الأربعاء، 19 أغسطس 2009

المنمنمات في الفن التشكيلي الأوزبكستاني الحديث

المنمنمات في الفن التشكيلي الأوزبكستاني الحديث

أ. د. محمد البخاري


شهدت سبعينات القرن الماضي مولد حركة عفوية شملت الأوساط الثقافية الأوزبكية بكل ألوانها واتجاهاتها، وركزت تلك الحركة العفوية على إحياء وتجديد التراث الثقافي الأصيل للشعب الأوزبكي، ذلك التراث الذي خضع في تلك الحقبة التاريخية لسياسة طمس رسمية للمعالم الثقافة القومية للشعب الأوزبكي كغيره من الشعوب الإسلامية التي كانت خاضعة آنذاك للحكم السوفييتي البائد، وما رافقها من إجراءات كادت تؤدي إلى فرض ثقافة غريبة على تلك الشعوب، في تناغم مع سياسة فرض اللغة الروسية محل اللغات القومية للشعوب الإسلامية الخاضعة للحكم السوفييتي بعد أن استبدلت أبجدياتها العربية قصراً بالحرف الكيريلي الروسي بقرار من الحكومة السوفييتية خلال النصف الأول من القرن العشرين.
ومن بين الاتجاهات التي مثلت الحركة العفوية تلك كان تأسيس رابطة أسطى قامت به جماعة من الفنانين التشكيليين الأوزبك الشباب، للتعبير عن ذاتها وتطلعاتها نحو إحياء الأصالة القومية للفنون الجميلة والتطبيقية التقليدية الأوزبكية المتوارثة عبر الأجيال، ولم يخف اتحاد الفنانين التشكيليين الأوزبكي وهو الخاضع للسلطة آنذاك دعمه لتلك الحركة، لأنه كان بدوره أيضاً يسعى للمحافظة على الفنون التشكيلية والتطبيقية القومية المميزة للشعب الأوزبكي وإحياءها وتطويرها.



ورافق تأسيس تلك الرابطة قيام الفنان التشكيلي الأوزبكي الكبير المرحوم تشنغيز أحماروف بتأسيس ورشة تجريبية جمع فيها من حوله مجموعة من الفنانين الشباب المتحمسين لإحياء فنون المنمنمات والرسوم والنقوش الجدارية القومية الأوزبكية. خاصة وأن أحماروف كان قد حرص ومنذ عام 1964 على تصميم ديكورات مستمدة من فنون منمنمات القرون الوسطى نفذها في ردهات وصالات مسرح علي شير نوائي الأكاديمي للباليه في طشقند، ومسرح حمزة الدرامي في طشقند (أوزبكستان)، ومسرح موسى جليلي الأكاديمي للباليه في قازان (جمهورية تتارستان في الفيدرالية الروسية اليوم)، وتصميم ملابس الممثلين في الأعمال المسرحية، والأفلام السينمائية التاريخية العديدة.[1] وتكللت جهود تلك الورشة بتزيين جدران بعض محطات "مترو" العاصمة طشقند، ومتحف ميرزة ألوغ بيك، ومعهد أبو ريحان البيروني للإستشراق، ومتحف علي شير نوائي للآداب في طشقند، والعديد من المباني العامة في جمهورية أوزبكستان وخارجها بأعمال فنية تراثية بديعة، إضافة للمنمنمات البديعة التي زينت صفحات العديد من الكتب التي صدرت في تلك الحقبة من تاريخ الفنون الجميلة الأوزبكية. والأعمال التي نفذها مع تلامذته بتقنية "طاش قاغاز"[2] والموجودة اليوم بين مقتنيات العديد من المتاحف والمجموعات الشخصية في أنحاء مختلفة من العالم.
