السبت، 26 مايو 2012

أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان بن أوزلاغ الفارابي


أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان بن أوزلاغ الفارابي


 ولد أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان بن أوزلاغ الفارابي، بمدينة فاراب عند التقاء نهري سرداريا وأريس، عام 870 في أسرة تركية. ويعتبر حوض نهر سرداريا مهداً للحضارة التي لعبت دوراً هاماً في تاريخ قازاقستان، وهو الدور المشابه لحوض نهر النيل في مصر، وحوض نهري دجلة والفرات في بلاد ما بين النهرين. ولقب الفارابي بلقب "المعلم الثاني" في القرون الوسطى بالعالم الإسلامي ( أي الثاني بعد أرسطو
وذكر المقداسي المؤرخ في القرن العاشر أن فاراب كانت مدينة كبيرة بلغ عدد سكانها من الذكور نحو 70 ألف نسمة، وفيها مسجد جامع وقلعة وسوق. وشيدت المدينة في وادي أترار، الذي يشكل مع المناطق المحاذية له مركزاً من مراكز التمدن القديمة، بفضل الأراضي الزراعية وحضارة المدن التي كانت قائمة في قازاقستان آنذاك. وبنيت فاراب على غراغر مدينة أترار وشيدت كآخر مدينة في القرن الأخير قبل تاريخنا المعاصر.
وبقايا أكثر من 60 قرية وقلعة ومدينة، وآثار نظام الري الواسع والقوي، تتحدث عن إتساع التطور الإقتصادي والثقافي في الوادي وتعود لمختلف المراحل التاريخية من المراحل القديمة وحتى المراحل المتأخرة من القرون الوسطى.
وأشار أ.ن. بيرنيشت إلى أن أترار جذبت إنتباه المؤلفين الذين كتبوا باللغتين العربية والفارسية في القرون الوسطى كأهم نقطة على طريق القوافل، لأنها تقع عند نقطة تلاقي المناطق الجغرافية، واشتهرت بموقعها المتميز كأراضي خصبة. ولهذا اعتبر أ.ن. بيرنيشت وادي أترار مفتاح هام للعلاقة المتبادلة بين الرحل في الصحارى والمناطق الحضرية لأجداد الشعب القازاقستاني القدماء. ونتيجة لقدوم الصغد للسكن فيها وهم الذين امتلكوا خبرات كبيرة في مجال الزراعة وتقاليد بناء المدن القديمة، نشأت في جنوب قازاقستان حضارة مدنية متميزة. وكانت موطن للفارابي.
ومنذ سنوات شبابه تعطش الفارابي للمعرفة واتجه للترحال لاستيعاب الجديد عن العالم المحيط به في ذلك الوقت. وأمضى سنوات طويلة في بغداد التي كانت مركزاً سياسياً وثقافياً للخلافة الإسلامية. وأضاف الكثير لمعارفه الذاتية، وأقام صلات مع علماء كبار، وبفضل نباهته وقوة فكره شغل بينهم مكانة لائقة. ولكن ضيق أفق رجال الدين جعلهم بعيدين عنه، واختلطت علاقتهم به بالحسد، والأهم بالمعارضة الشديدة لأفكاره الساعية لمعرفة حقائق الأشياء والبحث عن السعادة في الحياة الدنيا. وفي النهاية اضطر الفارابي لمغادرة "مركز العالم" ذاك.
ولكن علينا هنا التحدث خاصة عن بغداد ودورها في تشكيل المعارف المعنوية للفارابي. وقبل كل شيء أنها كانت مركزاً للحياة الثقافية النشيطة والفعالة. حيث تقاطعت فيها مختلف التقاليد الثقافية وتمتع تأثيرها بقوة كبيرة أخذت بالحسبان آنذاك بسبب تحاور الأديان الوثنية، واليهودية، والمسيحية، والإسلام (وخاصة بين النسطوريين والموحدين) فيها، بالإضافة لتحاور ثقافات مختلف الشعوب، وكل ذلك وضعه في حالة من تصادم الأفكار، ودعته لشحذ الهمة لرفعها فوق الروابط العرقية.
وتحدث الفارابي عن مدينة بغداد وعن الحياة المشتركة في المدينة، واعتبرها مدينة أكثر فخامة وسعادة من المدن المتخلفة الأخرى، وأنها بشكلها الخارجي ترتدي حلة من الحسن والجمال، وكانت قوتها سبباً لاختيارها كمكان محبب للجميع للسكن فيها. واعتبرها المدينة التي يحقق فيها أي إنسان أمانيه وما يسعى إليه عندما يختلط بشعبها ويسكن فيها. وكانت من أسباب زيادة عدد سكانها الذين غدا عددهم دون حدود.
وأشار الفارابي إلى ولادة أبناء مختلف القبائل فيها، وإلى الزيجات التي تعقد فيها وتخلق علاقات من مختلف الأشكال، ويولد فيها أطفال من مختلف الأنساب والأصول والتربية. وكان للمدينة أوجه متعددة نتجت عن اختلاط مختلف الأجزاء المتميزة عن بعضها البعض، وضمت غرباء لا يختلفون عن السكان المحليين، توحدهم رغبة العمل المشترك. وأن فيها حكماء وخطباء وشعراء من مختلف الألوان، تميزهم صفات الطيبة، والشر الذي يظهر القوة أكثر من اي مكان آخر في العالم.
وكانت بغداد أنذاك المكان الذي حج إليه المثقفين في تلك الفترة التاريخية. ليجربوا فيها قواهم وإمكانياتهم، وينشؤا المدارس، ويختلفوا مع بعضهم، ويحققوا النجاحات، وليتعرضوا للطرد، وللإرتفاع والإنخفاض.
وفي بغداد عملت أشهر مدارس الترجمة، التي لعب فيها النساطرة دوراً كبيراً. حيث ترجموا وعلقوا على مؤلفات بلاتون، وأرسطو، وغالين، وإقليدس. وفيها جرت عملية موازية لاستيعاب ثقافات وإنجازات الهند. كما كانت تشجع النشاطات الإبداعية الفردية.
وتعلم الفارابي في بغداد على أيدي يوحنا بن هيلان، وأبو بشر متى المترجم الشهير للنصوص القديمة إلى اللغة العربية. ووصف الفارابي معلمه يوحنا بن هيلان بأنه إنسان جمع كل التقاليد الحية المنقولة من تراث أرسطو عبر سلسلة من الأجيال.
وتعلم الفارابي علم المنطق عند أبو بشر متى. وتشير مصادر القرون الوسطى إلى أن التلميذ سرعان ما سبق معلمه. وتمكن الفارابي خلال سنوات دراسته في بغداد من التعرف على "المقارن الثاني" لأرسطو، الذي سعى رجال الدين النساطرة "لإخفائه"، لأنه ينمي المواقف المعرفية النظرية، التي تحد من الإنفتاح الديني.
  وبعدها انتقل الفارابي للحياة في حران حيث عاش علماء نساطرة أتوا إليها من الإسكندرية بعد أن ضيق عليهم هناك في ذلك الوقت.
وقضى السنوات الأخيرة من حياته بمدينتي حلب ودمشق حيث حظي بإحترام شخصيات سياسية مرموقة في شمال سورية من بينهم سيف الدولة الحمداني.
وتوفي الفارابي ودفن بدمشق في ديسمبر/كانون أول عام 950 بعد أن بلغ الـ 80 من عمره.