الجمعة، 30 سبتمبر 2016

من تاريخ الطباعة

من تاريخ الطباعة
أ.د. محمد البخاري
مهمة الطباعة عبر العصور كانت ولا تزال حتى يومنا هذا واحدة... وهي إنتاج عدة نسخ من أصل واحد سبق رسمه. وجاء تنوع أساليب الطباعة وفقاً للحاجات والوظائف المختلفة، وظلت موضع بحث دائم، في السعي نحو تحسين أدوات ووسائل الطباعة وتسهيل استخدامها هو ما جرى صنعه عبر التاريخ. وسمح فن الحفر على الخشب للصينيين بإنتاج أول الكتب المطبوعة التي عرفها الإنسان. ووصــل إلينا أقدم كتاب «درة البوذيـــة» المطبوع في عام 868م، والذي طبعه وانغ تشيه، من خلال تقنية حفر نص الصفحة كاملاً على ألواح خشبية ومن ثم تحبّر ويضغط الورق عليها ليتم طبع النسخ.‏


ويُروى أن الأوربيين في القرون الوسطى لم يصدقوا ما سمعوه من رحالتهم الشهير ماركوبولو، عندما أخبرهم أن سكان الصين يستعملون نقداً من ورق ممهوراً بمادة قرمزية اللون، ورفض الأوروبيون آنذاك هذه الرواية، لأنهم عجزوا عن تصور ورقة مطبوعة تحلّ محل الفضة والذهب، ولكن هذه الورقة المطبوعة انتصرت لاحقاً في كل أنحاء العالم، وحلّت آنذاك بالفعل محل الذهب والفضة. وكان اليابانيون يطورون تقنيات مختلفة للطباعة بتفريغ الألواح الخشبية وتعبئة الفراغات بالحبر لتطبع أشكالها على الحرير. وهي طريقة شبيهة باستخدام مبدأ طباعة «الاستنسيل» التي نعرفها اليوم.‏
ولكن المصادر التاريخية تطالعنا بأن المفصل التاريخي في مسيرة الطباعة تمثل برجل واحد يردّ الكثيرون إليه من باب التبسيط «اختراع الطباعة» وهو الألماني يوهانس غوتنبرغ (7931 – 8641م). وكان غوتنبرغ أول من طوّر أسلوب صناعة الحروف المعدنية المنفصلة عن بعضها البعض، ليتم تجميعها لاحقاً لتشكيل كلمات الصفحة الواحدة. وبعد طباعة الصفحة يعاد فرط الحروف، ليعاد استخدامها مرة أخرى.‏
وصنع غوتنبرغ أول آلة خشبية للطباعة تعمل بضغط الورق على هذه الحروف الصفوفة، وتجهزها بالحبر المناسب للطبع، ومن ثم صنع السبيكة المعدنية لإنتاج الأحرف نفسها.‏
وكانت الأحرف التي صنعها غوتنبرغ بارزة، وهو ما تعرف حتى اليوم بـ «الأبهات». وبطرق هذه الأحرف على النحاس يُصنع القالب الذي يسمّى «الأمهات». وفي هذا القالب، صبّ غوتنبرغ سبيكته المؤلفة من الرصاص والقصدير والأنتيمون ليحصل على الأحرف المعدنية، التي تصنف في خانات صندوق كبير على طاولة مائلة، لإنتاج الأحرف نفسها، يُعرف بـصندوق الحروف، التي تجمع منها الكلمات والسطور.‏
ولاحقاً تغلب غوتنبرغ على كل الصعاب التي واجهته، واستطاع طباعة 200 نسخة من كتابه الأول بلون واحد، مضيفاً إليه حروف البدء والزخارف الحمراء والزرقاء يدوياً. ويوجد في العالم حتى اليوم،  34 نسخة من طبعات غوتنبرغ، أشهرها النسخة المحفوظة في مكتبة الكونغرس، أقتنيت عام 0391م بمبلغ تجاوز المليون دولار.‏
والمطبعة في بدء ظهورها جُوبهت بعداء كبير من فئات عديدة ولأسباب مختلفة. من بينهم النُّساخ الذين اهتزت مكانتهم، وقضي على مهنتهم فيما بعد. وتجار الكتب استخفّوا بقيمة هذه الكتب المطبوعة، ولم يؤمنوا بقدرتها على منافسة المخطوطات الجميلة. أما الكُتّاب والمؤلفون فقد توجسّوا شراً من انتشار الغثّ والسمين على مستوى واحد. ونعت أحدهم الاختراع الجديد بأنه: «سيجعل من المستطاع نقل أكثر الأفكار حماقة إلى صفحات ألف كتاب في لحظات».‏
وجرت محاولات لتكون الكتب المطبوعة الأولى شبيهة بالكتب المخطوطة إلى حد بعيد. ولكن برلمان باريس حاكم فاوست أحد تلامذة غوتنبرغ بتهمة الغش؛ لأنه كان يبيع كتاباً مطبوعاً على أساس (أنه) مخطوط.‏
ولكن الاختراع الجديد لم يتوقف عن التقدم والانتشار، وسرعان ما شقّت المطبعة طريقها في أوروبا المتعطشة للكتب. وهذا التعطش كان يتغذى من جملة تحولات شهدتها الحياة الأوروبية آنذاك على مختلف صُعد الفنون والآداب والفكر.‏
ولكن في حين قلّد غوتنبرغ في تصميم حروفه المعدنية خطوط النُّسّاخ، وضع الإيطالي مانثيوس أول حروف طباعية مائلة، ولعل هذا ما يفسر تسمية الحروف المائلة حتى اليوم بـ Italic، للدلالة على أصلها الإيطالي، كما أنتج مانثيوس أول كتاب جيب صغير الحجم في العالم.‏

واحتاجت المطابع الجديدة إلى الورق وبكميات تفوق مئات المرات حاجات النُّسّاخ القدامى، فاضطرت أوروبا لصنيع الورق آلياً بعد أن كانت تستورده من الشرق، أو تصنعه يدوياً. كما افتُتحت دور لـ«سبك الحروف» الخاصة لتغذية المطابع. وتطلبت طباعة الكتب تجليداً يواكبها، ليبدأ فن التجليد والتغليف الآلي. وهكذا راحت الصناعة الكبرى تتفرع إلى مجموعة صناعات.

وبعد الفراعنة والصينيين شهد الشرق الإسلامي صناعة يدوية متطورة للورق في سمرقند ودمشق خلال القرون الوسطى. ولكن العلم الإسلامي تأخر بإستخدام الطباعة عن أوروبا لأسباب دينية.
*****
مقالة أعدها: أ.د. محمد البخاري. نقلاً عن مقالة "الطباعة قبل غوتنبرغ وبعده" المنشورة في صحيفة الثورة بتاريخ 30/9/2016. ومصادر أخرى.