الأربعاء، 19 أغسطس 2020

التبادل الإعلامي والتفاهم الدولي

التبادل الإعلامي والتفاهم الدولي
أ.د. محمد البخاري
التبادل الإعلامي في ظروف  العلاقات الدولية المعاصرة
طشقند - 2011
تأليف:
محمد البخاري: دكتوراه في العلوم السياسية DC، اختصاص: الثقافة السياسية والأيديولوجية، والقضايا السياسية للنظم الدولية وتطور العولمة؛ ودكتوراه فلسفة في الأدب PhD، اختصاص: صحافة؛ بروفيسور قسم العلاقات العامة والإعلان، كلية الصحافة، جامعة ميرزة ألوغ بيك القومية الأوزبكية.

التبادل الإعلامي والتفاهم الدولي
ويتحدد الإطار المثالي للتفاهم الدولي من خلال التبادل الإعلامي الدولي عن طريق توخي الموضوعية المجردة، والدقة في إبراز الوقائع والصدق ووضع الجوانب المختلفة للموضوع والابتعاد عن التشويه، والسعي نحو الحقيقة، وهو ما يصعب تحقيقه. وتعتبر هذه الصورة مثالية بحد ذاتها وترتبط في معظم الأحيان بالحديث عن السلام العالمي والتفاهم والتعاون الدولي، ونبذ الصراعات بكل أشكالها، واللجوء إلى التفاوض لحل المشاكل والخلافات المحلية والإقليمية والدولية، والسعي إلى ما فيه خير البشرية، بما فيها إقامة سلطة تتعدى سلطة الدول ! ! وهو ما نجده في بعض نصوص القانون الدولي وخاصة عندما توضع هذه الصورة المثالية في محك التطبيق العملي. كما ونصادفها في كتابات الفلاسفة على مر العصور عند تناولهم لمواضيع التفاهم الدولي والتعاون بين الأمم. وعلى كل حال فإن العلاقات الدولية والظواهر الاجتماعية المختلفة تتسم بالدينامكية وسرعة الحركة والتغيير، وما هو مثالي صعب التحقيق اليوم قد يصبح سهلاً وواقعياً في فترة لاحقة. وما كان مثالياً وضرباً من الخيال قبل انهيار المنظومة الاشتراكية التي كان يقودها الإتحاد السوفييتي السابق، أصبح واقعياً بعد انهيارهما السريع والمفاجئ، وانتهاء الحرب الباردة بين الشرق والغرب التي أعقبت الحرب العالمية الثانية.
اللغات القومية والتفاهم الدولي
ومن المعروف أن العالم المعاصر يستخدم حوالي 2900 لغة، بالإضافة إلى اللهجات المحلية المنبثقة عن تلك اللغات، مما يجعل من عملية التفاهم الدولي المطلوبة للترجمة الفورية والتحريرية مهمة شاقة وصعبة وباهظة التكاليف، إن كان في المؤتمرات واللقاءات الدولية، أم في وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية الموجهة للمواطنين الأجانب. لأن التبادل الإعلامي يعد في كثير من الحالات معوقاً للتفاهم الدولي، عندما لا يلتزم بالموضوعية، ويشوه الوقائع ويبرز وجهة نظر دون أخرى، وكثيراً ما يضع جوانب الموضوع التي تفيده فقط، ويتعمد التشويه خدمة طرف واحد من أطراف الصراع، مهاجماً أو مواجهاً الطرف الآخر من الصراع الدائر. بطريقة يتم فيها احتكار تفكير الإنسان، وتوجيهه دون إرادة منه، لمفاهيم تحتوي على جانب واحد من الحقيقة، وبتكرارها بصور وأشكال مختلفة يصبح الإنسان مقتنعاً بها، معرضاً عن الجانب الآخر من الحقيقة حتى ولو اطلع عليها بطريقة أو أخرى. ويفسر ذلك بأن التبادل الإعلامي الدولي، بالأساس هو وسيلة من وسائل تنفيذ السياسات الخارجية للدول، وبالتالي فهو يسعى لخدمة هذه السياسات والتفاعل من أجل ذلك مع الوسائل الأخرى لخدمة تلك السياسات، ومن هنا فإن الموضوعية أو عدم تشويه الوقائع أو الكذب، الذي يصاغ بشكل يراعى فيه عدم إمكانية اكتشافه، واستخدامه ببراعة للهجوم على الخصم، من خلال وضع جوانب الموضوع بتكتيك معين يسير في إطار تحقيق أهداف السياسات الخارجية للدول. ومن هنا نفهم واقع سوء توزيع مصادر الأنباء في العالم، عندما توظف الدول المتقدمة إمكانياتها الاقتصادية، وتقدمها العلمي والتكنولوجي في خدمة سياساتها الخارجية، وهي الأكثر نضجاً من غيرها من الدول الأقل تطوراً. ويبرز الواقع أيضاً أن الدول المتقدمة والغنية، تتحكم بوكالات الأنباء المؤثرة والرئيسية المسيطرة على جمع وتوزيع الأنباء حول العالم، بالإضافة إلى محطات الإذاعة المسموعة والمرئية وشبكات الكمبيوتر العالمية، والصحف والمجلات المنتشرة على نطاق عالمي، ووسائل الاتصال الحديثة وشبكة الأقمار الصناعية المخصصة للإستشعار عن بعد وللإتصالات ونقل البث الإذاعي المسموع والمرئي، والتي مكنت تلك الدول من إيصال واستقبال المعلومات الفورية دون أية حواجز تذكر من وإلى أية نقطة في العالم.
