السبت، 4 أغسطس 2012

الأوضاع الإجتماعية والاقتصادية في المشرق العربي في أواخر العهد العثماني



الأوضاع الإجتماعية والاقتصادية في المشرق العربي في أواخر العهد العثماني

4

(صفحات من تاريخ المشرق العربي في سياسة المصالح الخارجية للدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى)


خلفت السياسة الاقتصادية العثمانية في الولايات العربية خلال القرن التاسع عشر آثاراً مدمرة، لأن الدوائر الحكومية العثمانية صبت اهتمامها على خلق ظروف مناسبة لسحب أكبر قدر ممكن من الأموال للإنفاق على الجيش، وتلبية المطامع المتنامية للطبقة الحاكمة. وازداد سلب المناطق الخاضعة للحكم العثماني بسبب الإخفاقات العسكرية المتتالية وفساد الحكام، والصراع بين الحكام المحليين وتسابقهم في نهب المناطق الخاضعة لإدارتهم. كل ذلك أدى إلى انحطاط الاقتصاد في الولايات العربية من الدولة العثمانية.
وأدى انهيار الاقتصاد الزراعي لتقلص مساحات الأراضي المزروعة في الولايات العربية، وهو ما أشار إليه أحد الرحالة الأوربيين الذين زاروا بلاد الشام في نهاية القرن التاسع عشر، نقلاً عن تجار أوربيين عاشوا هناك خلال عشرين عاماً، وشاهدوا كيف تحولت الأراضي الزراعية المتاخمة لمدينة حلب إلى صحراء قاحلة، بعد أن هجرها المزارعون (فولني ك.ف.: رحلة فولني إلى سورية ومصر خلال 1783-1784 و1785. ترجمة عن الألمانية. موسكو: 1791. ج1، ص202-203).
ولم يبق من ثلاثة آلاف قرية كانت موجودة فعلاً بالمنطقة في منتصف القرن السادس عشر سوى أربعمائة قرية في نهاية القرن الثامن عشر. وهو الوضع الذي كان شاملاً لبلاد الشام والعراق. إضافة لتحول الكثير من الحضر والفلاحين إلى حياة البداوة والترحال وتربية المواشي (لوتسكي ف.ب.: التاريخ الجديد للدول العربية. موسكو: 1966. ص 21).
حتى أن حرفيي المدن تأثروا من تلك الأوضاع، وأصيبت الحرف بالركود وقيدت بقانون الحرف العثماني لعام 1773 مما أدى إلى عجزها عن مسايرة التقدم الصناعي (فولني ك.ف.: رحلة فولني إلى سورية ومصر خلال 1783-1784 و1785. ترجمة عن الألمانية. موسكو: 1791. ج2، ص 556).
وكانت الطريقة الوحيدة المضمونة التي يمكن للتجار وأغنياء المدن حماية أموالهم بها من تسلط ونهب الحكام العثمانيين هو كنزها وسحبها من التداول. وكانت التجارة الخارجية هي المجال الوحيد الذي يطمئن له رأس المال المحلي، ولكنه سرعان ما تحول من أيديهم إثر المنافسة الشديدة التي لقوها من التجار الأوربيين المحميين من تعسف السلطات العثمانية، والمشمولين بحماية السفراء والقناصل الأوربيين (كوتلوف ل.ن.: تكون حركة التحرر الوطني في المشرق العربي، منتصف القرن التاسع عشر – 1908. ترجمة: سعيد أحمد. دمشق: منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، 1981. ص 15).
ووصلت أزمة الاقتصاد العثماني ذروتها مع نجاح الثورة الصناعية في أوروبا منذ نهاية القرن الثامن عشر. وأصبح ميزان التجارة الخارجية للدولة العثمانية خاسراً للمرة الأولى (شتيبات فريتس: بدايات العصر الحديث في الشرق الأدنى. آفاق جديدة أمام المؤرخين. مجلة الأبحاث، السنة 20، ج1، آذار/مارس 1967. ص 26-27).
بعد أن استولى رأس المال الأجنبي بالتدريج على المواقع القيادية في جميع المجالات الاقتصادية. الأمر الذي أدى إلى تحول الدولة العثمانية برمتها إلى شبه مستعمرة أوروبية تحت وطأة الديون والاحتكارات الأوروبية.
