الاثنين، 31 أكتوبر 2016

أبو منصور الماتريدي رجل دين عظيم في القرون الوسطى


أبو منصور الماتريدي
رجل دين عظيم في القرون الوسطى (870م-944م)
أرض ماوراء النهر الخيرة أعطت العالم كوكبة كاملة من العلماء والمفكرين الذين قدموا بعلومهم الطبيعية، والمنطق، وبدراساتهم الدينية والفلسفية وأبحاثهم إسهاماً كبيراً لتطوير الحضارة العالمية. وعملياً اشتهرت كل مدن وقرى ماوراء النهر بفضل أبنائها المشهورين، الذين ولدوا في: خوارزم، وسمرقند، وبخارى، ونسف، وطشقند، وفرغانة، ومرغيلان، وترميذ، وشهريسابز، وغيرها من الأماكن. وتميزوا في مجالات العلوم، والطب، والفنون، والثقافة، والدراسات الدينية، والشؤون الحربية، والعمارة. ومن بينهم كان أبو منصور الماتريدي، الذي وهب حياته لمسائل الدراسات الدينية، والحقوق الإسلامية (الفقه)، والشريعة، والكلام (الخطابة، والحديث، والمناقشات). وأخيراً علم الكلام الذي يعني المناقشة المنطقية المبنية على العقل، حول مسائل العقائد والمبادئ الأساسية للإسلام، مقابل التفسير الوارد في إطار الدراسات الدينية. وفي هذه الحالة يتمتع العقل بأهمية من الدرجة الأولى. وأنصار علم الكلام، من المتكلمين كانوا من أنصار الطريقة الجدلية في المناقشة. وظهرت أول مدرسة ضخمة لهم خلال القرنين الثامن والتاسع الميلاديين.

