الخميس، 18 يناير 2018

تشنغيز أحماروف أبرز رواد الفن التشكيلي الأوزبكي المعاصر

تشنغيز أحماروف أبرز رواد الفن التشكيلي الأوزبكي المعاصر

 

كتبها في طشقند: أ.د. محمد البخاري: دكتوراه في العلوم السياسية DC اختصاص: الثقافة السياسية والأيديولوجية، والقضايا السياسية للنظم الدولية وتطور العولمة. ودكتوراه فلسفة في الأدب PhD اختصاص: صحافة.  بروفيسور متقاعد.

 

منذ فترة مضت نظم في مركز الفنون القومية التابع لأكاديمية الفنون الجميلة الأوزبكستانية معرضاً حمل اسم "ما عرف وما لم يعرف عن الفنان التشكيلي تشنغيز أحماروف" وشمل المعرض الذي اكتظ بالزوار أكثر من 100 عملاً فنياً وأعمال غرافك لأحد ألمع أساتذة ريشة الفنون الجميلة في أوزبكستان، وشمل المعرض الكثير من الأشياء التي تصور حياته الإبداعية الرائعة والخاصة، وكانت المفاجأة التي لم أكن أتوقعها أن أشاهد بين المعروضات اسكيز صغير رسمه ويحمل توقيع الفنان التشكيلي العربي السوري د. محمد غنوم الذي أهداه له أثناء زيارته لمرسمه في مطلع تسعينات القرن الماضي، وأعادت هذه الصدفة لذاكرتي مجريات ذلك اللقاء الذي كنت فيه بين الحاضرين والمستمعين لتقييم وحب هذا الفنان الكبير لتراث الفنون الجميلة والمنمنمات العربية الإسلامية التي ازدهرت في العالم الإسلامي خلال القرون الوسطى.

 

وتشير الدراسات النقدية الصادرة في النصف الثاني من القرن الماضي في أوزبكستان إلى تعدد آراء النقاد حول تاريخ هذه الفنون الجميلة منذ بدايات عودة الاهتمام إليها، وساد بين النقاد فيها آنذاك استنتاج مفاده "أن فن المنمنمات الإسلامية في القرون الوسطى كان محصوراً بفن تزيين صفحات الكتب، وفي بعض النقوش والزخارف الأخرى على جدران مباني تلك الحقبة التاريخية.


ولكن الفنان التشكيلي الكبير الراحل تشنغيز أحماروف وتلامذته الشباب أثبتوا وبشكل قاطع "أن هذا الفن العريق كان موجوداً في المنطقة"، وأدت الأحداث التي عصفت بالمنطقة خلال تلك الحقبة التاريخية، من حروب داخلية وما رافقها من إراقة دماء، ودمار شديد في العمران، إلى خلو مناطق شاسعة من السكان تقريباً في ما وراء النهر. وحدث هذا خاصة بعد انهيار حكم الأسرة التيمورية، خلال القرن السادس عشر، ومع بدايات الاحتلال الروسي لتركستان منذ قرنين تقريباً، الاحتلال الذي استمر حتى مطلع تسعينات القرن العشرين. والاحتلال البريطاني لشبه القارة الهندية، وهو ما أدى بالنتيجة إلى ضياع نماذج كثيرة من الأعمال لفريدة التي خطها أساتذة فنون المنمنمات وكانت تصور كائنات حية خلال تلك الفترة الهامة من تاريخ المنطقة.


ولكننا ومن خلال بعض اللقيات الأثرية المحفوظة في متحف الفنون الجميلة بجمهورية أوزبكستان، نتعرف اليوم على نماذج رائعة من هذا الفن العريق، ونتعرف أيضاً على نماذج أخرى، من خلال النقوش التي تزين أغلفة مخطوطات القرون الوسطى، بتقنية الورق المعجون (المعروفة باسم "جلدي روغاني")، والمحفوظة اليوم ضمن مجموعة معهد أبي ريحان البيروني للإستشراق التابع لأكاديمية العلوم الأوزبكستانية.


