الاثنين، 27 أغسطس 2012

نظرية السلطة المطلقة على الصحافة



نظرية السلطة المطلقة على الصحافة

كتبها: أ.د. محمد البخاري: دكتوراه في العلوم السياسية DC اختصاص: الثقافة السياسية والأيديولوجية، والقضايا السياسية للنظم الدولية وتطور العولمة. ودكتوراه فلسفة في الأدب Ph.D اختصاص: صحافة. بروفيسور قسم العلاقات العامة، كلية الصحافة، جامعة ميرزة أولوغ بيك القومية الأوزبكية. بتاريخ 21/8/2012
السلطة المطلقة هي من أنظمة الحكم المستبدة وتتمثل في حكم الإمبراطور المستبد أو الديكتاتور غير المؤمن بالحرية والديمقراطية ولا يسمح بمشاركة الشعب في الحكم على الإطلاق، وتستند السلطة المطلقة باعتبارها نظاماً من أنظمة الحكم على فكرة (الحق الإلهي) وعلى الفكرة القائلة في أوروبا خلال القرون الوسطى (بأن الحاكم هو ظل الله وخليفته في الأرض).
مدخل نظرية السلطة المطلقة: من المتفق عليه أن تاريخ ولادة الإعلام المطبوع كان عام 1450م وتشير المصادر إلى أنها رافقت تاريخ ظهور الطباعة، وكان الإعلام المطبوع خاضعاً للسلطة، ومقدار هذا الخضوع كان مرتبطاً بطبيعة المجتمع الذي يتواجد فيه، فإما أن يكون المجتمع خاضع للسلطة المطلقة، أو أن الفلسفة التي تحكم هذا المجتمع تدعو إلى ذلك.
وقد شهد العالم من هذه الفلسفات شتى الأنواع وعلى سبيل المثال: سيطرة الكنيسة ورجال الدين في المجتمع الأوروبي، التي جعلت للنظام السائد مجتمعاً خاضعاً للسلطة المطلقة تحتل فيه الدولة درجة أعلى من الفرد في سلم القيم الاجتماعية، ولا يستطيع الفرد في مثل هذه المجتمعات أن يحقق أهدافه أو ينمي قدراته وملكاته إلا عن طريق خضوعه للدولة خضوع الخانع الذليل. وأن يكون أسمى تفكير عنده التفكير التابعي الذي يلغي الوعي والإدراك الشخصي. ويشغل رجال قليلون في دولة السلطة المطلقة مراكز القيادة ويتمتعون بسلطات مطلقة، وعلى الآخرين الطاعة والخنوع لها ولا وجود للتمثيل الشعبي في مثل هذه الدول.
والحقيقة أن مجتمع السلطة المطلقة اعتمد على التفويض الإلهي المزعوم أو على الإدعاء العنصري في المجتمع، الذي يقول بوجود عرق معين يعتبر نفسه أعلى من الأعراق الأخرى ويتمتع بحكمة أكثر من غيره، وباختصار تمثلت الحقيقة في قدرة القائد أو عرق دون الأعراق الأخرى على تقدير الظروف وتفهم المخاطر وتشخيص إمكانيات تخطيها. واعتبرت الحقيقة في هذا المجتمع حكراً لهذا العرق الذي يعتبر نفسه حكيماً، ويرى أن من حقه توجيه المجتمع كيفما شاء، أي أن الحقيقة تتمركز في مراكز القوة والسلطة، ومن غير المهم في هذه الحالة البحث عن مصدر الحقيقة التي تستمد منها الدولة المتسلطة فلسفتها وسياستها. إذ أنها مقصورة على فئة محدودة من الناس، ولا يحق لأي فرد من الأفراد البحث عنها، لأن من أهداف الدولة المتسلطة الحفاظ على وحدة الفكر والعمل حسب اجتهادات السلطة، لإبقاء المجتمع في حالة معينة كما تشاء.