وجعل التطور العلمي والتكنولوجي الهائل في مجال الاتصال، من وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية سلاحاً خطيراً في أيدي القوى الكبرى والدول المتقدمة والغنية، للتأثير على الرأي العام العالمي وتوجيهه، وخاصة فيما إذا استخدمت وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية القوية والمسيطرة تلك، للتحريض على الحرب وإثارة التعصب الديني والقومي والعنصري، كما هو جار اليوم دون الدعوة للسلام ونصرة الحقوق المشروعة والتعاون والتفاهم بين الشعوب، ونبذ أي نوع من التعصب مهما كان نوعه، خدمة للإنسانية وتقدمها.
المعيقات السياسية لعملية التبادل الإعلامي الدولي
ويتزايد الدور العالمي لوسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية، واسعة الانتشار وخاصة منها برامج الإذاعات المرئية المنقولة عبر الأقمار الصناعية منذ العشرين سنة الأخيرة من القرن العشرين، رغم تباين النظم السياسية والإيديولوجية ودرجات النمو الاقتصادي والثقافي والاجتماعي لدول العالم المختلفة، ورغم عدم التكافؤ الواضح بين القلة القليلة التي تبث السيل الهائل من المعلومات على مدار الساعة يومياً، وبين الغالبية العظمى من دول العالم التي تستقبل ما يرسل إليها، بغض النظر عن وضعها الاقتصادي غنية كانت أم فقيرة. لأن من يصنع ويملك تقنيات وتكنولوجيا الاتصال ويتحكم بصياغة المادة الإعلامية هو المسيطر على عملية التبادل الإعلامي الدولي دون منازع يذكر، ومن عداه فهو مستهلك لتكنولوجيا وتقنيات الاتصال وللمادة الإعلامية باهظة النفقات والتكاليف. لأن العلاقة شديدة الصلة بين السياسات الخارجية للدول، والرأي العام الوطني والإقليمي والعالمي، وكل منها يؤثر ويتأثر بالآخر، وهذا بحد ذاته يبرز مشكلة سياسية عويصة أمام عملية التبادل الإعلامي الدولي، مفادها ضخامة وتضارب المصالح الحيوية لمختلف دول العالم وخاصة الدول المتطورة والغنية، التي تتجاوز حدودها الجغرافية المعترف بها إلى مناطق أخرى بعيدة كل البعد جغرافياً عنها. وتعدد المشاكل السياسية والاقتصادية والإيديولوجية بينها يجعل عملية التبادل الإعلامي تؤثر وتتأثر حتماً بوسائل تنفيذ السياسات الخارجية للدول الأخرى، وهذا مرتبط بمدى قوة وفاعلية وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية الموجهة للخارج لكل دولة. لأن وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية الدولية، من خلال عملية التبادل الإعلامي الدولية، تسعى لخدمة سياسة معينة كثيراً ما لا تتماشى هذه السياسة مع متطلبات التفاهم الدولي، ولأن هذه الوسائل بالأساس تتصدى لمشكلة أو مشاكل سياسية معينة، وتسير في خط معين مرسوم لها ضمن السياسة الخارجية للدولة، وكثيراً ما يبتعد هذا الخط عن الموضوعية والدقة في عرض الوقائع، وقد ينجح في إقناع عدد كبير من مستقبلي الرسائل الإعلامية، بعدالة وصدق موقفها من المشكلة المطروحة، رغم أن الحقيقة عكس ذلك، ومرد ذلك إما للظروف المتاحة دولياً والتفاهم والتعاطف الدولي مع سياسة خارجية معينة، أو قوة أساليب عمل وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية الدولية التي يملكها هذا الطرف أو ذاك، أو ضعف أساليب عمل وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية للطرف المواجه، أو غيابها تماماً عن الساحة الدولية مما يتيح للخصم ظروفاً ممتازة لإقناع الرأي العام العالمي بعدالة وصدق مواقفه كما يشاء دون منازع. على مثال القضايا العربية والإسلامية ومنها القضية الفلسطينية.