والفضل الأول لظهور حركة بعث فنون المنمنمات التقليدية في جمهورية أوزبكستان يرجع للنماذج النادرة المنفذة على صفحات الكتب التي تحدثنا عن الفترة الذهبية من تاريخ العالم الإسلامي والمحفوظة ضمن كنوز المخطوطات الإسلامية النفيسة التي حرص وحافظ عليها أبناء المنطقة في العديد من مكتبات المخطوطات في جمهوريات وسط آسيا
[3] وبقيت شاهداً حياً على آثار الفنون الإسلامية حتى اليوم. وتعتبر النماذج المحفوظة في مكتبة المخطوطات بمعهد أبو ريحان البيروني للاستشراق التابع لأكاديمية العلوم في جمهورية أوزبكستان، ومكتبة الإدارة الدينية للمسلمين في أوزبكستان،[4] وبعض المتاحف في المنطقة من النماذج الفريدة بين المجموعات الموجودة في مختلف دول العالم، لأنه وكما هو معروف أن المنمنمات الإسلامية الجميلة كانت من بين الفنون المميزة التي زينت صفحات وأغلفة الكتب المخطوطة خلال عصر ازدهار الفنون الجميلة الإسلامية في ما وراء النهر.


ورافق فترة الصحوة القومية في أوزبكستان تفاوت كبير في آراء النقاد حول تاريخ فنون المنمنمات الإسلامية المتميزة بجمالها، وساد بينهم اعتقاد بـ "أن فنون المنمنمات الإسلامية خلال القرون الوسطى كانت محصورة في تزيين صفحات الكتب، وفي بعض النقوش والزخارف الأخرى المنفذة بتقنية خاصة"، وظل هذا الاعتقاد حتى أثبت الفنان التشكيلي الكبير الراحل تشنغيز أحماروف وتلامذته الشباب وبشكل قاطع "أن هذا الفن العريق كان موجوداً وبقوة في المنطقة"، وأن ما حدث في الماضي جرى تحت تأثير الأحداث التي عصفت بالمنطقة خلال تلك الحقبة التاريخية، وتمثلت بالحروب الداخلية المدمرة وما رافقها من إراقة للدماء، ودمار شديد في العمران، ونزوح للسكان أدى لخلو مناطق شاسعة من ما وراء النهر تقريباً من السكان. وخاصة خلال الفترة التاريخية التي رافقت انهيار حكم الأسرة التيمورية فيما وراء النهر خلال القرن السادس عشر، واستمرت حتى بدايات الاحتلال الروسي لتركستان في أواسط القرن التاسع عشر. وهو الاحتلال الذي بقي جاثماً في المنطقة حتى مطلع تسعينات القرن العشرين وتعرض خلالها التراث الثقافي لأبناء المنطقة إلى نهب وتدمير مخطط. وأدى بالنتيجة إلى ضياع نماذج أعمال فريدة لأساتذة فنون المنمنمات التي صورت أشياء جامدة وكائنات حية خلال تلك الفترة الهامة من تاريخ المنطقة في القرون الوسطى.
ولكننا ومن خلال بعض اللقيات الأثرية المحفوظة في متحف الفنون الجميلة الحكومي بجمهورية أوزبكستان. نستطيع التعرف اليوم على نماذج رائعة من تلك الفنون العريقة، وأن نتعرف أيضا على نماذج أخرى، من خلال النقوش التي تزين أغلفة الكتب المخطوطة من القرون الوسطى، بتقنية الورق المقوى والمعروفة باسم "جلدي روغاني"، والموجودة اليوم ضمن مجموعة مخطوطات معهد أبو ريحان البيروني للاستشراق التابع للمجمع العلمي الأوزبكستاني.
وكلها تثبت ودون أي جدل، بأن هذا اللون من ألوان الفنون الجميلة، كان شائعاً ومزدهراً هناك في وقت من الأوقات. وتمثله النقوش النباتية والهندسية التي وشت فراغات أدوات الاستعمال اليومي المصنوعة من عجينة الورق المقوى والسيراميك. وهي الحقيقة التي أشارت إليها الناقدة الفنية دولينسكايا ف.، في مقالة كتبتها عن فنون المنمنمات بآسيا المركزية، ونشرتها في مطلع النصف الثاني من القرن العشرين على صفحات مجلة زفيزدا فاستوكا (نجمة الشرق) التي تصدر في طشقند حتى اليوم، وأشارت فيها إلى أنه: "إضافة للأغلفة الجلدية، صنعت أغلفة رائعة من عجينة الورق، الموشاة بالرسوم".
