الخميس، 6 أغسطس 2020

الاتصال والإعلام الدولي والسياسة الخارجية

الاتصال والإعلام الدولي والسياسة الخارجية
أ.د. محمد البخاري
التبادل الإعلامي في ظروف  العلاقات الدولية المعاصرة
طشقند - 2011
تأليف:
محمد البخاري: دكتوراه في العلوم السياسية DC، اختصاص: الثقافة السياسية والأيديولوجية، والقضايا السياسية للنظم الدولية وتطور العولمة؛ ودكتوراه فلسفة في الأدب PhD، اختصاص: صحافة؛ بروفيسور قسم العلاقات العامة والإعلان، كلية الصحافة، جامعة ميرزة ألوغ بيك القومية الأوزبكية.

الاتصال والإعلام الدولي والسياسة الخارجية
وتقوم مؤسسات الإعلام عادة بنشر المبادئ والأفكار والمواقف والأخبار بواسطة وسائل الاتصال الجماهيرية المتنوعة بغرض الإقناع والتأثير على الأفراد والجماعات محلياً داخل المجتمع، وخارجاً بعد أن تخرج عن نطاق المحلية وتجتاز الحدود الجغرافية والسياسية للدولة، لنقل المبادئ والأفكار والمواقف والأخبار لمواطني الدول الأخرى، من أجل خلق نوع من التأثير أولاً، ومن أجل تحقيق نوع من الحوار الثقافي ثانياً متجاوزة الحواجز اللغوية، والسياسية، والجغرافية، لتتحول المؤسسات الإعلامية ووسائل اتصالها الجماهيرية إلى مؤسسات إعلامية دولية.
ويعتبر الإعلام الدولي جزء لا يتجزأ من السياسة الخارجية للدول المستقلة المتمتعة بالسيادة الوطنية الكاملة؛ ووسيلة فاعلة من وسائل تحقيق بعض أهدافها السياسية الخارجية داخل المجتمع الدولي. ويخدم الإعلام الدولي المصلحة الوطنية العليا للدولة، وفقاً للحجم والوزن والدور الذي تتمتع به هذه الدولة أو تلك في المعادلات الدولية القائمة. وتأثيرها وتأثرها في الأحداث العالمية المستجدة كل يوم. وخاصة عند نشوب أزمات سياسية أو اقتصادية أو عسكرية أو اضطرابات اجتماعية تطال تلك الدولة، أو الدول المجاورة لها، أو تطال مناطق المصالح الحيوية للدول الكبرى في أنحاء مختلفة من العالم، أو في حال حدوث كوارث طبيعية أو أوبئة وأخطار بيئية تهدد الحياة على كوكب الأرض، ككارثة الانحباس الحراري الذي يهدد البشرية اليوم. وللإعلام الدولي دوافع متعددة، تعتمد على المصالح السياسية، والاقتصادية، والعسكرية، والاجتماعية، والعلمية، والثقافية، والإنسانية، بما يتفق والسياسة الخارجية للدولة المعنية، وتنبع كلها من المصالح الوطنية العليا للدولة، وقد يعمل الإعلام من خلال هذا المنظور على تعزيز التفاهم الدولي والحوار بين الأمم، ليؤدي إلى خلق تصور واضح للدول بعضها عن بعض، مفاده التحول من النظام الثقافي القومي التقليدي المغلق، إلى نظام ثقافي منفتح يعزز التفاهم الدولي ويعمل على تطويره أو إلى نظام ثقافي شمولي تديره جهات معينة من وراء الحدود للوصول إلى أهداف معينة تخدم مصالحها الخاصة.
وكان للإعلام الدولي دوراً أساسياً في هذا التحول، بعد التطور الهائل الذي حدث في تقنيات الاتصال خلال القرن العشرين وساعد على إحداث تغيرات ثقافية واجتماعية واضحة، رغم تضارب المصالح الاقتصادية والسياسية والصراعات الإيديولوجية المؤثرة على القرار السياسي اللازم لأي تقارب أو حوار دولي هادف بين مختلف دول العالم.
وظائف الاتصال والإعلام الدولي
ومن الأمور التي تميز البشر عن غيرهم من المخلوقات الحية، أنهم قادرون على التواصل وإعلام بعضهم البعض. وكانوا منذ القدم بحاجة دائمة لمراقبة وفهم الظروف المحيطة بهم؛ ونشر الآراء والحقائق التي تساعد الجماعات الإنسانية على اتخاذ القرارات المناسبة في الوقت المناسب؛ ونشر تلك القرارات على نطاق واسع دون تأخير؛ ونقل تراث الأجداد وبلورة التطلعات السائدة في المجتمع ووضعها في خدمة الأجيال الصاعدة، والترفيه عن أفراد المجتمع. ولم تزل مهام الاتصال والإعلام في المجتمعات القديمة وحتى يومنا هذا كما كانت قائمة عليه، ولكن بفارق أصبحت تطال معه قطاعات جماهيرية واسعة جداً، وبأساليب وتقنيات حديثة متطورة بعيدة المدى تحيط بالكرة الأرضية برمتها وبامتداد يشمل الفضاء الكوني لإشباع حاجات الأفراد والجماعات للمعلومات عن الظروف المحيطة بهم، وأصبحت تصلهم بسرعة فائقة ودقة كبيرة عن طريق وسائل الاتصال الحديثة، وأجهزة الاستشعار عن بعد التي باتت تستخدم أحدث المعدات الإلكترونية والتجهيزات المتطورة باهظة التكاليف، وتساعد على اتخاذ القرارات وتنفيذها في الوقت المناسب.
