغبة المشتركة وقبول الجانب الآخر.
وأدى ظهور الرأي العام المحلي والعالمي إلى انتشار الفكر الديمقراطي، الذي أصبح بدوره قوة مؤثرة على اتخاذ القرار السياسي في مختلف دول العالم. ومما ساعد على ذلك تعاظم دور وسائل الإعلام والاتصال الجماهيري المحلية والدولية، وإسهامها في تشكيل الرأي العام العالمي، وخلق نوع من الحوار بين الثقافات والحضارات الإنسانية، ذلك الحوار الذي يمكن أن يأخذ بدور يؤثر مباشرة على العلاقات الدبلوماسية وإدراك الدبلوماسيين لما يدور من أحداث في مختلف أنحاء العالم. ولم يعد التأثير الدبلوماسي على مجريات الأحداث في عصر العولمة كما كان في السابق، لأن الصحافة المقروءة والمسموعة والمرئية وسرعتها الهائلة في نقل الخبر (بالحرف والصوت والصورة والحركة) عبر وسائل الاتصال الإلكترونية الحديثة، أخذت تنافس الدبلوماسيين في عملهم، وفي تحليل الأنباء وتسليط الأضواء عليها. وكثيراً ما يأخذ الدبلوماسيون بالأنباء والتحليلات الصحفية كمصدر للمعلومات التي تتضمنها التقارير الدبلوماسية التي تتصف أكثر من المادة الصحفية بالاتزان والدقة والموضوعية، رغم حالات تحريف وإغفال المعلومات عمداً، إضافة لاستخدام المعلومات كسلاح فتاك جديد، وأداة من أدوات العمل الدبلوماسي المعاصر.
وأدى انهيار الإمبراطوريات التقليدية بعد الحرب العالمية الثانية إلى دخول عناصر جديدة في العمل الدبلوماسي أخذت أربعة اتجاهات رئيسية، هي:
الاتجاه الأول: بروز المجموعة الشيوعية وعلى رأسها الاتحاد السوفييتي السابق، والصين الشعبية، العضوين الدائمين في مجلس الأمن الدولي في منظمة الأمم المتحدة، كقوة عالمية مؤثرة تتسم بالمركزية والسيطرة الداخلية المطلقة، وحكم الحزب الواحد (الحزب الشيوعي)، والهيمنة على الدول الأصغر التي تدور في فلكها داخل المجموعة الشيوعية، وخارجها. مما أدى إلى ظهور كوادر دبلوماسية مؤمنة بالفكر الشيوعي، لها أسلوبها في التعامل الدبلوماسي مع الدول الأخرى، وظهور شخصيات دبلوماسية عالمية مؤثرة مؤمنة بهذا الاتجاه كأندريه غروميكو (مواليد 1909م)، وزير الخارجية السوفييتي السابق، والذي سبق وقدم أوراق اعتماده كسفير لبلاده في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1943م، ومن ثم أصبح وزيراً للخارجية من عام 1957م وعضواً في المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفييتي عام 1973م، حتى وفاته في أوائل تسعينات القرن العشرين وعاصر خلالها أكثر من تسعة وزراء خارجية في الولايات المتحدة الأمريكية.
الاتجاه الثاني: زيادة عدد الدول التي انضمت إلى عضوية الأمم المتحدة (المستعمرات السابقة في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية) إثر استقلالها خلال خمسينات وستينات القرن العشرين. مما أدى إلى ارتفاع عدد الدول الأعضاء في المنظمة الدولية من 50 دولة عام 1945م، إلى 159 خلال الثمانينات من القرن العشرين. وبعد انهيار المنظومة الشيوعية التي كان يقودها الاتحاد السوفييتي السابق واستقلال العديد من دول المنظومة وانفصال واستقلال العديد من الدول الحديثة خلال العقد التاسع من القرن العشرين ارتفع عدد الدول الأعضاء في المنظمة الدولية لأكثر من مائتي دولة.
وواجهت الدول حديثة الاستقلال نقصاً فاضحاً في كوادرها الدبلوماسية، لأن الدول المستعمرة كانت قد أرست قواعدها في العلاقات الدبلوماسية في تلك الدول، كأداة لتثبيت سيطرتها عليها حتى بعد الاستقلال. فكان على تلك الدول أن تبني سياستها الخارجية المستقلة، وأن تثبت سيادتها الوطنية المبنية على مصالحها القومية، وأن تسعى للتخلص من السيطرة والتبعية للدول الكبرى. فأخذت بالتشكل مدرسة دبلوماسية جديدة لها تقاليدها ومراسمها الخاصة، بعيدة عن التقاليد المتبعة في الدول الكبرى.