ورافق انبعاث وتجدد هذا الفن العريق، مولد شكل جديد معاصر من أشكال الفنون الجميلة في أوزبكستان، تمثل بفنون المنمنمات المطلية والمنفذة بتقنية "طاش قاغاز" (أي الورق المقوى) المصنوع من لدائن الورق المعالجة بطريقة خاصة، والتي ابتكرها أساتذة الفنون الجميلة في إتحاد "أسطى"، التابع لصندوق الفنون الجميلة في إتحاد الفنانين التشكيليين الأوزبكستاني آنذاك... أكاديمية الفنون الجميلة اليوم. والذي أحدث بهدف الحفاظ على الفنون القومية الأوزبكية المتميزة وتطويرها، ولبعث أشكال الفنون الجميلة الشعبية الآخذة بالزوال. وتكللت الجهود بإحداث ورشة علمية إنتاجية تجريبية، تحت إشراف الفنان الأوزبكي الراحل تشينغيز أحماروف. وبين جدران هذه الورشة ظهرت أولى الأعمال الفنية الرائعة لفناني المنمنمات المطلية الشباب الأوزبكستانيين.
ويعود إنشاء الورشة العلمية التجريبية لفنون المنمنمات المطلية في إتحاد "أسطى"، إلى مطلع سبعينات القرن الماضي حيث أنتج تحت إشراف تشنغيز أحماروف أول عمل تجريبي بتقنية رسم الصور المطلية بالورنيش. الذي عرف في النماذج القديمة للرسوم المنمنمة لكتب القرون الوسطى، ومختلف مدارسها الفنية، وفي الطرق القديمة لتحضير الألوان، وامتلك تشنغيز أحماروف تقنيات وطرق عمل أساتذة الشرق القديم، وكانت الخبرة التي تكونت لديه مبعثاً لتك الطرق من جديد حيث جعلها محط اهتمام المختصين بتاريخ ونظرية الفنون الجميلة رغم غياب وجهة النظر الواحدة عن المنمنمات المطلية في آسيا الوسطى. وساد استنتاج عن أنها كانت لا تتعدى منمنمات الكتب والنقوش والزخارف في القرون الوسطى بمنطقة وسط آسيا. ولكن تشنغيز أحماروف وتلامذته الشباب آمنوا بقوة: بأن هذا الشكل من الفن كان موجوداً، ولكن الأحداث العاصفة في تلك المرحلة التاريخية، وإراقة الدماء نتيجة للحروب الداخلية، أفرغت واحات آسيا الوسطى بعد سقوط الأسرة التيمورية في القرن السادس عشر من السكان، وكانت من أسباب فقدان نماذج كثيرة للمنمنمات التي صورت كائنات حية.

 

وكان إسهام تشنغيز أحماروف في تطوير فن المنمنمات والفنون الجميلة الأوزبكية عظيماً وتميز بعدم التكرار ودعوته للفنانين الأوزبك للابتعاد عن تقاليد المدارس الأوروبية والعودة لجذورهم الفنية. وكان له الفضل الكبير في بعث فنون المنمنمات الشرقية، وإحياء تقاليد مدرسة كمال الدين بهزاد الرائعة. وكانت أفكاره تلك جريئة جداً في تلك المرحلة وكان على علم بما يحيط به من أخطار في مواجهة ما اعتاد المسؤولين في السلطات السوفييتية فرضه على الفنون من قيود، وكان يمكن وبكل سهولة أن يدفع مستقبله وشهرة إبداعه ثمناً لها. ولكنها كانت فكرة فنان شجاع حملها معه وبثبات طيلة حياته.