وكما هو معروف رافق التوسع الاقتصادي الأوروبي في الدولة العثمانية، تدفق منتجات صناعية رخيصة بالمقارنة مع المنتجات الحرفية التقليدية في الولايات العثمانية، مما أدى إلى تدهور الحرف التقليدية، وقضى على أية إمكانية لتطورها نحو إنتاج صناعي حديث.
وأشار بعض المعاصرون الذين زاروا الولايات العربية الآسيوية من الدولة العثمانية خلال القرن التاسع عشر إلى الأزمة العميقة التي عانت منها الحرف التقليدية وتلاشي الكثير من الصناعات اليدوية الهامة، كإنتاج الأقمشة القطنية، والشاش الذي ازدهر إنتاجهما في البصرة خلال القرن التاسع عشر، وتدهورت حياكة قماش الموصلين الشهير في الموصل وعدد من مدن ولايتي العراق والشام.
وكتب القنصل الروسي في بيروت خلال أربعينات القرن التاسع عشر: "كانت المدن السورية قبل أربعين عاماً تملك حوالي خمسين ألف نول لحياكة الأقمشة الحريرية، ونصف الحريرية، والمخملية. أما الآن فلا يكاد يصل هذا العدد إلى ألفين وخمسمائة نولاً. وحلت أردأ أنواع أقمشة مانشتر القطنية مكان المنتجات الحرفية الشعبية والجميلة في جميع أنحاء الدولة العثمانية" (بازيلي ك.م.: سورية وفلسطين الحكم التركي من النواحي التاريخية والسياسية. موسكو. 1962. ص 243).
وكرر ذلك القنصل الروسي بالبصرة في بداية القرن العشرين الذي كتب أن "المنسوجات الأوروبية الرخيصة قضت بالتدريج على إنتاج النسيج المحلي" (آداموف ا.: الملاحة في شط العرب ونهر الدجلة (تقارير القنصل في البصرة). س ك د، 1902. الإصدار الرابع. ص 511).
وأشارت مراجع أخرى إلى تدني أو توقف إنتاج الزجاج، والاستخراج اليدوي للحديد الخام في ولاية الشام، والاستخراج اليدوي للنفط في ولايات العراق، بالإضافة لتضاؤل إنتاج الأحذية الجلدية (نفس المصدر السابق.آداموف ا.: الملاحة في شط العرب ونهر الدجلة (تقارير القنصل في البصرة). س ك د، 1902. الإصدار الرابع. ص 508؛ وروبين أرتور: سورية وفلسطين المعاصرتين. ترجمة من اللغة الألمانية المحرر  المسؤول: أ.و. زايدينمان. بطرس بورغ، 1919. ص 157؛ وكريمسكي أ.: الإسلام ومستقبله. ماضي الإسلام، والوضع المعاصر للشعوب الإسلامية، وقدراتهم الفكرية، وعلاقتهم بالحضارة الأوروبية. موسكو، 1899. ص 100؛ وشولتسيه إ.: الصراع حول نفط فارس وبلاد ما بين النهرين. موسكو: 1924. ص 56؛ وGeere H. Valentine. By Nile and Euphrates. A Record of Discovery and Adventure, Edinburgh, 1904. P. 108; Kirchner Iwan. Der Nahe Osten, Brumm, 1943. P. 574).
وبالتدريج تحولت المدن العربية في الولايات العثمانية من مراكز إنتاج حرفي، ومراكز للتجارة الداخلية والتصدير، إلى مراكز لخدمة التجارة الأوروبية. وتحولت أسواقها إلى مراكز لتوزيع الواردات الأوروبية، وشراء الخامات والمنتجات الزراعية والحيوانية المعدة للتصدير إلى أوروبا. وعلى سبيل المثال زاد حجم التبادل التجاري للولايات العراقية عن طريق ميناء البصرة خلال الفترة من عام 1864 وحتى عام 1913م بمقدار 12 مرة (أليتوفسكي س.ن.: المسألة الزراعية في العراق المعاصر. موسكو: 1966. ص 11).