وتمثل تجربة هتلر وفرانكو وموسوليني التجربة الأوروبية المعاصرة لهذه النظرية، وفي ظلها عبر هتلر عن رؤيته الأساسية للصحافة بقوله: "أنه ليس المطلوب من الصحافة أن تنشر على الناس اختلاف الآراء بين أعضاء الحكومة، لقد تخلصنا من مفهوم الحرية السياسية الذي يذهب إلى القول بأن لكل فرد الحق في أن يقول ما يشاء". ومن الأفكار المهمة في هذه النظرية أن الشخص الذي يعمل في الصحافة أو وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية، يعمل بها كامتياز منحه إياه الزعيم الوطني، ويتعين أن يكون ملتزما أمام الحكومة والزعامة الوطنية.
أسس نظرية السلطة المطلقة: مذهب الحق الإلهي: وترجع هذه النظرية إلى أقدم عصور التاريخ، وهي نظرية اعتمد عليها الأباطرة في الحكم وتوارثها النبلاء للاحتفاظ بأوضاعهم ومراكزهم وامتيازاتهم في السياسة والحكم. وجاء الإسلام ليلغي هذه النظرية في الحكم لتحل مكانه الشورى والشرع الإلهي. ويرجع سيادة هذه الفلسفة أو النظرة إلى الإمبراطوريات الشرقية والغربية على حد سواء ما عدا بعض الاختلافات الجزئية الطفيفة التي تحدث بين حاكم وآخر في ممارسة السلطة على المجتمع، إذ لا ينكر أن بعضهم كان يؤمن بالحق والفضيلة وتبادل الرأي والمشورة، كما كان نقيضه يمارس الاستبداد والقسوة تحت تعبير أو فلسفة ظل الله وخليفته في الأرض، وخضعت أوروبا لهذا الحكم خلال العصور الوسطى وتحولت العامة إلى عبيد أقنان خاضعين بصورة مطلقة لهذا الحاكم أو ذاك.
الصحافة والسلطة المطلقة: ولم تستطع الصحافة وأساليبها من تغيير شيء في نظرية السلطة المطلقة، بل إن سطوة هذه النظرية ازدادت وظلت تمارس تسلطاً جوهرياً على الصحافة وعلاقتها بالمجتمع ووظيفتها المعلوماتية التي مارستها تحت سيطرة الحكم المطلق، ودأبت السلطة المطلقة على تعزيز نظريتها للحفاظ على سلطتها المطلقة وأخذت تحيط نفسها، بالعقلاء والحكماء وأصحاب الامتيازات الفكرية القادرين على إدراك أهداف الحكم في السيطرة على المجتمع والمحافظة على الاستقرار، وأخذت تمنحهم المناصب المرموقة في المجتمع وعملوا كمستشارين للقادة والحكام واحتكروا كل الحقائق الفكرية لأنفسهم مسخرين فلسفاتهم وأفكارهم لخدمة الطبقة المسيطرة على جهاز الحكم وأعطتهم حق مخاطبة المجتمع كألسنة للحكام تتصل بالجماهير عن طريق وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية المتاحة، ومنها الصحافة المطبوعة التي حظروا عليها كل الآراء التي توقظ الشعب من سباته العميق، للإبقاء على الأوضاع القائمة.
وارتبطت هذه النظرية في العصر الحديث ارتباطاً وثيقاً بأنظمة الحكم الشيوعية في المعسكر الذي قاده الاتحاد السوفييتي حتى سقوطه، والفاشية والنازية، كالنظام الهتلري في ألمانيا النازية، ونظام موسوليني الفاشي في إيطاليا الفاشية، ونظام فرانكو الفاشي في إسبانيا والبرتغال، حيث سيطر الحكم المستبد سيطرة تامة على أجهزة ووسائل الإعلام الجماهيرية وفرض عليها تعبئة الشعب تعبئة عدوانية خدمة للأهداف التوسعية التي رسمتها لنفسها وتسببت في قيام الحرب العالمية الثانية التي أزهقت أرواح ملايين البشر.
الرقابة وسيطرة الأجهزة المسؤولة على الصحافة: وتعتبر الرقابة من الركائز الهامة في نظرية السلطة المطلقة. ويمكن أن نرجع تاريخها إلى الرقابة في العصور الوسطى في أوروبا عندما كانت الكنيسة الرومانية في أوج قوتها، وكانت مصدراً للتفويض الإلهي واستطاعت أن تسيطر في بلاد كثيرة على الرأي العام وعلى حرية التعبير لعدة قرون وسيطرت واستفادت من اختراع الطباعة، إلى أن قامت الحكومات بالسيطرة على الوسيلة الإعلامية الجديدة.