[5]
وحقيقة هامة أخرى أشار إليها المؤرخ والباحث الأوزبكي إسماعيلوف إ. م.، عندما خرج باستنتاج قال فيه: "أن ما يميز الأغلفة المطلية الكشميرية، والإيرانية، عن غيرها من الأغلفة التي صنعت في بلدان المنطقة، احتواءها على رسوم طبيعية، وصور لكائنات حية. بينما تميزت أغلفة المخطوطات المصنوعة في ما وراء النهر باحتواء سطوحها على رسوم نباتية ونقوش ملونة، غطت كل مساحة الغلاف".
[6]
ومن الناحية العملية نرى أن تجهيز الأعمال الفنية بتقنيات فنون المنمنمات كان معروف من خلال بعض المصادر التاريخية القديمة عن الحقبة التاريخية الممتدة من القرن 13 وحتى القرن 15 الميلاديين، ومن خلال الوصوف التقنية الكثيرة التي تشير إلى تلك الحقيقة التاريخية.
[7]
ولكن المجددين المعاصرين واجهوا صعوبات في عملية تجهيز واستخدام الألوان، وتحديد العناصر الضرورية الداخلة في مواد تنفيذ النقوش المذهبة، وكانت تلك العناصر كلها مجهولة بالنسبة لهم في العديد من جوانبها. ومع ذلك بدأت المحاولات الأولى مع نهاية سبعينات القرن العشرين في طشقند، وفي آن معاً في كل من ورشات أسطى حيث جرت محاولات لإعداد وإنتاج مصنوعات فنية منمنمة مطلية، وفي منشآت وزارة الصناعات المحلية، والصناعات الخفيفة، وفي مصنع الهدايا القومية "سوفينير"، وفي ورشات النقوش المنمنمة، لإنتاج نسخ كثيرة من الأعمال الفنية التي استمدت مواضيعها من قصائد شعراء القرون الوسطى العظام في العالم الإسلامي.
وجرى تنفيذ تلك النقوش بالألوان المائية على سطوح خشبية، طليت بعد ذلك بالورنيش. وكانت عبارة عن هدايا تذكارية، صنعت دون التقيد بتقاليد فنون المنمنمات الإسلامية في ما وراء النهر، وبمستويات فنية منخفضة. وتأثرت بعض تلك الأعمال التي نفذت في ورشات أسطى ببعض مبادئ مدرسة باليخ الروسية للرسم، وظهرت جلية في أعمال الزوجين أ. و ف. فينوغرادوف، اللذان لم يتمكنا في أعمالهما من الوصول إلى العمق الفلسفي والروحي للشعر الإسلامي الذي كانا يجهلان عمق معانيه وتعبيراته الروحية، ولم يتمكنا من تصويره، ولا من تصوير الطبيعة الإسلامية الخاصة لتلك الحقبة التاريخية، ولم يتمكنا من إخراج التكوين الفني المتبع في أساليب الرسامين القدامى في المنطقة، والسبب أنهما لم يحاولا فهم واستيعاب الجوانب الأساسية للثقافة الفنية الإسلامية. ولم تتعدى تلك الأعمال إطار كونها صوراً مشوهة جمعت خصائص مدارس فنون المنمنمات الإسلامية والمنمنمات الروسية، كمدارس فيدوسكينو، وباليخ، وخولويا، المتوارثة عن تقاليد فن الأيقونة والفن الشعبي الروسي القديم.