وبرزت كوادر دبلوماسية مؤهلة في الدول النامية كان لها دوراً بارزاً في العلاقات الدولية، وفي المنظمات الإقليمية والمتخصصة والدولية، من بينها الدبلوماسي البورمي أوثانت، والدبلوماسي الأمريكي اللاتيني بيريز دي كويلار، والدبلوماسي العربي المصري بطرس بطرس غالي، والدبلوماسي الإفريقي كوفي عنان الذين تولوا منصب الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة خلال فترات مختلفة حتى تولى الأمين العام الحالي الدبلوماسي الكوري الجنوبي بان غي مون منصبه الرفيع من سلفه الإفريقي كوفي عنان.
ومن بين الدبلوماسيين البارزين في دول العالم الثالث الدكتور محمد فوزي الذي شغل مناصب دبلوماسية هامة منها سفير مصر في الولايات المتحدة الأمريكية، واليابان، وبريطانيا، وفلسطين، ومندوب مصر في منظمة الأمم المتحدة، ووزير الخارجية عام 1952م، ورئيس الوزراء عام 1970م، ونائب رئيس الجمهورية عام 1972م. وعبد العزيز بوتفليقة وزير الخارجية الجزائري الأسبق، الذي انتخب فيما بعد رئيساً للجمهورية الجزائرية. والأمير سعود الفيصل وزير خارجية المملكة العربية السعودية منذ عام 1975 وحتى الآن.
الاتجاه الثالث: التخصص في الشؤون الدبلوماسية. وبرزت الحاجة إليه مع اتساع دائرة العلاقات الدبلوماسية وتشعبها في إطار العلاقات الدولية المعاصرة، وأصبحت الحاجة تتطلب من الدبلوماسي الإلمام ليس بالشؤون السياسية وحسب، بل وفي الشؤون الاقتصادية والثقافية والعسكرية وغيرها. وأصبح التعامل الاقتصادي والإعلامي يشكلان عنصران هامان في العلاقات الدولية. وأدى هذا الاتساع إلى ضرورة استعانة السفير بمجموعة من الخبراء تتفق وحاجة العمل الدبلوماسي للدولة التي يمثلها، تتفق وحجم العلاقات بين الدولتين. فبدأت بالظهور داخل البعثة الدبلوماسية وظائف جديدة منها المستشارين أو الملحقين: التجاريين؛ والعسكريين؛ والثقافيين؛ والصحفيين؛ والعماليين؛ والسياحيين .. وغيرهم.
الاتجاه الرابع: تشعب العلاقات الدبلوماسية مع ظهور أشكالها الجديدة، منها دبلوماسية المؤتمرات والمنظمات الإقليمية والدولية كمنظمة الأمم المتحدة ومنظماتها ووكالاتها المتخصصة، وظهور الدبلوماسية الشعبية التي يدخل في إطارها الدبلوماسية غير الرسمية من خلال تبادل الوفود الثقافية، والعلمية، والسياحية، والرياضية، والشبابية، والنسائية، والعمالية، وغيرها، والعلاقات الثنائية والجماعية بين المنظمات والهيئات الشعبية، والاجتماعية، والعلمية، والاقتصادية، والسياسية، والإعلامية، المتشابهة.
الأجهزة القيادية والإدارية للعلاقات الدولية في الدول الآسيوية الإفريقية
يعتبر رئيس الدولة قمة الهيكل القيادي لأجهزة العلاقات الدولية في الدول الآسيوية والإفريقية. ويشرف رئيس الدولة (الملك، أو السلطان، أو الأمير في الأنظمة الملكية، ورئيس الدولة أو الجمهورية أو الحكومة في الأنظمة الجمهورية) عادة على: المباحثات والعلاقات الدولية لدولته؛ ويعين وزير الخارجية ضمن التشكيل الوزاري الدستوري؛ ويعين السفراء الذين يمثلون بلاده في الخارج؛ ويعتمد سفراء الدول الأجنبية في بلاده؛ ويحضر مؤتمرات القمة؛ ويحدد السياسة الخارجية لبلاده مستعيناً بالأجهزة المختصة بذلك (البرلمان، وزارة الخارجية، الحزب الحاكم، جهاز الأمن القومي).
وقد توزعت تلك المسؤوليات بين رئيس الدولة ورئيس الحكومة في بعض الأنظمة الملكية الدستورية، أو الأنظمة الرئاسية الأخرى، حيث يقوم رئيس الحكومة بالإشراف على السياسة الخارجية للدولة باعتباره زعيم حزب الأغلبية الحاكمة كما هي الحال في الهند، وإسرائيل، وغيرها من الدول.