وهكذا نرى أن مهام الاتصال والإعلام التي وجدت في المجتمعات القديمة هي نفسها الموجودة في المجتمعات الحديثة اليوم من حيث المبدأ والفارق الوحيد أنها أصبحت متعددة ومتشعبة وأكثر دقة بفضل وسائل الاتصال الحديثة المتطورة التي لم تكن معروفة من قبل. وأصبحت الدول أكثر من ذي قبل تشارك عن طريق ممثليها في التأثير على مجرى الحياة الاجتماعية في الداخل والخارج من خلال سياساتها الداخلية والخارجية مستعينة بوسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية، وأصبحت المصالح الوطنية العليا للدولة أكثر تأثيراً في عملية اتخاذ القرارات على الصعيدين الداخلي والخارجي. بعد أن دخلت وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية القرية والمدينة والتجمعات السكانية أينما كانت، وتحولت إلى نظام مفتوح أمام قوى التغيير الآتية من الداخل والخارج، ومعنى هذا أن الوظائف القديمة للإعلام اختلفت من حيث درجتها وحجمها فقط وليس في نوعها. والسؤال المطروح اليوم لماذا كل هذا الاهتمام بوسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية ؟
والجواب: أن تلك الوسائل أصبحت تصل اليوم إلى جمهور واسع متعدد الشرائح والقيم والانتماءات، ووسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية التي كانت يوماً ما تصل إلى جمهور محدود وبتأثير محدود، أصبحت اليوم تصل إلى شرائح سكانية كبيرة منتشرة في أنحاء متباعدة من العالم، وأصبحت تؤثر على آراء الناس وتصرفاتهم وأسلوب حياتهم، فالصحيفة والمجلة والكتاب الذي كان يقرؤه في الماضي عدد محدود من الأفراد، يقرؤه اليوم ملايين البشر، مطبوعاً أم منقولاً عبر شبكات الحاسب الآلي المتطورة "الانترنيت". والبرنامج الإذاعي المسموع الذي كان يسمع ضمن دائرة محدودة، أصبحت تسمعه بوضوح ملايين البشر موزعين في مناطق متباعدة من العالم، والبرنامج الإذاعي المرئي الذي كان حكراً على منطقة جغرافية محدودة، أصبح اليوم في متناول المشاهد في قارات العالم. وتقنيات البريد الإلكتروني والفاكس أخذت تحل مكان التلكس والمبرقات التلغرافية القديمة، مما جعل الناس يؤمنون بأن تلك الوسائل تؤثر في المجتمعات وتعمل على تغييرها بشكل كبير وليس على الصعيد المحلي وحسب، بل وعلى صعيد العالم برمته وبرز الإعلام الدولي الذي عزز من مكانته وتأثيراته ووظائفه. وللإعلام الدولي دوافعه ووظائفه المحددة يؤديها تنفيذاً للدور الذي تفرده له السياسة الخارجية للدولة أو الهيئة التي يتبع لها، وهي: الاتصال بالأفراد والشرائح الاجتماعية والجماعات والكتل البرلمانية والسياسية والمنظمات داخل الدولة الخاضع لقوانينها أو التابع لها وتتمثل بالحوار مع القوى المؤثرة على عملية اتخاذ القرار السياسي من شخصيات وتجمعات وأحزاب وكتل برلمانية، سواء أكانت في السلطة أم في المعارضة على السواء، للوصول إلى الحد الأقصى من الفاعلية التي تخدم سياستها الخارجية.