وحياة تشنغيز أحماروف كانت مليئة بالنجاحات وحظي بألقاب رفيعة. واستحق جائزة الدولة من الدرجة الأولى لقاء رسومه ونقوشه البديعة التي تزين حتى اليوم جدران مسرح علي شير نوائي الأكاديمي الكبير للأوبرا والباليه في طشقند. وكان حينها لا يتجاوز الخمسة والثلاثين عاماً من عمره، ومع ذلك لم يصب بالغرور واستمر بإبداعاته، وأنجز الكثير من الأعمال الفنية التذكارية الضخمة التي تزين الأماكن العامة ليس في أوزبكستان بل وفي خارجها..

ونقوشه النافرة ورسومه البديعة تزين اليوم جدران محطة "كييفسكايا" في مترو موسكو، ومصحة "أوزبكستان" في كيسلافودسك، ومطعم "يولدوز" في سمرقند، وقصر "أبو علي بن سينا" الثقافي في بخارى، ومحطة "علي شير نوائي" للمترو في طشقند والكثير غيرها. ورسومه البديعة محفوظة في العديد من المتاحف والمجموعات الخاصة.

 

وشملت أعماله البديعة خلال حياته الكثير من الصور، ولوحات رسمها لمعاصريه وللأجداد العظام للشعب الأوزبكي، ويصعب حصرها اليوم وكلها تحمل ميزة واحدة هي عدم تكرار خصوصيتها في أي لوحة من لوحاته أو أي عمل من أعماله، وعند تصفح أي ألبوم من ألبومات معارضه لا نجد أي تشابه بين أي عمل من أعماله الكثيرة لا في تفاصيل الجزئيات ولا حتى في الأقراط التي تزين أذان شخوص لوحاته ولا حتى في حلى الزينة النسائية المرسومة في لوحاته وكلها تحمل طابع أحماروف المتميز.

واذكر ما عرضه على ضيفه السوري من عشرات النماذج التي يرسمها ليختار بعد جهد جهيد الأنسب والأفضل منها لإنتاج عمله الفني المبدع بشكله النهائي، وهو الذي تمتع بإمكانيات موسوعية وفلسفية وتاريخية ومعمارية وموسيقية، وأحاسيس مرهفة عكسها في لوحاته ورسومه عبر الحركات الإيقاعية للراقصات والراقصين وفي الفنون الشعبية الأخرى وما عرف عن حفظه عن ظهر قلب لمؤلفات العديد من شعراء الشرق. وعن دعوته من قبل أبرز المخرجين للتشاور قبل البدء في تنفيذ أي عمل سينمائي تاريخي.

 

والخبرة الضخمة التي كونها خلال حياته لم يبخل بها وأعطاها لتلامذته الذين يعدون اليوم بالمئات لأنه أحبهم كأب ولكنه كان في أعماق قلبه شاباً، وكان يحب أن يدعوه تلامذته لجلسات سمرهم، وكان يحب المزاح والنكات والكلمات النقدية الحادة كما أشار لي تلامذته الذين التقيتهم خلال معرض أستاذهم الكبير. حتى أن أحدهم وهو فنان معروف قال لي: أحماروف لم يدخر أبداً النقود، والقسم الأكبر من عائدات أعماله الفنية كان يوزعها على تلامذته، الذين درسوا الفنون الجميلة في مؤسسات التعليم العالي الروسية، لأن أستاذنا عرف أن المقدرات الإبداعية الفكرية والقيم المعنوية هي أغلى من المادة. وكان له في حياته مذاقات الانتصارات الحلوة، وطعم الضياع والخسارة المرة. ولكنه لم يكن يحب التحدث عنها أبداً.

وهكذا اقتنعت بأنه رغم مضى نحو 14 عاماً على وفاة فنان الشعب الأوزبكي تشنغيز أحماروف فإن ذكراه الطيبة لم تزل محفوظة في ذاكرة الكثيرين من تلامذته والمعجبين بفنونه الجميلة وفي أعماله الكثيرة الموزعة في المتاحف والأماكن العامة التي يشاهدها عشرات الألوف يومياً.