ويقود رئيس الدولة العلاقات الدولية لبلاده كونه يرأس ويوجه الأجهزة الدبلوماسية، لأن الدبلوماسية أساساً هي الاتصالات الرسمية بين الحكومات، وتتم عادة إما مباشرة بين رؤساء الدول والحكومات، أو عن طريق الوزارات المختصة والمبعوثين الخاصين والسفراء. وكثيراً ما تدعوا الحاجة إلى أن يتولى رئيس الدولة الاتصالات الدولية بنفسه كما هي الحال في العلاقات الثنائية والجماعية للدول الكبرى، وفي العلاقات بين الدول الحليفة أو الدول المجاورة، أو المشاركة معها في منظمة إقليمية. ودبلوماسية القمة ليست جديدة في العلاقات الدولية، فقد مارسها القادة والملوك في السابق لبحث مصالحهم واتخاذ القرارات بشأنها، وعادت للظهور خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها عندما التقى قادة الدول الحليفة لبحث سير العمليات العسكرية، والأوضاع المترتبة عن الحرب بعد انتهائها.
وبعد الحرب العالمية الثانية ظهرت أيضاً مؤتمرات القمة الدورية لمنظمات دولية وإقليمية، كمؤتمرات قمة الملوك والرؤساء العرب، وقمة رؤساء دول عدم الانحياز، وقمة رؤساء دول منظمة الوحدة الإفريقية، وقمة رؤساء الدول المشاركة بمنظمة المؤتمر الإسلامي، وقمة رؤساء رابطة دول غرب إفريقيا، وقمة منظمة جنوب شرق آسيا، وقمة قادة دول منظمة تعاون دول الخليج العربية، وقمة رؤساء منظمة شنغهاي للتعاون وغيرها من المنظمات. ومن مزايا لقاءات القمة السرعة والحسم في اتخاذ القرارات الهامة. والعادة أن يتم عقد لقاءات القمة بعد إعدادات وجهود مضنية يقوم بها وزراء الخارجية والسفراء المعتمدون تمهيداً لعقد القمة المنتظرة بين رؤساء الدول.
ووزير الخارجية هو المعاون الأول ومستشار رئيس الدولة في العلاقات الدولية، وهو في نفس الوقت صلة الوصل بين حكومته والعالم الخارجي، والسلك الدبلوماسي الأجنبي المعتمد في بلاده. ويشارك في رسم السياسة الخارجية للدولة ضمن صلاحياته، ويشرف على تنفيذها بحكم إدارته لوزارة الخارجية وبعثاتها في الخارج. وفي بعض الدول يعين وزير للشؤون الخارجية يعاون وزير الخارجية في مهام عمله السياسية والإدارية. وفي بعض الدول الأخرى يكتفى بتعيين نائب لوزير الخارجية يكون عضواً في التشكيل الوزاري وتنتهي مهمته بانتهاء مهام الوزارة التي عينته. وفي بعض الدول يسند لوزير الخارجية مهمة نائب رئيس الوزراء لاعتبارات خاصة بتلك الدول. وفي بعض الدول يتم تعيين مستشار لرئيس الجمهورية في شؤون الأمن القومي تقليداً للنظام الرئاسي في الولايات المتحدة الأمريكية.
ومن بين الدول التي أخذت بمبدأ تعيين مستشار لرئيس الجمهورية لشؤون الأمن القومي، جمهورية مصر العربية التي عينت خلال الفترة الممتدة ما بين عامي 1972- 1974م، السيد محمد حافظ إسماعيل مستشاراً لرئيس الجمهورية في الأمن القومي، من أجل إجراء الاتصالات الدولية غير المعلنة، تمهيداً للحرب التي خاضتها مصر وسوريا عام 1973م لتحرير الأراضي التي تحتلها إسرائيل منذ عام 1967، ونجحت مصر بعد جهود سياسية مضنية في استرداد كامل أراضيها المحتلة في شبه جزيرة سيناء عن طريق التفاوض، وتكللت بانسحاب آخر جندي إسرائيلي منها عام 1982، بينما لم تزل المفاوضات السلمية متعثرة على الجانب السوري حتى الآن.
ومن الأجهزة الأخرى المشاركة في العلاقات الدولية وصياغة وتنفيذ السياسة الخارجية للدولة: أجهزة أمن الدولة؛ وجميع وزارات الدولة كل ضمن اختصاصه، وخاصة الدفاع، والمالية، والتجارة والاقتصاد الخارجي، والصحة، والنقل؛ ووسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية؛ والأحزاب السياسية والمنظمات والهيئات الاجتماعية المختلفة ضمن إطار الدبلوماسية الشعبية.
الأجهزة التنفيذية في مجال العلاقات الدولية: وتشتمل الأجهزة التنفيذية للعلاقات الدولية في الدول الآسيوية والإفريقية على: جهاز وزارة الخارجية وديوانها العام؛ والبعثات الدبلوماسية المقيمة في الخارج.