والإسم الكامل للعالم هو: أبو منصور بن محمد بن محمود الحنفي الماتريدي السمرقندي.
وحصل الماتريدي على تعليميه الإبتدائي لدى أبيه محمد بن محمود، وفي مدرسة قريته ماتُريد (حالياً منطقة جامباي في أوزبكستان)، وتابع تعليمه بمدينة سمرقند، التي تبعد مسافة 13 كم عن قريته.
وصادفت فترة حياة الماتريدي زمن نقل العاصمة من مدينة سمرقند (نهاية القرن الـ 9 الميلادي) إلى بخارى. ورغم ذلك بقيت سمرقند مثلها مثل بخارى أيضاً مركزاً اقتصادياً، وعلمياً، وروحياً، لماوراء النهر.
وحافظت المراجع التاريخية على معلومات قليلة عن حياة وإبداعات أبو منصور الماتريدي. وأشار المؤرخون في حالات كثيرة إلى أنه ولد عام 870م، وتوفي في سمرقند عام 944م. ودفن في مقبرة تشوكارديزا، الواقعة على أطراف المدينة.
وكان من بين معلميه: أبو بكر أحمد الجوزجاني، وأبو نصر أحمد الإيودي، ومحمد بن موكتيل الرازي، ونصيرة بن يحيى البلخي. والأخير كان من علماء الحقوق الإسلامية العظام، وكان يتمسك بتعاليم مؤسس المذهب الحنفي الإمام الأعظم أبو حنيفه (القرن الـ 8م). وعندهم حصل على دروس كثيرة تناولت الدراسات الهامة في عصره ومجتمعه، كما حصل على سمعة حسنة ومواهب ومعارف كبيرة .
وأظهر الماتريدي إهتماماً كبيراً بالفقه والكلام، وساهم بنشاط في اللقاءآت التي كانت تجري بين مشاهير العلماء، ورجال الدين القرامطة، والشيعة، والمعتزلة، والفقهاء (علماء الحقوق الإسلامية)، والمحدثين (الباحثين في الأحاديث النبوية) وبحث معهم ما كان يعاني منه المجتمع من قرحات في المسائل: العلمية، والدينية، والفقهية التي تراكمت بالنتيجة في أسس أعماله بعلم الكلام، وفنون المناقشات، والأصول، والتفسير، والعلوم القرآنية، وغيرها.
والكثير من مؤلفاته لم تصل إلينا، وكل الموجود منها في الوقت الراهن موجود في مكتبات وخزائن الدول الأجنبية.
ويمكن تصنيف مواضيع مؤلفات العالم في ثلاثة إتجاهات، هي:
تفسير القرآن الكريم، الذي أفرد له كتاب "تأويلات أهل السنة"، المشور باسم "تأويلات القرأن". ولم تزل محفوظة منه في الوقت الراهن بعض النسخ المخطوطة. وهذا العمل وفق رأي علماء الدين المعاصرين، يتفرد من حيث أهميته ومضمونه لأنصار تيار الماتريدي.
والإتجاه الثاني: هو تفسير الكلام، الذي وجد شرحاً مفصلاً عنه في مقدمته لـ"كتاب التوحيد"، وأورد فيه أسس وجهة النظر السنية الصحيحة، وتعرض بالنقد اللاذع لدراسات مختلف المذاهب. حتى أن هذا الكتاب أصبح المصدر الأساسي في معرفة عقيدة أنصار علم الكلام وفق تيار الماتريدي. وهذا الموضوع تناولته أيضاً كتب جدنا العظيم الأخرى. ومن بينها على وجه الخصوص: "شرح الفقه الأكبر"، و"رسالة في الإيمان"، و"كتاب المقالات"، و"بيان فهم المعتزلة"، و"كتاب رد تهذيب الجدل للكعبي"، و"كتاب رد وعيد الفساق للكعبي"، و"رد أوائل العادلة للكعبي"، وغيرها.
والإتجاه الثالث: في مؤلفات الماتريدي هي الشريعة الإسلامية، التي تناولها في كتابين "مأخذ الشرائع" و"كتاب الجدل". ومع الأسف الشديد فقدت مخطوطاتهما. ولم تصل إلينا المعلومات عنهما وعن غيرها من مؤلفاته، ولكنه ترك للأجيال التالية تلامذته، الذين اصبحوا مشهورين ومعروفين في العالم العلمي الإسلامي من خلال أعمالهم التي ألفوها في القرون الوسطى. ومنهم: أبو إسحق بن محمد بن إسماعيل، وأبو الحسن الروستاغفاني، وإسحق بن محمد السمرقندي، وأبو محمد أبو الكريم بن موسى البازداوي، وأبو الليث السمرقندي، وأبو الحسن البازداوي، والسفار البخاري، ونجم الدين عمر النسفي، والصابوني البخاري، وعمر الحنفي، والخطيب البغدادي، وعبد الكريم سعد الساماني، وأبو الفدا زين الدين قاسم بن كوتلوبوغا، وغيرهم.
وبفضل إستمرارهم في دراسات معلمهم على المذهب الحنفي ظهرت الحركة الماتريدية، التي وضعت بداية لتأسيس مدرسة جديدة. وتميز بشكل خاص في نشر دراسات الماتريدي تلميذه أبو المعين النسفي، الذي قدم في مؤلفاته: "تبصيرات العادلة"، و"بحر الكلام"، و"كتاب التمهيد لقواعد التوحيد" معلومات هامة كثيرة عن الإمام الماتريدي ودراساته. ووقف خاصة عند مقدمته للكلام، واعتمد على المعلومات العلمية التي تشترك في رأيه حول مؤلفات العالم، وتطلع القراء من كل الجوانب على شخصية العالم الديني العظيم.
وإلى جانب هذا تضمن كتاب أحد تلامذة الماتريدي المخلصين محمود بن سليمان الكافاوي (توفي عام 1582م) "كتاب أعلام الأخيار من فقهاء مذهب النعمان المختار" معلومات تفصيلية عن معلمه الشهير وأعماله، وأفرد من بينها بشكل خاص "كتاب التوحيد"، و"كتاب رد أوائل العادلة للكعبي"، و"كتاب بيان فهم المعتزلة" المشار إليها أعلاه. وفي أعماله هذه وغيرها وخاصة "كتاب المقالات"، و"كتاب رد على القرامطة"، و"كتاب رد أصول الخمسة لأبي محمد الباهلي"، و"كتاب رد وعيد الفسوق للكعبي"، و"كتاب رد تهذيب الجدل للكعبي"، و"كتاب تأويلات القرآن"، دافع الماتريدي عن الإسلام، وعن التفسير الصحيح للقرآن الكريم، ونشاطات مدارس المذاهب السنية، وفند المداخل العلمية الدينية غير الصحيحة، ودراسات الكلام. وبهذا أشار إلى أخطاء ممثلي مختلف الطوائف والحركات الدينية، ودعاهم للوقوف على الطريق الصحيح.
وحصلت شخصية أبو منصور على قدر كبير من الإحترام في المجتمع، كانوا يخاطبونه أو يذكرونه في محيطه بإحترام ويطلقون عليه "مثال يحتذى للسنة والصالحين"، و"حامل راية السنة والمجتمع"، و"المكافح ضد الكفر والزندقة"، و"إمام كل أتباع الإسلام"، و"معلم جميع المسلمين"، و"موجه المسلمين"، و"الشيخ الإمام"، وغيرها من صفات الإحترام. والكثير من المؤرخين الذين كرسوا أعمالهم للمفكر العظيم، أشاروا إليه بكل إحترام وتكريم.
وإعترافاً بمقدرات الماتريدي العلمية والفكرية، كتب علي شير نوائي في مؤلفه "نسائم المحبة" أن "الشيخ أبو منصور الماتريدي كان عالماً كبيراً بعلوم وقته". وأطلق عليه العلماء لقب "سلطان المؤذنين".

وإحتراماً لذكرى جدنا العظيم أحتفل في أزبكستان عام 2000 بذكرى مرور 1130 عاماً على ميلاد أبو منصور الماتريدي. وبهذه المناسبة نظم في الجمهورية مؤتمر دولي، وجرى تدشين المجمع المعماري حول قبره في سمرقند، وتم إصدار بعض أعماله.
*****
بحث أعده أ.د. محمد البخاري، في طشقند بتاريخ 31/10/2016 بتصرف نقلاً عن مقالة "أبو منصور الماتريدي، رجل دين عظيم في القرون الوسطى (870م-944م)". // طشقند: وكالة أنباء "Jahon" 13/10/2016