وكانت السيطرة عن طريق منح التراخيص للطابعين والناشرين ومن ثم التحكم بممارسي المهنة بشكل عام، وكان الترخيص آنذاك يعتبر امتيازاً يلزم الناشر بطبع وتوزيع ما يرغبه الحاكم. غير أن هذا الأسلوب لم يجدي نفعاً، مما أدى إلى فرض الرقابة المسبقة وفحص جميع الأصول المخطوطة من قبل ممثلي الحكم قبل الطبع والنشر لإصدار الترخيص بالطبع، بقصد السيطرة على ما تنشره الصحف ودور النشر بشكل محكم.
وأخضعت الحكومات الاستبدادية عملية الاتصال بالجماهير لقيود وعقبات ومعوقات كثيرة جعلت الطريق مفتوحاً أمام الحكم فقط، وأغلقته في وجه الأفراد لاغيه بذلك أي نوع من أنواع حرية الإعلام بحجة تحقيق أمن وسلامة الدولة، وبهذه الذريعة ألغت كل الحريات، وهو ما استقت منه الفلسفات الديكتاتورية والشيوعية والفاشية والعنصرية كل المبررات لإهدار حقوق الإنسان.
التاريخ الطويل للإيديولوجية السياسية لنظرية السلطة المطلقة: يرى أفلاطون أن تقسيم السلطة بالتساوي داخل الدولة يعتبر بداية لتفكك وانهيار تلك الدولة، وكانت حجة أفلاطون في ذلك أنه مادام الإنسان يتحكم بغرائزه وشهواته عن طريق العقل، فإنه يتحتم على الحكام في الدولة بالمقابل أن يمنعوا المصالح المادية والعواطف الأنانية للجماهير من أن تسيطر على المجتمع.
وأكد أكثر الفلاسفة في العصور اللاحقة على قوة السلطة المطلقة كميكافيلي الذي دعى إلى إخضاع كل شيء لأمن الدولة. وبرروا الأعمال اللا أخلاقية التي مارسها القادة السياسيون، والرقابة الصارمة على الحوار والمناقشة، وعلى نشر المعلومات في المجتمع، معتبرين أن لها ما يبررها مادامت تخدم مصالح الدولة وسلطة الحاكم، أي أن الغاية تبرر الوسيلة.
أما جورج هيجل الذي لقب بأبو الشيوعية والفاشية الحديثة، فقد أعطى فلسفة السلطة المطلقة لمساتها النهائية حين قال: "الدولة هي روح الأخلاق وهي الإرادة وهي العقل، والدولة كحكم أو سلطة، تعتبر هدفاً في حد ذاته وبالتالي فهي تتمتع بأكبر قدر من الحقوق وهي فوق المواطنين والأفراد". وهكذا فرضت نظرية السلطة المطلقة وجوهاً فكرية صارمة تنبع من الإسهام الفكري للحكماء شريطة أن تخدم نظرياتهم في المجتمع الذي تسهر عليه الدولة بالرعاية والإرشاد واليقظة والرقابة.
وهو ما صاغه الفلاسفة الأقدمون أمثال: سقراط، وأفلاطون، وأرسطو من نظريات فلسفية تخدم السلطة الاستبدادية، بدليل أن أفلاطون خلع صفة المثالية على الشكل الارستقراطي للدولة معتقداً أن طبيعة الإنسان واهتماماته المادية وعواطفه الأنانية تتسبب في تدهور الحكم من الارستقراطية إلى الديمقراطية، أي إلى التفتت والانحلال. واعتبر أن الدولة لا تجد الأمان إلا في أيدي الحكماء من رجالها، ورجال القانون من أنصارها، وأصحاب المثل الأخلاقية العليا التي يتم فرضها على كل عناصر التركيبة الاجتماعية، ليظلوا على الطريق القويم الذي رسموه لهم معتبرة أن هذه الصفوة من البشر تجعل العقل يسيطر على عواطف القلب وغرائز الجسم.