الأربعاء، 1 أغسطس 2012

من الغزو الإقتصادي والثقافي إلى الإحتلال والإستعمار الأوروبي المباشر



من الغزو الإقتصادي والثقافي إلى الإحتلال والإستعمار الأوروبي المباشر للمشرق العربي

2

 (صفحات من تاريخ المشرق العربي في سياسة المصالح الخارجية للدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى)


منذ نهاية القرن السابع عشر ركزت الدول الأوروبية جهودها للسيطرة على أقصر الطرق وأرخصها للتجارة مع الدول الواقعة شرق البحر الأبيض المتوسط. وبعد فشل المحاولة البريطانية لفتح طريق تجارية برية عبر مصر عام 1698، ورفض الباب العالي العثماني إبحار السفن الأجنبية في البحر الأحمر لأسباب دينية واقتصادية، استمر هذا المنع حتى عام 1776 عندما فتح زعيم المماليك في مصر علي بيك ميناء السويس أمام الأجانب إثر فرضه استقلال مصر بزعامته عن الدولة العثمانية. ولم يستجب البريطانيون حينها للوضع الجديد في مصر خوفاً من غضب السلطان العثماني، لأن فرنسا كانت تسعى لتعزيز صداقتها مع السلطان العثماني بقصد الحفاظ على تجارتها مع دول شرق البحر الأبيض المتوسط. ولكن قيام الفرنسيين باحتلال مصر عام 1798، أربك الوجود البريطاني في المنطقة فعلاً ودشن صراعاً فرنسياً بريطانياً على ما أطلق عليه تسمية منطقة الشرق الأوسط، وفي نفس الوقت مواجهة الوضع الجديد الناتج عن توسع النمسا، وروسيا على حساب أراضي الدولة العثمانية التي تقلصت أراضيها نتيجة لحروبها المتواصلة مع روسيا والنمسا (بولارد سير ريدر: بريطانيا والشرق الأوسط من أقدم العصور وحتى 1952. نقله إلى العربية: حسن أحمد السلمان. بغداد: مطبعة الرابطة، 1956. ص 29).
ولإبعاد بريطانيا عن منطقة الشرق الأوسط تحالفت فرنسا مع الدولة العثمانية، مما دفع بريطانيا لتعزيز تعاونها مع روسيا، وأثمر ذلك التعاون عن انتصار البحرية الروسية على العثمانيين في البحر الأسود. الأمر الذي ساعد على فرض معاهدة كيوتشوك كاينارجي على العثمانيين عام 1774 (أنهت اتفاقية كيوتشوك كايناردجا الموقعة في تموز/يوليو 1774 الحرب الروسية العثمانية التي بدأت عام 1768. للمزيد أنظر: القاموس الدبلوماسي. ج2. ص 128 – 129؛ دروجينينا يي.ي.: سلام كيوتشوك كايناردجا عام 1774 (التحضير والتوقيع). موسكو: 1955)، وهي المعاهدة التي عززت من النفوذ الروسي في البحر الأسود وسمحت للروس بالتدخل في الشؤون الداخلية العثمانية تحت غطاء حماية المسيحيين الأرثوذكس في الدولة العثمانية.
ولكن إعلان الإمبراطورة الروسية كاترين (كاترين الثانية (1729-1796): إمبراطورة روسيا من عام 1762. للمزيد أنظر: القاموس الدبلوماسي. ج1. ص357 – 358) عن نيتها إخراج الأتراك من القسطنطينية وإحياء الإمبراطورية البيزنطية تحت التاج الروسي، وقيام القوات الروسية بهجوم على شبه جزيرة القرم، بعد معاهدة كيوتشوك كاينارجي ببضع سنوات وانتهى بتوقيع اتفاقية سلام روسية عثمانية عام 1791، وأثار ذلك مخاوف بريطانيا ودفعها لاتخاذ سلسلة من الإجراءات دفاعاً عن مصالحا في المنطقة، وأصدرت الحكومة البريطانية قراراً بمنع البحارة البريطانيين من الخدمة في الأسطول الروسي.
