السبت، 5 سبتمبر 2009

الأمن الإعلامي وهموم المجتمع المعلوماتي في عصر العولمة 1 من 2

أ.د. محمد البخاري
الأمن الإعلامي وهموم المجتمع المعلوماتي في عصر العولمة 1 من 2
المحتويات:
المقدمة.
العولمة والأمن الإعلامي الوطني والدولي: تعريف "العولمة"؛ مقدمات "العولمة"؛ "العولمة" والدولة والسيادة الوطنية؛ موقف الأمم المتحدة من الأمن الإعلامي الدولي؛ الأمن الإعلامي الدولي والتفوق في تكنولوجيا الاتصال؛ البنى الإعلامية الدولية فوق الدولة؛ التهديدات الجديدة لـ"العولمة الإعلامية"؛ "العولمة الإعلامية" والسيطرة على الموارد الإعلامية؛ السلاح الإعلامي في خدمة الدول الصناعية المتقدمة؛ السلاح الإعلامي وإدارة الصراع؛ مشكلة الأمن الإعلامي والمصالح الوطنية والدولية؛ أطر مشاكل الأمن الإعلامي الوطني والدولي؛ المصطلح والحرب الإعلامية؛ مجالات تأثير الصراع الإعلامي الدولي؛ مجالات استخدام السلاح الإعلامي؛ الرقابة أو الإشراف على المجال الإعلامي الدولي؛ سيناريوهات الحرب الإعلامية؛ الأمن الإعلامي الدولي من وجهة نظر المعارضين للمشكلة؛ الأمن الإعلامي الدولي من وجهة نظر البحث العلمي؛ الأمن الإعلامي والتفاهم الدولي؛ رؤية عربية للأمن الإعلامي والتفاهم الدولي.
العولمة وهموم المجتمع المعلوماتي: مفهوم المجتمع المعلوماتي؛ خطوات الانتقال إلى المجتمع المعلوماتي؛ مصاعب الانتقال إلى المجتمع المعلوماتي؛ ضرورة وضع ضوابط وخطط شاملة للانتقال إلى المجتمع المعلوماتي؛ تطوير البنى التحتية اللازمة للمجتمع المعلوماتي رهن بالسياسات الحكومية؛ العولمة والتكنولوجيا والمجتمع المعلوماتي؛ حتمية الثورة الاتصالية والمعلوماتية في ظل العولمة؛ تطور تكنولوجيا ووسائل الاتصال كقاعدة أساسية لتطور المجتمع المعلوماتي؛ من الحاسب الإلكتروني الشخصي إلى شبكات الاتصال المفتوحة؛ التقنيات الرقمية بديلة للتقنيات التقليدية في المجتمع المعلوماتي؛ شبكة الانترنيت ووظائف وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية في المجتمع المعلوماتي؛ خصائص المجتمع المعلوماتي؛ متطلبات المجتمع المعلوماتي؛ المجتمع المعلوماتي ووسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية في الدولة القومية؛ شبكة الانترنيت العالمية والمجال الإعلامي للدول النامية؛ مشاكل تشكل المجتمع المعلوماتي في الدول النامية؛ شروط بناء المجتمع المعلوماتي في الدول النامية؛ الشخصية أو الذات الفردية في المجتمع المعلوماتي؛ المجتمع المعلوماتي ووسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية العربية؛
الخاتمة: لابد من مضاعفة التركيز على الرأي العام العالمي خدمة للمصالح القومية العربية.
المراجع والمصادر.
المقدمة: نرى في العصر الحديث أن أهمية الاتصال قد ازدادت بشكل كبير، بفضل تطور وسائل الاتصال وشبكات المعلومات الإلكترونية وتقنياتها الحديثة. فالمعلومات أصبحت تحيط بنا في كل مكان ومن كل اتجاه حتى غدت طبقة كثيفة تحيط بالكرة الأرضية كالغشاء الهوائي الذي يوفر الحياة لسائر المخلوقات الحية، طبقة تعود الإنسان عليها حتى كاد ينساها أو يجهل وجودها، عدا قلة قليلة من الناس الذين يتعاملون مع هذه الطبقة المعلوماتية الكثيفة ويدركون مدى فاعليتها وتأثيرها ممن يطلق عليهم تسمية "خبراء الإعلام والاتصال".
وقد أطلق الباحث في علم الاتصال بيير تايلهارد على هذه الطبقة المعلوماتية التي تحيط بالكرة الأرضية اسم "نوسفير"، ويستفيد الإنسان المعاصر من هذه الطبقة عن طريق تلقي سيل هائل من المعلومات عبر شبكات الإعلام الجماهيرية والاتصال وتبادل المعلومات الدولية تتضمن حقائق وآراء مختلفة يستخدمها في مواقف اتصالية يدخل فيها مع الآخرين كمتحدث أو مستمع، ولكنه كان حتى وقت قريب لا يؤثر في عملية الاتصال كغيره من الفئات الاجتماعية الأكثر تأثيراً في عملية الاتصال كالمفكرين والصحفيين والكتاب والسياسيين ورجال الدين والأساتذة والمعلنين الذين يعطون من خلال وسائل الإعلام الجماهيرية والاتصال عن بعد أفكاراً ومعلومات في المواقف الاتصالية الجماعية أكثر مما يأخذون من معلومات، بحكم أدوارهم الاجتماعية التي تسمح لهم بالتأثير والتحكم بتفكير غيرهم من الناس يسميهم البعض "قادة الرأي".
وأصبح الاتصال عن بعد اليوم حقيقة طاغية في حياتنا اليومية المعاصرة عبر شبكات الاتصال الإلكترونية وخاصة شبكة "الانترنيت" العالمية، وأصبح الناس أداة فاعلة في عملية الاتصال عن بعد المستمرة على مدار الساعة مرسلين ومستقبلين على حد سواء بفضل تقنيات الاتصال الحديثة تلك محولة العالم بأسره إلى قرية الأمس من خلال عمليات الاتصال عن بعد المباشرة والمعقدة، والتي لم تعد تعترف لا بالحدود الجغرافية ولا بالحدود السياسية للدول المختلفة في العالم.
وفرض تطور التقنيات الحديثة للاتصال عن بعد على الإنسان المعاصر تعلم مهارات جديدة لم يكن بحاجة لتعلمها قبل عدة عقود فقط، وأصبحت ضرورية له لمواكبة العصر واستخدام وسائل الاتصال عن بعد الحديثة المعقدة حتى في اتصالاته الشخصية عبر شبكات الحاسبات الإلكترونية التي جعلت من الاتصال عن بعد عملية سريعة وفورية وسهلة بالاتجاهين. ومع تزايد أهمية الاتصال في حياتنا اليومية المعاصرة، ازدادت أهمية أبحاث الاتصال بكل أشكاله.
ويميل بعض علماء الاجتماع إلى التفريق بين الأبحاث الصحفية، والأبحاث الإعلامية والاتصالية. رغم امتداد الدراسات التي استهدفت الصحافة والإعلام خلال القرن العشرين إلى سائر مجالات الإعلام والاتصال عن بعد وقنواته انطلاقاً من مفهوم حرية تدفق المعلومات، ووحدة المجالات الإعلامية والاتصالية رغم تشعبها. ورغم اهتمام بعض المعاهد الصحفية في العالم بدراسة مجال واحد من المجالات الإعلامية والاتصالية، كدراسة الإذاعة والتلفزيون مثلاً، أو الصحافة المطبوعة، أو الاتصال الشخصي عبر وسائل الاتصال الحديثة كل على حدى. إلا أننا نعتبر أن مثل تلك الدراسات الناقصة لا تلبي حاجة البحث العلمي في مجال تدفق المعلومات والإعلام والاتصال عن بعد بشكله الملائم والمطلوب على أعتاب القرن الواحد العشرين، في زمن تشعبت فيه قنوات الاتصال عن بعد وتداخلت من خلال شبكات الاتصال عن بعد الحديثة سمة الحقبة الأخيرة من القرن العشرين.
فالأسلوب العلمي الصحيح اليوم يربط بين أساليب الاتصال عن بعد وتقنياته الحديثة كوحدة واحدة تتلاقى فيها قنوات الإعلام أصولاً وفروعاً. رغم التقسيم الذي سار عليه بعض الباحثين حينما فرقوا بين الأبحاث الصحفية، التي حاولوا حصرها بدراسة وسائل الإعلام أو الرسائل الإعلامية Communications فقط، بينما حاول البعض الآخر حصر أبحاث الاتصال بعملية الاتصال Communication فقط.
لأنه من الصعب جداً دراسة وسائل الإعلام الجماهيرية دون الاهتمام بعمليات الاتصال عن بعد والمواقف الاتصالية التي يتم من خلالها توجيه وتبادل المعلومات. فأي بحث يتناول الاتصال يجب أن يهتم بالجانبين معاً. فنحن لا نستطيع فهم ما تنشره وما تنقله أو تذيعه أو تبثه وسائل الإعلام والاتصال عن بعد الجماهيرية، دون أن ندرك جوهر عملية الاتصال، وكيف يؤثر مضمون الرسائل الإعلامية لوسائل الإعلام الجماهيرية على الأفراد والجماعات المختلفة.
وحينما نحاول أن نعرِّف المادة الإعلامية، نجد صعوبة بالغة في وضع حدود واضحة تحدد الأبحاث الإعلامية وتميزها عن غيرها من أبحاث العلوم الإنسانية. فأهداف واهتمامات أبحاث الاتصال المباشر والاتصال عن بعد واسعة جداً، لأنها لا تدرس وسائل الاتصال عن بعد فقط، بل تتعداها لدراسة تفاصيل عمليات الاتصال عن بعد بشكل عام. وهذا يحتم علينا الاهتمام بعلوم إنسانية أخرى منها التربية، وعلم النفس الفردي، وعلم النفس الاجتماعي، والسياسة، والاقتصاد، والقانون، والستسيولوجية، والتاريخ... الخ، فالإعلام والاتصال عن بعد يشاركان فروع العلوم الإنسانية الأخرى مسؤولية الكشف عن مختلف أوجه المشاكل التي تتضمنها عملية الاتصال في مختلف مراحلها.
ولقد أدرك علماء الاتصال عن بعد منذ أواسط القرن العشرين، حقيقة هامة مفادها أنه لا يمكن فهم الاتصال عن طريق وسائل الإعلام الجماهيرية بدون فهم جوهر عملية الاتصال المباشر بين شخص وآخر، وعملية الاتصال داخل الجماعة الصغيرة. فبدون إدراك وفهم عملية الاتصال الفردي، والاتصال داخل الجماعة الصغيرة، لا يمكن فهم عملية الاتصال عن بعد عبر مؤسسات ووسائل الإعلام والاتصال عن بعد الجماهيرية، ولا نستطيع كذلك تقدير تأثير تلك المؤسسات والوسائل.
ومن المسلم به أن فهم ودراسة وسائل الإعلام والاتصال عن بعد الجماهيرية هي من مسؤولية علماء الاتصال والإعلام أساساً، ولكننا لا نستطيع أن ننكر اشتراك علماء السياسة والاقتصاد والمجتمع في هذه المسؤولية بشكل أو بآخر. ولكن المسؤولية تبقى أساساً على عاتق علماء الإعلام والاتصال المسؤولين عن دراسة عمليات الاتصال الجماهيري، والتعرف على تنظيم مؤسسات الإعلام والاتصال عن بعد، وأساليب السيطرة الاجتماعية عليها، ومركز تلك المؤسسات في التنظيم الاجتماعي بشكل عام، ووظيفة تلك المؤسسات وجمهورها ومسؤوليتها، وطريقة اضطلاعها بتلك المسؤوليات، ودراسة طبيعة تأثير تلك المؤسسات. واكتشاف السبل لتحقيق فاعلية الإعلام والاتصال عن بعد المطلوبة، واختيار أنجع الوسائل، والتعرف على طبيعة كل وسيلة منها. وطبيعة الجمهور المتلقي، ومشاكل نقل المعاني والرموز عبر وسائل الاتصال عن بعد المختلفة.
ويمر التطور التاريخي لأي علم من العلوم الحديثة، بمراحل تطور متشابهة تبدأ بالمرحلة الفلسفية، حيث ينصب الاهتمام فيها على تحديد المسارات الأساسية، وتكوين مفاهيم كلية وافتراضات أساسية، وتحديد طرق وأساليب جديدة للبحث العلمي، ويعاد النظر فيها بشكل يمكن بواسطتها جمع المعلومات والحقائق عن العلم المقصود. وتنتهي هذه المرحلة عند التوصل إلى اتفاق عام على بعض المبادئ والافتراضات الأساسية وبعض طرق وأساليب البحث العلمي.
وينتقل الاهتمام في المرحلة الثانية إلى تطبيق أساليب جديدة للبحث، مهمتها قياس صحة الافتراضات التي تم الاتفاق عليها في المرحلة الفلسفية الأولى، يرافقها تجميع حقائق مفصلة عن تلك الافتراضات. وتنتهي المراحل التجريبية بجمع جملة من الحقائق تستخدم في بناء نظرية علمية محددة، وهي المرحلة الثالثة التي تستمر فيها الأبحاث والتجارب التي تؤدي إلى تطور البحث العلمي والوصول إلى نتائج جديدة ومقترحات تؤدي للوصول إلى نظريات علمية جديدة.
وقد بدأت الأبحاث العلمية في مجال الاتصال الجماهيري في الولايات المتحدة الأمريكية خلال العشرينات من القرن العشرين، وركزت الأبحاث الأولى على دراسة وصفية لتاريخ الصحافة، والشخصيات الصحفية التي قامت بإصدار وتحرير صحف كل مرحلة من المراحل المدروسة. وركزت على مفاهيم فلسفية معينة كحرية الصحافة وحق الأفراد في نشر آرائهم بدون تدخل السلطات، ودور الصحافة في المجتمع إلى آخره من الاهتمامات الإعلامية والاتصالية العلمية.
وظهرت في المرحلة التالية دراسات اعتمدت على الأبحاث التجريبية والميدانية والكمية. خرجت بدراسات موضوعية بعيدة عن تحيز الباحث، معتمدة على حقائق علمية ثابتة، مستخدمة أساليب القياس والتجربة للوصول إلى نتائج علمية مقنعة. توصل العلماء بفضلها إلى تكوين نظرية علمية طورت خلال الخمسينات والستينات من القرن العشرين. وتوسع البحث العلمي في مجال الاتصال عن بعد مع انتشار العولمة وتطور تقنيات وتكنولوجيا الاتصال عن بعد خلال النصف الثاني من القرن العشرين، ليشمل دراسات في الإعلام الدولي وطبيعة الإعلام في الدول الأخرى وخاصة تلك التي تختلف مع الولايات المتحدة الأمريكية إيديولوجياً، أو التي تدخل ضمن مجال اهتمامات سياستها الخارجية والمصالح الأمريكية في العالم عامة.
ورافق هذا التطور في الأبحاث العلمية بمجال الإعلام والاتصال عن بعد، اهتمام علماء السياسة والاقتصاد والمجتمع وعلم النفس وعلوم الاتصال بشكل عام، الذين ساهموا في تطوير وبناء نظريات ومفاهيم أساسية لعلم الاتصال. مما أعطى للدراسات الإعلامية طابعاً متميزاً ساهم في اتساعها وإثرائها خلال النصف الثاني من القرن العشرين خاصة بعد أن وظفت بعض اتجاهاتها لأغراض عسكرية هجومية محددة، وبقيت تلك الأبحاث حكراً على الدول المتقدمة التي تحتكر صناعة الوسائل الحديثة للاتصال عن بعد عالية التطور.
وفي تلك الفترة ذاتها تنبأ الكاتب الألماني شارل بروتس بأنه "سيأتي عصر للأمم الصغيرة المستقلة، يكون أول خط دفاعي لها هو المعرفة". وهي المقولة التي اقتنع بها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الذي قام في عام 1953 عندما كان رئيساً للوزارة في عهد الرئيس محمد نجيب، بتأسيس وحدة للشؤون العربية لجمع المعلومات عن العالم العربي كله ! ؟ وكان ذلك في وقت اشتد فيه الصراع بين الشرق الأحمر بقيادة الاتحاد السوفييتي السابق، والغرب الديمقراطي (الاستعماري) بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.
وكان ذلك في وقت لم تزل ترزح فيه أجزاء كبيرة من العالم العربي والإسلامي والنامي للاستعمار الأوروبي البريطاني والفرنسي والإسباني والروسي، وخاضت فيه الأمة العربية حرباً ضروس غير متكافئة مع عدو شرس اغتصب الأرض والحقوق والمقدسات في فلسطين المحتلة، في عدوان مستمر اعتمد فيه على الشرعية الدولية ودعم بعض القوى الكبرى المهيمنة في العالم لتبرير عدوانه أمام الرأي العام العالمي من خلال إدراكه لأهمية الرأي العام في عملية اتخاذ القرارات الهامة، وبراعته في توجيه الخطاب الإعلامي إليه. وفي هذا دليل واضح يشير إلى نموذج من نماذج تعامل واحدة من الأقطار العربية المستقلة مع مشكلة المعرفة والإعلام آنذاك، وتنبهها لأهمية المعرفة ودور الإعلام في الدفاع عن الذات الوطنية والسيادة والاستقلال.
ومعروف أن الإعلام هو قناة لنقل ونشر المعرفة، وهو ما دفع ويدفع ببعض الأقلام أحياناً لتتبارى في الإشارة إلى ضعف قناة المعرفة تلك وضعف وتشتت الخطاب الإعلامي العربي الموجه للرأي العام العالمي، وبعده عن العلمية واستخدام نتائج الأبحاث الإعلامية الأجنبية من ضمن تقنيات الخطاب الإعلامي واختيار القناة الإعلامية المناسبة للتأثير على الرأي العام المحلي والعالمي، رغم الإشارة إلى تفوق الإعلام المضاد دون ذكر الأسباب الجوهرية لذلك التفوق، أو محاولة تقديم حلول مقترحة واقعية قابلة للتحقيق في الواقع الراهن للدول العربية كجزء من الدول النامية، تخرج الإعلام العربي من مأزقه، وتساعده على التصدي للحرب الإعلامية التي يتعرض لها منذ فترة طويلة.