وتعتبر وزارة الخارجية في أية دولة من دول العالم الإدارة المختصة بالعلاقات الخارجية للدولة مع الدول الأخرى والمنظمات الدولية والإقليمية والمتخصصة. ويدخل ضمن اختصاص وزارة الخارجية في معظم الدول الأسيوية والإفريقية: الاشتراك في وضع سياسة الدولة الخارجية وتنفيذها؛ والإشراف على علاقات الدولة مع الدول الأجنبية، والمنظمات الدولية والإقليمية، والهيئات الأجنبية غير الحكومية؛ وتمثيل الدولة لدى الحكومات والمنظمات الأجنبية والبعثات الدبلوماسية والقنصلية، وفروع ومكاتب المنظمات الدولية والإقليمية والهيئات غير الحكومية المعتمدة لديها؛ وتنظيم تبادل التمثيل الدبلوماسي والقنصلي مع الدول الأجنبية؛ وتمثيل الدولة لدى المنظمات الدولية والإقليمية، والمؤتمرات الدولية والإقليمية؛ والتفاوض وعقد الاتفاقيات الدولية والثنائية بكافة أنواعها؛ والتعريف بالدولة في الخارج، وجمع التقارير الواردة من البعثات الدبلوماسية في الخارج، وتقدير المعلومات التي تتعلق بالتطورات التي تؤثر على سلامة وأمن الدولة، أو على علاقتها بالدول والمنظمات والهيئات الأجنبية؛ ورعاية مصالح الدولة بالخارج، ورعاية مصالح رعاياها إذا تطلب الأمر ذلك.
تنظيم وزارات الخارجية: تنظيم وزارات الخارجية متشابه في معظم دول العالم. وتتضمن كل وزارة عدد من الإدارات السياسية والقنصلية والاقتصادية والفنية والإدارية والمالية وغيرها من الإدارات الجغرافية والمتخصصة، والفرق الوحيد بينها ينحصر في تقسيم وتجميع تلك الإدارات من حيث الاختصاص، إضافة لإنشاء إدارات تتفق والمصالح القومية العليا للدولة وسياستها الخارجية وحجم علاقاتها الدولية وتنوعها.
وتقسم الإدارات السياسية عادة حسب المناطق الجغرافية وقد تتسع أو تضيق المنطقة الجغرافية حسب المصالح القومية للدولة. وتجمع بعض الدول في الإدارة الجغرافية الجوانب السياسية والاقتصادية والثقافية، وكل ما يتصل بعلاقات الدولة الخارجية. والبعض الآخر يكتفي بالجانب السياسي الخارجي في إدارة العلاقات السياسية، وتترك الشؤون الأخرى لعدد من الإدارات المتخصصة مع إبقاء التعاون والتنسيق بينها. ومن أهم إدارات وزارة الخارجية: إدارة المنظمات الدولية؛ والإدارة القانونية، والاتفاقيات والمعاهدات الدولية؛ والإدارة الاقتصادية؛ وإدارة العلاقات الثقافية؛ وإدارة المؤتمرات الدولية؛ وإدارة الصحافة والإعلام؛ وإدارة المراسم؛ وإدارة الشؤون القنصلية؛ وإدارة شؤون السلك الدبلوماسي والقنصلي؛ وإدارة الأبحاث والأمن والمعلومات؛ وإدارة الشؤون المالية والإدارية؛ وإدارة التخطيط السياسي؛ وإدارة الشؤون العلمية؛ وإدارة الهجرة؛ وإدارة المعهد الدبلوماسي؛ والديوان العام؛ وإدارة المكتبة.
وتبعث الدول بممثليها من السلك الدبلوماسي، ومبعوثيها في مهمات دبلوماسية لتحقيق هذا الهدف، ومن ضمن الوظائف التي نصت عليها المادة الثالثة من اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام 1961:
تمثيل الدولة المعتمدة في الدولة المعتمد لديها؛ وحماية مصالح الدولة المعتمدة، ومصالح رعاياها في الدولة المعتمد لديها، ضمن حدود القانون الدولي؛ والتفاوض مع حكومة الدولة المعتمد لديها؛ واستطلاع الأحوال والتطورات في الدولة المعتمد لديها، بجميع الوسائل المشروعة. وتقديم التقارير اللازمة عنها إلى حكومة الدول المعتمدة؛ وتعزيز العلاقات الودية بين الدولة المعتمدة، والدولة المعتمد لديها، وتنمية علاقاتها الاقتصادية والثقافية.