وسرعان ما هيأت الظروف الناشئة عن الحملة الفرنسية على مصر عام 1798 الإمكانية لإحداث تحول جذري في السياسة العثمانية أثمر عن عقد تحالف عثماني بريطاني ضد الفرنسيين، قدمت بريطانيا من خلاله الدعم للعثمانيين الذين انتصروا على الفرنسيين عند أسوار عكا، وأجبروا القوات الفرنسية على العودة إلى مصر.
ولكن سرعان ما تصدعت العلاقات العثمانية البريطانية بعد محاولة الأسطول البريطاني الدخول إلى بحر مرمرة، وقيام بريطانيا بتعزيز وجودها في الخليج عن طريق تحويل الممثلين التجاريين البريطانيين إلى ممثلين سياسيين لها لدى حكام المنطقة العرب لمواجهة الخطط الفرنسية التي تحاول الوصول إلى الهند عبر بلاد الشام والعراق والخليج.
حتى أن الأسطول البريطاني لم يتورع عن التدخل في الصراعات الدائرة بين الحكام المحليين واستخدام السلاح كما حصل في الكويت خلال عامي 1798-1799 عندما قصفت مدافع الأسطول البريطاني القوات السعودية التي حاولت دخول مدينة الكويت.
وفي مصر قام محمد علي باشا بإعداد جيش قوي انتصر به على القوات البريطانية التي حاولت احتلال مصر. ونتيجة لفشلها قامت بريطانيا باحتلال جزيرة بريم عند مدخل البحر الأحمر، ومنها انتقل إلى عدن في محاولة منها لمواجهة الخطر الفرنسي الذي بات يهدد مصالحها في الهند.
وبدأت بريطانيا الإهتمام جدياً بتحسين وضعها في الخليج، وإثر مساندة سلطان مسقط للبريطانيين عام 1793 ضد الفرنسيين والهولنديين، وقعت الدولتان معاهدة مكتوبة في عام 1800 سمحت لبريطانيا بتأسيس مقر لممثل سياسي بريطاني في مسقط. وتعاون الجانبان لمسح شواطئ الخليج بحثاً عن قراصنة البحر الذين كانوا يستولون على السفن التجارية التابعة لشركة الهند الشرقية (وهي الحجة التي تستخدمها القوى الكبرى اليوم لإرسال أساطيلها الحربية للبحر الأحمر وبحر العرب بدلاً عن إيجاد حل جذري لما يسمونه خطر القرصنة البحرية). وتحت هذه الحجة قام الأسطول البريطاني بضرب أسطول عمان التجاري، وقام بحملة ضد القواسم عام 1805، وقام بتدمير وقتل سكان مدينة رأس الخيمة عام 1809 (فاسيلي أ.: تاريخ العربية السعودية. موسكو: دار التقدم، 1986. ص 128). وبعد بسط السيطرة البريطانية على الهند في أواخر القرن الثامن عشر، حاول البريطانيون فرض حمايتهم بشتى الطرق على حكام الخليج العرب منذ مطلع القرن التاسع عشر الميلادي.
وبعد إنفصال اليونان عن الدولة العثمانية وإعلان استقلالها عام 1832، تعاونت الأساطيل الفرنسية والروسية والبريطانية لتدمير الأسطول العثماني في موقعة نافارينو، مما أجبر جيش محمد علي باشا على الإنسحاب من اليونان بعد تهديد الأسطول البريطاني بضرب الإسكندرية إن لم ينسحب (اتفاقية لندن المعقودة عام 1827 بين بريطانيا العظمى، وفرنسا، وروسيا. القاموس الدبلوماسي. ج2. ص 158. مارتينس ف.: ج11. ص 355-362).
وعند إعلان محمد علي باشا الحرب على السلطان العثماني، كادت قواته أن تحتل العاصمة العثمانية الأستانة. ولكن نتيجة للأوضاع الجديدة التي ساند الفرنسيون فيها محمد علي باشا، وامتنعت بريطانيا عن مساندة السلطان العثماني إرضاء لخاطر فرنسا، اضطر السلطان العثماني للسماح بإنزال قوات روسية في البوسفور لمواجهة خطر الأسطول البريطاني الذي كان راسياً آنذاك في الدردنيل، ووقعت بينهما معاهدة أنكير اسكليسي عام 1833 التي أعطت لروسيا حق التدخل بالشؤون الداخلية للدولة العثمانية (القاموس الدبلوماسي. ج3. ص 499-500؛ معاهدات روسيا مع الشرق. ص 89-92).