واليوم وبعد أن طورت الدول المتقدمة في العالم أحادي القطبية، وأدخلت أسلوباً جديداً في العلاقات الدولية أطلقت عليه اسم "العولمة" قارعت به بعضها بعضاً وطرقت أبواب الدول الأقل تطوراً والدول النامية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق ومنظومته الاشتراكية، لتضع أمام تلك الدول، والدول المستقلة حديثاً تحديات مصيرية تنال ليس السياسة والاقتصاد والمقدرات والمعتقدات وحسب، بل وتهدد شخصية وثقافات وسيادة واستقلال تلك الدول. اثر توسع الهوة المعرفية بين العالمين المتقدم والأقل تطوراً والنامي، رغم بساطة وتعقد قنوات المعرفة المتاحة اليوم في آن معاً، إثر الانفجار المعرفي والإعلامي الذي سببه التطور الهائل لوسائل الاتصال عن بعد الجماهيرية وتنوع قنواتها. وفي طليعتها الوسائل المتطورة كشبكات الحاسب الآلي العالمية التي وظفت لخدمتها ليس شبكات الاتصال عن بعد الأرضية وحسب، بل وشبكات الاستشعار عبر الأقمار الصناعية، والمحطات الفضائية التي أصبحت مألوفة للإنسان منذ أواسط النصف الثاني من القرن المنصرم.
مما طرح تحديات جديدة سببتها "العولمة الإعلامية" تهدد باكتساح كل شيء، حاملة معها أنواعاً جديدة من الأسلحة أصبحت معروفة بوضوح باسم "الأسلحة الإعلامية"، وأصبحت تستخدم في الحروب والصراعات، لتأخذ حيزاً هاماً من تفكير بعض الدول في العالم المتقدم والأقل نمواً وحتى النامي على حد سواء، وأنشأت له المؤسسات المتخصصة. ودفعت المشكلة ببعض الدول للعمل الجاد من أجل تحقيق أمن إعلامي وطني، وللمطالبة بتحقيق أمن إعلامي دولي يصون الحقوق، ويحمي المقدسات من التطاول والاعتداء والتحريف والتخريب.
وهو ما دفعنا للقيام بهذه المحاولة المتواضعة لدراسة وتسليط بعض الضوء على المشكلة من خلال تعريف مصطلح "العولمة"، ومقدماتها، وعلاقتها بالدولة والسيادة الوطنية، وموقف منظمة الأمم المتحدة من قضايا الأمن الإعلامي الدولي، وتحديات التفوق في تكنولوجيا الاتصال للأمن الإعلامي الوطني والدولي. خاصة وأن البنى الإعلامية والاتصال عن بعد الدولية أصبحت اليوم فوق سيادة الدولة بمفهومها التقليدي، مما خلق تهديدات جديدة لـ"العولمة الإعلامية"، باتت معها بعض الدول شبه مسيطرة على الموارد الإعلامية للغير من خلال قنوات الاتصال عن بعد الإلكترونية.
ولتوضيح الصورة بقدر أكبر كان لابد من تسليط الضوء على "السلاح الإعلامي" ودوره في خدمة الدول الصناعية المتقدمة، وإدارة الصراع بين القوى العالمية. وهو ما تطلب التعرض لمشكلة الأمن الإعلامي الوطني والدولي، ومشكلة مصطلح "الحرب الإعلامية"، ومجالات تأثير الصراع الإعلامي الدولي، من خلال تهديداته للأمن الإعلامي الوطني.
ومن ثم تعرضنا للخصائص الأساسية للأسلحة الإعلامية وأهدافها في: مجالات استخدام السلاح الإعلامي؛ ومجالات الرقابة أو الإشراف على المجال الإعلامي الدولي؛ وسيناريوهات الحرب الإعلامية.
وكل ذلك في محاولة متواضعة لتوضيح مشكلة الأمن الإعلامي الوطني والدولي التي تحتاج لحلول سريعة دون إبطاء لما لها من خطورة بالغة على المجتمع الإنساني. وتناولنا المشكلة سواء من وجهة نظر المعارضين لها أساساً وينفون وجودها، أم من وجهة نظر أولئك الذين تنبهوا لها وباتوا يطالبون بإيجاد الحلول لها ضمن الشرعية الدولية واحترام سيادة الدول. وأخيراً تناولنا مشكلة الأمن الإعلامي الوطني والدولي من وجهة نظر البحث العلمي، وتأثير الأمن الإعلامي على التفاهم الدولي.
وليتكامل البحث تناولنا موضوعاً آخر له ارتباط وثيق بالأمن الإعلامي وهو "المجتمع المعلوماتي"، حيث تعرضنا لمفهوم وخطوات ومصاعب الانتقال إلى المجتمع المعلوماتي، وضرورة وضع ضوابط وخطط شاملة للانتقال إلى المجتمع المعلوماتي، من خلال دور السياسات الحكومية في تطوير البنى التحتية اللازمة للمجتمع المعلوماتي.
وتعرضنا لحتمية الثورة الاتصالية والمعلوماتية في ظل العولمة التي طغت على حياة الناس وغيرت من طبيعة حياتهم اليومية، وخصائص ومتطلبات ومشاكل وشروط بناء المجتمع المعلوماتي في الدول النامية، ولوسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية والدولة القومية في المجتمع المعلوماتي، وتأثير المجتمع المعلوماتي على وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية العربية.
وأتمنى أن أكون قد وفقت في عرض جزء من المشكلة التي تشغل عالم اليوم، خدمة للبحث العلمي العربي في مجالات الأمن الإعلامي والاتصال عن بعد والإعلام الجماهيري بشكل عام.
المؤلف الأستاذ الدكتور محمد البخاري طشقند، 2/5/2002
العولمة والأمن الإعلامي الوطني والدولي: تعريف "العولمة": "العولمة" Globalization حسب تعبير خبراء السياسة في الدول النامية، تحمل معنى "جعل الشيء على مستوى عالمي، أي نقله من حيز المحدود إلى آفاق "اللامحدود". واللامحدود هنا يعني العالم بأسره، فيكون إطاره النشاط والعلاقات والتعامل والتبادل والتفاعل على اختلاف صوره السياسية والاقتصادية والثقافية والإعلامية والاتصالية والعلمية وغيرها، متجاوزاً للحدود السياسية والجغرافية المعترف بها لدول العالم، وهذا المعنى يجعل "العولمة" تطرح ضمناً مستقبل الدولة القومية Nation-State وحدود سيادتها الوطنية، ودورها على الصعيدين الداخلي والخارجي". بعد أن تمكنت وسائط الاتصال والاستشعار عن بعد الإلكترونية المتطورة من اختراق الحدود السياسية والجغرافية المعترف بها لكافة دول العالم.
بينما جاء تعريف "العولمة الإعلامية" حسب المفهوم الأمريكي "بتعميم نمط من الأنماط الفكرية والسياسية والاقتصادية لجماعة معينة، أو نطاق معين، أو أمة معينة على الجميع، أو العالم بأسره". وبما أن "العولمة" بدأت أساساً من الولايات المتحدة الأمريكية، فقد جاءت نظرياً كدعوة لتبني النموذج الأمريكي في الاقتصاد والسياسة والثقافة والعلوم وبالتالي طريقة الحياة الأمريكية بشكل عام.
مقدمات "العولمة": جاءت "العولمة" أساساً كنتاج للثورة العلمية والتكنولوجية، التي كانت نقلة نوعية في تطور الرأسمالية العالمية، في مرحلة ما بعد الثورة الصناعية التي ظهرت في منتصف القرن 18 في أوروبا، نتيجة لاستخدام الطاقة، التي غيرت بشكل جذري أسلوب وعلاقات الإنتاج، لتبدأ معها مرحلة جديدة من مراحل التطور الإنساني، اتصف بالتوسع الاقتصادي، والبحث عن الموارد الطبيعية، وفتح الأسواق العالمية. وهي المسببات التي أدت لظهور الاستعمار التقليدي، وقيام الحروب الأوروبية لتلبية حاجات الرأسمالية الصاعدة.
ومما سارع في شيوع "العولمة" استمرار التطور العلمي والتكنولوجي، وما رافقه من تطور هائل لوسائل الاتصال والاستشعار عن بعد ونقل المعلومات الإلكترونية الحديثة، التي شكلت بدورها تجديداً لنمط وطبيعة الإنتاج والتفاعلات والتعاملات الدولية. وبذلك لم تعد الحروب التقليدية، واستخدام القوة وسيلة لحسم الخلافات بين الدول الرأسمالية كما كان الوضع حتى الحرب العالمية الثانية، بل أصبحت الحاجة ملحة لتوحيد أسواق الدول الصناعية المتقدمة من خلال سوق عالمية واحدة، أي ضرورة تجاوز الحدود السياسية القومية المعترف بها، وإعادة توزيع الدخل القومي، والعمل على رفع المستوى المعيشي للإنسان ليمكن معه توسيع سوق الدول الصناعية المتقدمة، لاستيعاب المنتجات الحديثة، أي خلق مجتمع من نوع جديد أصطلح على تسميته بـ"مجتمع الاستهلاك الكبير Consumer Society".
وشكلت هذه السمات كلها نقطة التحول من "الرأسمالية القومية" إلى "الرأسمالية العابرة للقوميات" التي نعيشها اليوم من خلال الشركات متعددة الجنسيات، التي ارتبط فيها ظهور مفهوم "العولمة" الذي عبر عن ظاهرة اتساع مجال الإنتاج والتجارة، ليشمل السوق العالمية بأسرها. وتجاوز الفاعلية الاقتصادية التي كانت لمالكي رؤوس الأموال، من تجار وصناعيين، الذين كانت تصرفاتهم محكومة في السابق بحدود الدولة القومية التي ينتمون إليها، لتصبح الفاعلية الاقتصادية مرهونة بالمجموعات المالية والصناعية العالمية الحرة، المدعومة من قبل الدول المشاركة في رأس مالها، عبر الشركات متعددة الجنسيات. وهكذا لم تعد الدولة القومية هي المحرك الرئيسي للفاعلية الاقتصادية على المستوى العالمي، بل حل مكانها القطاع الخاص بالدرجة الأولى في مجالات الإنتاج والتسويق والمنافسة العالمية.
و"العولمة" ليست نظاماً اقتصاديا فقط، بل تعدته إلى كافة مجالات الحياة السياسية والثقافية والعلمية والإعلامية والاتصالية. لأن النمو الاقتصادي الرأسمالي العالمي استلزم وجود أسواق حرة، ووجود أنظمة سياسية من شكل معين لإدارة الحكم. كما وتعددت مراكز القوة الاقتصادية العالمية للرأسمالية الدولية الحديثة، وتعددت معها مراكز القوة السياسية، مما خلق بدائل وتعددية في القوى على مستوى السلطة، وهو ما دعم إمكانيات التطور الديمقراطي بكل شروطه، من عدم احتكار السلطة، وتداولها، وتعدد وتنوع مراكز القوة والنفوذ في المجتمع، ومنع تركيز الثروة في يد الدولة وحدها، وفرض توزيعها لتحقق "العولمة" بذلك نوعاً من اللامركزية في الإدارة والحكم.
ومما ساعد على الانتشار السريع لـ"العولمة" انتصار الرأسمالية على الأنظمة الأخرى، من نازية وفاشية وشيوعية، وكان أخر تلك الانتصارات انهيار الاتحاد السوفييتي السابق ودول ما كان يعرف بالمنظومة الاشتراكية أو الكتلة الشرقية التي كان يقودها الاتحاد السوفييتي السابق، لتحل محله الجمهوريات المستقلة الخمس عشرة. وسقوط النظم الشمولية في أوروبا الشرقية، وتحول الأنظمة الجديدة في تلك الدول نحو أشكال جديدة من الحكم الديمقراطي، الذي يربط في جوهره بين التطور الديمقراطي والنمط الرأسمالي، الذي يعتمد على الديمقراطية في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وأتاح الاتصال الإلكتروني المباشر عبر القارات من خلال شبكات الاتصال العالمية للحاسب الآلي ومحطات الإذاعة عبر الأقمار الصناعية المسموعة والمرئية، الفرصة لإبراز ملامح "العولمة الإعلامية" التي أصبحت ملموسة حتى من قبل الأشخاص العاديين في أي مكان من العالم. ومن المنتظر أن يتيح هذا التطور الهائل في تكنولوجيا وسائل الاتصال عن بعد الإلكترونية الحديثة، إمكانية زيادة التواصل والحوار الثقافي بين شعوب العالم، وخلق المجتمع المعلوماتي الذي لابد وأن يساعد على إيجاد آمال وأهداف ومصالح مشتركة تتجاوز المصالح القومية الضيقة للشعوب والدول ولا تتناقض معها،.فيما إذا لم يساء استخدامها.
"العولمة" والدولة والسيادة الوطنية: ومع ذلك فقد أثارت العديد من الحكومات مخاوف وشكوك كثيرة. منها المخاوف السياسية التي يمكن أن تنجم عن بث برامج معادية لأنظمة الحكم، وأفكاراً وأيديولوجيات تهدد الأمن والاستقرار السياسي والاجتماعي داخل الدول عبر تلك القنوات. وعبرت بعض القوى السياسية والاجتماعية المؤثرة في العديد من دول العالم عن خشيتها من النظام الإعلامي المفتوح الجديد الذي قد يهدد ثقافات وتقاليد وعادات ومقدسات الشعوب، وانطلقت الأصوات تطالب بتحقيق أمن إعلامي وطني ودولي يراعي المصالح الوطنية والدولية ولا يتناقض مع المصالح الوطنية لكل دول العالم.
فإذا كانت "العولمة" ترتبط بسيادة نموذج اقتصاد السوق، فإن هذا النموذج بدوره يثير قضية العلاقة بالدولة ودورها، ولا يبرر الانتقال إلى اقتصاد السوق أبداً اختفاء دور الدولة، وكل ما هنالك حدوث تغييرات محدودة لذلك الدور الرتيب الذي اعتادت عليه بعض الدول بطيئة التطور.
ومعظم من كتب في أهمية نظام اقتصاد السوق، كان يقرن طروحاته دائماً بضرورة وجود دولة قوية قادرة على تأمين الأمن والاستقرار، ودون تلك الدولة القوية لا يستطيع اقتصاد السوق أن يقوم بدوره. ومن هنا فليس هناك مجال للحديث عن محاولة إلغاء أو تقليص دور الدولة، بل بالعكس لابد من التأكيد على هذا الدور وأهميته وضرورته، مع ضرورة إجراء تعديلات معينة لهذا الدور ليتوافق مع نظام السوق المنفتح عالمياً.
فالولايات المتحدة الأمريكية مثلاً وهي أكبر دولة رأسمالية في العالم، تتدخل في الحياة الاقتصادية، وتحدد شروط النشاطات الاقتصادية، والسياسات النقدية والمالية والتجارية، والفارق المهم بين النظم المركزية، ونظم السوق، هو أن الدولة تتدخل في الحياة الاقتصادية باعتبارها سلطة، وليس باعتبارها منتجاً. لأن سلطة الدولة لا غنى عنها ولا تتناقض مع تطور الحياة الاقتصادية.
والاقتصاد الحر لا يعني أبداً غياب الدولة عن النظام الاقتصادي. والفرق بين النظام الليبرالي ونظام التخطيط المركزي، ليس في مبدأ "التدخل" ولكن في مضمونه. ففي ظل التخطيط المركزي تقوم الدولة بالإنتاج المباشر للسلع والخدمات، وتسيطر على مجمل النشاطات الاقتصادية، عن طريق القطاع العام. أما في ظل الاقتصاد الحر، فإن الدولة تترك الإنتاج المباشر للسلع والخدمات للأفراد والمشروعات الخاصة، أي تحقق التكامل بين دور الدولة ودور القطاع الخاص، ويكون تدخلها في سير الحياة الاقتصادية، بوسائل أخرى أكثر فعالية، من حيث الكفاءة الإنتاجية وتحقيق العدالة الاجتماعية. من خلال المحافظة على مستويات عالية في نمو الناتج القومي. والقيام بتوفير الخدمات الأساسية في مجالات التعليم والصحة، والقضاء والأمن والدفاع، ويدخل فيها قيام الدولة بمشروعات البنية الأساسية.
ومبدأ الحرية الاقتصادية لا يعني أبداً إهمال مبدأ العدالة الاجتماعية، فالبلاد التي أخذت بهذا المبدأ، هي في مقدمة بلاد العالم من حيث الاهتمام بالفقراء، وتحقيق العدالة في التوزيع، وتوفير شبكة الأمان لكل المواطنين، ضد المخاطر الاجتماعية بما في ذلك البطالة والعجز والشيخوخة، وغيرها من الأمراض الاجتماعية. وهناك علاقة وثيقة بين الكفاءة في الأداء الاقتصادي وبين شروط العدالة. ذلك أن الكفاءة تعني نمو الاقتصاد القومي بمعدلات عالية، وتعاظم قدرة النظام الاقتصادي لتوفير فرص العمل المنتج لكل القادرين عليه، وهي من المقومات الأساسية للديمقراطية وللعدالة الاجتماعية.
والدور الجديد هذا للدولة يؤهلها للتكيف مع المتغيرات العالمية الجديدة، دون الانتقاص من سيادتها الوطنية، في ظل انتشار مفهوم "العولمة"، وشروط النظام العالمي الجديد. الذي يقوم على مبدأ الاعتماد المتبادل وليس على فرض الآراء بين دول وشعوب العالم. والاندماج الإيجابي والواعي في النظام العالمي الجديد. انطلاقا من حقائق أن "العولمة" ليست ظاهرة بلا جذور، بل هي ظاهرة تاريخية وموضوعية نتجت عن التطور الهائل لتكنولوجيا وسائط النقل ووسائل الاتصال عن بعد الإلكترونية ونقل المعلومات الحديثة وتغير طبيعة دورها الاجتماعي، والطبيعة التوسعية للإنتاج الرأسمالي. وعدم جواز البقاء خارج الظاهرة التاريخية هذه، وضرورة اللحاق بما يجري في العالم، والتعامل معه بوعي ووفقاً لقواعد محددة تجنباً للبقاء خارج إطار التاريخ.