ومنذ منتصف القرن التاسع عشر بدأ رأس المال الأوروبي يتجه نحو بناء طرق مواصلات جديدة تخدم المصالح العسكرية والإقتصادية والتجارية والسياسية الأوروبية في الشرق الأوسط، وتسهيل تدفق السلع والبضائع من وإلى أوروبا. وسيطر ممثلو الشركات الأوروبية الذين تمركزوا في الموانئ البحرية إما بشكل مباشر أو عن طريق عملائهم المحليين على جميع تجهيزات ومستودعات ومراكب التفريغ في تلك الموانئ. وقامت شركة فرنسية ببناء ميناء بيروت القادر على استقبال السفن الحديثة على ساحل ولاية الشام، وكانت تلك الشركة تملك كافة أرصفة الميناء وكل تجهيزات الملاحة والأبنية والمستودعات الرئيسية (روبين أرتور: سورية وفلسطين المعاصرتين. ترجمة من اللغة الألمانية المحرر  المسؤول: أ.و. زايدينمان. بطرس بورغ، 1919. ص 261-262؛ و“Das Turkiche Reich”, - Kurse fur Internationale Privatwirtschaft (Lander-Reiche), Hf I, Berlin, 1918. P. 92.).
وزاحمت سفن أساطيل النقل البحري الأوروبية والأمريكية، سفن النقل العثمانية في موانئ  ولاية الشام. وكمثال على ذلك بلغت نسبة الخدمات المقدمة في موانئ ولاية الشام عام 1910، من حيث التفريغ فقط 97,8 % لسفن بريطانيا العظمى وروسيا وفرنسا والنمسا والمجر وإيطاليا والولايات المتحدة الأمريكية، وغيرها من الدول الأجنبية، بينما بلغت 2,2 % فقط للسفن التجارية العثمانية. واختفت تقريباً السفن الشراعية العثمانية من موانئ ولاية الشام وبلغت حمولة ما توقف منها هناك 3 % من حمولة الأسطول التجاري العثماني. بينما كانت الحال أفضل قليلاً في ميناء البصرة الذي قدم خدماته لسفن شراعية وبخارية عثمانية تبلغ نسبتها 6,2 %، ولسفن بريطانية وسفن المستعمرات البريطانية نسبة 77,2 %، ولسفن ألمانيا وفرنسا وروسيا 14,3 % (روبين أرتور: سورية وفلسطين المعاصرتين. ترجمة من اللغة الألمانية المحرر  المسؤول: أ.و. زايدينمان. بطرس بورغ، 1919. ص 285-286؛ وآداموف ا.: الملاحة في شط العرب ونهر الدجلة (تقارير القنصل في البصرة). س ك د، 1902. الإصدار الرابع؛ و“Great Britain. Foreign Office. Diplomatic and Consular Reports on Trade and Finance”. No 4720, p. 17).
في الوقت الذي كانت فيه إيطاليا تحتكر النقل البحري من وإلى موانئ طرابلس الغرب، وبني غازي في ليبيا، وفرنسا إلى موانئ تونس والجزائر ومراكش. بينما كانت بريطانيا، وإيطاليا تسيطران تماماً على النقل والملاحة البحرية في البحر الأحمر.
ولم تقتصر الاحتكارات الأوروبية على السيطرة على النقل البحري من أوروبا إلى الموانئ العربية فقط، بل سيطرت أيضاً على قسم كبير من النقل البحري بين الموانئ العربية نفسها. وأخذت الاحتكارات تدعم وجودها في الموانئ البحرية العربية، عن طريق السيطرة على المنشآت والمعدات البحرية بتلك الموانئ، واستمر هذا الوضع لما بعد انهيار الدولة العثمانية. وفي العقد الأول من القرن العشرين بدأت الشركات الفرنسية والألمانية بتجديد موانئ اسكندرونة وحيفا ويافا في ولاية الشام، وبالفعل بدأ تشغيل ميناء اسكندرونة قبل الحرب العالمية الأولى بعد تجديده. وفي عام 1908 حصلت شركة فرنسية على امتياز خاص لبناء ميناء حديث في الحديدة بولاية اليمن (روبين أرتور: سورية وفلسطين المعاصرتين. ترجمة من اللغة الألمانية المحرر  المسؤول: أ.و. زايدينمان. بطرس بورغ، 1919. ص 262-263؛ د. أحمد فخري: اليمن، ماضيها وحاضرها. القاهرة: 1957. ص 24).