واستمرت تلك الحال إلى أن أجبرت قوات محمد علي باشا على الانسحاب عائدة إلى مصر نتيجة لضغوط مارستها كلاً من: بريطانيا، وروسيا، والنمسا، وبروسيا، وهي الدول الموقعة على اتفاقية لندن عام 1840 مع الدولة العثمانية (القاموس الدبلوماسي. ج2. ص 158-159؛ تاريخ الدبلوماسية.ج1. ص 558-561؛ المسألة الشرقية في السياسة الخارجية الروسية. نهاية القرن 18 وبداية القرن 20. المحرر المسؤول: ن.س. كينيابينا. موسكو: 1978. ص 107-113).
واستفادت بريطانيا قبل ذلك من حملة محمد علي باشا على شبه جزيرة  العرب، وما أن اتجهت قوات إبراهيم باشا نحو اليمن، حتى أسرعت بريطانيا لإرسال قواتها لاحتلال ميناء عدن عام 1830، وجزيرة بريم عام 1857، وقامت بقصفت عجمان عام 1866 (فاسيلي أ.: تاريخ العربية السعودية. موسكو: دار التقدم، 1986. ص 229)، وأخذت بريطانيا كغيرها من الدول العظمى آنذاك بتوسيع احتلالها لمناطق أخرى في البحر الأحمر وبحر العرب والخليج في الوقت الذي كانت فيه الاستعدادات جارية لشق قناة السويس (نفس المصدر السابق: ص 218-221).
ونتيجة لخوف بريطانيا من اندلاع حرب أوروبية تنذر بانهيار الدولة العثمانية مما يهدد طرق مواصلاتها مع الهند، سارعت للاعتراف بالحقوق الإقليمية للدولة العثمانية، وعملت على مساعدتها للحفاظ على تلك الحقوق، حفاظاً على مصالحها، وإثر توقيعها لمعاهدة عام 1838 التجارية مع الدولة العثمانية بدأت بتوسيع تجارتها معها بعد أن وجدت بريطانيا فيها سوقاً مربحة لمنتجاتها، ومصدراً وفيراً للمواد الخام رخيصة الثمن (بولارد سير ريدر: بريطانيا والشرق الأوسط من أقدم العصور وحتى 1952. نقله إلى العربية: حسن أحمد السلمان. بغداد: مطبعة الرابطة، 1956. ص 36).
إلا أن بريطانيا عادت وأرسلت بوارجها الحربية مع البوارج البحرية الفرنسية والروسية والبروسية وعدد من الدول الأخرى إلى ميناء بيروت، وأنزلت فيه قوة فرنسية تحت غطاء دولي بحجة حماية المسيحيين في لبنان ودمشق إثر الاضطرابات الطائفية التي جرت هناك. وأجبرت الدولة العثمانية على منح لبنان حكماً ذاتياً تحت إدارة حاكم عثماني عام ينتخب من قبل المسيحيين، وتوافق عليه الدول العظمى.
وجاء احتلال جزيرة قبرص، ومن ثم احتلال مصر ليضع نهاية للصداقة العثمانية البريطانية، وسرعان ما ظهرت ملامح تشير إلى أن الدولة العثمانية تتجه للبحث عن حليف قوي تعتمد عليه في علاقاتها مع أوروبا فلم تجد أمامها سوى ألمانيا التي أوفدت فون درغولتز عام 1882 لإعادة تنظيم الجيش العثماني، وتعززت تلك الصداقة العثمانية الألمانية  بعد زيارة الإمبراطور الألماني ولهلم الثاني للدولة العثمانية عام 1889، ووقوفه أمام قبر صلاح الدين الأيوبي في دمشق معلناً صداقته الأبدية للعالم الإسلامي.
وإثرها منح السلطان العثماني شركة سكك حديد الأناضول التي يملكها الألمان امتياز مد خط للسكك الحديدية من قونية إلى الخليج عام 1902. وكان من المقرر أن يصل هذا الخط إلى ميناء البصرة، ومنها إلى نقطة معينة على الخليج، ولهذا حاولت الدولة العثمانية إخضاع شيخ الكويت لسلطتها. إلا أن شيخ الكويت آثر الاتفاق مع البريطانيين عام 1899 لحماية مصالح بلاده.