والنظام الاقتصادي الجديد جاء نتيجة لإنجازات كبرى في تاريخ تطور البشرية على كافة المستويات العلمية والثقافية والاقتصادية والتقنية والسياسية والفكرية، ويمثل نقطة جذرية مختلفة تماماً عن كل ما سبقتها من نظم. وأن الحضارة العالمية الحديثة قامت على ما خلفته حضارات القرون الوسطى وثقافاتها وخاصة منها الحضارة العربية الإسلامية التي كانت في أوج ازدهارها آنذاك، وفسحت المجال أمام الجميع للانتماء إلى الوطن المشترك والعمل على رفعته وتقدمه دون تفريق، كما هي الحال في أكثر دول العالم الحديث. وزودت الفكر البشري برؤية عقلانية تاريخية تنويرية، بتوجه ديمقراطي يقوم على أساس الشورى واحترام الرأي، والرأي الآخر، والتعددية، وحرية التعبير، وتكريس مبادئ حقوق الإنسان التي لا تعرف الحدود القومية أو الجغرافية أو السياسية.
و"العولمة الإعلامية" تفرض على الدول الأقل تقدماً، القيام بمزيد من خطوات التحديث الشامل الذي لا يمكن دون الدور الفاعل للدولة، التي تضطلع به من خلال الترشيد والأداء الاقتصادي، وتنظيم تفاعلات السوق، وما تتطلبه تلك العملية من وسائل وتقنيات تجعل الساحة والموارد الإعلامية الخاصة والعامة متاحة للجميع ضمن الأطر والأنظمة التي تضبط عملها في إطار العلاقات على صعيد الدولة نفسها وفي علاقاتها مع غيرها من دول العالم. ولكن التجاوزات الكثيرة والأعمال التخريبية التي تعرضت لها الموارد الإعلامية لبعض الدول، إضافة للأخطار التي يتنبأ بها المختصون بين الفينة والأخرى، والحرب الإعلامية التي تشنها بعض وسائل الإعلام العالمية، ويشارك فيها بعض رجال الفكر والسياسة ضد شعب معين، أو ثقافة معينة، أو دين معين، ظلماً وبهتاناً، فرض على المجتمع الدولي ضرورة النظر في خطر جديد أصبح يهدد المجتمع الإنساني وعرف بالأمن الإعلامي الدولي.
موقف الأمم المتحدة من الأمن الإعلامي الدولي: وكانت منظمة الأمم المتحدة دائماً السباقة في دراسة مشاكل التدفق الحر للمعلومات منذ تأسيسها بعد الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم. ولهذا لم يكن غريباً أن تتضمن الوثائق الهامة التي صدرت عن الدورة 54 للهيئة العامة لمنظمة الأمم المتحدة، وثيقة حملت في مضمونها أبعاداً سياسية وإنسانية عميقة، تناولت موضوع "العولمة الإعلامية" واستقرار إستراتيجية العمل السياسي والدبلوماسي في القرن الحادي والعشرين، بعد أن اعترف المجتمع الدولي وللمرة الأولى بوجود مشكلة الأمن الإعلامي الدولي كنتيجة حتمية لـ"العولمة الإعلامية"، على أنها مشكلة تهدد المجتمع الإنساني في المرحلة التالية للقرن النووي. وجاء هذا الاعتراف من خلال القرار 54/49 الذي تناول مشكلة "تحقيق الأمن الدولي في الإعلام والاتصالات المسموعة والمرئية".
فقد برزت تلك المشكلة بحدة بعد التقدم الهائل في تكنولوجيا الإعلام ووسائله المختلفة، وخلق هذا التقدم إلى جانب النواحي الإيجابية التي حملها للبشرية التي تنتظر منه الكثير في المستقبل، مجالاً جديداً تماماً من التهديد تمثل في خطر استخدام منجزات التقدم العلمي والتكنولوجي في وسائل الإعلام والاتصال والاستشعار عن بعد لأغراض تتعارض والمهام المنتظرة منها في دعم وتعزيز التفاهم والأمن والاستقرار العالمي.
ومشكلة الأخطار التي تهدد الأمن الإعلامي للدول الأقل تطوراً، لم تعد مشكلة منتظرة بل حقيقة قائمة خلقت نوعاً من التبعية الواقعية للدول الأكثر تطوراً في كل مجالات النشاط الإنساني داخل المجتمعات المحلية في الدول المستقلة ذات السيادة، وشملت كل النواحي الاقتصادية، والسياسية، والعلمية، والثقافية، والاجتماعية، والإعلامية وغيرها، وأصبحت الحاجة معها ملحة لتأمين نوع من الأمن القومي داخل المصالح الدولية المتشابكة بفعل "العولمة الإعلامية" وابتعاد التبادل الإعلامي الدولي عن دوره الطبيعي، وابتعاد استخدام شبكات التبادل الإعلامي الدولية وشبكات الاتصالات الإلكترونية المرئية والمسموعة العالمية، وتقنياتها ووسائلها عن أداء وظيفتها الإيجابية المنتظرة منها.
الأمن الإعلامي الدولي والتفوق في تكنولوجيا الاتصال: وأدى اتساع وشمولية تلك الشبكات بفضل تكنولوجيا ووسائل الإعلام والاتصال الإلكترونية الجماهيرية الحديثة، إلى زيادة تأثيرها على وعي الأفراد والمجتمعات. مما دفع بالكثير من الدول لإضافتها أو التفكير في إضافتها للإمكانيات العسكرية الهائلة المتوفرة لديها، والتي تملكها بالدرجة الأولى الدول عالية التطور، والمعدة للاستخدام في الصراعات والنزاعات الدولية. مما أدى بدوره إلى خلق تبدلات هائلة أصبحت تؤثر على توازن القوى الدولية والإقليمية.
هذا إن لم نقل أنها أضافت بذلك مصادر جديدة للتوتر بين مراكز القوى التقليدية والناشئة، وإلى خلق مجالات جديدة للصراع لم تكن معروفة لفترة قريبة. وقد أدى تفوق الدول المتقدمة في مجال تكنولوجيا ووسائل الاتصال الإلكترونية، والإعلام الجماهيرية التي تملكها تلك الدول، إلى احتكار الوعي الفكري والاجتماعي. وأدى استغلال التفوق التكنولوجي والإعلامي والسياسي والاقتصادي والثقافي والعسكري، إلى تشجيع تلك الدول على استخدام ما تملكه من إمكانيات "كسلاح إعلامي" لا يتعارض استخدامه وقواعد القانون الدولي الذي لم يتعرض جدياً حتى الآن لهذه المشكلة الهامة والعويصة التي أفرزتها "العولمة الإعلامية".
فالتقدم الهائل في تقنيات وتكنولوجيا الاتصال الإلكترونية والإعلام الجماهيري أصبح اليوم يعادل في خطره، خطر السلاح النووي الذي كان سمة من سمات القرن العشرين. وأصبح فرعاً من فروع سباق التسلح، الذي أصبح مرة أخرى يستنزف موارد ضخمة، كان يجب أن توجه لخير البشرية وليس لتهديدها. خاصة وأن أكثر دول العالم غير مهيأة حالياً وغير مستعدة، أو غير قادرة على إقامة أو تحديث وسائلها الإعلامية التقليدية المؤثرة، رغم أن الكثير منها بدأت بالميل نحو شراء وامتلاك مثل تلك الوسائل، من الدول المتقدمة التي أصبحت مسيطرة تماماً على الأشكال الجديدة من أسلحة الدمار الشامل ومن بينها السلاح الإعلامي. ولم يقتصر الأمر على الدول فقط، بل اتسع ليشمل القوى السياسية المختلفة المتصارعة على السلطة، والتنظيمات الإرهابية وعصابات الجريمة المنظمة، مما خلق نوعاً جديداً وسوقاً مربحة لتجارة الأسلحة الجديدة التي أصبحت تتضمن قوائمها تقنيات وتكنولوجيا وبرامج الحاسب الآلي ووسائل الاتصال الإلكترونية ووسائل الإعلام الجماهيرية.
البنى الإعلامية الدولية فوق الدولة: وفي ظروف "العولمة الإعلامية" وتشابك الحياة على الكرة الأرضية، وظهور وتشكل شبكات وبنى إعلامية دولية فوق الدول، أصبحت تلك البنى الإعلامية بما لا يدع المجال لأي شك تستخدم كسلاح إعلامي مؤثر على العقول والمواقف، ووسيلة لشن حروب واسعة النطاق تطال الإنسان أينما كان، بفاعلية يمكن أن تؤدي نتائجها بل وتعادل قوتها وتأثيرها التدميري وتتفوق في بعض الظروف على أسلحة الدمار الشامل التقليدية المعروفة، وخير مثال على ذلك ما قامت به شبكات التلفزيون العالمية من تغطية حية عبر بث مباشر شد أنظار العالم بأسره تقريباً للأحداث التي وقعت في الولايات المتحدة الأمريكية في 11/9/2001، وانفراد تلفزيون الجزيرة بتغطية أحداث القصف الجوي الأمريكي البريطاني لأفغانستان ببث مباشر قبل انهيار حركة طالبان.
وليس عبثاً أن ترصد بعض الدول المتقدمة في ميزانياتها مخصصات للأمن الإعلامي تعادل بمستواها المخصصات التي ترصد لمواجهة أخطار استخدام أسلحة الدمار الشامل التقليدية. رغم اختلاف استخدام السلاح الإعلامي في الحرب عن الأشكال التقليدية من أسلحة الدمار الشامل، لأن تأثيرها يمكن أن يطال الجبهة الداخلية في الصميم. مع إمكانية استخدام الأسلحة الإعلامية الدولية التي تتميز بالقدرة المؤثرة الكبيرة ضد الأهداف المدنية، كوسيلة من وسائل الصراع على السلطة، وفي الصراعات القومية والعرقية والدينية، والسيطرة على الموارد البشرية للغير. والأمثلة على ذلك في عالم اليوم كثيرة، ولا ينحصر تهديدها الواقعي على القوى البشرية فقط، بل اتسع ليشمل الأنظمة الإعلامية التي تملكها الدول، والمنظمات والهيئات الدولية، من قبل دول معادية أو قوى الإرهاب والإجرام المنظم على السواء، مما أعطى لطابع تأثيرها طبيعة كارثية من خلال ليس التسلل لداخل تلك الأنظمة وحسب، بل وفي تخريب تلك الأنظمة، والتأثير على محتوياتها من معلومات وإتلافها. وهو ما كان الدافع على ما أعتقد لاتخاذ القرار 54/49 أثناء الدورة 54 للهيئة العامة للأمم المتحدة في 1/12/1999.
التهديدات الجديدة لـ"العولمة الإعلامية": وكان من الطبيعي أن تتوصل الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة للتفاهم حول موضوع هام يمس البشرية بأسرها في ظل "العولمة الإعلامية". سبق ونوقش في أيار/مايو 1996 أثناء المؤتمر الدولي للعولمة في المجتمع المعلوماتي الذي انعقد في ميدراند. واستعرض بجدية موضوع التهديدات الجديدة للعولمة الإعلامية، وأسفر عن نتائج واستجابة عاصفة من قبل كل المشاركين في المؤتمر. مما رفع من مستوى القضية لتصبح من بين القضايا الملحة التي تنتظر الحل من قبل المجتمع الدولي، وتتطلب إيجاد حل ملائم لها قبل أن تتفاقم وتصبح مستعصية كغيرها من المشاكل العالقة في إطار العلاقات الدبلوماسية الدولية حتى اليوم.
وقد تبلورت المشكلة أكثر أثناء التحضيرات التي جرت للإعداد للقاء القمة بين رئيس الولايات المتحدة الأمريكية والرئيس الروسي في أيلول/سبتمبر 1998. فقد اقترح الجانب الروسي مشروع بيان مشترك للقاء القمة تناول مشكلة الأمن الإعلامي. لكن الأمريكيين اكتفوا بالإطلاع على المشروع، وامتنعوا عن مناقشته. ورغم ذلك فقد تضمن البيان الختامي للقاء القمة، إشارة صريحة للتهديدات العامة للأمن على عتبة القرن الحادي والعشرين، حيث أعلن الجانبان أنهما: وافقا على "تنشيط الجهود المشتركة للتصدي للتهديدات عبر القوميات في الاقتصاد والأمن للبلدين، بما فيها تلك التي تعتبر جرائم عن طريق استخدام تكنولوجيا الحاسب الآلي وغيرها من الوسائل التكنولوجية المتقدمة"؛ واعترفا "بأهمية الجهود الإيجابية المشتركة لإضعاف التأثيرات السلبية الجارية الآن نتيجة لثورة تكنولوجيا الاتصال، التي تعتبر مهمة وجادة في الجهود الرامية لحماية مصالح الأمن الإستراتيجي للبلدين في المستقبل".
وأصبح واضحاً بعد ذلك عزم روسيا إثارة المشكلة أبعد من ذلك، فقام وزير الخارجية الروسي إيفانوف بتوجيه رسالة خاصة إلى الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة في 23 أيلول/سبتمبر 1998 تضمنت اقتراحا بإدراج مشكلة الأمن الإعلامي الدولي بين مواضيع عمل المنظمة الدولية، والنظر في مشروع قرار خاص حول هذا الموضوع.
وأعلن إيفانوف في كلمته من على منبر الدورة 53 للهيئة العامة للأمم المتحدة، بأن جوهر الاقتراح الروسي يتضمن الاقتراح على الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة، التوصل لمفهوم محدد حول التهديد في مجال الأمن الإعلامي الدولي، وأن تقدم كل دولة تقديراتها الخاصة للمشكلة، بما في ذلك إعداد مبادئ دولية توفر الأمن في ظروف عولمة المنظومات الإعلامية الدولية. وأن تتضمن تلك التقييمات التي تقدمها الدول الأعضاء في المنظمة إلى الأمين العام للأمم المتحدة، إلزامه بتقديم تقرير خاص عن المشكلة يبحث خلال الدورة التالية للهيئة العامة لمنظمة الأمم المتحدة. بشكل تتوضح معه جوانب الصراع المبدئي حول موضوع التهديد باستخدام المنجزات العلمية والتقنية والتكنولوجية الحديثة في أغراض تتعارض مع أهداف تعزيز الأمن والاستقرار العالمي.
وجاء القرار الذي استند على الاقتراح الروسي خلال الدورة 53 للجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة 53/70 عن "المنجزات في مجال الإعلام والاتصالات المرئية في إطار الأمن الدولي" في 4/12/1998، بشكل ملطف عن المشروع الروسي حيث اختفت من القرار الكثير من المقترحات التي حددت الإجراءات اللازمة حسب التصور الروسي، لتنظيم عملية التصدي لإمكانية استخدام التكنولوجيا الإعلامية المتقدمة في الحرب، وشرح خطر تطوير السلاح الإعلامي، وإشعال الحروب الإعلامية.
وبذلك اعترف المجتمع الدولي من خلال منظمة الأمم المتحدة ولأول مرة بوجود الحرب الإعلامية على المستوى الدولي. واعتبر هذا الإنجاز تقدماً سياسياً هاماً رغم عدم استعداد أكثرية الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة لتقبل القضية كمشكلة من كل جوانبها. وعاد المجتمع الدولي وغير من موقفه من المشكلة خلال الدورة 54 للجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة.
فما الذي حدث بين الدورتين 53-54 لمنظمة الأمم المتحدة ؟ وهل جاء تغيير المواقف تلك نتيجة للجهود الدبلوماسية والمجاملات السياسية بين الدول ؟ أم لأن العالم استطاع خلال تلك الفترة من التعرف أكثر على أخطار "العولمة الإعلامية"، والدور المتصاعد للإعلام في عالم اليوم. واستخلص العبر من استخدام سلاح الإعلام في الحروب التي جرت خلال تلك الفترة. ومن خلال أمثلة محددة تم فيها استخدام السلاح الإعلامي في عمليات محددة، اجتاز من خلالها الحدود السياسية والجغرافية المعترف بها لمختلف دول العالم، جنباً إلى جنب مع الأسلحة التقليدية والمتقدمة الأخرى المستخدمة في الاستطلاع والعمليات العسكرية، للقضاء على الخصم أو الحد من إمكانيات دفاعاته الذاتية، وتشتيت موارده البشرية.
"العولمة الإعلامية" والسيطرة على الموارد الإعلامية: فالمعارك للسيطرة على عقول الكثير من الشخصيات السياسية في موقع القرار وتوجيهها هي "حرب غير مرئية" على الرغم من أنها أخذت خطاً واقعياً، وأصبحت بالتدريج تهدد جوهر الصراع من أجل السيطرة على وعي صاحب القرار، ولتحد من إمكانيات أي مواجهة جادة للأخطار الخارجية، إضافة لأخطار التأثير والتخريب المتعمد للموارد الإعلامية المتاحة لكل دولة، ووسائل الحصول عليها وحفظها ونشرها واستعادتها والتعامل معها.
مما دفع ببعض الدول إلى الشروع بتطبيق برامج حكومية طويلة المدى على المستوى القومي، الهدف منها تأمين الأمن الإعلامي القومي وسلامة البنى التحتية الإعلامية الوطنية الأساسية. في نفس الوقت الذي بدأت فيه بالتعامل مع "العولمة الإعلامية" وآثار التشابك المتبادل بين المجالين الإعلامي الوطني والدولي. واضطرت مجبرة على الاعتراف بأن نجاح الجهود الوطنية للحفاظ على الموارد الإعلامية الخاصة بكل دولة، ليست في النهاية سوى جهود حثيثة لرفع مستوى "المناعة السلمية" للنظام الإعلامي الوطني في مواجهة الساحات الإعلامية للدول الأخرى التي أصبحت تشمل دولاً بعيدة عنها جغرافياً، وليس بالضرورة أن تكون تلك الدول مجاورة، ولكن يكفي أن تكون متشابكة معها من خلال شبكات الاتصال الإلكترونية الدولية وفي الموارد الإعلامية بشكل موضوعي ومتشعب يصعب فصله.