وهو ما تقوم به وزارات الخارجية في الدول الآسيوية والإفريقية. ففي جمهورية مصر العربية مثلاً تقوم وزارة الخارجية التي تضم 12 إدارة سياسية جغرافية من بينها إدارات: شؤون فلسطين (إدارة قضية تتمتع بأهمية خاصة في السياسة الخارجية للدولة)؛ والجامعة العربية (إدارة العلاقة مع منظمة إقليمية تتمتع بأهمية خاصة في السياسة الخارجية للدولة)؛ والسودان (إدارة العلاقة مع دولة جارة تتمتع بأهمية إستراتيجية خاصة في السياسة الخارجية للدولة)؛ وإسرائيل (إدارة العلاقة مع دولة جارة تتمتع بأهمية إستراتيجية خاصة في السياسة الخارجية للدولة)؛ ورابطة الدول المستقلة (إدارة العلاقة مع مجموعة من الدول تتمتع بأهمية خاصة في السياسة الخارجية للدولة).
إضافة لسبعة إدارات فنية، منها: إدارة الشؤون الاقتصادية، وإدارة التعاون الدولي (اللتان تعملان بالتنسيق مع وزارة الاقتصاد الجهة المشرفة على العلاقات التجارية الخارجية)؛ وإدارة العلاقات الثقافية والتعاون الفني التي تعتبر من أكبر الإدارات الفنية في وزارة الخارجية المصرية، بحكم مركز جمهورية مصر العربية في العالمين العربي والإسلامي، وفي القارة الإفريقية.
وتقدم جمهورية مصر العربية من خلال علاقاتها الثقافية الدولية الكثير من المنح الدراسية لطلاب من الدول الأجنبية للدراسة في الجامعات المصرية، وفي الأزهر الشريف. وتحرص على علاقاتها مع دول العالم عن طريق عقد اتفاقيات التعاون الاقتصادي والثقافي الثنائية، ووضع برامجها التنفيذية، وتقديم الخبرة المصرية في مجالات التعليم، والإعلام، والطب، والري، والزراعة وغيرها، لمن يطلبها، وخاصة للدول العربية، والإفريقية، ورابطة الدول المستقلة. وتقوم بتنظيم دورات تدريبية في مختلف المجالات الفنية والعلمية والزراعية. إضافة لإحداثها عدد من المراكز الثقافية في الدول الأجنبية ومنها مركز العلوم والتعليم المصري في طشقند الذي افتتح عام 1994.
ويتبع وزارة الخارجية المصرية معهد الدراسات الدبلوماسية الذي أحدث عام 1966 لتدريب العاملين في مجال العلاقات الدولية بوزارة الخارجية. وينظم المعهد دورات تدريبية لمدة سنة دراسية للعاملين الجدد، ودورات خاصة للدبلوماسيين المعينين للعمل في الخارج وزوجاتهم. ودورات تدريبية للملحقين العسكريين والتجاريين والإعلاميين وغيرهم، من الموفدين للعمل في البعثات الدبلوماسية المصرية في الخارج. كما وينظم المعهد دورات تدريبية خاصة للعاملين في مجال العلاقات الدولية من الدول العربية والأجنبية.
وجمهورية مصر العربية عضو في منظمة الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة، وجامعة الدول العربية، ومنظمة الوحدة الإفريقية، ومجموعة دول عدم الانحياز، ومنظمة المؤتمر الإسلامي. ولها علاقات واسعة مع العديد من المنظمات الإقليمية والدولية. وفي عاصمتها القاهرة العديد من المقرات الإقليمية للمنظمات والهيئات الدولية، ومقر جامعة الدول العربية.
الفصل الرابع: العلاقات الدولية الآسيوية والإفريقية. أدت السياسة الاستعمارية التي أتبعتها الدول الأوروبية طيلة قرون من الزمن في مستعمراتها بأنحاء العالم المختلفة، إلى خلق نتائج وآثار خلقتها في العلاقات الدولية الدول الاستعمارية نفسها. لأن الاستعمار لا يخرج في حقيقته عن كونه أحد مظاهر التسلط الاقتصادي والعسكري والسياسي والثقافي والحضاري الذي تمارسه دولة ما على غيرها من الدول، وغالباً ما يكون الهدف من هذا التسلط، الاستغلال الاقتصادي للدولة الخاضعة للسيطرة الاستعمارية، وتسخير إمكانياتها الطبيعية ومواردها البشرية لرفع مستوى الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية للدولة صاحبة النفوذ الاستعماري.
وقد حاولت الدول الاستعمارية دائماً أن تنكر وتخفي الدوافع الحقيقية لسياستها الاستعمارية المتمثلة في التوسع والاستغلال الاقتصادي، وحاولت دائماً أن تركز في دوافعها المعلنة على ما أسمته بدورها التاريخي، ورسالتها الحضارية في المجتمع الدولي، والتي نفذتها لأسباب إنسانية بحتة، وهو إدعاء بالطبع لا يقوم على أي أساس ولا يستند على أية حقيقة من حقائق التاريخ المعروفة. ذلك لأنه بالإضافة للدوافع السياسية والاقتصادية والثقافية للسياسة الاستعمارية، كانت هناك دوافع إستراتيجية بحتة دفعت بالدول الاستعمارية للسيطرة على المستعمرات لتأمين احتياجاتها من المواد الخام ذات الأهمية الإستراتيجية بالنسبة لإمكانياتها الصناعية والعسكرية كالبترول، والمعادن (الدول المنتجة للخامات البترولية والمعدنية في آسيا وإفريقيا مثلاً)، كما أن بعض تلك المستعمرات كانت تمثل حلقات إستراتيجية في طرق المواصلات العالمية، قناة السويس في مصر، وميناء جيبوتي، وميناء عدن في اليمن، وطريق رأس الرجاء الصالح في جنوب إفريقيا، والعديد من الموانئ البحرية والجزر المنتشرة في محيطات العالم.