بينما اعتبرت بريطانيا وروسيا وفرنسا، ذلك الخط الحديدي تهديداً مباشراً لمصالحها في الخليج. في الوقت الذي أعلن فيه وزير الخارجية البريطاني عام 1903 أنه: "يجب أن يعتبر تأسيس أية قاعدة بحرية، أو أي مركز محصن، في الخليج الفارسي، من قبل أية دولة من الدول، تهديداً خطيراً لمصالحنا" (نفس المصدر السابق: ص 64). غير أن روسيا بادرت لسحب اعتراضها على مد الألمان لسكة حديد بغداد مقابل اعتراف ألماني بالمصالح الروسية في إيران.
وفي عام 1914 تحالفت الدولة العثمانية مع ألمانيا. وفي نفس العام أعطت بريطانيا وفرنسا لألمانيا جميع الضمانات التي تؤمن مصالحها في المنطقة. وطبعاً هذا لم يكن سهلاً، بل جاء عقب مفاوضات دامت سنوات بين الأطراف وشملت: - الوضع القانوني للمؤسسات البريطانية الدينية والتعليمية في الدولة العثمانية؛ - وموقف السلطان العثماني من القروض التي تحصل عليها مصر؛ - ومشاكل الحدود الإيرانية العثمانية؛ - وحقوق الملاحة في نهري دجلة والفرات؛ - والوضع الراهن في الكويت.
وبذلك توصلت بريطانيا لاتفاق مع منافستها يحمي مصالحها ويبعد ألمانيا عن الخليج. وأدى إلى استقرار التعاون الألماني البريطاني في مجال النفط عندما حصلت شركة النفط التركية التي تمتلك بريطانيا ثلاثة أرباعها، وألمانيا الربع المتبقي على وعد من الصدر الأعظم بمنحها امتيازاً يشمل جميع الحقوق المتعلقة باستخراج النفط في ولايتي بغداد والموصل (نفس المصدر السابق: ص 65-66).
ولا نعتقد أن أقوى دولة استعمارية في نهاية القرن التاسع عشر في الشرق الأوسط كانت بريطانيا كان سراً آنذاك، وخاصة بعد شق قناة السويس عام 1897. وقيام بريطانيا بالإستيلاء عملياً على مصر عام 1882، إضافة لسعيها للسيطرة المباشرة أو غير المباشرة على شبه جزيرة العرب بعد أن وثقت علاقاتها مع سلطنة عمان وإمارات ساحل عمان المتصالحة وقطر والبحرين، وبدأت بالاتجاه نحو الكويت التي كانت خاضعة اسمياً لسلطة العثمانيين. في الوقت الذي كانت فيه 40 % من صادرات بلدان الخليج العربية، تصدر إلى بريطانيا، و63 % من وارداتها تأتي من بريطانيا وتنقل كلها على سفن تحمل العلم البريطاني، إضافة لسيطرة الأسطول الحربي البريطاني على البحر الأحمر وبحر العرب والخليج والمحيط الهندي.
حتى أنه كان يطلق على المندوب السامي البريطاني في منطقة الخليج لقب "المعتمد السياسي لصاحب الجلالة ملك بريطانيا في الخليج الفارسي والقنصل العام في فارس وخوزستان" حتى أنه أطلق على كيرزون نائب الملك في الهند لقب "ملك الخليج الفارسي غير المتوج" (بوندراريفسكي غ.: السياسة البريطانية والعلاقات الدولية في حوض الخليج (نهاية القرن التاسع وبداية القرن العشرين). موسكو، 1968. ص 17).
للبحث صلة
طشقند 2/8/2012                     بروفيسور محمد البخاري


بدايات الإستعمار الإقتصادي والثقافي الأوروبي للمشرق العربي



بدايات الإستعمار الإقتصادي والثقافي الأوروبي للمشرق العربي
1
 (صفحات من تاريخ المشرق العربي في سياسات المصالح الخارجية للدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى)




خلال لقاء القمة البريطاني الفرنسي الـ27 الذي عقد في لندن خلال تشرين ثاني/نوفمبر عام 2004 بمناسبة مرور قرن كامل على اتفاقية "أنتانته" (من القلب) أشار رئيس الوزراء البريطاني إلى أن التعاون البريطاني الفرنسي ضروري لإرساء الاستقرار في أوروبا، التي تمر بنفس الظروف التي كانت سائدة في أوروبا عند عقد الاتفاقية آنفة الذكر.