وموضوع "السلاح الإعلامي" و"الحرب الإعلامية" أصبح مثاراً للمناقشة من قبل المتخصصين بشكل واسع، منذ بداية الـتسعينات من القرن العشرين، أي مع ظهور بوادر تشكل المجتمع المعلوماتي. ومنذ ذلك الوقت بدأت تظهر أعداداً كبيرة من المقالات والدراسات حول هذا الموضوع الهام في العديد من الصحف والمجلات. وبدأ يناقش ضمن موضوعات الكثير من المؤتمرات واللقاءات العلمية الوطنية والإقليمية والدولية، التي صبت اهتمامها بمعظمها على مواضيع الأبحاث التي لا تتفق ومبادئ السلام العالمي، وبرامج تطوير التكنولوجيا الخاصة بطرق حماية الموارد الإعلامية الوطنية من التأثيرات الخارجية. ولكن كل تلك المناقشات والمقالات والدراسات المنشورة حملت طابع المحلية، وكانت بعيدة كل البعد عن المناقشات الدولية التي كان يجب أن تتناول مشاكل "العولمة الإعلامية، والأمن الإعلامي، والمجتمع المعلوماتي". رغم أن المشكلة حظيت ليس باهتمام المتخصصين وحسب، بل واستحوذت على اهتمام عدد كبير من غير المتخصصين من قادة الرأي. ولهذا يمكننا اعتبار صدور القرار 53/70 عن منظمة الأمم المتحدة بمثابة إنذار يشير بجدية للخطر الجاثم، الذي وقعت فيه البشرية ويهدد صميم النظم الإعلامية الوطنية، ويهدد الإنسانية على عتبة القرن الحادي والعشرين.
بعد أن ظهر جلياً للمجتمع الدولي بما لا يدع مجالاً للشك، أنه أصبح متوفراً لدى العديد من الدول المتقدمة تكنولوجيا إعلامية متطورة، ونتائج أبحاث جاهزة وهامة يمكن استخدامها في التأثير على الساحة والموارد الإعلامية للغير. وحقائق لا تقبل الجدل من أن نتائج الأبحاث تلك أدت إلى صنع وسائل تستخدم في الأغراض العسكرية البحتة، حتى ولو لم يتم تسميتها بالأسلحة الإعلامية.
السلاح الإعلامي في خدمة الدول الصناعية المتقدمة: وأصبح واضحاً أيضاً بعد توفر معلومات كافية، تتحدث عن شروع العديد من الدول الصناعية المتقدمة في إجراء أبحاث للحصول على تقنيات وتكنولوجيا متطورة في مجال الاتصال، وإعداد تكنولوجيا متطورة وتقنيات وطرق لاستخدامها بهدف السيطرة المباشرة على الساحة والموارد الإعلامية للخصم، والتأثير المباشر عليه. حيث أشارت بعض المصادر إلى أن أكثر من 120 دولة من دول العالم وصلت وفي مستويات مختلفة لنتائج ملموسة في هذا المجال الذي لا يقل خطورة عن السلاح النووي. بينما تجرى أبحاثاً لتطوير السلاح النووي في 20 دولة فقط من دول العالم تقريباً.
وتذكر بعض المصادر أن بعض الدول أصبحت تملك وسائل جاهزة للدفاع ضد أخطار السلاح الإعلامي للعدو المتوقع في ظروف الصراعات العسكرية على مختلف المجالات والمستويات، وحتى في زمن السلم. وتشمل تلك الوسائل الإطارين الإستراتيجي والعملياتي التكتيكي، وصولاً إلى أرض المعركة. وأن الاهتمام منصب الآن على مواضيع تتعلق بحماية المجال الإعلامي الخاص بتلك الدول من تأثير استخدام السلاح الإعلامي من قبل دول معادية، تفادياً لتأثير الحرب غير المعلنة في المجال الإعلامي. كما وبات معروفاً أيضاً من أن بعض الدول التي تقوم فعلاً بشن الحرب الإعلامية، أو شنتها قد أدخلت السلاح الإعلامي فعلاً في نظمها العسكرية وتقوم بإعداد وحدات عسكرية مدربة خاصة ومدعومة بالمتخصصين في هذا المجال الهام، للقيام بالعمليات الإعلامية الهجومية وتدمير نظم المعلومات وموارد الخصم المعلوماتية ووسائل سيطرته الإلكترونية كأداة من أدوات الصراع الأخرى لتحقيق النصر العسكري الحاسم على العدو.
ويعتبر المهتمون بالمشكلة أن الستار قد انكشف فعلاً عن استخدام السلاح الإعلامي عملياً في الحروب الأهلية الجارية هنا وهناك، وفي الصراع على السلطة في معظم دول العالم، وفي الصراعات القومية والعرقية والدينية سمة الحقبة الأخيرة من القرن العشرين. وأن الأسلحة الإعلامية أظهرت قدراتها الفريدة على أرض المعركة وتأثيرها النفسي والمادي والمعنوي سواء في وقت السلم أو في وقت الحرب، وتجاوزها عملياً لكافة الحدود الوطنية والسياسية والجغرافية بتجاهل تام لاستقلال وسيادة تلك الدول.
السلاح الإعلامي وإدارة الصراع: ومن خلال الصراعات الداخلية الأخيرة والهامة، أكتشف المراقبون أنها تتم ومع الأسف بمساعدة ودعم كبيرين من الخارج. لنستشف من ذلك أن تلك الصراعات لم تنجو من استخدام بعض الوسائل الإلكترونية الحديثة في الصراع ضمن المجال الإعلامي، والتي يمكن اعتبارها أسلحة إعلامية. وأصبح واضحاً: أن وقت الأشكال التقليدية من "التخريب الإيديولوجي" و"عمليات الاختراق الفكري" و"الحرب النفسية" قد ذهبت، لتحل محلها الوسائل الإلكترونية الحديثة، وعلى مستوى جديد من التأثير. وأن مستوى استخدام تلك الوسائل قد أرتفع بشكل لا يوصف. إذ لا يمكن مقارنة الخطابة أمام حشد من الجمهور يمكن تفريقه، أو مقالة في صحيفة يمكن مصادرتها، أو برنامج إذاعي مسموع أو مرئي يمكن التشويش عليه، بسرعة انتشار المعلومات في كل أنحاء العالم، أو اختفاء تلك المعلومات مباشرة وبسرعة هائلة من كل أنحاء العالم، عبر شبكات الحاسب الآلي وأشهرها شبكة "الانترنيت" العالمية، وهي معلومات أصبحت اليوم مزودة اليوم بالصورة الثابتة والمتحركة، والتسجيلات المرئية والمسموعة. وكلها يمكن أن تعادل بفعاليتها الأسلحة الإعلامية، التي يهدف من استخدامها أن تكون فوق القوميات، وفوق الدول، وثبت عملياً أن في كل أنواع "الحروب الإعلامية الأهلية" وبشكل غير مباشر هناك قوة ثالثة، وضعت ضمن أهدافها الحيوية الاختراق وتخطي الحدود لداخل ضمير تلك المجتمعات الضحية. وظهر ذلك جلياً خلال الأعوام الماضية عندما استخدمت أراض الغير لإدارة هذا النوع من الصراعات كما حدث في العراق (أثناء حرب تحرير الكويت)، وإندونيسيا (أثناء انفصال تيمور الشرقية)، وجمهورية إشكيريا (الشيشان)، وفي حرب الاستقلال التي خاضتها وتخوضها دول الاتحاد اليوغوسلافي السابق، وأثناء وبعد الأحداث الدرامية التي حدثت في 11 سبتمبر/أيلول 2001 في نيويورك وواشنطن، تلك الأحداث التي أظهرت مدى انتشار وتفوق وسائل الإعلام المرئية في الولايات المتحدة الأمريكية، وقدرة تلك الوسائل على دعم الحملة التي تقودها الولايات المتحدة لتصفية الإرهاب في العالم كما تدعي بدءاً بالحرب الإعلامية الشعواء التي تشنها بعض المراكز الإعلامية العالمية (القوة الثالثة المستفيدة مباشرة من تلك الحرب الإعلامية، بغض النظر عن المصالح الحيوية للولايات المتحدة الأمريكية، وللدول الأوروبية والاتحاد الروسي الذين تشن تلك الحرب الإعلامية من أراضيهم) ضد الإسلام والعرب وانتهاء بقصف القوات الجوية الأمريكية والبريطانية لأفغانستان.
فعلى مثال يوغوسلافيا انكشفت محاولات تورط الاتحاد الدولي للاتصالات الإلكترونية من خلال مبادرة الأمم المتحدة في كوسوفو، وقرار تحديد نهايات الأقنية المستقلة للاتصالات الهاتفية والاستيلاء على الرمز الدولي لتلك الدولة، وكان من الممكن أن يبقى ذلك الإجراء شبه مجهول لو لم يعلن. ومثل تلك الخطوة يمكن اعتبارها بالكامل جهوداً إضافية، الهدف منها عزل الأقنية الإعلامية للخصم وبالتالي الحد من تأثيرها وإخراجها من معادلة الصراع.
ومثال أدوات الصراع من أجل استقلال تيمور الشرقية، قيام منظمة: East Timor campaign مباشرة بعد الاقتراع على استقلال المحافظة الإندونيسية السابقة تلك، ومن أراضي إسبانيا والبرتغال وفرنسا بهجوم كاسح استهدف مواقع الحكومية الإندونيسية في شبكة الانترنيت العالمية، خربت بنتيجتها صفحاتWEB ، الخاصة ليس بالحكومة وحدها، بل وصفحات المنظمات الإندونيسية، وأطلقت فيروسات كمبيوتر جديدة، بدأت بالعمل مباشرة للقضاء على المواقع الإعلامية الإندونيسية في شبكات الكمبيوتر العالمية. ولا يمكن أن تعتبر تلك العملية الإعلامية المنفذة من أراضي دول أوروبية بعيدة جداً عن جنوب شرق آسيا، إلا حقيقة تثبت "لا حدودية" استخدام الأسلحة الإعلامية، ومثال لاستخدامات الأسلحة الإعلامية بشكل مباشر من أجل الوصول إلى أهداف سياسية داخلية محددة رغم البعد الجغرافي الشاسع بين المؤثر والمتأثر من استخدام السلاح الإعلامي.
وفي الصراع الدائر بين قوات الحكومة الإشكيرية المتطلعة للاستقلال عن الاتحاد الروسي، والمقاتلين الشيشان من جهة، والقوات الفيدرالية الروسية من جهة أخرى على الأرض الشيشانية، فنرى أن الأسلحة الإعلامية لم تبقى جانباً فقد استخدم المقاتلون الشيشان مختلف وسائل الإعلام، وكانت صفحات الانترنيت واحدة من ساحات القتال من أجل "استقلال إشكيريا" والتخلص من الظلم الروسي. وبفضلها اطلع العالم كله على مواد إعلامية ملموسة وواقعية تتحدث عن الوضع في شمال القوقاز، وعن جهود أعضاء الحكومة والدبلوماسية الإيشكيرية لإطلاع العاملين في مؤسسات العلاقات الخارجية الرسمية بالدول المتقدمة في العالم على الحقائق، من خلال محاضراتهم التي دعتهم لإلقائها بعض أقسام الجامعات في تلك الدول وتحدثوا من خلالها عن الشؤون الشيشانية.
وفي الحالة العراقية عندما أجبرت الحكومة العراقية على إغلاق مواقعها في الانترنيت بعد أن تم التسلل إليها، وتغيير مضمونها لصالح المعارضة العراقية، وفقاً للنبأ الذي أذاعته إذاعة صوت العراق الحر من براغ يوم 3/6/2000.
وفي حالة الولايات المتحدة الأمريكية قيام وسائل الإعلام المرئية الأمريكية ببث مباشر شمل العالم كله تقريباً للأحداث التي تعرضت لها نيويورك وواشنطن، وعرضت دقائق اصطدام الطائرات بالمباني التجارية في نيويورك وآثار الأحداث التي جرت في المناطق الأخرى، وما رافقها من تصريحات وتعليقات غير مسؤولة، وغير مبنية على حقائق ثابتة دبت الرعب والحقد في قلوب الرأي العام ضد العرب والمسلمين وحتى مواطني الولايات المتحدة الأمريكية منهم، ضاربين بعرض الحائط بالمصالح الإستراتيجية الحيوية للولايات المتحدة الأمريكية في العالمين العربي والإسلامي، ومعرضين في نفس الوقت المجتمع الأمريكي للانقسام والتصادم.
وهو نفس الدور الذي قامت به وسائل الإعلام المرئية الروسية بفارق وحيد فقط هو زج وزراء ومسؤولين إسرائيليين ينطقون باللغة الروسية في الحملة الإعلامية تلك، (ولا غرابة فـ 20 % من سكانها من الاتحاد السوفييتي السابق) راحوا يطلقون من خلال المقابلات التي أجريت معهم الاتهامات المزعومة والأكاذيب ضد العرب والمسلمين، وأخذت تلك الوسائل تبث صوراً كاذبة من المناطق الفلسطينية المحتلة "أخذتها من الأرشيف تعرض لقطات من أفراح الشعب الفلسطيني بعد إعلان اتفاق أوسلو"، لتظهر وكأن الفلسطينيين فرحين للأحداث التي تعرضت لها الولايات المتحدة الأمريكية، إضافة للتركيز الشديد والربط بين الأحداث الجارية في شمال القفقاس (القوقاز) المؤثرة على المواطن الروسي، والأحداث الجارية في الأراضي الفلسطينية المحتلة لإظهار إسرائيل المعتدية على حقوق الشعب الفلسطيني ومقدساته وكأنها ضحية لعدوان فلسطيني "متجاهلين تماماً حقيقة الاحتلال الإسرائيلي لكامل فلسطين وتشريد شعبها حتى داخل وطنهم"، والهدف من كل ذلك هو تضليل الرأي العام الروسي الذي كان ولوقت قريب مؤيداً للحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني، ومؤيداً لتطبيق قرارات الشرعية الدولية حيال القضية الفلسطينية. تلك الصورة التي بدأت بالاهتزاز وأخذت تضعف منذ بداية البريسترويكا في الاتحاد السوفييتي السابق وتكللت بسيطرة قوى مؤيدة لإسرائيل على معظم وسائل الإعلام الجماهيرية والبنية التحتية للاتصال عن بعد الروسية.
ومن ضمن الحرب الإعلامية المسعورة تلك التي تشنها تلك الوسائل نلمس حتى حملاتها الإعلامية المضللة ضد الحلفاء التقليديين والمقربين للاتحاد الروسي، مثال الأضاليل التي بثتها وتبثها ضد دول رابطة الدول المستقلة للإيقاع بينها وبين الحكومة الروسية، ومن بينها حملات التضليل التي تعرضت لها أوزبكستان أكثر من مرة وخاصة عند بدء الحملة الدولية ضد الإرهاب، مما دعى الرئيس الأوزبكستاني إسلام كريموف للرد في تصريح له في 5 تشرين أول/أكتوبر 2001، وقيام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالاتصال به تلفونياً في اليوم التالي وما تبع ذلك من تبدل ملحوظ في الخطاب الإعلامي لتلك الوسائل الإعلامية الخاصة التي تبث برامجها من داخل الأراضي الروسية وتغطي عبر الأقمار الصناعية الساحة الإعلامية الناطقة باللغة الروسية في أنحاء مختلفة من العالم وحتى إسرائيل. وما هذا إلا دليل آخر بأن وسائل الإعلام الدولية اليوم أصبحت فوق الدول، وتعرض من خلال النشاطات غير المسؤولة لبعضها المصالح القومية لبعض الدول والعلاقات الدولية لأشد أنواع الخطر.
هذا إن لم نتحدث عن العزل والتعتيم الإعلامي شبه الكامل، من قبل وسائل الإعلام الدولية المؤثرة والتي هي فوق الدول، لرأي الجانب العربي في الصراع الدائر من أجل تحقيق سلام عادل وحقيقي بين العرب وإسرائيل، والاستعاضة عنه بإبراز رأي الجانب الإسرائيلي فقط بشكل سافر وبتحد حتى للشرعية الدولية. وزج الإسلام بأحداث لا علاقة له بها، تحدث هنا وهناك في أنحاء مختلفة من العالم عن طريق تشويه الحقائق بشكل مقصود، مما يوحي بخلق رأي عام دولي متحيز أحادي الجانب يشوه الحقائق وينصر المعتدي على الضحية، ويؤدي إلى حرمان المعتدى عليه ضمن إطار هذا الوضع غير الطبيعي من التعبير عن رأيه وتوضيح الحقائق أمام الرأي العام العالمي. ناهيك عن الحرب الإعلامية غير المعلنة من الخارج لإشعال نار الفتنة وتفعيل الخلافات العربية العربية، والعربية مع دول الجوار الإقليمي، والإسلامية الإسلامية. وهي أحادية الجانب ولا تواجه حتى الآن أية مقاومة تذكر لضعف أدوات وفعاليات الإعلام العربي والإسلامي الموجه نحو الرأي العام العالمي والساحة الإعلامية الدولية في الوقت الحاضر على الأقل.
ولابد أن تلك الصورة التي تأكدت بعد الأحداث الأخيرة هي التي أثرت بشكل نهائي على تقدير المشكلة بالكامل من قبل دول العالم الأقل تطوراً، وهي نفسها التي أدت إلى تغيير مواقف الكثيرين منها بشكل جذري عما كان في السابق. وظهرت جلية خلال مؤتمر جنيف حول الأمن الإعلامي الذي انعقد في آب/أغسطس 1999، والذي نظمه معهد الأمم المتحدة لمشاكل نزع السلاح (يونيدير)، وإدارة قضية نزع السلاح في الأمانة العامة لمنظمة الأمم المتحدة، من ضمن إطار إجراءات تطبيق القرار 53/70 للهيئة العامة للأمم المتحدة. وشارك في المؤتمر ممثلين عن أكثر من 50 بلداً، من بينهم كل اللاعبين الأساسيين على أرض تكنولوجيا الإعلام الدولية المتقدمة، مما سمح برفع مستوى نتائجه، ولو في إثارة المشكلة على المستوى العالمي على الأقل، بعد أن كانت حصراً بلقا آت المتخصصين وحدهم.