وسرعان ما امتدت الامتيازات الأجنبية للسيطرة على النقل والمواصلات البرية الداخلية في الولايات العربية من الدولة العثمانية. ففي عام 1841 حصل الأخوان لانش البريطانيان على امتياز لتنظيم النقل النهري ما بين بغداد والبصرة، وأسسا لهذا الغرض "الشركة الملاحية عبر الدجلة والفرات"، وعملت حينها إلى جانب الشركة العثمانية الحكومية "أومان عثمان" والمراكب الشراعية للسكان المحليين. ومع نهاية القرن التاسع عشر حاولت شركة الأخوين لانش شراء ممتلكات الشركة الحكومية للسيطرة على النقل في نهر الدجلة.
وفي نفس الوقت تقريباً سيطرت الشركات الفرنسية على الخط الحديدي الذي يربط بين دمشق وبيروت، والخط الذي يربط بين طرابلس وحمص وحماه، اللذان كان ينقل عبرهما القسم الأعظم من البضائع من داخل سورية إلى موانئ البحر الأبيض المتوسط (آداموف ا.: الملاحة في شط العرب ونهر الدجلة (تقارير القنصل في البصرة). س ك د، 1902. الإصدار الرابع. ص 291-294؛ روبين أرتور: سورية وفلسطين المعاصرتين. ترجمة من اللغة الألمانية المحرر  المسؤول: أ.و. زايدينمان. بطرس بورغ، 1919. ص 265؛ د. محمود علي الداوود: محاضرات عن الخليج العربي والعلاقات الدولية 1890 – 1914. القاهرة: 1961. ص 49؛ . ص 271-272. وCoke Richard. Baghdad, the City of  Peace, London, 1927. P. 271-272).
وفي نفس الوقت ركزت رؤوس الأموال الأجنبية على مشاريع بناء طرق النقل الحديثة في الدولة العثمانية منذ ثلاثينات القرن التاسع عشر، وبدأ التركيز عندما قامت شركة بريطانية خلال الفترة الممتدة ما بين عامي 1835 و1837 بدراسة ميدانية لمد خط سكك حديدية يربط أحد المواني البحرية في ولاية الشام على البحر الأبيض المتوسط، بأحد الموانئ البحرية العربية في الخليج. وهو المشروع الذي كان موضع اهتمام وتنافس فيما بعد بين رجال الأعمال الإنكليز والألمان والفرنسيين والأمريكيين والروس (كوتلوف ل.ن.: تكون حركة التحرر الوطني في المشرق العربي، منتصف القرن التاسع عشر – 1908. ترجمة: سعيد أحمد. دمشق: منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، 1981. ص 21؛ نوفيتشيف أ.د.: دراسات في اقتصاد تركيا حتى الحرب العالمية. موسكو/ليننغراد: 1937. ص123-149؛ عبد الرزاق الحسني: تاريخ العراق السياسي الحديث.. ج1. صيدا: 1957. ص 43-44؛ وCoke Richard. Baghdad, the City of  Peace, London, 1927. P. 272-273).
وحتى نهاية القرن التاسع عشر انحصر تغلغل رؤوس الأموال الأوروبية في ولايات الشرق العربي من الدولة العثمانية، في تنفيذ مشاريع بمناطق محددة تخدم الاستثمارات والمصالح الأوروبية في المنطقة بشكل عام. وكان أول امتياز لمد خط حديدي في ولاية الشام، الامتياز الذي منح لشركة فرنسية عام 1889 لبناء خط حديدي يربط ميناء حيفا بمدينة القدس، وتم بناؤه خلال بضعة سنوات انتهت عام 1892. وخلال الفترة من عام 1890 إلى عام 1895 قامت الشركة  الفرنسية بمد خط حديدي ربط بين ميناء بيروت ودمشق وحوران (مزيريب). بينما اهتمت بريطانيا ببناء خط لنقل البضائع بالسكة الحديدية من منطقة دمشق إلى ميناء عكا (روبين أرتور: سورية وفلسطين المعاصرتين. ترجمة من اللغة الألمانية المحرر  المسؤول: أ.و. زايدينمان. بطرس بورغ، 1919. ص 270-278؛ وHimadeh Sa’id B. (Editor). Economic Organization of Palestine, Beirut, 1938. P. 315; Himadeh Sa’id B. (Editor). Economic Organization of Syria, Beirut, 1936. P. 181-184).