ولكننا نستطيع أن نعتبر محاولات رئيس ورشة النقاشين في رابطة أسطى آنذاك، فنان الشعب الأوزبكستاني جليل حكيموف، الذي نفذ بعض النقوش غير الكبيرة بألوان جافة على أساس من صفار البيض وعروق الذهب، ومن التجارب الناجحة التي تكررت مرة أخرى باستخدام الألوان الزيتية. وهو ما يشبه إلى حد كبير تقنية المنمنمات الإسلامية المطلية، وتقنية الرسوم الملونة، الموجودة في جوهر وسائل التعبير الفني، التي استخدمها فنانو هذا التقليد الفني الرفيع. وجاءت مطابقة تقريباً وفي الكثير من النواحي لأعمال رسامي القرون الوسطى المسلمين. وهو ما نقتنع به من خلال دراسة أساليب وخصائص الأعمال المميزة الموجودة اليوم في متحف علي شير نوائي للآداب التابع للمجمع العلمي الأوزبكستاني، الذي حرص مؤسسه الراحل حميد سليمانوف على جمع كل نماذج وأشكال منمنمات الكتب القديمة في العالم الإسلامي.
ونتيجة للسياسة الحكومية التي اتبعت خلال العهد السوفييتي والقاضية بإيفاد الفنانين الأوزبك الشباب إلى روسيا، ودعوة الفنانين الروس إلى أوزبكستان، وهو ما حدث أكثر من مرة، للتعرف على وتطوير تقنيات المنمنمات في فيدوسكينو، وباليخ، وغيرها من مراكز الفنون الروسية، وبدأت في عام 1937 بإقامة علاقات مهنية شكلاً، ولسرقة وطمس معالم الهوية الثقافية الإسلامية والقومية في المنطقة جوهرياً. وبدأت تلك المحاولات عندما دعي الفنان التشكيلي الباليخي تشيبورين ي.، في نهاية ثلاثينات القرن العشرين من قبل متحف الفنون الجميلة الحكومي الأوزبكستاني، لتدريس الفنانين الشباب الأوزبك تقنيات وأسرار الرسوم المطلية الروسية. وكانت من أولى نتائج تلك الصلات، ظهور أعمال الفنان التشكيلي الأوزبكي عليموف ك.، التي شارك بها في المعرض الاتحادي للفنانين الهواة الذي أقيم بموسكو عام 1939. وشملت تكوينات: "الراقصة"، و"امرأة وطفل"، و"في المقهى"، نفذها كلها على شرائح خاصة صنعها من عجينة الورق المقوى "بابيه ماشيه".
ومع بدايات العقد الثامن من القرن العشرين أخذ المتخصصون الشباب الأوزبك، بالخروج عن تقاليد الثقافة الفنية الروسية القديمة التي سبق واستوعبوها، منتقلين من فن الأيقونة الباليخية الروسية، إلى تقنيات الرسوم المنمنمة القومية، وأساليب الكتابة وتجهيز الألوان الممزوجة بصفار البيض، وإذابة عروق الذهب ووضعها على سطوح اللوحات بتقنيات حديثة خاصة بفن رسم المنمنمات في وسط آسيا.
وظهرت الصعوبة الأخرى أمام الورشة التجريبية العلمية الإنتاجية في اختيار نماذج مقبولة من وجهة النظر الصناعية لعالم اليوم، وفي اختيار الألوان المناسبة، والابتعاد عن الخلفية السوداء التقليدية للتكوينات المختلفة. وإضافة نماذج جديدة من التكوينات الخالية من الخلفية السوداء التقليدية، والتخلي عن الحجم في المنظر العام، ووجهوا جل إهتماهم للمساحة والموضوع في اللوحة، مضيفين طرقاً جديدة لإعداد الألوان، بالأخضر الفاتح أو الخلفية البيضاء، مضيفين إليها مختلف الألوان النباتية، المخلوطة بصفار البيض وصمغ أشجار المشمش. إضافة لاستيعابهم تقنيات صنع النماذج القومية من عجينة الورق المقوى. واستمر البحث للعثور على أسلوب خاص بهم متميز يعتمد على النماذج الكلاسيكية القديمة، من خلال المواضيع التي تمس مشاعر وأحاسيس إنسان اليوم.