مشكلة الأمن الإعلامي والمصالح الوطنية والدولية: كما ويمكننا اعتبار أن الهدف الرئيسي لأكثرية المشاركين في المؤتمر آنف الذكر، كان إظهار الطريقة التي تتعامل فيها كل جهة من الجهات المشاركة، مع مشكلة الأمن الإعلامي الدولي، من خلال المناقشات التي جرت في إطار مواضيع الدورة 54 للهيئة العامة لمنظمة الأمم المتحدة. ولكن كان من الملاحظ أنها لم تكن مستعدة لذلك، مما أدى إلى حصر المناقشات حول الاقتراح الروسي فقط، ومتابعة إعداد كل المواضيع المتعلقة بالأمن الإعلامي الدولي على مستوى خبراء الدول المهتمة، تحت رعاية منظمة الأمم المتحدة. وهذا من حيث الجوهر يعتبر اعترافاً دولياً بأهمية المشكلة ونجاحاً للدبلوماسية الروسية التي أحسنت اختيار التوقيت لعرض الاقتراح سالف الذكر. ومحاولة التأثير في مضمون المشكلة وتوجيهها نحو مداخل تعتبر ذات أهمية خاصة لروسيا، واعتبارها المدخل للتحديد الدقيق لتصور دولي ونهائي تدور من خلاله المناقشات التالية لمشاكل الأمن الإعلامي الدولي، حتى وإن لم تتفق وجهات نظر الكثيرين حول المشكلة، ولكنها قد تساعد كل الأطراف المعنية في المستقبل على إيجاد حلول تتفق وحجم المشكلة الآخذة بالاتساع بوماً بعد يوم، على ضوء التطورات السريعة في عالم تكنولوجيا الاتصالات الإلكترونية الحديثة.
أطر مشاكل الأمن الإعلامي الوطني والدولي: يرى البعض أن مشاكل الأمن الإعلامي الوطني الدولي تنحصر في إطارين اثنين، هما:
الإطار الأول: الذي يؤدي عملياً إلى إلغاء الوحدة الموضوعية للمشكلة ويحاول تجزئتها إلى قضيتين فرعيتين هما: الأولى: وتتناول الجريمة الإعلامية؛ والثانية: وتتناول الإرهاب الإعلامي.
وفي هذا الإطار يمكن الاستمرار في إعداد الأسلحة الإعلامية وتطويرها مما يهدد بخطر اندلاع الحروب الإعلامية. ولا يعترف المؤيدين لهذا الإطار بوجود المشكلة أساساً، بل يعتبرونها أعراضاً ثانوية يمكن علاجها. وبالتالي وبشكل منطقي كامل تصبح وفق وجهة النظر تلك مشكلة نزع السلاح الإعلامي ملغاة تلقائياً، ولا حاجة لمناقشها. وهو ما يسمح بإخراجها من إطار منظمة الأمم المتحدة وتحويلها إلى المنابر الإقليمية والمتخصصة، لتبقى المشكلة هامشية وعالقة إلى الأبد، وتتحول من لجنة إلى أخرى وهكذا دواليك.
الإطار الثاني: ويمثل خط الدول التي أظهرت استعدادها الفوري للمشاركة في إعداد آليات وأطر دولية محددة تواجه إقامة واستخدام الوسائل المؤثرة على الموارد الإعلامية خارج إطار الشرعية والقانون الدولي. واقترحت تلك الدول عرض المشكلة على المجتمع الدولي، واتخاذ تدابير من بينها إحداث محكمة دولية خاصة للنظر في الجرائم الإعلامية. والقيام في نفس الوقت بإعداد تكنولوجيا عالية التطور ضمن إطار التعاون الدولي للوقاية من الهجمات والتعديات الإعلامية الدولية.
ورغم ذلك فإنه يمكننا اعتبار الاعتراف بالمشكلة دولياً، والاعتراف بضرورة إيجاد حلول لها في إطار قرارات الشرعية الدولية من خلال قرارات الهيئة العامة للأمم المتحدة، ودفعها إلى الأمام لتصبح واحدة من المشاكل التي تناقش في إطار منظمة الأمم المتحدة من أهم النتائج التي توصل إليها المؤتمر آنف الذكر. وبذلك يكون الهدف النهائي من القضية إعداد برامج عملية في الإطار الدولي تمكن الدول من اتخاذ إجراءات ذاتية أو مشتركة لمواجهة خطر التهديدات الإعلامية الدولية. مما يسمح بتحويل نتائج المؤتمر آنف الذكر من حيث الجوهر إلى مرحلة تحضيرية لنقل المشكلة الناتجة عن العولمة إلى إطار الهيئة العامة للأمم المتحدة، بغض النظر عن الخلافات في وجهات النظر حول الاعتراف بالمشكلة، أو بطرق التعامل معها بشكل علني ومكشوف، انطلاقا من مصالح الأمن الوطني والقومي والعالمي.
المصطلح والحرب الإعلامية: ومن القضايا الهامة التي تنتظر الحل من قبل المجتمع الدولي اليوم، وخاصة من الأوساط الأكاديمية الدولية، وفي إطار المنظمات الدولية المتخصصة، مشكلة الاتفاق من حيث المبدأ على المصطلح والتوصل لتعريف مشترك لماهية الحرب الإعلامية غير المرئية تلك، وأسلحتها وأدواتها ووسائلها المشتركة في جوهر الصراع. لتؤدي في النهاية إلى الاعتراف بالحرب الإعلامية، مثلها مثل الاعتراف بالحروب التقليدية، والمحدودة، والنووية، والباردة، والأسلحة التقليدية وغير التقليدية المستخدمة في الصراعات بين الدول. ورغم ضيق الهوة الكبيرة حول فهم الخبراء في الدول المختلفة للمصطلح، فقد لوحظ تباين واضح في التوجهات. التي يمكن تحديدها ببعض الاتجاهات الرئيسية والتي نلخصها بالتالي:
الحرب الإعلامية: ويمكن أن تعبر عن المواجهات الإعلامية التي تهدف إلحاق الضرر أو تخريب الأنظمة الإعلامية الهامة للخصم، وتخريب نظمه السياسية والاجتماعية، وزعزعة الأمن والاستقرار داخل المجتمع والدولة الخصم.
الصراع الإعلامي: ويمكن أن يعبر عن شكل من أشكال الصراع بين الدول، من خلال تأثير دولة ما معلوماتياً على نظم إدارة الصراع في غيرها من الدول أو على قواتها المسلحة، والتأثير على القيادات السياسية والعسكرية وحتى المجتمع بأسره. وكذلك التأثير على الأنظمة الإعلامية ووسائل الإعلام الجماهيرية لتلك الدول من أجل تحقيق أهداف محددة ومناسبة لها، والحد من تأثير أية ممارسات مشابهة قد تخرق المجال الإعلامي للقائم بالصراع.
التأثير الإعلامي: ويمكن أن يعبر عن الفعل الموجه ضد الخصم باستخدام الأسلحة الإعلامية المختلفة.
الأسلحة المعلوماتية: ويمكن أن تعبر عن مجموعة من الوسائل التكنولوجية وغيرها من التقنيات والأساليب والتقنيات المستخدمة من قبل القائم بالصراع بغرض: السيطرة على الموارد الإعلامية والإمكانيات المعلوماتية والتقنية المتاحة للخصم؛ التدخل في عمل أنظمة إدارة الخصم وشبكاته المعلوماتية والإعلامية، ونظم اتصاله وغيرها، بهدف تخريبها عملياً، وإخراجها تماماً من حيز العمل. والتسلل للمواقع المعلوماتية والإعلامية للخصم بهدف الاستيلاء على موارده المعلوماتية والإعلامية فيها، وتحريف مضمونها أو إدخال معلومات مغايرة، أو استبدالها بمعلومات أخرى، أو تخريبها بشكل موجه ومدروس؛ نشر معلومات أخرى منافية، أو معلومات مضللة من خلال نظم تشكيل الرأي العام ومراكز اتخاذ القرار، لصالح القائم بالصراع؛ إتباع مجموعة من الأساليب الخاصة باستخدام وسائل تؤثر على وعي وسلوك القيادة السياسية والعسكرية، وتؤثر على الحالة المعنوية للقوات المسلحة، وأجهزة الأمن الوطني، ومواطني الدولة الخصم، لتحقيق التفوق عليها أو إضعاف تأثيرها الإعلامي.
الأمن الإعلامي، ويمكن أن يعبر عن: إجراءات محددة لحماية المجال المعلوماتي والإعلامي والموارد الإعلامية، بشكل يؤمن تشكلها وتطورها لصالح المواطنين والمؤسسات والمنظمات والدول؛ إجراءات محددة لحماية النظم المعلوماتية والإعلامية الخاصة بالأفراد والمنظمات والدول، التي يتم من خلالها استخدام المعلومات ومواردها بأشكال محددة ودقيقة، وضمان عدم التأثير السلبي عليها أثناء الاستخدام؛ إجراءات محددة لحماية المعلومات المخزونة في شبكات المعلوماتية التي تحمل طابع السرية ومواردها، لضمان عدم وصول الغير إليها بسهولة، وتوفير إجراءات تؤكد صعوبة الوصول إليها أو تخريبها، والمحافظة على خصائصها وسريتها وسلامتها، واسترجاعها عند الحاجة من قبل الأشخاص والجهات المصرح لها بالوصول إلى تلك المعلومات.
المجال الإعلامي: ويمكن أن يعبر عن مجال النشاط الإنساني الذي يتضمن إحداث وتشكيل واستخدام نظم المعلومات من أجل: تشكيل الوعي المعرفي الفردي والاجتماعي؛ توفير الموارد المعلوماتية والإعلامية، أي البنية التحتية المعلوماتية والإعلامية بما فيها مجموعة الأجهزة والأنظمة، والتجهيزات التكنولوجية والتقنيات، والبرامج وغيرها، التي تؤمن تكوين وحفظ المعلومات، وإعدادها والتعامل معها وإرسالها واستردادها وتدفقها؛ تكوين وتوفير المعلومات الخاصة وتأمين تدفقها.
الجريمة الإعلامية، ويمكن أن تعبر عن أي تصرف يؤدي إلى حدوث تأثير سلبي على المجال المعلوماتي والإعلامي وموارده، لفرد أو جماعة أو منظمة أو دولة، أو لأي جزء منه بشكل مخالف للقانون. وينتج عنها أضراراً اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية أو ثقافية بما فيها تخريب المجال المعلوماتي والإعلامي للغير وموارده، لأهداف أيديولوجية أو اقتصادية أو سياسية أو عسكرية.
مجالات تأثير الصراع الإعلامي الدولي: لا يستطيع أحد في الوقت الحاضر، أن ينكر الصعاب الكثيرة التي تعترض توفير الأمن المعلوماتي والإعلامي في ظروف الصراع الإعلامي الإقليمي والدولي. الذي أصبح يستهدف كل مجالات حياة الإنسان اليومية. الأمر الذي دعى الكثير من الخبراء للنظر في ضرورة اتخاذ إجراءات عاجلة توفر الأمن المعلوماتي والإعلامي في المجالات التالية:
السياسية: بما فيها بنية النظام السياسي والاجتماعي والحكومي للدولة، ونظم دراسة وإعداد واتخاذ القرار السياسي. والأجهزة المختصة بإجراء الانتخابات والاستفتاء العام وغيرها من أدوات قياس الرأي العام. ونظم الإدارة المحلية والمركزية والإقليمية، والهياكل المعلوماتية والإعلامية ووسائل الاتصالات المرئية والمسموعة، وشبكات الحاسب الآلي التابعة لأجهزة السلطات الحكومية والإدارية.
الوعي الاجتماعي والتربوي: وتشمل نظم التعليم، ووسائل تشكيل الرأي العام، ووسائل الإعلام الجماهيرية المقروءة والمسموعة والمرئية، والأحزاب السياسية والمنظمات والاتحادات والهيئات الاجتماعية والثقافية والدينية والقومية والوطنية؛
الاقتصادية: وتشمل نظم الإدارة الاقتصادية، ونظم جمع وتخزين واسترداد وإعداد المعلومات الخاصة بالمقدرات الإنتاجية للاقتصاد الوطني، ونظم التحليل الاقتصادي العامة، وتوقعات تطور الاقتصاد الوطني العام والخاص، ونظم الإدارة والتنسيق في المجالات الصناعية والزراعية والمواصلات، ونظم الإدارة والإمداد المركزية للطاقة، ونظم اتخاذ القرار والتنسيق في حالات الطوارئ، ونظم الإعلام الاقتصادي المقروءة والمسموعة والمرئية، وشبكات الحاسب الآلي؛
المالية: بما فيها بنوك المعلومات وشبكات الاتصال وتبادل المعلومات، بين البنوك والاتحادات المصرفية، ونظم الاتصال الخاصة بالتبادل المالي والحسابات المالية، الخاصة والحكومية والدولية؛
الدفاعية: وتشمل موارد المعلومات الخاصة بالقوات المسلحة، والهيئات العلمية والمنشآت العاملة في المجالات الصناعة الدفاعية، ونظم إمداد وإدارة القوات المسلحة، ونظم السيطرة والمراقبة الدائمة، وقنوات تدفق المعلومات ذات الطبيعة الإستراتيجية والعملياتية والاستطلاعية؛
العلمية والتكنولوجية: بما فيها نظم إجراء البحوث العلمية النظرية والتطبيقية، ونظم جمع وتخزين واستعادة المعلومات الخاصة بالبحوث العلمية الجارية، والاكتشافات العلمية، والاختراعات التي تم التوصل إليها، سواء أكانت في المجالات التكنولوجية أم في مجالات العلوم الإنسانية أم في مجالات العلوم الحية وغيرها من المواضيع الخاصة بالملكية الفكرية؛
الأمن الداخلي: وتشمل نظم التحقيق، والتحقق، والنيابة العامة، والإجراءات العدلية، والموارد المعلوماتية والإعلامية لأجهزة الأمن، ومنظومات جمع وحفظ وإعداد واسترجاع المعلومات والإحصائيات الخاصة بالجريمة، بما فيها بنوك معلومات الشرطة الدولية (الإنتربول).
التهديدات المتوقعة للأمن الإعلامي الوطني: لما كان الأمن الإعلامي الدولي أساساً يشمل كل ما يدخل في مجالات تهديد الأمن الإعلامي الوطني، من:
تهديدات البنى التحتية المعلوماتية والإعلامية: التي تستهدف تخريب مواقع تبادل المعلومات الفورية عبر شبكات الحاسب الآلي، وتكنولوجيا معالجة المعلومات، وتقنيات التسلل للمواقع الخاصة في شبكات الحاسب الآلي، وجمع وتخزين واستخدام ونشر المعلومات بشكل مخالف للقانون.
تهديدات الأمن الإعلامي: الموجهة أصلاً ضد الخصائص الهامة التي يجب أن تتمتع بها المعلومات مثل السلامة والسرية وقيود أو حرية الوصول إليها.
تهديدات الحياة الأخلاقية للمجتمع: والتي تتم من خلال إدخال أو بث أو نشر معلومات دينية أو سياسية مغلوطة في وعبر أجهزة الإعلام الحكومية ووسائل الإعلام الجماهيرية بشكل يهدد المصالح الوطنية العليا والمصالح الخاصة، ومصالح المجتمع والدولة بشكل عام. أو عن طريق الاحتكار والحجب المتعمد للمعلومات الموجهة للمواطنين. أو في ترويج وبث الأنباء الكاذبة، والإخفاء أو التحريف المتعمد للمعلومات بشكل يؤدي إلى تحريف وتشويه الوسط الإعلامي المحلي ويزعزع الحالة النفسية للمجتمع، ويخرب ويشوه التقاليد الدينية والثقافية، ويفسد الأخلاق العامة، ويشوه القيم الجمالية والتربوية لدى الفرد والمجتمع.
تهديدات حقوق الفرد والحريات العامة: والتي تطال المجال المعلوماتي والإعلامي، من خلال القواعد القانونية المتبعة، والتي تحد من حقوق وحريات المواطنين في مجالات الحياة الخاصة، والعامة، والمعتقدات الدينية، والسياسية، والنشاطات المعلوماتية والإعلامية الفردية. بما فيها الأفعال التي تهدد نظم جمع وحفظ واسترداد وتدفق المعلومات الشخصية التي من خصائصها: السرية في التداول مثل المعلومات الطبية، والوثائق المدنية الشخصية، والمعلومات الخاصة عن عمل ودخل المواطنين وغيرها. فالأمن الإعلامي الوطني مطالب في مجتمع الديمقراطية وسيادة القانون بتأمين سرية المعلومات عن الحياة الخاصة للمواطنين والأحاديث الصريحة والخاصة التي تتم بين شخصين عبر وسائل الاتصال عن بعد الحديثة.
وهكذا نرى أن الهدف الرئيسي من استخدام الأسلحة الإعلامية هو تحقيق أهداف إستراتيجية موجهة ضد الأجهزة الحكومية الحساسة، ومن الطبيعي أن تطال وعي وأمن المجتمع بأسره. وهو ما يسمح ولو بالتلميح بأن نقول السلاح الإعلامي هو سلاح مدمر جديد دخل فعلاً ترسانة أسلحة الدمار الشامل. وهو سلاح جديد آخذ بالتطور والانتشار السريع. فماذا سيحدث لو لم تتمكن الأبحاث العلمية الحديثة من وضع أسس ملموسة للوقاية منه، أو الحد من تأثيره كما هي الحال مع الأسلحة التقليدية وأسلحة الدمار الشامل الأخرى ؟ لأن الأسلحة الإعلامية الجديدة تتميز عن غيرها من الأشكال التقليدية من الأسلحة السابقة بسرعة الانتشار والتأثير الفعال والسريع على الهدف الذي تستخدم ضده.