ومع مرور الوقت أصبح الحصول على امتيازات لمد سكك حديدية سلاحاً قوياً لبسط النفوذ الاقتصادي والسياسي داخل الدولة العثمانية، وتحول إلى صراع حقيقي بين الدول الأوروبية ذات التطلعات الإستعمارية.
وفي خضم هذا الصراع زار الإمبراطور الألماني ويلهلم الثاني الدولة العثمانية مع نهاية القرن التاسع عشر وأعلن "أن مستقبل الإمبراطورية الألمانية في آسيا هو في كليكيا، وحوض نهر العاصي، ونهري الفرات ودجلة" (Sachau Eduard. Vom Asiatischen Reich der Turkei, Weimar, 1915. P. 5).
وبدأت ألمانيا بشن حملة إعلامية دعائية كبيرة للتمهيد لمشاريع بناء السكك الحديدية الألمانية لربط الولايات العثمانية ببعضها البعض، ومن ثم ربط الدولة العثمانية بأكملها بالإمبراطورية الألمانية. وتمكن الألمان عام 1903 من الحصول على اعتراف الدول الاستعمارية الأخرى لبناء خط برلين استنبول بغداد للسكة الحديدية، وشرع بتنفيذه اعتباراً من عام 1910. وحتى نيسان/أبريل عام 1913 أنجزت شركة خط حديد بغداد مد 408 كم من الخط. وحتى بداية الحرب العالمية الأولى كانت ألمانيا قد مدت 370 كم من السكك الحديدية عبر أراضي الولايات العربية في الدولة العثمانية منها 135 كم في العراق، و235 كم في بلاد الشام. إضافة لمشاركة الخبراء الألمان في بناء الخط الحديدي الحجازي ما بين عامي 1900 و1908 (نوفيتشيف أ.د.: مقالات في اقتصاد تركيا حتى الحرب العالمية الأولى. موسكو، ليننغراد، 1937. ص 280؛ روبين أرتور: سورية وفلسطين المعاصرتين. ترجمة من اللغة الألمانية المحرر  المسؤول: أ.و. زايدينمان. بطرس بورغ، 1919. ص 270 – 273).
ووفقاً لامتياز عام 1893 قامت فرنسا خلال الفترة الممتدة ما بين عامي 1901 و1911 بمد خطوط حديدية من الرياق على خط بيروت دمشق، إلى حلب مع تفرع من حمص إلى ميناء طرابلس الشام، وفي عام 1908 بدأت فرنسا بمد خط حديدي من ميناء الحديدة إلى صنعاء في اليمن (فخري د. أحمد: اليمن ماضيها وحاضرها. القاهرة، 1957. ص 34؛ مجلة روسكويه باغاتستفا، العدد 4/1912. ص 2؛ وMears Eliot Grinnel. Modern Turkey. A Politico-Economic Interpretation, 1908 – 1923, inclusive, with Selected Chapters by Representative Authorities, New York, 1924. P. 402).
وهنا يجب أن نشير إلى أنه عدا الخط الحديدي الحجازي الذي كان ملكاً للدولة العثمانية، فقد كانت كل الخطوط الحديدية في الدولة العثمانية ملكاً للأجانب، الذين أحاطوها بمؤسسات للنقل الداخلي البري والنهري والبحري وأحواضها الخاصة، وورشات الصيانة، والمستودعات، وخطوط  التلغراف (أفيريانوف: تقرير إتنوغرافي وعسكري وسياسي لأملاك الإمبراطورية العثمانية في آسيا. إس بي بي، 1912. ص 37؛ آداموف أ.: الملاحة النهرية في شط العرب والدجلة (تقرير القنصل في البصرة)، - إس كي دي، 1902، الإصدار الرابع. ص 302؛ غوركو – كريجين ف. أ.: الشرق الأوسط والدول العظمى. موسكو، 1924. ص 26؛ آخر المعلومات عن الدول المجاورة، التي حصلت عليها أجهزة الاستخبارات. العدد 45/1913. ص 9).