وهذا أمر طبيعي لأن التوسع التجاري البريطاني في الشرق الأوسط، خلال القرن السادس عشر كان مرتبطاً بالتعاون البريطاني والفرنسي والحد من الصراع القائم بينهما ومواجهة التوسع الإسباني والبرتغالي الآخذ بالتثبت آنذاك في جزر وشواطئ الطريق المارة من أوروبا عبر رأس الرجاء الصالح إلى الهند وجنوب شرق آسيا. خاصة وأن الدولة العثمانية أصيبت بضعف ووهن كبيرين نتيجة لعوامل داخلية وخارجية عديدة.
ومعروف أن بريطانيا بدأت تجارتها مع الجزر اليونانية وسورية الخاضعة للدولة العثمانية منذ عام 1511.
وكانت بريطانيا تستورد الزبيب من اليونان، والتوابل والحرير الخام والنسيج من سورية. وتبذل قصارى جهدها لإيجاد أسواق جديدة لمنسوجاتها الصوفية الفائضة عن حاجة أسواقها المحلية تجنباً لتصدير الصوف الخام الذي قد يتحول إلى مصدر من مصادر مزاحمة منتجاتها من الأنسجة الصوفية في أسواق الدول الأخرى (بولارد، سير ريدر: بريطانيا والشرق الأوسط من أقدم العصور وحتى 1952. نقله إلى العربية: حسن أحمد السلمان. بغداد: مطبعة الرابطة، 1956. ص 9 وما بعد).
وحصلت فرنسا على امتيازات تجارية على الأراضي العثمانية إثر توقيع الحكومة الفرنسية على معاهدة عام 1535 مع السلطان العثماني، وسرعان ما استفادت الدول الأخرى من تلك المعاهدة. وحصل التاجر الإنكليزي أنتوني جنكسون Antony Jenkinson على ترخيص من السلطان العثماني عام 1553 تتيح للتجار الإنكليز ممارسة التجارة على الأراضي العثمانية بنفس الشروط التي كان يتاجر بها تجار فينسيا، وفرنسا. ودشن بذلك عصراً طويلاً من التنافس الأوروبي - الأوروبي على احتكار التجارة مع دول الشرق الأوسط.
وبعد عودة جنكسون من جولة شملت موسكو، وبعض المناطق المحيطة ببحر قزوين، وأستراخان، وبخارى عام 1557 اقترح على بريطانيا التوسع بالتجارة مع البلاد الواقعة شرق سورية.
وبعد عقدين من الزمن قام تجار لندن عام 1578 بإرسال مندوب عنهم إلى الأستانة عبر طريق برية بعيدة عن عيون مزاحمي التجارة البريطانية في البحر الأبيض المتوسط. ورغم الجهود التي بذلها السفير الفرنسي في الأستانة لعرقلة جهود المندوب البريطاني إلا أنه عاد إلى لندن حاملاً رسالة من السلطان العثماني مراد إلى الملكة أليزابيث تضمنت تأكيدات تسمح للتجار البريطانيين بالتجارة على الأراضي العثمانية بنفس الشروط التي كان يتمتع بها التجار الفرنسيون، والفينيسيون، والبولونيون، والألمان.
وفي عام 1581 منحت الملكة اليزابيث تجار لندن حق احتكار التجارة في بلاد السلطان العثماني، وهو ما كان إيذاناً بإنشاء شركة الشرق Levant Company، التي استمرت في عملها حتى عام 1825 رغم المعارضة الشديدة التي واجهتها في عام 1605 لمنعها من التوسع بأهدافها لتشمل أهدافاً سياسية إلى جانب الأهداف التجارية التي قامت من أجلها.