فما هي الخصائص الأساسية للأسلحة الإعلامية وأهدافها ؟ من أجل الإجابة على هذا السؤال لا بد من إلقاء نظرة تحليلية في بعض ما تم نشره من أبحاث حتى الآن، والتي تلقي بعض الضوء على بعض الخصائص الأساسية للأسلحة الإعلامية، انطلاقاً من إمكانياتها الأساسية في التأثير على الأهداف المستخدمة ضدها، وهي:
أنظمة نقل المعلومات: وتتألف من نظم وشبكات الاتصال عن بعد، ونظم وشبكات المعلومات والحاسب الآلي، وبنوك تخزين وإعداد وتوزيع وتبادل المعلومات الخ؛
الوعي الاجتماعي (الرأي العام) ونظم تشكيله: ويتضمن التأثير على الحالة النفسية الاجتماعية، وأدوات تشكل القيم الأخلاقية والدينية والتربوية في المجتمع، ووسائل الإعلام الجماهيرية، ووسائل الاتصال عن بعد، ونظم إعداد وتنشئة وتربية الأطفال والشباب وغيرها من الوسائل والنظم؛
وأخيراً الوعي الفردي أو الشخصي: فالأسلحة الإعلامية ليست وسائل "للتخريب الفكري" وحسب، بل هي وسائل تهدف أساساً التأثير على البنية التحتية لتدفق المعلومات الضرورية للنشاطات العلمية والفكرية والتي تطال وتصب داخل الوعي الاجتماعي. لتحقيق الأغراض التالية:
التأثير الفعال على نظم المعلومات العلمية والسياسية والاقتصادية والمالية والعسكرية والثقافية والتربوية والإحصائية. وحتى المعلومات المخزنة داخل أجهزة السيطرة على أسلحة الدمار الشامل والأسلحة المتطورة التي تستخدم الحاسب الآلي لمراقبة وتحديد واختيار والوصول إلى الأهداف وتدميرها، ووسائل نقل وإطلاق وتفجير تلك الأسلحة. أو تضليل أسلحة العدو المتطورة أو شلها أو إخراجها من ساحة المعركة. وهل يمكن تصور الأخطار المحدقة بالبشرية لو حدث تسلل إلكتروني لأجهزة التحكم بأسلحة الدمار الشامل التي تملكها إحدى الدول وهي كثيرة في عالم اليوم ؟
التأثير النفسي والتخدير وشل قدرات العدو على استخدام نظم معلوماته أو السيطرة عليها، والقضاء على إمكانياته المتاحة للاتصال عن بعد والتنسيق داخل الدولة أو بالعالم الخارجي.
مجالات استخدام السلاح الإعلامي: يتم استخدام السلاح الإعلامي عادة عبر وسائل الإعلام الجماهيرية، أو وسائل الاتصال عن بعد الإلكترونية، من خلال حاسب آلي (كمبيوتر شخصي) مزود ببرامج خاصة، أو من خلال غيره من أشكال الأسلحة الإعلامية الأخرى. فـ"الفيروس" المرسل من كمبيوتر شخصي عبر شبكة "الانترنيت" العالمية هو الآن أكثر فتكاً من تأثير السلاح النووي أو الجرثومي من حيث النتائج على الحضارة الإنسانية. فنشر الجراثيم الحية لحمى "إيبولا"، أو القرحة السيبيرية (الجمرة الخبيثة)، أو مرض نقص المناعة "الإيدز" وغيرها من الأمراض الخطيرة، يمكن التصدي لها وحصرها ووقف انتشارها وحتى معالجتها، أما فيروسات الحاسب الآلي "الكمبيوتر" مثل: Melissa )) و( I Love you ) أو"تشر نوبل" أو(DIR ) وغيرها من الفيروسات الجديدة التي تظهر كل يوم، من خلال شبكات الحاسب الآلي الدولية، لها مفعول مدمر لا يمكن التصدي له حتى الآن، وخلال ثوان فقط تدمر محتويات ملفات كاملة، وجهود سنوات طويلة من جمع وإعداد وتخزين المعلومات، لتختفي إلى الأبد من على شاشات الحاسب الآلي ومن ذاكرته.
والمصيبة أن ذلك يأتي في ظروف غير متوقعة، وفي لحظة حرجة تؤدي إلى إرباك كبير. ولنتصور معاً نتائج تخريب مواقع شبكات الحاسب الآلي للعمليات المالية الدولية، أو شبكات خطوط النقل الجوي والبري والبحري العالمية، أو شبكات السيطرة على أسلحة التدمير الشامل، أو شبكات الشرطة الدولية "الإنتربول". فالإنسانية أصبحت اليوم أكثر تهديداً من قبل، بسلاح جديد فتاك يصعب مواجهته، ولا نقول لا يمكن مواجهته، لأن هذا يحتاج إلى رغبة الدول التي أصبحت تملك مثل تلك الأسلحة والقادرة على تطوير وسائل قادرة على التصدي لمثل تلك الأسلحة، وعلى الأقل ضد أولئك الذين يستخدمون تلك الأسلحة بشكل مخالف للقانون. وعلى مستوى قرار تلك الدول وجديتها في تطوير واستخدام هذا السلاح الجديد ووسائل الوقاية منه يتوقف الكثير. ولابد أن قرار دولي من هذا النوع سيكون من الأهمية أكثر بكثير من الأهمية التي تمتعت بها اتفاقية الحد من انتشار الأسلحة النووية في العالم لعام 1968.
الرقابة أو الإشراف على المجال الإعلامي الدولي: ولكن الخوف بعد مؤتمر جنيف يأتي من إمكانية فرض الدول المتقدمة نوعاً من الرقابة أو الإشراف على المجال الإعلامي العالمي ! ليبرز خطر حقيقي يهدد التدفق الإعلامي الدولي الحر. ويحد من الدور الحقيقي للإعلام، ويجعل من الدول الأقل تطوراً والدول النامية والدول الفقيرة رهينة لمشيئة تلك الدول، وتصبح الساحات الإعلامية للدول الأقل تطوراً والنامية مكشوفة أمام تلك الدول، ويحرمها وهي من دون ذلك محرومة من التدفق الإعلامي المتطور القادم من الدول المتقدمة في الشمال الحريصة على عدم انتقال التكنولوجيا المتطورة للدول الأقل تطوراً والدول النامية في الجنوب بشكل عام. وهو ما يعني أيضاً إشراف بعض الدول المتقدمة على الساحة الإعلامية الدولية على الأرض وفي الفضاء الكوني في آن معاً، وعلى مختلف أوجه النشاط الإنساني وتوجيهها لصالحها والسيطرة عليها.
سيناريوهات الحرب الإعلامية: وانطلاقاً من تلك التوقعات نرى أن الكثير من مراكز البحث العلمي المتخصصة في مجالات الاتصال عن بعد والإعلام والحرب الإعلامية، راحت منذ مدة طويلة تعد خططاً وسيناريوهات للحرب الإعلامية المحتملة. وراحت تعد إستراتيجيات خاصة بها، الغرض منها السيطرة على الساحة الإعلامية ليس للغير وحسب، بل ومن أجل أن تكون "عولمة الإعلام" خاضعة لإشرافها فقط. ولنستعرض الآن بعضاً من نتائج تلك الأبحاث العلمية من خلال السيناريوهات التي أصبحت معروفة، وهي:
السيناريو الأول: وفيه تكون الدولة المبادر الأساسي في شن الحرب الإعلامية بما تملك من تفوق ساحق في مجال الأسلحة الإعلامية الهجومية، ومن إمكانيات الحد من صلاحية النظم الدفاعية لأي من الدول الأخرى، ومنها إخراج شبكات الاتصال والسيطرة والرادارات من ساحة المعركة "الحالة على الجبهات العربية في عدواني عام 1967 و 1982" و"الحالة العراقية أثناء حرب تحرير الكويت وما بعدها" و"الحالة اليوغسلافية". وفي هذه الحالة تفرز تلك الدولة قسماً مما تملكه من وسائل وأسلحة الحرب الإعلامية لتستخدم من قبل حلفائها، أخذة على نفسها مهمة تنسيق الجهود والعمليات، في الهجوم وفي الحد من التهديدات الإعلامية المشابهة التي قد تتعرض لها من قبل الخصم، والمواقع التي يمكن أن ينطلق منها الخصم لتوجيه الضربة المعاكسة. بحيث تضمن لنفسها التفوق وتحقيق النصر مهما كان نوع "العدوان الإعلامي" الذي تقوم به بمفردها أو مع حلفائها ضد الخصم، أو الذي تتعرض له هي أو أي من حلفائها من قبل الخصم في الحرب الإعلامية غير المعلنة وغير المرئية في أكثر الحالات.
السيناريو الثاني: احتفاظ عدد محدود من الدول المتقدمة بقدرات وإمكانيات شن الحرب الإعلامية واحتكار تلك الدول للسلاح الإعلامي، بشكل يسمح لها بالتفوق الكامل والقدرة على امتلاك أجهزة وشبكات معلومات مستقلة. في هذه الحالة لابد لواحدة من تلك الدول من الاحتفاظ بالتفوق في هذا المجال. وبذلك يصبح هذا الوضع عامل تخويف للدول الأخرى، تمنعها من استخدام الأسلحة الإعلامية ضدها أو ضد أي من الدول التي تشرف عليها وبذلك تضمن التفوق حتى في المستقبل.
السيناريو الثالث: ويركز على الدولة المتفوقة تكنولوجياً ومعلوماتياً وإعلامياً، ونظم دفاعاتها غير القابلة للقهر ضد أي شكل من أشكال الأسلحة الإعلامية. مما يجبر أكثر دول العالم على الامتناع عن امتلاك أي شكل من أشكال الأسلحة الإعلامية الهجومية، أي الرضوخ التام. لأنها لا تستطيع مواجهة الهجمات الإعلامية ضدها بسبب عدم امتلاكها للتكنولوجيا المعادلة للدولة المتفوقة. وفي هذه الحالة تستطيع الدولة المتفوقة إعلامياً فرض نظامها الخاص للإشراف الإجباري على الأسلحة الإعلامية ونزعها وتدميرها، بما يشبه ما تفعله الولايات المتحدة الأمريكية من خلال برنامج تدمير أسلحة الدمار الشامل العراقية منذ مطلع التسعينات في الرقابة الإلكترونية والاستطلاع الجوي والفضائي الدائم، وإلى حد ما الحالة الأفغانية قبل وأثناء القصف الأمريكي البريطاني للقضاء على حكم طاليبان، وتنظيم القاعدة الذي تدعمه. وبالنتيجة يمكن منع الحرب الإعلامية ضد الدولة المتفوقة أو تخفيض خطرها إلى الحد الأدنى، والسيطرة على وسائل استعمالها المتوفرة لدى الخصم المتوقع بما يمكن من إزالتها وتدميرها. مما يوفر أرضية منطقية لإعطاء مثل تلك الخطوات الشرعية في ظروف التفوق الساحق لتلك الدولة، لتفرض على المجتمع الدولي اتخاذ قرارات دولية مناسبة تتفق ومصالح تلك الدولة المتفوقة.
وإشراف كهذا على المجال الإعلامي العالمي أصبح شبه واقعي على ضوء التفوق الشامل الذي يسمح لدولة معينة، أو لمجموعة قليلة من الدول، بالتأثير على النظم الإعلامية الدولية من خلال الإمكانيات الفعلية التي تملكها تلك الدول، وهو ما يسمح لها بفرض رأيها على الآخرين، بما يعني أن تكون "العولمة الإعلامية" مقرونة بإشراف المتفوق. وهو ما يؤكد وفق المعايير الإقليمية والإنسانية أنها ملكت وبالتأكيد الحد الأقصى من إمكانيات الإقناع أثناء الحروب المعلوماتية وفرض أو منع المعلومات على هواها، وفرض عمليات حفظ السلام وفق منظورها الخاص فقط.
الأمن الإعلامي الدولي من وجهة نظر المعارضين للمشكلة: ولهذا يعتمد خصوم وجهة النظر التي تطالب بالنظر العاجل في قضايا الأمن الإعلامي في إطار منظمة الأمم المتحدة على حجج ترى من وجهة نظرهم: أن المشكلة لا تتضمن جوانب عسكرية. وأن الحقيقة هي في خطر استخدام المعلوماتية في المجالات الإجرامية والإرهابية فقط.
وهنا يبرز سؤال هام، مفاده ماذا سيفعل المجتمع الدولي حيال إرهاب الدولة، وحيال الجرائم المرتكبة من قبل دولة ضد دولة أخرى، أو شعب ضد شعب آخر لأهداف التطهير العرقي أو إبادة العرق الآخر أو لأهداف توسعية واقتصادية وسياسية، وعدم الاعتراف بالحقوق الشرعية للغير كما هي الحال في الصراع العربي الإسرائيلي من أجل تحقيق السلام العادل، وتأمين الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وإعادة المقدسات والأراضي المحتلة ؟ فهل يمكن تسمية ذلك بغير الحرب المستمرة ؟ أو ليست الحروب وفق المفاهيم الإنسانية جرائم ترتكب بحق البشرية ؟ حتى ولو قامت بها دولة معينة أو مجموعة من الدول ضد دولة أخرى أو مجموعة من الدول بقصد العدوان وليس الدفاع عن النفس، كما هي الحال بالحرب الإعلامية الشعواء التي تشنها بعض وسائل الإعلام من أراضي الدول المتقدمة ضد العرب والمسلمين. ومن يستطيع إثبات أن تلك الحروب والجرائم والأعمال الإرهابية تتم دون استخدام الأسلحة الإعلامية التي كانت سمة من سمات الحقبة الأخيرة من القرن العشرين ؟ ومن الخطأ إخراج الجريمة المنظمة والإرهاب الدولي من مفهوم الأمن الإعلامي الدولي، لأنها تهدد الكيان الإنساني برمته. وأنه لا وجود للأسلحة الإعلامية وهي ليست سوى عبارة عن وسائل للتأثير على نظم الإعلام وشبكات الاتصال فقط، ولا تشمل غيرها من الوسائل والطرق التي هي من أشكال الأسلحة التي تستخدم في تنفيذ الحروب النفسية. وأنه لا يمكن متابعة وتسجيل وضبط القائمين بالتأثير الإعلامي. وهذه بحد ذاتها حجة واهية لأن الحقائق تثبت عكس ذلك، والتاريخ يتضمن أمثلة محددة على ذلك منها: حل مشكلة تحديد مواقع إطلاق الصواريخ العابرة للقارات، والحجم الكبير للقضايا الجنائية المرفوعة ضد المتسللين إلى شبكات الحاسب الآلي الخاصة، ومخربي محتويات شبكات الحاسب الآلي، مما يثبت إمكانية وفعالية الإجراءات المتبعة حتى الآن والتي يمكن تطويرها والزيادة من فعاليتها كل يوم لو توفرت النوايا الحسنة. وأن غياب المصطلحات الموحدة وغياب المداخل الموحدة لمفهوم الأمن الإعلامي يؤدي إلى الخلاف في الاتجاهات نحو تناول المشكلة وفق المفهوم الدولي. وهي مشكلة تحتاج للحل قبل النظر في المشكلة جدياً ضمن إطار منظمة الأمم المتحدة كهيئة سياسية دولية وحيدة تملك حق النظر في قضايا "العولمة الإعلامية" وآثارها. وأن القوانين الوطنية التي تلبي المصالح القومية العليا لمختلف الدول غير متوافقة، وهو وضع يجب تصحيحه.
وهنا يبرز السؤال التالي: على أي أساس يجب تصحيحه ؟ هل على أساس قوانين دولة مختارة من دول العالم ؟ ومن هي تلك الدولة المختارة صاحبة الحظ السعيد؟ ومن يملك الحق بنشر مفاهيمه القانونية الوطنية ومصالحه القومية العليا على كافة دول العالم ؟ ومن هي تلك الدولة التي ستكون المبادرة في فرض قوانينها الوطنية، والمبادرة لفرض مفهومها وإجراءاتها في الدفاع عن المجال الإعلامي وأمنه على غيرها من دول العالم ؟ فهذا غير واقعي وغير منطقي تماماً. لأن المرجعية والأساس يجب أن يكون للقانون الدولي فقط، وهو ما دعت إليه الهيئة العامة لمنظمة الأمم المتحدة في قراريها 53/70 و 54/49. وأخيراً حجة عدم كفاية الدراسات اللازمة للإعداد لعرض الموضوع على الهيئة العامة للأمم المتحدة، وضرورة الانتظار حتى اكتمال واستلام نتائج البحوث العلمية والقانونية الجارية في بعض الدول، وهي أبحاث لا يمكن أن تنتهي كالتطور البشري الذي لا يمكن أن ينتهي إلا بمشيئة الله.
الأمن الإعلامي الدولي من وجهة نظر البحث العلمي: والجدال حول هذه النقطة صعب لأن الأبحاث العلمية الأساسية المنتهية والمنشورة والمناقشة على مستوى الخبراء كثيرة، وتم اقتراح الكثير من الحلول التطبيقية للمشكلة من قبلهم. مما يفسح المجال للشك في النوايا التي يمكن أن يكون الغرض منها الانتظار حتى تنتهي بعض الدول من إعداد الوسائل العسكرية التي تعمل على إنشائها، للوصول إلى التفوق المنتظر الذي يتيح لتلك الدول الفرصة الكاملة لفرض وجهات نظرها على الغير. ولعزل الدول التي لم تبدأ بعد بالقيام بمثل تلك الإجراءات والحيلولة دون أن يكون لها صوت مؤثر في حل تلك المشكلات الخطيرة. ولتبقى الثغرات في الأنظمة المعلوماتية والإعلامية لمختلف دول العالم قائمة، ولتبقى الدول الضعيفة عرضة للعدوان الإعلامي دون القدرة حتى على الدفاع عن النفس. ولتبقى الطريق أمام الدول المتفوقة مفتوحة لشن الحروب الإعلامية وفرض السيطرة والإشراف الإعلامي على النظم الإعلامية للدول الأضعف.
ولكن هل ستقبل الدول الأقل تقدماً بهذا الوضع المختل ؟ في حال غياب آلية دولية للحد من السباق في مجال امتلاك واستخدام السلاح الإعلامي، وبالتالي منع قيام الحروب الإعلامية. ففي ذلك الوضع ستفقد الأمم المتحدة دورها الريادي في "العولمة الإعلامية"، مما يؤدي إلى الفوضى الإعلامية الدولية مع كل النتائج الوخيمة التي لابد وأن تؤثر في صميم الثقافة الإنسانية، وتدفن إلى الأبد أية إمكانية لقيام حوار ديمقراطي عادل ومفتوح بين الثقافات، ولتحل مكانه ثقافة مفروضة من قبل الدولة الأقوى المهيمنة على الساحة الإعلامية الدولية.