وقد كان الدافع الإستراتيجي في السياسة الاستعمارية البريطانية الحريصة على مصالحها الإمبراطورية سبباً لإنشائها بحرية ضخمة لحماية تجارتها وإمبراطوريتها في وجه التحديات من قبل الدول الاستعمارية المنافسة الأخرى. وقد أمكنها عن طريق تفوقها البحري أن تسيطر على عدد من القواعد البحرية الهامة مثل مضيق جبل طارق، وجزيرة مالطا، وجزيرة قبرص، وقناة السويس، وميناء عدن، وجزيرة سيلان، وسنغافورة، ورأس الرجاء الصالح في جنوب إفريقيا، وبعض جزر الكاريبي.
وهو الشيء نفسه الذي فعلته الولايات المتحدة الأمريكية عام 1947 عندما سيطرت على بعض الجزر التي كانت خاضعة للانتداب الياباني في غرب المحيط الهادئ وهي جزر مارشال، وكارولينا، وماريانا، وكانت هذه السيطرة الوسيلة لدعم أمن جزر هاواي التي تعتبر ذات أهمية إستراتيجية خاصة في الدفاع عن غرب القارة الأمريكية. وفي بعض الأحوال قامت الدول الاستعمارية باحتلال وقائي، ضمت بموجبه أراض متاخمة لعدو يهدد مستعمراتها، لاتخاذها أداة لردعه عن تنفيذ أية سياسات معادية لمصالح الدولة التي قامت بالضم، ومن الأمثلة التاريخية لذلك توسع إنجلترا في الهند واحتلالها لبورما، إذ كان الهدف من وراء الاستيلاء على هذه القواعد الأرضية مجابهة التهديدات الروسية والفرنسية، وكذلك فعل الهولنديون باحتلالهم لجزر الهند الشرقية، وحدث ذلك أيضاً في بعض الحالات في إفريقيا وكان القصد منه دعم قدرة الدول الاستعمارية على المساومة في مواجهة بعضها بعضاً.
وإلى جانب ذلك استخدام القوة البشرية في المستعمرات لمساندة المجهود العسكري للدولة الاستعمارية ومن أمثلة ذلك استخدام القوات الهندية والمغربية والسنغالية وغيرها في الحروب العالمية الماضية لتعويض النقص الفاضح في القوة البشرية لتلك الدول الاستعمارية.
ورغم التطور الهائل والانفراج الذي شهدته البشرية خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين، فإن النتائج والآثار الناتجة عن السياسة الاستعمارية ودوافعها، لم تزل مهيمنة وتؤثر في أجواء العلاقات الدولية المعاصرة، ومردها: أن الاستعمار ارتبطت به ممارسة أبشع سياسات الاستنزاف والاستغلال الاقتصادي، إلى حد عرقل بشدة من قدرة الدول والمناطق التي خضعت للاستعمار الأوروبي على النمو الاقتصادي والاجتماعي، وقد أنتج ذلك أوضاعاً من التخلف لازالت تعاني منها تلك الدول الشيء الكثير حتى اليوم.
خاصة وأن الدول الاستعمارية عندما كانت تطبق سياسة الاستنزاف الاقتصادي على مستعمراتها، كانت في الوقت نفسه تحقيق عدة نتائج لصالحها، هي بمنتهى الخطورة بالنسبة للمستعمرات، منها: أن الدول الاستعمارية استطاعت أن تتحكم بمعدلات التبادل الاقتصادي بينها وبين تلك الدول التابعة لها، بالصورة التي وفرت لها كل المزايا الاقتصادية والمادية دون أي اعتبار للأضرار الفادحة التي لحقت بالمستعمرات؛ وأن الدول الاستعمارية تمكنت من احتكار أسواق الدول التابعة لها، وإغلاقها في وجه منافسة الوردات التي تأتي من الدول الأخرى. وقد دعم من هذه السيطرة الاحتكارية على أسواق المستعمرات. قيام الدول الاستعمارية بوضع قيود وتنظيمات نقدية على تلك المستعمرات بطريقة أجبرتها بها على التقيد بالشراء من داخل المناطق النقدية التي تهيمن عليها. وكان معنى ذلك أن الدول التابعة لم يكن بإمكانها أن تستورد ما تحتاج إليه من السلع من المناطق النقدية الأخرى، حتى ولو كانت أرخص ثمناً، وذلك بسبب امتناع الدول الاستعمارية عن إعطائها النقد الأجنبي اللازم لتمويل وارداتها ومشترياتها من تلك المناطق.