واثر الجهود الناجحة التي قامت بها الشركة لإقناع الباب العالي العثماني بعدم عقد معاهدة عدم اعتداء مع إسبانيا بقصد منعها من سحب قواتها المرابطة على الحدود العثمانية لاستخدامها في حرب الأرمادا ضد الإنكليز في عام 1588، أصبح القناصل البريطانيون تابعين عملياً لشركة الشرق حتى عام 1841، وبدأت الشركة عملياً باستخدام رجال الدين للتبشير للدين المسيحي وخدمة الجاليات البريطانية في الدولة العثمانية ومن بينهم كان المستشرق وأستاذ اللغة العربية بجامعة أكسفورد آنذاك القس إدوارد بوكوك Rev. Edward Pocock الذي أمضى خمسة أعوام بمدينة حلب خدم خلالها الجالية البريطانية ودرس الأوضاع في سورية وقام بدراسات استطلاعية كان يقوم بها فعلاً القناصل البريطانيون في سورية.
وسرعان ما نظمت الشركة رحلة استطلاعية ثانية من حلب ترأسها روبرت نيوبري Master Robert Newberry عبر الطريق البرية إلى مدينة البصرة، ومنها انتقل إلى جزيرة هرمز، وميناء بندر عباس في الخليج، ومن هناك عاد إلى العاصمة العثمانية الأستانة عبر إيران، ليصل بريطانيا بعد عامين من الرحلة.
وساعدت تقارير القناصل والرحالة التوسع البريطاني في الشرق الأوسط لما تضمنته من معلومات اجتماعية واقتصادية وسياسية هامة وصفت الأوضاع الاقتصادية وحالة طرق المواصلات، ومعتقدات وعادات وتقاليد سكان المناطق التي عبروها.
وللمرة الأولى تطرقت تلك التقارير للبترول الذي كان يسمى آنذاك بـ"زيت باكو" مؤذناً بدخول رأس المال البريطاني في مجال استثماره بعد عدة قرون من تلك التقارير التي كتبها القناصل الرحالة البريطانيين، لأن البريطانيون آنذاك ركزوا استثماراتهم في البداية على جمع وزراعة وتصدير المنتجات الزراعية وخاصة عرق السوس والتبغ من القوقاز وبلاد الأناضول وسورية والعراق.
وفي عام 1600 منحت ملكة بريطانيا اليزابيث شركة الهند الشرقية حقوق احتكار التجارة مع دول الشرق كلها، لينتهي عهد احتكار الإسبان والبرتغال لتجارة أوروبا مع تلك الدول، وليبدأ النفوذ البريطاني بالتوطد في الشرق الأوسط من أجل حماية طرق المواصلات والمصالح البريطانية المتصاعدة في الشرق.
ومنذ ذلك التاريخ قامت بعثتين تجاريتين بحريتين بالإبحار في البحر الأحمر:
الأولى عام 1609 بقيادة جون جوردون John Jourdain وصلت ببضائعها من الحديد والقصدير والرصاص والصوف إلى العاصمة اليمنية صنعاء.
والثانية خلال عامي 1610 و1611 بقيادة هنري مدلتون Sir Henry Middlton انتهت بمواجهة مع حاكم ميناء المخا لمخالفة بحارة مدلتون التقاليد المحلية وتعرضهم للنساء وتدنيسهم للمساجد واحتساءهم الخمر.
ومع ازدياد المصالح التجارية البريطانية في المنطقة قامت شركة الهند الشرقية بتأسيس مصنع لها في البصرة.
أعقبه بعد زوال المصالح البرتغالية عقد معاهدة دولية ثلاثية عام 1770 تقتسم بموجبها - السفن الفرنسية حراسة طرق الملاحة في الخليج؛ - والسفن الهولندية في البحر الأحمر؛ - والإنكليزية في بحر العرب.
متجاهلين تماماً مصالح الدولة العثمانية صاحبة السيادة في تلك المناطق لضعفها في مواجه المصالح الإقتصادية والسياسية الغربية التي سمحت بدخولها إلى أراضيها دون تقدير للعواقب.
إلى جانب استمرار الصراع البريطاني الروسي على مناطق النفوذ داخل أراضي الدولة الصفوية (بولارد، سير ريدر: بريطانيا والشرق الأوسط من أقدم العصور وحتى 1952. نقله إلى العربية: حسن أحمد السلمان. بغداد: مطبعة الرابطة، 1956. ص 9 - 25).
للبحث صلة
طشقند 1/8/2012             بروفيسور محمد البخاري