الأمن الإعلامي والتفاهم الدولي: ومن الصعب الآن بعد أن توضحت الصورة إيجاد شكل محدد لتلك الآلية الدولية دون تحقيق التفاهم داخل المجتمع الدولي. ويكون التفاهم فيه مبنياً على مبادئ عامة دولية، مدعومة من البداية بوثيقة دولية متعددة الأطراف تحت رعاية منظمة الأمم المتحدة، تتضمن تصور شامل للأمن الإعلامي الوطني في إطار دولي. ويأخذ في اعتباره طبيعة كل التهديدات العسكرية والإجرامية والإرهابية، بما فيها استخدام سياسة الفرض والإكراه لفرض هيبة القانون سواء في المجال العسكري أو في المجال المدني والإنساني. وهذا يتطلب من وجهة نظر أنصار "عولمة الأمن الإعلامي" القيام بما يلي: إعداد نظم للفهم المشترك، تستخدم أثناء تحليل ومناقشة المشاكل المطروحة حول الأمن الإعلامي، وتحديد المصادر التكنولوجية وطبيعة الأخطار المتوقعة؛ إعداد المبادئ الأساسية لبناء "عولمة النظم المعلوماتية" لتأمين الأمن الإعلامي الدولي؛ إصدار بيان متعدد الأطراف في إطار منظمة الأمم المتحدة يخلق تصور للأمن الإعلامي الدولي على أساس المبادئ الأساسية المعلنة؛ إعداد اتفاقية تتضمن المواضيع الخاصة، مثل قضايا مكافحة الإرهاب الإعلامي الدولي والجريمة في مجال الإعلام، تتفق ومبادئ المنظمات الدولية العاملة والقائمة في مجال الإعلام والاتصالات المرئية، ووسائل الإعلام الجماهيرية وحقوق الإنسان؛ إعداد المبادئ الأساسية الخاضعة للمحاسبة في إطار منظمة الأمم المتحدة للنظر في ملائمة القوانين الوطنية بهدف التوفيق بينها؛ إدخال جميع الدول الأعضاء لإضافات وتغييرات في قوانينها الأساسية بما يتفق والمبادئ الأساسية المعلنة؛ إعداد المبادئ الأساسية لتنظيم آلية للرقابة والسيطرة في مجال الأمن الإعلامي الدولي، وضمان تناسقه مع النظم العالمية العاملة في مجال المعلوماتية والاتصالات المرئية ووسائل الإعلام والاتصال عن بعد الجماهيرية وحقوق الإنسان، والرقابة على تصدير مواد وتكنولوجيا الإعلام. ويعني هذا العمل المشترك في أجهزة الرقابة على تصدير واستيراد المنتجات والخدمات في مجال المعلوماتية والاتصالات المسموعة والمرئية، وخاصة منها التي يمكن أن تستخدم عسكرياً أو للاستخدامات الثنائية، بما فيها المواد المخصصة لإنتاج أسلحة الحرب النفسية.
ويرى أنصار هذا الاتجاه أن تتوج المرحلة الختامية بتوقيع كل الدول الأعضاء في المجتمع الدولي على اتفاقية متعددة الأطراف لها صبغة نهائية تؤكد مبادئ الأمن الإعلامي الدولي، وتفرض آلية دولية معينة لمراقبة مجال الأمن الإعلامي الدولي ووضعه حيز التطبيق.
رؤية عربية للأمن الإعلامي والتفاهم الدولي: تعتبر الأدبيات العربية التي تناولت مشكلة الأمن الإعلامي أن المجتمع الدولي بكل ثقافاته وأديانه مدعو اليوم أكثر من أي زمن مضى للمشاركة الجماعية في التصدي لظواهر الإرهاب والإرهاب الإعلامي والتطاول على الأمن الإعلامي الدولي، والأمن الإعلامي الوطني والقومي للدول النامية والأقل تطوراً في العالم.
وتعتبر أن منظمة الأمم المتحدة خاصة والمنظمات المتخصصة والإقليمية والقارية بشكل عام لا تزال المؤهلة والقادرة على التعامل مع تلك الظواهر، من خلال جهودها لوضع أسس لاتفاق دولي حول المبادئ الأساسية وطرق مواجهة ظواهر الإرهاب والإرهاب الإعلامي، وبشروط تتفق عليها كل دول العالم صغيرها وكبيرها دون انحياز أو الكيل بمكيالين كما هو حاصل اليوم، سيما وأن الأمر يتعلق بمبادئ حفظ الأمن والاستقرار في العالم برمته.
خاصة وأن عالم اليوم يشهد حملة شعواء تقودها بعض وسائل الإعلام الجماهيرية الدولية، ويشارك فيها بعض المفكرين والمحللين السياسيين من دول مختلفة لإلحاق ظاهرة الإرهاب بحضارة أو ثقافة أو دين معين. رغم أن الإرهاب الدولي بكل أشكاله قد اخترق حضارات وثقافات وديانات مختلفة، وطال كل أرجاء العالم دون تمييز انطلاقاً من بواعث واضحة ومتباينة. وهو ما يؤكد ضرورة أن يكون مقر الأمم المتحدة الساحة التي يجب أن تشهد جهوداً دولية وثيقة في التعاون من أجل التصدي لكافة ظواهر الإرهاب ومن بينها طبعاً الحروب الإعلامية والإرهاب الإعلامي.
وترى بعض الدول أنه لابد من الدعوة إلى مؤتمر دولي لمكافحة الإرهاب بكل أشكاله ومن ضمنه الإرهاب الإعلامي، تحت رعاية الأمم المتحدة انطلاقاً من قواعد الشرعية الدولية للحفاظ على الأمن والاستقرار العالميين، وانطلاقاً من مجلس الأمن الدولي باعتباره صاحب الاختصاص والمسؤولية في عملية حفظ السلام والأمن الدوليين، وانتهاء بالجمعية العمومية للأمم المتحدة التي يجب أن تتعامل مع كل ما يهدد السلم والأمن الدوليين.
ومؤتمر كهذا يمكن أن يرسي قواعد واضحة تكفل عدم قيام أية دولة من دول العالم بتقديم أي دعم أو ملاذ يشجع الإرهاب بكل أنواعه ومن ضمنه الإرهاب الإعلامي، أو يجنب القائمين به العقاب العادل. سيما وأن منظمة الأمم المتحدة كانت قد قامت عبر تاريخها الحافل وحتى الآن بجملة من الخطوات في هذا المجال الحيوي والهام للبشرية بأسرها، ومنها:
الاتفاقيات والقرارات الدولية التي أكدت أن الإرهاب يشكل أحد العناصر التي تهدد السلام والأمن الدوليين، وحثت الدول على اتخاذ تدابير فعالة وحازمة وفقاً لأحكام القانون الدولي والمعايير الدولية لحقوق الإنسان من أجل القضاء على الإرهاب الدولي بكل أشكاله. إلا أن الباحث العربي أحمد القرعي يعتبر أن تلك الاتفاقيات والقرارات بحاجة إلى إطار متناسق ليتحول إلى مدونة قانونية ملزمة تعكس تضافر جهود المجتمع الدولي في التصدي لظاهرة الإرهاب، ومحاصرتها وحرمانها من المأوى والملاذ والتمويل.
لأن المرجعية والأساس يجب أن يكون للقانون الدولي فقط، وهو ما دعت إليه الهيئة العامة لمنظمة الأمم المتحدة في قراريها 53/70 و 54/49، وإعلانها بشأن التدابير الرامية إلى القضاء على الإرهاب الدولي الذي أصدرته خلال الدورة 49 للأمانة العامة عام 1994. التي يمكن اعتبارها منهاجاً للعمل الجماعي الدولي في مواجهة كل ظواهر الإرهاب بما فيها الإعلامية، حيث أوردت جملة متكاملة من المبادئ الأساسية والإجراءات والتوصيات التي تخاطب مختلف دول العالم وتدين جميع الأعمال الإرهابية وأساليبها وممارساتها باعتبارها انتهاكاً خطيراً لمبادئ منظمة الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، التي تهدف إلى تحقيق الرخاء والعيش بسلام والحفاظ على مستقبل البشرية.
ومن بين المبادرات الدولية الكثيرة في هذا المجال كانت المبادرة المصرية عام 2000 التي تعكس حسب رأي القرعي صوت الجنوب والدول النامية، وصوت الأغلبية المتضررة من الفجوات الخطيرة بين مستويات التقدم، وضرورات الحياة الحديثة وأساسياتها. واعتمدت مصر في رؤيتها لغة الحوار العالمي الحضاري لرسم إطار مستقبل العمل الجماعي الدولي في العقود القادمة مؤكدة على أن هناك مكاناً للتعايش والتناسق بين الحضارات لبناء الحياة الجديدة سوياً في إطار المبادئ والضوابط العادلة، وفي مقدمتها: أن تقدُّم الفكر، واتساع قاعدة المعلوماتية الدولية وفتح قنوات انتقال المعلومات بحرية، لا يعني ولا يجب أن يعني نشر ثقافة التحدي للحضارات الأخرى أو التحدث عن الصراع معها، وكأنها لا تطيق الحياة مع الحضارات والثقافات الأخرى بكل ما تمثله من تراث وتقاليد عريقة. وكأن العالم اليوم أمام خيار هيمنة قيم ومبادئ حضارة واحدة بعينها، ومطلوب من الجميع أن يسلموا بها، وهو ما يمثل صراعاً من أجل البقاء ويهدد الثقافات الأضعف العاجزة عن الوقوف أما ذلك المد الجارف أحادي الجانب الذي تفرضه العولمة لإعلامية. وأنه لابد من شراكة حقيقية بين دول الشمال المتقدمة ودول الجنوب النامية، ودعم حقيقي من قبل الدول والمؤسسات المالية المانحة لجهود القضاء على التخلف والفقر باعتبارها هدفاً أساسياً لتحقيق المجتمع الدولي العادل الذي يحقق الأمن والاستقرار في العالم بأجمعه. وأنه لابد من تضييق الفجوة المعرفية والعلمية وتكنولوجية المعلومات بين دول الشمال ودول الجنوب للدفع بخطوات التنمية الوطنية ودمج الدول النامية بشكل إيجابي في الاقتصاد العالمي من خلال التعاون المثمر بين الدول المتقدمة والأقل نمواً والنامية.
وأخيراً تعتبر أنه لابد من الحوار والتعاون البناء لتحقيق نظام أمن جماعي مستقر في إطار الديمقراطية الدولية، لضمان الحق في العيش بسلام واستقرار، بعيداً عن أهوال الدمار الشامل والحروب الإعلامية والنزاعات والاستيلاء على أراضي وثروات الغير بالقوة المسلحة، والحق في حياة كريمة خالية من التخلف والفقر والعوز، والحق في العيش في مناخ صحي خال من التلوث والأمراض والأوبئة القاتلة والظواهر الاجتماعية السلبية. لأن محاولة إلقاء تبعات تحقيق التنمية والقضاء على الفقر على الدول النامية وحدها هي محاولة تتسم بالخطورة وقصر النظر، لأنها تقوض أركان التعاون الدولي باعتباره ركناً أصيلاً من أركان النظام العالمي، وتتجاهل انعكاسات الفجوة المعلوماتية والاجتماعية والاقتصادية الآخذة في الاتساع بين الدول الغنية في العالم وفقرائها، الفجوة التي اتسعت ستة عشر ضعفاً عما كانت عليه في عقد الستينات من القرن العشرين.
وخلاصة القول أنه هناك مشكلة حقيقية ماثلة للعيان تهدد الأمن الإعلامي الوطني والقومي للدول الأقل تطوراً والدول النامية، وتعاني منها الدول العربية والإسلامية، وتهدد الأمن الإعلامي الإقليمي والدولي، وتعيق التفاهم الدولي، وتضع البشرية أمام مسؤولية التصدي لها وتقديم الحلول الناجعة لمعالجتها، قبل أن تصبح مفاتيح المشكلة حكراً على البعض المتمكن فقط، ومستعصية على البعض الآخر غير المتمكن الآن على الأقل، ويؤدي استخدامها إلى اندفاع البشرية نحو تطوير أنواعاً جديدة من الأسلحة الفتاكة، التي أصبح الاتجاه فيها يتطلع نحو الفضاء الكوني من قبل دول تتحدث دائماً عن حقوق الإنسان وتستخدمه ذريعة للتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وتستثني نفسها منه وتتجاهل حق الإنسان الأساسي الذي وهبه له الله، ألا وهو الحق في الحياة الحرة الكريمة البعيدة عن التسلط والفرض والإكراه.
ونرى أن يجري البحث عن الحلول في إطار العلاقات الدولية انطلاقا من مبدأ الاحترام المتبادل، واحترام السيادة الوطنية لمختلف الدول، وفي إطار الدبلوماسية الدولية داخل أروقة منظمة الأمم المتحدة، وعلى مستوى منظماتها المتخصصة، والمنظمات الإقليمية التي هي أدرى بمصالحها الوطنية الإقليمية المرتبطة بالمصالح الإنسانية لعالم اليوم. وهذا يحتاج قبل كل شيء إلى إعادة النظر في السياسات الإعلامية الحالية، وتحديد مواقف الحكومات والقوى السياسية من المشكلة وفق منظور المصالح الوطنية العليا لكل دولة، وتوحيدها على ضوء المصالح القومية للدول العربية، والإسلامية التي تجمع الدول الإسلامية والمسلمين في العالم قاطبة، والمصالح الإنسانية التي تجمع شعوب العالم بأسره.
وهنا يبرز دور جامعة الدول العربية وأجهزتها المتخصصة، ومجلس تعاون دول الخليج العربية، والاتحاد المغاربي، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، ومنظمة الوحدة الإفريقية وغيرها من التجمعات الإقليمية والدولية التي تشارك فيها الدول العربية والإسلامية، والدبلوماسية الثنائية بين الدول، في تنسيق الجهود والمواقف والعمل الجماعي من خلال المنظمات الدولية ومن خلال مواقف محددة من المشكلة، المواقف التي يمكن أن تساعد على إيجاد أطر للعمل الجماعي لمواجهة المشكلة، من ضمن إطار الشرعية الدولية لتحقيق أوسع تعاون دولي مفيد وواقعي وممكن يساعد على حل مشاكل الأمن الإعلامي الوطني والقومي والإقليمي والدولي. ويضمن تنفيذ الإجراءات الجماعية المتخذة لحل المشاكل الجديدة والصعبة الناتجة عن دخول الإنسانية عصر "العولمة والمجتمع المعلوماتي". وتوفر الأمن الإعلامي الوطني والدولي الواقعي الذي يضمن سيادة المصالح الوطنية ومساواتها لجميع دول العالم صغيرها وكبيرها، فقيرها وغنيها. ويتصدى لأي عدوان خارجي أو إجرامي أو إرهابي يتعرض له المجال الإعلامي من قبل أي كان، لأي دولة من دول العالم دون تفريق.
وهذا على ما أعتقد لا يعفي الدول العربية والإسلامية القادرة، من واجب إعادة النظر في سياساتها الإعلامية الداخلية والموجهة إلى مختلف شعوب العالم، والشروع بإنشاء مؤسسات متخصصة للقيام بالدراسات والأبحاث الضرورية التي تمكنها من مواجهة وامتلاك ناصية تقنيات وتكنولوجيا سلاح القرن الحادي والعشرين "السلاح الإعلامي"، وإنتاج أنظمة تسليح ووسائل حرب المعلومات، لتقدمها دعماً للدول الشقيقة عند الضرورة، ولمواجهة عدو شرس ينتشر كالأخطبوط في كل أنحاء العالم ويتربص بالجميع ويملك أفتك صنوف الأسلحة التي تفتقت عنها العبقرية البشرية، ومن بينها طبعاً "السلاح الإعلامي" الذي برع حتى الآن باستخدامه والتفوق به، لشل قدرة خصومه على المواجهة، وخداع الرأي العام العالمي، وحجب الحقائق عنه، وإقناعه بحقائق محرفة تخالف حتى الثوابت التاريخية والثقافية غير القابلة للجدل، ويعمل دائماً على إيجاد المبررات لتنصله من تنفيذ قرارات الشرعية الدولية، وحتى من تنفيذ بنود اتفاقيات سبق ووقع عليها مع أطراف عربية منذ أكثر من نصف قرن مضى وحتى اليوم.
العولمة وهموم المجتمع المعلوماتي: تمهيد: مع بدايات تسعينات القرن العشرين التي رافقت انهيار الاتحاد السوفييتي السابق ودول ما كان يعرف بالكتلة الشرقية التي كان يقودها الاتحاد السابق ، وعلى ضوء التطورات الهامة التي جرت على جميع الأصعدة العلمية والتقنية والتكنولوجية في العالم، وخاصة تكنولوجيا وسائل الإعلام الجماهيرية والاتصال والاستشعار عن بعد، انطلقت بشدة شعارات تدعو للتكامل بين المجتمعات الصناعية المتقدمة، وفتح باب المنافسة الحرة وإزالة العوائق أمام انتقال الخبرات والبضائع ورؤوس الأموال إلى الأسواق العالمية التي يجب أن تكون حسب رأي البعض مفتوحة تماماً أمام نهم الشركات متعددة الجنسية دون أية رقابة أو اعتبار. ورافق تلك الشعارات بشائر ميلاد المجتمع المعلوماتي الذي يمكن أن تشارك في بنائه كل عناصر التركيبة الاجتماعية، في عملية تفاعل معلوماتي متساوي باتجاهين أخذاً وعطاءاً.
واعتبر الكثيرون أن ميلاد المجتمع المعلوماتي يبشر بالتحول من تقديم الخدمات الإعلامية للمتلقي السلبي في عملية الاتصال، الذي يتلقى سيل المعلومات الموجهة إليه ولمجتمعه دون مشاركة إيجابية منه في اختيار أو إعداد أو في أساليب نشر تلك المعلومات عبر وسائل الاتصال عن بعد والإعلام الجماهيرية التقليدية المختلفة، إلى مشاركة عناصر التركيبة الاجتماعية القادرة كلها في عملية اختيار وإعداد وتخزين وتوجيه ونشر والاستفادة من المعلومات، والمشاركة المؤثرة والفاعلة في عملية التبادل والتفاعل الإعلامي داخل المجتمع الواحد بكل عناصره وشرائحه، وبين المجتمعات المختلفة بشكل عام، بما يوفر فرص الحوار الثقافي والحضاري، والتفاهم، والتفاعل البناء لصالح تقدم الإنسانية جمعاء.
