الثلاثاء، 12 فبراير 2019

الفنان التشكيلي السوري المبدع سركون بولص خمو ومعاناة التهجير

الفنان التشكيلي السوري المبدع سركون بولص خمو ومعاناة التهجير
طشقند 12/2/2019 أعدها للنشر أ.د. محمد البخاري
تحت عنوان "سركون بولص خمو ومعاناة التهجير..تنويــــع المواضيــــع والتقنيــــات ومعطيــــات الحداثـــة.." نشرت صحيفة الثورة الصادرة بدمشق يوم 12/2/2019 مقالة كتبها: أديب مخزوم، وجاء فيها:


يستعيد الفنان سركون بولص خمو في لوحاته ورسوماته مختلف المواضيع والعناصر التراثية (المرأة والرجل والطفل ومشاهد الطبيعة والزهور والطيور والقطط والجمال والأسماك وغيرها) ليطرح من خلالها تنوعاً في التقنيات أيضاً (زيت, أكريليك، مائي، غواش, أقلام مختلفة) وليصل في صياغاته العفوية والمختصرة إلى تداخلات تعبيرية غذتها تطلعات ثقافة فنون العصر. وفي لوحاته ورسوماته القلمية المتنوعة تحضر المرأة بلباسها الشعبي, والعناصر المحلية، انها ملامح من مؤشرات التفاعل مع الحلم الشرقي, الذي لا يزال رغم كل الغربة، التي نعيشها حياً في نفوسنا وذاكرتنا وقلوبنا، وفي تطلعاتنا المشرقة نحو الحداثة.
في قلب المأساة
وفي حواري معه استعاد مآسي التدمير والتهجيرالذي طال قريته كبر شامية و33 قرية في منطقة الخابور بمحافظة الحسكة, وروى لي كيف تم قتل وأسر العديد من سكانها, الشيء الذي يؤكد مدى جسامة الكارثة الإنسانية، التي تركتها الحرب المدمرة على المجتمع السوري، ولهذا لا نبالغ حين نقول أنها كانت الأشرس في كل تاريخ سورية, وتجاوزت ما أحدثته جحافل وهمجية التتار والمغول والبرابرة, ورغم أنه لايزال يعيش في قلب المأساة، بعد إحراق محترفه وتهجيره إلى مدينة اللاذقية, فهو لم يتوقف عن الإنتاج والعرض, ولقد برزت جرائم القتل والدمار والخراب والتهجير في العديد من لوحاته ورسوماته، حيث نجد تعابير الهلع والخوف والحزن في ملامح الوجوه وتعابير العيون, وهو حين يرسم السمكة خارج الماء، على سبيل المثال، فهذا يعني أننا في واقع غير طبيعي، وفي عالم غير إنساني.
وهو يقدم ثمرة وخلاصة بحثه التشكيلي والتقني، مؤكداً قدرته على خلق عوالم واقعية وانطباعية وتعبيرية ورمزية من خلال تجسيد الأشكال الإنسانية والحيوانية والمعمارية وعناصر الطبيعة بحركتها المتجاورة والمتداخلة أحياناً، ويعمل في أحيان كثيرة على تدرجات لونية محددة, مختارة بعناية تقنية وموزعة بعفوية تأليفية مركزة، تصل إلى حالة العقلنة التي تتوازى مع التأليف التلقائي والعفوي.