وفي نفس الوقت عملت الدول الاستعمارية على تنمية أرصدتها من العملات الصعبة التي تحصل عليها من صادرات مستعمراتها إلى الدول الأخرى. واستخدمت تلك الأرصدة في تدعيم المركز المالي والاستغلال للدولة المستعمرة، وفي تمويل مشترياتها من الدول الأجنبية. ومن أمثلة ذلك أن صادرات الملايو من المطاط استخدمت في تنمية احتياطيات إنجلترا من الدولار بعد أن كان هذا الاحتياطي مهدداً بالهبوط. وأن صادرات آسيا المركزية في العهد السوفييتي من القطن والذهب والمعادن والنفط والغاز كانت تستخدم لزيادة احتياطيات روسيا من العملة الصعبة.
وأن الشركات والمصالح التي قامت بعملية الاستغلال الاقتصادي لحساب الدولة المستعمرة عملت على نزح الأرباح الطائلة التي جنتها إلى الخارج وإعادة توظيفها بما يعود بالرفاهية على الدولة المستعمرة وحدها، ولم يخصص أي جانب منها على الإطلاق لمحاربة أوضاع التخلف أو تحسين ظروف الحياة في المناطق التي قاست من وطأة هذا الاستغلال الاقتصادي.
وقد أدت تلك العوامل مجتمعة إلى تعميق الهوة الاقتصادية التي تفصل بين الطرفين، فالدولة التي حصلت على استقلالها، تعتبر أن الدولة المستعمرة مسؤولة بالدرجة الأولى عن تخلفها كنتيجة لسياسات الاستنزاف الاقتصادي التي تعرضت لها، وتطالبها بالمشاركة في تنميتها، كنوع من التعويض عن الأضرار والمظالم الفادحة التي ألحقتها بها، إلا أن الدول الاستعمارية تتنصل من أداء هذا الدور، ولم تخصص له من إمكانياتها إلا النذر القليل. مما أدى إلى فقدان الثقة بين الطرفين.
وأن الاستعمار وما ارتبط به من سياسات التمييز والاضطهاد العنصري، تسبب هو الآخر في إحداث فجوة نفسية واسعة بين الدول الاستعمارية الأوروبية، وبين الدول التي خضعت للسيطرة الاستعمارية في آسيا وإفريقيا وغيرها من مناطق العالم. وهذه الفجوة النفسية ولدت ضغوطاً وتوترات دولية، لا نعتقد أن تأثيراتها النفسية ستتوقف في المستقبل القريب، وذلك لأن المرارة التي خلقتها تلك السياسات من العمق، بحيث لا يمكن إزالة رواسبها ببساطة كما يتبادر إلى أذهان البعض. وفي الواقع أن سياسات التمييز العنصري أحيطت بعدد من الاعتبارات وأنتجت العديد من النتائج، أهمها:
أو لاً: أن تطبيق السياسات الاستعمارية العنصرية كان يخدم هدفاً سياسياً أساسياً، هو تعميق الشعور بين سكان المستعمرات بتدنيهم العنصري والحضاري بالمقارنة مع الأجناس الأوروبية المتفوقة (العقدة العنصرية). واتخذتها الدول الاستعمارية كسلاح للنيل من معنويات تلك الشعوب، وكسر مقاومتها، والتغلب على رفضها لسياسات السخرة والاستنزاف التي طبقتها عليها وحملتها في النهاية على القبول بالأمر الواقع والاستسلام للمستعمر والأمر الواقع.
ثانياً: أن سياسات التمييز العنصري التي قامت على تحقير شأن الأجناس التي تنتمي إليها شعوب المستعمرات، وعلى احتكار المستوطنين الأوروبيين لكل مراكز القوة الاقتصادية والنفوذ السياسي في المستعمرات، وكانت تعامل سكان المستعمرات في نفس الوقت على أنهم مواطنون من الدرجة الثانية، وتنكر عليهم أبسط حقوقهم الإنسانية. وهو الشعور بالمهانة والاضطهاد الذي عبأ الشعور العام في تلك المستعمرات كلها، وحفزها على الثورة ضد الاستعمار وضد سياساته وأهدافه وأساليبه الاستعمارية.