ومعروف أن الأساليب الإعلامية المستخدمة والمنتشرة بشكل واسع حالياً، لم تكن إلا نتاجاً للتقدم العلمي والتقني في مجال وسائل الاتصال عن بعد والإعلام الجماهيري، ونتيجة للأبحاث العلمية التامة في مجال الإعلام بفروعه المختلفة: الاقتصادية والسياسية والعلمية والطبية والزراعية والصناعية والتجارية والمالية والثقافية وغيرها من فروع المعرفة الإنسانية، التي جرت خلال النصف الأول من القرن العشرين ولم تزل مستمرة في التطور داخل العالم المتقدم كله حتى اليوم. وكان وكما هو معروف أيضاً أن نشر تلك المعلومات يتم بالطرق التقليدية عبر الكلمة المطبوعة، والمسموعة والمرئية أحادية الجانب أي من المرسل إلى المستقبل، دون أن تكون هناك أية إمكانية للتفاعل الإيجابي بين المرسل والمستقبل عبر الطرق التقليدية السائدة لنقل المواد الإعلامية التي حملتها إليه شتى وسائل إدخال ونقل وتخزين وإيصال المعلومات المقروءة والمسموعة والمرئية.
ولكن الثورة التي تفجرت بشدة خلال الربع الأخير من القرن العشرين في مجال تقنيات ووسائل الإعلام الجماهيرية والاتصال والاستشعار عن بعد، وضعت البشرية أمام منعطف تاريخي حاسم تشارك فيه اليوم كل عناصر التركيبة الاجتماعية القادرة على المشاركة في عملية التأثير والتفاعل المتبادل من خلال عملية التبادل الإعلامي المستمرة داخل المجتمع المحلي والدولي، عبر وسائل الاتصال الحديثة التي أصبحت فيها تقنيات الحاسب الآلي الحديثة دائمة التطور تشكل العنصر الهام والفاعل في حسم القضية كلها لصالح العولمة بكل أشكالها وأبعادها.
وأصبح الحاسب الآلي الشخصي المرتبط اليوم بشبكات المعلومات المحلية والإقليمية والدولية، يخزن وينقل وينشر المعرفة بكل أشكالها المقروءة والمسموعة والمرئية، ليحدث بذلك ثورة حقيقية داخل الأنظمة الإعلامية التقليدية، وأنظمة تراكم المعلومات والتعامل معها واستعادتها. وأصبح يساهم في تطوير عملية نقل المعرفة التقليدية داخل المجتمعات بعد أن انتقلت لاستخدام تقنيات الأنظمة المعلوماتية الإلكترونية الحديثة في مجالات العلوم والبحث العلمي والتعليم إلى جانب فروع الأنشطة الإنسانية المختلفة. مما وفر فرصة كبيرة لرفع مستوى الأداء العلمي والمعرفي وأفسح المجال أمام عملية الحصول على المعارف المختلفة ودمجها وإعادة نشرها، وتسهيل استخدامها في عملية تفاعل دائمة ومستمرة لا تتوقف.
وأصبح هذا الواقع الجديد بديلاً للطرق الإعلامية التقليدية، وبمثابة التحول من المألوف في أساليب الإعلام وطرق التعليم المستمر والإعداد المهني والمسلكي المتبعة حتى الآن في بعض الدول الأقل حظاً في العالم، إلى أساليب أكثر تطوراً وأكثر فاعلية من ذي قبل. ويرتبط هذا التحول بظاهرة العولمة والتكامل المتنامية في النشاطات الإعلامية الضرورية واللازمة لتطور الثقافة والعلوم والتعليم والبحث العلمي، في إطار ما أصبح يعرف اليوم بالمجتمع المعلوماتي.
مفهوم المجتمع المعلوماتي: ومن أجل تسهيل فهم القصد من العولمة الإعلامية التي حملت لنا معها مفهوم المجتمع المعلوماتي إن جاز هذا تعبير، لابد لنا من محاولة التعريف بجوهر هذا المجتمع، فهو حسب رأي العديد من الباحثين في شؤون الإعلام الجماهيري والاتصال عن بعد: المجتمع الذي تتاح فيه لكل فرد فرصة الحصول على معلومات موثقة من أي شكل ولون ومذهب واتجاه من أي دولة من دول العالم دون استثناء، عبر شبكات المعلومات الدولية، بغض النظر عن البعد الجغرافي، والعوائق الاقتصادية والسياسية، وبأقصى سرعة وفي الوقت المناسب للمشارك في عملية التبادل الإعلامي الدولي المستمرة؛ والمجتمع الذي تتحقق فيه إمكانية الاتصال الفوري والكامل بين أي عضو من أعضاء المجتمع، وأي عضو آخر من المجتمع نفسه أو من المجتمعات الأخرى، أو مع، أو بين مجموعات محددة من السكان، أو مع المؤسسات والأجهزة الحكومية، أو الخاصة بغض النظر عن مكان وجود القائمين بعملية الاتصال عن بعد والتبادل الإعلامي داخل الكرة الأرضية أو حتى خارجها في الفضاء الكوني؛ والمجتمع الذي تتكامل فيه نشاطات وسائل الإعلام الجماهيرية والاتصال التقليدية، وتتسع فيه إمكانيات جمع وإدخال وحفظ وإعداد ونشر المعلومات المقروءة والمسموعة والمرئية، من خلال التكامل مع شبكات الاتصال عن بعد، والمعلومات الإلكترونية الرقمية الدولية دائمة التطور والنمو والاتساع. الشبكات التي تشكل بالنتيجة وسطاً إعلامياً مقروءاً ومرئياً ومسموعاً ينشر معلوماته عبر قنواته التي تشمل حتى وسائل الإعلام الجماهيرية والاتصال التقليدية من خلال شبكات الاتصال عن بعد الإلكترونية، وشبكات المعلومات المحلية والإقليمية والدولية؛ والمجتمع الذي تختفي معه الحدود الجغرافية والسياسية للدول التي تخترقها شبكات المعلومات والاتصال عن بعد، وهو الاختراق الذي يشكل تهديداً مباشراً وخطيراً لأمن وقوانين الدول وللأعراف والتقاليد والمعتقدات الدينية والثقافية داخل المجتمعات المختلفة، وخاصة في الدول الأقل حظاً من التطور والدول النامية بشكل عام كما سبق وأشرنا.
وتعتبر عملية إدخال وانتقال ونشر المعلومات دون عوائق أو قيود من أساسيات تشكل المجتمع المعلوماتي، الذي يعتمد بالكثير على المنجزات والاكتشافات العلمية في مجال تقنيات الإعلام الجماهيري والاتصال عن بعد. وهو ما يضع الأوساط العلمية أمام واجب التصدي لمشاكل غير متوقعة، ناتجة عن تداعيات تشكل المجتمع المعلوماتي، سواء أكانت تنظيمية أم اجتماعية أم اقتصادية أم قانونية. والهدف من التصدي لتلك المشاكل هو خلق الظروف الملائمة لتلبية حاجات السوق الاستهلاكية المعلوماتية، دون الإضرار بمصالح الدول وحقوق المواطنين وأمن وسلامة أجهزة السلطات الدستورية، والمؤسسات الاقتصادية والمنظمات الشعبية والمهنية والعلمية، والهيئات العامة والخاصة، من خلال إيجاد الضوابط الكفيلة بتوفير شروط الأمن الإعلامي الشامل عند تشكيل وتداول الموارد المعلوماتية باستخدام تكنولوجيا الإعلام الجماهيري والاتصال عن بعد المتطورة.
خطوات الانتقال إلى المجتمع المعلوماتي: وبالفعل نرى أن الكثير من دول العالم المتقدم تقوم فعلياً بإعداد، أو تعد برامج للانتقال إلى المجتمع المعلوماتي، وتتخذ العديد من الخطوات العملية من أجل تحقيق مثل تلك البرامج في الواقع العملي. وتنتظر تلك الدول من تطبيق تلك البرامج الوصول إلى الأهداف التالية: رفع مستوى التكامل والحوار بين الهياكل الحكومية، والصناعية، ورجال الأعمال، والأفراد في المجتمع، بهدف تحقيق الاستخدام الأقصى لإمكانيات تقنيات الإعلام الجماهيري والاتصال عن بعد الحديثة من أجل تطوير المجتمع اقتصادياً وتحقيق فرص عمل جديدة لكل الشرائح السكانية؛ تحديث وتوسيع وتقوية البنية التحتية لوسائل الإعلام الجماهيرية والاتصال عن بعد التقليدية ورفع مستوى فاعلية أدائها الوظيفي؛ الدفاع عن مصالح المجتمع، وحقوق الأفراد أثناء استخدام تكنولوجيا إدخال وتخزين ونقل المعلومات؛ حماية موارد المعلومات المتوفرة في الشبكات المعلوماتية الإلكترونية؛ وتوسيع إمكانيات استخدام تكنولوجيا الإعلام الجماهيري والاتصال عن بعد في كافة المجالات العلمية والتطبيقية للاقتصاد الوطني؛ تشجيع وتعميم استخدام تكنولوجيا الإعلام الجماهيري والاتصال عن بعد وتعميم أساليب المعلوماتية الحديثة في الأجهزة الحكومية، قبل غيرها بغية تأمين حقوق المواطنين في تبادل المعلومات والحصول عليها من خلال تلك الأجهزة؛ تعميم استخدام تكنولوجيا الإعلام الجماهيري والاتصال عن بعد على جميع الأنشطة الإنسانية، مثل: الإحصاء، والتجارة، والعمل، والمواصلات، وحماية البيئة، والصحة وغيرها من الأنشطة الإنسانية التي تهم المجتمع بأسره؛ وتوفير إمكانيات المنافسة الحرة والشريفة في إطار المجتمع المعلوماتي الديمقراطي؛ وتحسين ظروف وصول وتداول المعلومات العلمية التكنولوجية والتقنية والبيئية والاقتصادية وغيرها من الموارد المعلوماتية عبر شبكات الإعلام الجماهيرية والاتصال عن بعد؛ وتطوير البحوث العلمية والبحوث التمهيدية في مجال تطوير تكنولوجيا المعلومات وتقنيات الإعلام الجماهيري والاتصال عن بعد؛ وتنسيق الجهود الوطنية والقومية والإقليمية والدولية أثناء وضع سياسة الانتقال إلى المجتمع المعلوماتي بما يضمن تحقيق المصالح الوطنية العليا من التعاون الدولي والاعتماد المتبادل بين الدول.
وفي هذه الحالة يجب أن يصبح المجال الإعلامي الدولي ليس أحد أهم مجالات التعاون والتبادل الإعلامي الدولي وحسب، بل ومجالاً رحباً للتنافس الحر والشريف بين الدول الأكثر تطوراً والتي تتفرد حتى الآن بملكية البنية التحتية الإعلامية الحديثة، والدول الأقل نمواً والنامية، من خلال وضع مقاييس تكنولوجية موحدة لمنتجاتها من تكنولوجيا وتقنيات وسائل الإعلام الجماهيرية والاتصال عن بعد. وأن تقدمها للمستهلكين من الدول غير المصنعة لتلك الوسائل أي الدول النامية، دون فرض أية شروط على كيفية تشكيل واستثمار البنى التحتية الإعلامية المتشكلة في تلك الدول، وأن ينحصر تأثير الدول المتقدمة على تطوير المجالات الإعلامية الجماهيرية للدول غير المصنعة لتكنولوجيا الإعلام والاتصال فقط، دون التأثير على مواردها المعلوماتية، بما يضمن عدم المساس بالأمن والمصالح الوطنية العليا للدول الصناعية المتطورة والدول الأقل تطوراً والدول النامية على حد سواء، أثناء وضع سياسات تطوير وتوفير وحماية أمن المجالات الإعلامية للدول الصناعية المتطورة.
مصاعب الانتقال إلى المجتمع المعلوماتي: وبغض النظر عن الوضع المالي الصعب الذي تعاني منه بعض الدول النامية والدول الأقل تطوراً من بين الدول المتقدمة كروسيا مثلاً بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، وحرمانها من الموارد الضخمة التي كانت تحصل عليها من الجمهوريات المستقلة والدول التابعة للمنظومة الاشتراكية الدائرة في فلك الاتحاد السابق، فإننا نرى أن روسيا قد استطاعت الحفاظ على بعض الاتجاهات الأساسية للعلوم المرتبطة بالتطور الصناعي. من حيث تطوير شبكة معلومات المؤسسات العلمية، والحفاظ على مستوى التأهيل المهني فيها، وتطوير المدارس التقنية، وتطوير نظام إعداد الكوادر ورفع مستواها المهني عن طريق تفعيل التدريب المستمر طيلة مدة الخدمة الفعلية لتلك الكوادر، واستطاعت المحافظة على كمية وتنوع المجلات العلمية المتخصصة، مستفيدة إلى أبعد الحدود من التعاون الدولي المتاح لها.
ولكن المشكلة الرئيسية في روسيا كغيرها من تلك الدول بقيت في مستوى الحصول على المعلومات العلمية المتطورة من الدول المتقدمة، وحجم ونوعية وطبيعة البنى التحتية المعلوماتية اللازمة في مجال العلوم والتعليم والبحث العلمي.
لأن مشكلة إعداد نظم الاتصال عن بعد الكفيلة بتوفير الموارد المعلوماتية الضرورية لتطور العلوم النظرية والتطبيقية في ظروف إصلاح النظم الإعلامية القائمة والتطور الاقتصادي، تحتم على تلك الدول أن يكون التصدي لهذه المشكلة من المهام الأساسية للسياسة الحكومية وواجباتها لتلبية احتياجات نمو وتطور الاقتصاد الوطني بشكل عام. سيما وأن العنصر الرئيسي اللازم للأبحاث العلمية والاستفادة العملية من نتائجها، يبقى مرتبطاً بالكامل بأشكال وأساليب توفير المعلومات والحقائق العلمية الحديثة والمتطورة. آخذين بعين الاعتبار أهمية مؤشرات ونوعية الموارد المعلوماتية المتاحة لكوادر البحث العلمي في أي بلد من بلدان العالم. لأن أي قصور في تأمين حاجة الباحثين العلميين من المعلومات الضرورية لمواضيع أبحاثهم العلمية سيؤدي حتماً ومن دون أدنى شك إلى تأخير في عملية تطور البحث العلمي الوطني، وبالتالي إلى تخلف حركة التطور العلمي والاقتصادي والثقافي والمعرفي في جميع فروع الاقتصاد الوطني.
وتحت تأثير مجموعة من الأسباب الموضوعية القائمة في الدول الأقل تطوراً وفي الدول النامية بشكل عام، نرى أنه لابد من إعادة النظر بكل مستويات أنظمة توفير الموارد المعلوماتية العلمية للمجتمع بآسره، وخاصة في مجالات التعليم والبحث العلمي والاقتصاد الوطني بشكل عام. والتي هي عادة أقل كلفة مما هي في الدول المتطورة، خلال فترة المرحلة الانتقالية من مجتمع الخدمات الإعلامية إلى المجتمع المعلوماتي المنفتح عالمياً.
كما ونلمس في تلك الدول مدى محدودية الإمكانيات والموارد المالية المتاحة التي لا تكفي حتى لتزويد المكتبات الوطنية ومراكز المعلومات الوطنية فيها بالإصدارات الدورية العلمية والتقنية المتخصصة الوطنية والأجنبية، سواء أكانت المطبوعة منها أم الإلكترونية. ومع ذلك فإننا نلمس تفاؤلاً كبيراً في تلك الدول يتجه نحو إمكانية حل تلك المعضلات في إطار برامج التعاون العلمي الإقليمية والدولية، وإطار الاعتماد المتبادل بين دول العالم المختلفة من أجل تحسين أداء شبكات الموارد الإعلامية العلمية الإلكترونية الإقليمية والدولية، وتخفيض تكاليفها، وأجور استثمارها في مجالات البحث العلمي للدول التي تعاني من مشاكل مالية على الأقل. ومساعدة تلك الدول على إقامة شبكاتها الإعلامية العلمية وبنوك المعلومات الخاصة بها، ومكتباتها الإلكترونية ووضعها تحت تصرف المستخدمين في تلك الدول.
خاصة وأننا نرى من خلال نظرة سريعة في عالم اليوم أن المؤسسات العامة والخاصة على السواء، في أكثر دول العالم تقوم اليوم باستخدام تكنولوجيا المعلومات المتقدمة والحديثة، بغض النظر عن المشاكل المالية والاقتصادية التي تعاني منها تلك الدول. وأن العديد من دول العالم تقوم اليوم بإنتاج مصنفات معلوماتية إلكترونية على الأسطوانات المضغوطة وغيرها من التقنيات الناقلة للمعلومات. إضافة لظهور آلاف النوافذ وصفحات Web في شبكة الانترنيت Internet العالمية، فتحتها وتقوم بتشغيلها المؤسسات الحكومية والعامة والخاصة وحتى الأفراد في مختلف دول العالم. وتحوي تلك النوافذ على كم هائل من المعلومات المتنوعة العلمية والثقافية والتجارية وغير التجارية والاقتصادية والسياسية والترفيهية والثقافية وغيرها. إضافة للبرامج التعليمية والتربوية والتثقيفية بما فيها برامج التعليم المستمر والتعلم عن بعد.
كما ونرى أن مؤسسات التعليم العالي والمتوسط والمكتبات العامة وحتى المتاحف ووسائل الإعلام الجماهيرية التقليدية المغمورة في مختلف دول العالم تسعى اليوم وبشكل حثيث لفتح نوافذها وصفحات Web الخاصة بها في شبكة الانترنيت العالمية.

هناك تعليقان (2):

  1. موضوع جيد، ودراسة مستفيضة...شكرا دكتور محمد على هذا المجهود الكبير

    ردحذف