وهو يستفيد من قدراته الخطية هذه، فيقدم مثلاً المرأة والطيور وقوافل الجمال، بخطوط رشيقة ومرنة، وقد يتخذ من الأجزاء أشكالاً رمزية، يعتمد في تحريكها على إبراز التعبير الذي يريد إيصاله إلى عين المشاهد.
غزارة في الإنتاج
وأكثر ما يمز تجربته تلك الغزارة في الإنتاج التي تؤكد حيوية موهبته, فهو اينما ذهب لاينقطع عن الرسم، حتى على قصاصات ورقية, وبرؤوس أقلام رفيعة, وهنا يقدم رسومات يتفوق فيها على العديد ممن يحترفون الرسم الصحفي «الموتيف», وكل ذلك يؤكد هاجس عشقه المزمن للرسم، الذي نما معه منذ أيام طفولته، حين كان أساتذته يطلبون منه انجاز مجلات الحائط المدرسية. ولأنه يرسم بمحبة وبسهولة وبصدق مطلق, امتلك مهارة وسرعة في الأداء (حيث أقام حوالي 23 معرضاً فردياً) علاوة على مشاركاته الدائمة في المعارض الجماعية الرسمية والخاصة. وتتحول الحركات الإنسانية أحياناً إلى حالات لحظوية وسكونية، وهذا له علاقة بالجانب الروحاني أو بالرمز الصوفي المثبت في أقسام متفرقة من اللوحة، عبر مساحات الضوء الساطع، الذي يعيدنا إلى نورانية وروحانية قادمة من مخزون ذاكرته البصرية، وبالتالي فهو يشدنا دائماً نحو الوهج والإشراق والنور المحلي، لالتقاط لحظات روحانية هي في الأساس موجودة في الأمكنة، التي شهدت طفولته وفتوته وشبابه في قريته الوادعة بين أشجار الصفصاف ودوالي العنب والمطلة على نهر الخابور.
وإذا بدت تكويناته أحياناً هندسية (تقطيع اللوحة إلى ما يشبه المربعات والمستطيلات والخطوط الشاقولية والأفقية) فهو في النهاية يجنح بهندسته البصرية نحو تسجيل حالات ورؤى ذاتية داخلية، تتفاوت بين لوحة وأخرى، حسب أحاسيس الفنان ودرجة الانفعال لديه. هكذا يختصر عناصره ثم يقدمها في لوحات متنوعة المناخات والحساسيات والدرجات اللونية، ليعبر عن قصة واقعية أو حكاية أسطورية مسحوبة من مخزون ذاكرته الطفولية. وهو في كل ذلك يستعيد إشارات الماضي الحضاري المكتنز بالرموز الشعبية، ويقدمها برؤى تشكيلية حديثة وخاصة, تحمل خصوصية أو بصمة المكان.
عناصر التراث
هكذا نجد أن تشعبات بحث الفنان سركون التشكيلي، فرض المزيد من التعمق في دراسة جوهر الفنون الشعبية، والتفاعل مع إيقاعات العمارة الريفية والقديمة المعرضة لمخاطر الاندثار، والتي نجدها في خلفيات بعض لوحاته ورسوماته، فأعماله المستوحاة من علاقته المباشرة وغير المباشرة، مع العناصر المعمارية القروية والقديمة, أراد من خلالها توجيه تحية إلى الجمالية الهندسية الباقية في مشاهدات القناطر والأقواس والجدران القديمة.
فهو يبحث عن مناخات محلية في خطوطه وحركة ألوانه، كل ذلك بصياغة تشكيلية حديثة، تزاوج ما بين إشارات الواقع (المستمد من انطباعات الذاكرة) وتكاوين المنطلقات التعبيرية في أبجديتها الغنائية, التي يجسد من خلالها تنويعات الأشكال المختلفة، ويبرزها كعناصر متجاورة ومتتابعة وحديثة وبعيدة كل البعد عن المنهج التزييني البصري، حتى لا يقع في الانضباط العقلاني البارد الذي يعمل دائماً على تجنبه. وهذا يعني أنه يبدو أكثر اتجاهاً نحو البحث عن إيقاعات وجدانية وعاطفية، تنحو إلى لغة بصرية لونية وخطية وتعبر بتلقائية عن انفعالات غنائية، وتصل بالرؤى التعبيرية والرمزية، إلى انفلاتات خيالية مفتوحة على جماليات عصرية، تنتمي إلى ملامح المناخ المعماري الشرقي، الذي يحتفظ بروح التراث المحلي، رغم ذلك الكسر الذي يبعد المشهد عن التدقيق التسجيلي, فالمهم بالنسبة إليه أنه يجسد مواضيعه، ويستعيد إشارات العناصر المحلية، بالارتداد إلى الداخل، ليخرجها من حيز صمتها وليجددها أو يستنطقها بالبوح اللوني العفوي، ولهذا تتدرج الحركة الادائية، صعوداً وهبوطاً عبر تدرجات الحالة اللونية, من تلك التي تتجه نحو العفوية المنفعلة، من خلال اللمسات المتتابعة والمباشرة، إلى اللمسات الهادئة وبذلك يحقق في اللوحة الواحدة، جدلية العلاقة المتبادلة والمتداخلة والمتوازنة بين الوعي والإنفعال اللوني والخطي.