وقد أدى انهيار المنظومة الاشتراكية والإتحاد السوفييتي، إلى انتهاء الحرب الباردة بين الشرق والغرب، وإلى انفراج نسبي في العلاقات الدولية، وخفف نوعاً ما من الصراع الإيديولوجي الذي كان قائماً، ولكن سرعان ما استبدل بصراع من نوع جديد أخذ طابعاً آخر كأنه يدعم الديمقراطية والانفراج الدولي ومحاربة التطرف الديني، والإرهاب الدولي من وجهة نظر القوي المسيطر على عملية التدفق الإعلامي الدولي. وأدى غياب الصراع الإيديولوجي إلى تخفيف السباق المتسارع بين التكتلات الإقليمية والدولية المتصارعة للإمساك بزمام المبادرة في توجيه الحملات والضربات الإعلامية ضد بعضها البعض، ولكن لا أحد ينكر فضلها الأكبر في دفع التطور السريع لتقنيات ومعدات الاتصال، التي نعرفها اليوم، وكانت محض خيال قبل نصف قرن من الزمن. وتقوم وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية لأية دولة في العالم، بتوجيه حملات إعلامية مركزة للتأثير على الرأي العام الدولي وتقوية الرأي العام المحلي داخلياً وتحصينه ضد الحملات الإعلامية الخارجية، وتشترك بنفس النشاط تقريباً مع وسائل إعلام الدول الأخرى التي تشترك معها في تحالفات وتكتلات إقليمية ودولية، ويظهر من خلالها مدى ضلوع عملية التبادل الإعلامي الدولي في مشاكل ومتناقضات السياسة الدولية، محلياً وإقليمياً ودولياً.
ومن المشاكل العويصة التي تواجه وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية كوسيلة من وسائل السياسة الخارجية للدولة، العلاقة الموضوعية بين السياسة الخارجية للدولة، والرأي العام الوطني، والرأي العام الإقليمي، والرأي العام الدولي، خاصة عندما يبرز تضارب واضح وتباين بينها. فبينما تعمل وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية على تهيئة الرأي العام العالمي لاتخاذ موقف معين من قضية معينة تتفق والسياسة الخارجية للدولة المعنية، نراها في أكثر الأحيان مضطرة لاتخاذ موقف آخر قد يكون مغايير تماماً، لتهيئة الرأي العام المحلي من القضية ذاتها، وهذه مشكلة عويصة بحد ذاتها أمام المخططين والمنفذين للسياسات الإعلامية الداخلية والإقليمية والخارجية. خاصة بعد التطور الهائل الحاصل في مجال وسائل الاتصال الحديثة، وتعدد وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية وتنوعها وتجاوزها للزمن والمسافات والحدود الجغرافية واللغوية والحضارية، ليصبح ما يحدث اليوم في أي جزء من العالم في متناول الإنسان أينما كان ومهما بعدت المسافات خلال دقائق عبر قنوات الإذاعة المرئية الفضائية وشبكات الكمبيوتر، ولتصبح قدرة الدول في التحكم الفعلي بالرأي العام المحلي محض خيال، بعد أن طالته وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية الدولية، وأصبح الخيار في أيدي من يملك وسائل الاتصال الحديثة، ومن يوجه وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية الدولية، ويسيطر على صياغة الخبر بالطريقة التي تحلو له.
وإذا كان العالم اليوم يتجه حسيساً نحو الانفراج والتعاون الإيجابي بين الأمم، فإن هذا لا يعني انتهاء المشاكل والصراعات الدولية القديمة منها والجديدة والمتجددة، وكل ما يحدث هو تغير في الظروف الدولية وديناميكية العلاقات الدولية، وزيادة في عملية التفاعل والتبادل الإعلامي الدولي. وهذا يفرض على خبراء الإعلام الإلمام بالعلاقات الاقتصادية والسياسية والثقافية والعلمية الدولية، ومسارها التاريخي، والنظم والاتجاهات السياسية السائدة في دول العالم، وخلفية مواقفها من العلاقات الدولية المعاصرة، ليستطيع كلاً منهم أخذ مكانه الفاعل والمؤثر في عملية التبادل الإعلامي الدولي المتجددة، وخدمة سياسات بلده الداخلية والإقليمية والدولية بعد أن تجاوزت وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية فعلاً الحدود الفاصلة بين تلك السياسات.