وظهرت الأعمال الأولى للرواد المتحمسين لفنون المنمنمات المطلية في أوزبكستان، ومن بينهم كان: نياز علي خال ماتوف، وشاه محمود محمد جانوف، وعبد الواسط قمباروف، ومنيرة ساطي بلدييفا، وغيرت كمالوف، وعبد الغني ألداشوف، الذين عملوا تحت إشراف فنان الشعب الأوزبكستاني الراحل تشينغيز أحماروف. وخلال فترة قصيرة تمكن فناني المنمنمات الأوزبكستانية في رابطة أسطى من امتلاك الشكل المتميز والواضح لهذا الفن العريق، وأنجزوا خلال تلك الحقبة أعمالاً فنية كثيرة ورائعة.
وخلال مرحلة الأعمال التأسيسية في رابطة أسطى تم توفير الإمكانيات اللازمة لاكتشاف وتجميع كل القوى الفنية المبدعة في الجمهورية، التي يهمها الحفاظ على التراث الثقافي الأوزبكي. الأمر الذي ساعد على جذب اهتمام الأوساط الفنية، وخاصة أولئك الذين تشبعت أعمالهم بروح التقاليد الفنية القومية العريقة والتراث الروحي الذي تركه لهم أساتذة فنون المنمنمات الإسلامية خلال عصر الازدهار بما وراء النهر.
ومن الأعمال المتميزة لتلك الطليعة التي أخذت على عاتقها مهمة بعث وتطوير فن المنمنمات التراثي، وإبداع نماذجه الحديثه في أوزبكستان، نستطيع ذكر أعمال الفنان التشكيلي شاه محمود محمد جانوف. الذي بدأت قصته مع فنون المنمنمات وهو فتى يكاد يبلغ من العمر 13 ربيعاً، متأثراً بما رآه في متحف علي شير نوائي للآداب في طشقند. وتحت هذا التأثير بدأ التلميذ الفتي باختبار إمكانياته في رسم المنمنمات من خلال المواضيع التي اختارها لنفسه من الأدب الأوزبكي القديم. وكان أول ما وقع اختياره عليه "ديواني لغاتي الترك" لمحمود قشقاري (القرن الـ 11 الميلادي)، وتضمن نصوصاً لحكايات قديمة، وأغاني، وقصائد ملحمية. ومع مرور الزمن قرر الفنان الشاب الاستمرار في الرسم، وأبدعت ريشته سلسلة من رسوم المنمنمات، طالت أعمالاً أدبية متنوعة حتى نهايات القرن الـ 20، مستخدماً مواضيع مستمدة من مؤلفات: يوسف حاجب، وأحمد يسوي. ورابغوزي، ودوربيك، وفرقت وغيرهم. بميل واضح للمواضيع المستمدة من أشعار رجل الدولة والأديب الكبير في القرون الوسطى علي شير نوائي. وقد يكون وراء ذلك الباعث الاحتفالات الكبيرة التي جرت في عام 1968 بمناسبة مرور 525 على ميلاد علي شير نوائي. تلك المناسبة التي استعد لها شاه محمود بـ 50 مشروع لوحة بالألوان المائية، كانت كلها قريبة من أسلوب المنمنمات. وأدى إعجاب البروفيسور حميد سليمانوف آنذاك بها، إلى إطلاقه على الفنان الشاب لقب "به زاد" القرن الـ 20 لتقوية تلك الانطلاقة عنده. وسرعان ما دعي الفنان الشاب شاه محمود محمد جانوف للعمل في المتحف، لتتوفر له بذلك الظروف المناسبة لمتابعة تجاربه المبدعة، وفي نفس الوقت متابعة التحصيل العلمي في معهد ب. بينكوفا المتوسط الفني بطشقند.