وحتى الحرب العالمية الأولى كانت بعض الدول الأوروبية قد سيطرت على اقتصاد والتجارة الخارجية في ولايات المشرق العربي من الدولة العثمانية، وكيفته وفق متطلبات السوق الأوروبية. وبالتدريج بدأت الشركات الأوروبية بالتسلل المنظم للسيطرة على التجارة الداخلية في تلك الولايات، واستخدمت سياسة القروض قصيرة الأجل التي كانت تمنحها تلك الشركات لرجال الأعمال المحليين الفرصة حتى للتدخل في تحديد أسعار السوق المحلية.
وأجبرت الشركات البريطانية في البصرة على سبيل المثال الكثير من صغار التجار المحليين على إعلان إفلاسهم بعد أن غيرت مواعيد تصدير التمور عام 1913 (آداموف أ.: موسم التمور عام 1902 في البصرة (تقارير القنصل الروسي في البصرة)، س ك د، 1903. الإصدار الرابع. ص 221).
إضافة إلى أن الشركات الأجنبية في الساحل والمناطق الداخلية من الولايات العربية قامت بشراء المنتجات الزراعية بشكل مباشر من المزارعين مما ألحق خسائر فادحة بالمؤسسات التجارية الوطنية. وسرعان ما أخذت الشركات المشتركة التي كانت تحتكر شراء المنتجات الزراعية وتهيئتها وتصديرها ونقلها إلى الخارج تحل مكانها (آداموف أليكساندر: العراق العربي. ولاية البصرة سابقها وحاضرها. س ب ب، 1912. ص 497-499؛ توتل اليسوعي فرديناند: وثائق تاريخية عن حلب أخذاً عن دفاتر الأخويات وغيرها. مجلة المشرق 1948 ص 588، 1949 ص 345؛ أخبار وزارة الخارجية الروسية 1914 العدد 4، ص 55).
ومالياً أخذت وطأة التوسع الاقتصادي الأوروبي في الولايات العربية من الدولة العثمانية تزداد عن طريق المصارف، ففي بداية القرن العشرين كانت هناك فروع لمصارف عثمانية شكلاً وأوروبية فعلاً، مثال: المصرف السلطاني العثماني (برأس مال فرنسي، بريطاني مشترك)، ومصرف سالونيك (رأس مال فرنسي، نمساوي مشترك)، والمصرف التجاري الفلسطيني. إلى جانب المصارف الأجنبية: ليون كريديه (فرنسا)، ودوتشه بنك (ألمانيا)، المصرف الألماني الفلسطيني (ألمانيا)، ومصرف الشرق (بريطانيا) (آداموف أليكساندر: العراق العربي. ولاية البصرة سابقها وحاضرها. س ب ب، 1912. ص 84، 527، 531؛ روبين أرتور: سورية وفلسطين المعاصرتين. ترجمة من اللغة الألمانية المحرر  المسؤول: أ.و. زايدينمان. بطرس بورغ، 1919. ص 243؛ وBaedeker Karl. Palestine and Syria. With Routes through Mesopotamia and Babilonia and Island of Cyprus. Handbook for Travelers, Leipzig ete, 1912. P.11).
والشركة الإنكليزية الفلسطينية (بريطانيا) التي كانت تمول المستوطنات الصهيونية فقط، إضافة لمنح القروض للقطاعات التي تسمح لها بالتأثير على الاقتصاد الوطني تلبية لمصالحها الخاصة (كوتلوف ل.ن.: تكون حركة التحرر الوطني في المشرق العربي، منتصف القرن التاسع عشر – 1908. ترجمة سعيد أحمد. منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق 1981. ص 26).
بينما احتكر البريطانيون والفرنسيون عمليات التأمين في الولايات العربية من الدولة العثمانية بالكامل (آداموف أ.: الملاحة النهرية في شط العرب والدجلة (تقرير القنصل في البصرة)، - إس كي دي، 1902، الإصدار الرابع. ص 298).