وعملية الاتصال هذه تخضع عادة لمعطيات هامة من حيث المواقف والقضايا المطروحة قيد الحوار، ومواقف السلطة والمعارضة منها والخط السياسي الرسمي للدولة حيالها. وتتراوح  هذه المواقف عادة مابين المؤيد التام، والمؤيد، والحياد التام، والحياد، والمعارضة التامة، والمعارضة، والعداء التام، والعداوة، ولهذا كان لابد من تحديد دقيق للموقف السياسي للدولة، ومقارنته بالمواقف الأخرى، للعمل على كسب التأييد اللازم لصالح القضايا المطروحة للنقاش، والعمل على زحزحة المواقف السياسية المعلنة للدولة، لصالح تلك القضايا. أو محاولة خلق مناخ ملائم للحوار الإيجابي حولها على الأقل. ويجب الأخذ بعين الاعتبار طبيعة النظام السياسي السائد في تلك الدولة؛ ومستوى ديمقراطية هذا النظام؛ وطرق اتخاذ القرارات السياسية في ظل النظام السياسي القائم؛ ومدى المشاركة الفعلية لكل القوى السياسية المشاركة في اتخاذ تلك القرارات. لأن الاتصال بالجماهير الشعبية في أي دولة من دول العالم يتم من خلال تلك القوى التي تمثل النخبة المؤثرة، وهي: أولاً: أصحاب الحق باتخاذ القرارات؛ وثانياً: الجماهير الشعبية، التي هي بمثابة قوة ضاغطة على أصحاب حق اتخاذ القرار.
ومن هنا نفهم مدى أهمية إلمام خبراء الاتصال والإعلام والمخططين للحملات الإعلامية الدولية بالنظم السياسية للبلدان المستهدفة والقوى المؤثرة فيها سواء أكانت تلك القوى في السلطة أم في المعارضة، ودور تلك القوى في اتخاذ القرارات لاستخدامها في وضع خطط الحملات الإعلامية المؤيدة، أم المضادة وأن نأخذ بعين الاعتبار الحقائق الاجتماعية والثقافية التي تساعد على نجاح الحملات الإعلامية الدولية، والاتصال المباشر بالجماهير الشعبية، عن طريق النشرات الإعلامية، والمؤتمرات الصحفية، والمقالات، والبرامج الإذاعية المسموعة والمرئية، والعروض السينمائية والمسرحية، وأفلام الفيديو، وإقامة المعارض الإعلامية، وتشجيع السياحة وتبادل الزيارات، وغيرها من الوسائل التي تتيح أكبر قدر ممكن من الصلات المباشرة مع الجماهير، للوصول إلى تأثير إعلامي أفضل وأكثر فاعلية.
وتأخذ بعض الدول لتحقيق سياستها الخارجية أسلوب مخاطبة الجماعات المؤثرة فقط، توفيراً للنفقات التي تترتب من جراء استخدام أسلوب الاتصال المباشر بالجماهير الشعبية العريضة، وتوفيراً للوقت الذي يستغرق مدة أطول من الوقت اللازم عند مخاطبة قطاعات وشرائح اجتماعية متباينة من حيث المصالح والتطلعات، ومستوى التعليم، والثقافة، والاتجاه الفكري ومزاجية تلك الجماهير العريضة في متابعة القضايا المطروحة، والمحصورة في بوتقة اهتمامات شريحة اجتماعية معينة فقط. لأن أسلوب الاتصال الفعال بالجماهير الشعبية يحتاج أيضاً لإمكانيات كبيرة ووسائل متعددة، تفتقر إليها الدول الفقيرة والنامية بينما نراها متوفرة لدى الدول المتقدمة والغنية والقادرة من حيث الإمكانيات المادية والتقنية والخبرات الإعلامية، وتمكنها من استخدام الأسلوبين في آن معاً. ويمثل الإعلام الدولي الدولة أو الجهة التي ينتمي إليها، سواء أكانت محلية أم إقليمية أم دولية أم متخصصة أم تجارية، كمكاتب الأمم المتحدة ومؤسساتها المتخصصة في العديد من دول العالم، ومكاتب جامعة الدول العربية، ومنظمة الوحدة الإفريقية، ومنظمة الأوبك، والسوق الأوربية المشتركة، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، ومجلس التعاون لدول الخليج العربية، ورابطة الدول المستقلة، ورابطة أوروآسيا الاقتصادية، ومنظمة شنغهاي للتعاون، ومنظمة جنوب شرق آسيا، وغيرها من المنظمات الدولية والإقليمية.
وعندما ننظر اليوم إلى الطريقة التي تستخدم فيها الدول الغنية كل تقنيات وسائل الاتصال الحديثة في خدمة حملاتها الإعلامية الدولية، عبر أبسط صورها المتمثلة بقنوات الإذاعات المرئية الفضائية، بعد انتشار استعمال الدوائر المغلقة بالكابلات، وهوائيات استقبال بث الإذاعات المرئية عن طريق الأقمار الصناعية في المنازل. وشيوع استخدام شبكات الحاسب الآلي واسعة الانتشار، ومن أهمها، شبكة الإنترنيت العالمية التي انطلقت من الولايات المتحدة الأمريكية، وتعمل دون منافس يذكر حتى الآن، وموجات البث الإذاعي الوطنية الـ FM المؤجرة للغير. في الوقت الذي نرى فيه أن الدول النامية لم تزل تتخبط بمشاكلها الإعلامية، وتعاني من الآثار المترتبة عن التطور التكنولوجي الحديث، والخلل الفاحش في التدفق الإعلامي الدولي أحادي الجانب والتوجه والتأثير.