وفي عام 1981 دعي محمد جانوف للمشاركة في أعمال الورشة العلمية التجريبية للمنمنمات المطلية التي جرى تأسيسها في رابطة أسطى، وهناك أنتج تحت إشراف تشنغيز أحماروف أول عمل تجريبي ناجح بتقنية التصوير المطلي بالورنيش. مستفيداً مما تكون لديه من خبرة اكتسبها عن طريق الإطلاع على النماذج القديمة لمنمنمات وزخارف الكتب، ومختلف مدارسها الفنية، والطرق القديمة لتحضير الألوان، وامتلاكه لبعض خفايا تقنيات وطرق عمل أساتذة هذا الفن العريق، والخبرة التي تكونت لديه خلال عمله في متحف علي شير نوائي، وخبرات المدرسة الأكاديمية لفن التصوير التشكيلي التي درسها في المعهد المتوسط الفني بطشقند.
وتميزت أعمال شاه محمود محمد جانوف المنمنمة المطلية بخصوصية من البداية بألوانها اللامعة والقوية. واستخدامه أساساً لخمسة أو ستة ألوان منها: الأحمر، والذهبي، والأزرق، والأخضر، أحيتها في بعض الأحيان الحركة القوية لخطوط تلك الألوان الجميلة، لتعطيها في كل مرة شكلاً جديداً مبنياً من حيث اللون على أساس الظل. وبامتلاكه مهارة استخدام الألوان، والخطوط، والمواضيع، أصبح ودون أدنى شك وريثاً للمدرسة الكلاسيكية للمنمنمات الإسلامية وأحد مجدديها في أوزبكستان خلال ثمانينات القرن العشرين. وهي الصفة الخاصة الدقيقة التي تمتعت بها أعماله عام 1985 من خلال فكر فني مبني على أسس الرؤية الحديثة وتقنياتها.
ولم تتوقف تجارب شاه محمود محمد جانوف في هذه المرحلة عند هذا الحد، بل تعدتها إلى إنتاج رسوم للمخطوطات الفريدة المعدة للإصدار، ولأعمال الأدباء الكلاسيكيين القدامى في آسيا الوسطى، تحاكي بدقة تنفيذها الأصل القديم، وتتفوق عليه. ومن أجل ذلك استخدم نوعاً خاصاً من الورق، صنعه معتمداً على التقنيات القديمة التي أحسن اكتشاف أسرارها، ونفذ عليها رسوماً لصفحات الكتب، عكست أوج تفاصيل الموضوع الذي كتب في النص على الصفحات الجديدة للكتاب المخطوط، وبعد التغليف صنع له غلافاً آخر أكثر امتيازاً. وبهذه التقنية تم إنتاج كتب عام 1983 أخذت عن المخطوطات القديمة لمؤلفات علماء القرون الوسطى كان من بين تلك الكتب كان كتاب محمود قشقاري "ديواني لغات الترك"، ومجموعة الأساطير القديمة "كليلة ودمنة"
[8] وتم حينها بيع تلك الكتب لإحدى الشركات في الولايات المتحدة الأمريكية بالكامل عام 1985.
وتمكن الفنان ولأول مرة من مراعاة النواحي الأثنوغرافية بدقة، عندما صمم الملامح الفردية للشخصية التاريخية محمود قشقاري من كل النواحي. التي رسمها عامودياً على الصفحة الأولى للكتاب بتقنية "سيوح قلمي" المميزة للمنمنمات التراثية. ولم يغفل شاه محمود محمد جانوف النواحي السيكولوجية الخاصة للشخصية، فالوجه تميز بالحكمة، مع مسحة ساخرة تعكس الطيبة، والثقة بالنفس، وعبر عن شخصيته القوية باللحية الملساء، والوضعية الحرة والهادئة، التي عكست الرجولة المميزة للشخصية. مفصحاً عن نفسه من خلال هذه اللوحة كفنان تشكيلي ورسام ماهر، يتمتع بحساسية شفافة، ومعرفة عميقة بتاريخ، وأدب، والتركيبة السكانية لذلك العصر الذي عاش خلاله محمود قشقاري. واستخدم شاه محمود محمد جانوف في كل تكوين منمنم، من تكوينات الكتب المخطوطة خطوطاً صعبة، أظهرت حركة الشخصية الرئيسية في اللوحة، وعبرت عن انهماكه في العمل. وهو ما نراه على وجه الخصوص في الحركة المعبرة بلوحة الراقصة، التي عكست الإحساس المرهف للفنان وفهمه العميق لتقاليد المنمنمات الكلاسيكية.