وهناك أمثلة كثيرة توضح الجانب اللا إنساني في سياسات التمييز العنصري التي طبقها الاستعمار ضد شعوب المستعمرات، ومنها في إفريقيا الفرنسية – كما كان يطلق عليها في الماضي – كان الأفارقة لا يعاملون كمواطنين، وإنما كرعايا لا يتمتعون بأية حقوق سياسية (واستمر ذلك حتى ما بعد الحرب العالمية الثانية)، كما أن تجنيدهم للخدمة العسكرية كان يستمر لفترات أطول بكثير من تلك التي يقضيها المجندون الفرنسيون، إضافة لتطبيق نظام السخرة والعمل الإجباري عليهم، للعمل في المشاريع التي تخدم الوجود الاستعماري مثل شق الطرق ومد السكك الحديدية، وإيقاع العقوبات الجنائية الجماعية ضد أية تصرفات تفسرها بأنها انتهاك للوضع القائم. وقد حدثت أشياء مماثلة لهذا للشعوب التي خضعت للحكم الاستعماري البريطاني، والياباني، والروسي، والألماني، والإيطالي، والهولندي، والبلجيكي، والبرتغالي، والإسباني.
ولعل أبشع الأمثلة على سياسات التمييز العنصري هي تلك التي مارستها حكومة الأقلية البيضاء في جنوب إفريقيا حتى تسلم نلسن منديلا السلطة فيها، وما فعلته الأقلية البيضاء في روديسيا الجنوبية، وأنغولا، وغينيا، وموزمبيق، قبل استقلال تلك الدول في مطلع سبعينات القرن العشرين. وتستخدمه إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني اليوم.
ثالثاً: أن السياسات الاستعمارية عملت على خلق وإثارة مشاكل الأقليات العرقية والدينية في المستعمرات، لتكون الحجة الواهية للاستعمار، وتثبيت أركان الاحتلال، ولم تزل نتائج تلك السياسات تسبب وتؤدي إلى حدوث مضاعفات سياسية دولية، لازال العالم يقاسي منها الكثير رغم انتهاء النماذج التقليدية للسيطرة الاستعمارية. وقد اتخذ النهج الاستعماري من مشكلة الأقليات ثلاثة اتجاهات أو بالأحرى ثلاثة سياسات كانت في تقديره كفيلة بتدمير الأساس القائم من التجانس العنصري والوحدة الاجتماعية في المناطق التي نفذت فيها هذه السياسات.
وقام المظهر الأول من تلك السياسات بإيثار بعض الأقليات بمعاملة تفضيلية من نوع أو آخر، لخلق حالة من الشعور بالعرفان والولاء من جانب تلك الأقليات، لاستخدامها من ثم كأداة لإحكام السيطرة الاستعمارية بشكل أكثر فاعلية على أغلبية السكان في المستعمرة. ومن أمثلة ذلك ما حاولت إنجلترا أن تفعله في مصر عندما أصدرت في 28/2/1922 تصريحها المشهور بمنح مصر الاستقلال (استقلال شكلي بالطبع) مع إبقائها على ما أسمته بالتحفظات الأربعة ومنها حماية الأقلية القبطية (المسيحية) في مصر واعتبار ذلك إحدى مسؤوليات الحكم الاستعماري. وقد قصدت من ذلك إثارة الفرقة الطائفية بين المسلمين والأقباط بعد أن رأتهم يلتحمون في ثورة 1919 التي تعتبر واحدة من أبرز الثورات الشعبية ضد الاستعمار البريطاني في التاريخ، وسياسة الإيقاع بين الهندوس والمسلمين في الهند.
أما المظهر الثاني لتلك السياسات فكان يقوم على تشجيع هجرة اليد العاملة الرخيصة من مستعمرة إلى مستعمرة أخرى، أو حتى من بعض الدول الأجنبية إلى تلك المستعمرات، وقد خلق ذلك مع مرور الزمن مشكلة الأقليات العنصرية الوافدة التي ترتبط مصالحها ارتباطاً وثيقاً بالسيطرة الاستعمارية، أو على الأقل أصبحت تلك المستعمرات مصدر حياة لليد العاملة المهاجرة تلك بعد أن فقدت صلتها بأوطانها الأصلية.
وأما المظهر الثالث والأخير فكان في فتح أبواب الهجرة إلى تلك المستعمرات أمام العناصر المغامرة التي وجدت فيها فرصاً أفضل للعمل ومجالاً أوسع للدخل.
وقد تسببت تلك الأوضاع كلها في إيجاد أقليات مميزة على حساب الأغلبية من السكان الأصليين، وأدى تعارض وتوزع ولاء تلك الأقليات بين المجتمعات التي هاجرت منها، والمجتمعات التي هاجرت إليها واستقرت فيها، إلى جعلها موضع شك وريبة وكراهية أحياناً من قبل الشعوب التي قدمت للعيش بينها، ومنها على سبيل المثال وضع الأقلية الصينية في بعض الدول الآسيوية.