ولم ينس رأس المال الأجنبي قطاع الإنتاج الزراعي في الدولة العثمانية الذي كان مصدراً رئيسياً للمواد الخام الرخيصة لأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وقامت إدارة التسليف العثمانية (المؤسسة المالية الأوروبية التي كانت تمنح القروض للدولة العثمانية آنذاك) نشاطاً ملحوظاً في الأراضي العراقية والسورية، وكانت هذه الإدارة تقوم نيابة عن الأجهزة الحكومية المختصة بتحصيل الضرائب في طرابلس الشام، والقيروان بما فيها ضريبة العشر عن إنتاج شرانق الحرير مما أدى إلى تردي الأوضاع الاقتصادية في الولايتين.
وعلى سبيل المثال كان نشاط شركة "الريجي" الفرنسية مدمراً في جميع الولايات العراقية والسورية واليمنية باستثناء سنجق لبنان المتمتع بإدارة حكومية خاصة. فقد قامت الشركة المذكورة باحتكار إنتاج التبغ، وكانت من أجل ذلك تفرض مناطق زراعة التبغ، وتحدد مساحة الأراضي لزراعته، وتراقب تحضير المحصول وتجبر المزارعين على تسليم إنتاجهم لها بالكامل، وتفرض الأسعار ورسوماً خاصة كانت تجبى لصالحها (روبين أرتور: سورية وفلسطين المعاصرتين. ترجمة من اللغة الألمانية المحرر  المسؤول: أ.و. زايدينمان. بطرس بورغ، 1919. ص 35).
بالإضافة لفرض زراعات معينة لتلبية حاجة السوق الأوروبية على حساب المزروعات الأخرى التي تحتاجها السوق المحلية، وعلى هذا الشكل تخصص جبل لبنان في إنتاج شرانق الحرير والتبغ، وجنوب العراق بإنتاج التمور، وفلسطين بإنتاج الحمضيات، وسورية ومصر بإنتاج القطن، وكلها كانت معدة للتصدير فقط مما أدى لارتباطها بتقلبات أسعار السوق العالمية وهو ما أدى إلى تدهور الزراعات الأخرى كما حصل في بلاد الشام عندما أقدم الفلاحون على قطع أشجار التوت والزيتون للتوسع بزراعة الحمضيات، وقطع أشجار البن في اليمن عندما عجز البن اليمني عن منافسة البن البرازيلي منذ مطلع القرن الثامن عشر (غاتاأولين م. ف.: العلاقات الزراعية في سورية. موسكو: 1957. ص 90؛ روبين أرتور: سورية وفلسطين المعاصرتين. ترجمة من اللغة الألمانية المحرر  المسؤول: أ.و. زايدينمان. بطرس بورغ، 1919. ص 43-50؛ شتيبات، فريتس Fritz Steppat: بدايات العصر الحديث في الشرق الأدنى، آفاق جديد أمام المؤرخين – مجلة الأبحاث، السنة 20، ج 1، آذار 1967. ص27).
والأكثر من ذلك وضعت الإمبراطورية الألمانية مخططات لجعل الولايات العراقية والسورية قاعدة لتموين الإمبراطورية الألمانية بالحبوب والأقطان، وهو ما أشار إليه باول رورباخ عندما قال "إن سهل بابل يمكن أن يصبح أعظم مصدر للقمح والقطن في العالم، إضافة لمراعي ملايين الأغنام في ما بين النهرين" (لوتسكي ف.ب.: التاريخ الجديد للدول العربية. موسكو 1966. ص 289)، بينما قام الفرنسيون بطرح مشاريع مشابهة للولايات السورية (لوتسكي ف.ب.: حرب التحرير الوطنية في سورية (1925-1927). موسكو، 1964. ص 78).
في الوقت الذي راحت فيه بريطانيا أبعد من ذلك حين خططت لاستعمار العراق وفلسطين وربطهم بمشاريع تطوير الزراعة والثروة الحيوانية بما يتلاءم وحاجات الاقتصاد البريطاني.


طشقند 3/8/2012               بروفيسور محمد البخاري