وهنا لابد أن نشير إلى ناحية هامة تنبه لها الفنان عند تصوير الإنسان، وهي محاولته الناجحة في عكس الظروف السيكولوجية للشخصيات من خلال الوضعية، والمنظر الجانبي. فنراه يعرض بدقة الأحاسيس والمشاعر في حركة عضلات الوجه، وحركة اليدين والإيماءات المختلفة، وحركة الملابس، وتطريزها، واختيار ألوانها وغيرها من التفاصيل الدقيقة. بالإضافة لتقيده بالتعابير الإيمائية القديمة المثيرة للدهشة، من مواقف التفكير العميق (الإصبع عند الفم)، وهيجان الأحاسيس الرقيقة (فقدان الوعي)، والنشوة (في الرقص)، والمصيبة والتعبير عن الألم (رفع الأيدي إلى أعلى، تمزيق الملابس، الرأس المكشوفة). ولم يقتصر الفنان على الحركات الإيمائية، التي سادت في منمنمات الماضي وحسب، ولم يركز اهتمامه على التفاصيل الثانوية، بل استخدم كل الوسائل التي تعبر عن وحدة التكوين بالكامل. فالأهم بالنسبة له، على ما نعتقد، كان التعبير عن كل تفاصيل الموضوع في كل تكوين بدءاً من الأهم من أجل تكامل الموضوع مع العالم الداخلي للإنسان، وطبيعته وسلوكه. لأن كل أبطال شاه محمود محمد جانوف كانوا من الناس الذين عاشوا بالفعل مع أفراحهم وأتراحهم، وخلجاتهم واضطراباتهم ومشاغلهم الذاتية.
وتطلب إعداد الكتب المخطوطة للنشر توظيف كل الأحاسيس والغنى الفكري والفني والجمالي والإبداعي الذي تمتع به شاه محمود محمد جانوف، واحتاج لتوظيف قدراته الفردية الإبداعية ابتكار التعبير المميز لكل المعاني ضمن الإطار الموضوعي المحدد لرسوم المنمنمات. ونجح شاه محمود محمد جانوف بذلك من خلال حرصه الشديد على التقيد بتقاليد هذا الفن القومي الأصيل، البعيدة كل البعد عن ضيق الأفق، فالشخصيات من حيث الحجم متشابهة في التكوين بكامله، بغض النظر عن موضعها في اللوحة. إضافة لتقيده بتقاليد المنمنمات في استخدام النماذج والنقوش الكلاسيكية، وخاصة عند اختياره لأشكال الشخصيات الثانوية غير المحددة كما هو شائع في المنمنمات التركية المدورة الأشكال، كالوجوه المنتفخة، والعيون قليلة الارتفاع، والفم الصغير القريب من الأنف، والذقن العريضة. ولتجنب تكرار الأشكال المكتشفة حرص الفنان على جمع كمية كبيرة من المواد الاثنوغرافية، وحرص على دراسة مختلف مدارس المنمنمات السلجوقية للقرن الحادي عشر الميلادي، واعتمد على دراساته لأعمال أساتذة الرسم في القرون الوسطى. وبعد أن اكتشف خصائص وأساليب تلك المدارس القديمة، اختار الفنان الشكل الاثنوغرافي المناسب لأعماله المعبرة عن تلك المرحلة. وظهر ذلك في الملابس، التي تذكر بشخصيات النقوش الجدارية الباقية في آثار المدن القديمة البائدة في أوزبكستان كأفراسياب، وبينجي قند، وفي التكوينات الضخمة التي نفذت فيما بعد بهذا الأسلوب الفني الرائع.
ومن المميزات الملفتة للنظر في أعمال الرواد في تلك المرحلة، اهتمامهم بتصوير المضمون الفكري للكتاب المخطوط، بواسطة الرسوم المعبرة في التكوين، مع انسياب رائع للرسوم، وتميز الألوان، للوصول من خلال هذا الأسلوب المتميز والدقيق إلى مستوى إعطاء مسحة خفيفة لأفكار مؤلف المخطوطة، على عكس أسلوب الرسامين القدامى الذين كان هدفهم الأساسي تزيين صفحات الكتاب المخطوط وحسب، دون التعرض للمضمون الفكري الذي تحتويه صفحاته. وظهر هذا بوضوح في أعمال شاه محمود محمد جانوف التي طوع فيها كل المساحة الخالية من صفحات الكتاب المخطوط. بطريقة اتبع فيها أسلوب المزج الواسع بين عناصر التكوين أكثر من تحديده لطبيعة اللوحة ذاتها. ليترك للمشاهد حرية المشاركة في عملية فك رموز التكوين، وفهم مضمونه المعبر عن فكرة اللوحة، جامعاً في نفس الوقت بين المتعة الفنية، وسعة الخيال الثقافي والمعرفي، الذين من دونهم لا يمكن "حل الرموز" المعبر عنها في طبيعة الرسوم المنفذة في التكوين، ولو أننا نرى أن الفنان في بعض الأحيان قد لجأ لخصوصية الإيحاء المعبر عنه في الأشكال والديكورات، وفي تفاصيل الرموز المستمدة من الفن الشعبي في كل تكوين من تكوينات لوحاته.
وهنا يمكنني أن أتفق مع وجهة نظر فيمارن ب. ف. والتي ذكرها في كتابه "فن الدول العربية وإيران في القرون 12 -17"، في التأكيد بأن هذا الأسلوب بالذات يعتبر خلاصة لكل مشاكل صعوبة فهم الثقافة الفنية المتميزة للعالم الإسلامي عن غيرها من مدارس الفنون العالمية، والمعبرة عن وحدة في المفاهيم والأفكار الزخرفية والتصويرية، التي جمعت بين استخدام التقاليد التجميلية المحلية العريقة والأساليب التقنية المبتكرة الجديدة.
[9]
ومن ناحية أخرى نرى أن شاه محمود محمد جانوف قد استطاع أن يعبر في أعماله عن المعنى التاريخي الحقيقي للموضوع الذي يعالجه. رغم أنه لم يركز على تفاصيل التأثيرات الخارجية على تطور الحدث، بنزعة نحو الارتقاء أكثر نحو العناصر الفلسفية العميقة والروحية للمضمون الفكري في الكتاب المخطوط، من خلال لغة المنمنمات في الفن التشكيلي المعاصر، بطريقته الخاصة المعبرة عن أسلوبه الفني الخاص. ففي أعماله التي عالج فيها مواضيع مستمدة من الشعر الإسلامي، سواء أكانت بأسلوب فن الغرافيك أو الأرابسك أو بتقنية الرسوم المنمنمة، نرى أنه ركز على عنصر اللون الذي استطاع من خلاله عكس الفكرة الرئيسية للتكوين، وتكوين مشاعر خاصة ضمن اللوحة. وهو ما نلمسه بشكل واضح من خلال تأمل تكويناته الرائعة في لوحات "معركة اسفانديار مع التنين" و"التحام اسفانديار مع المقاتلين" (1982-1983) التي صور فيها المشاهد الرئيسية لملحمة "شاه نامة" للفردوسي.
في نفس الوقت نلاحظ من خلال الحلول التي استعمل فيها شاه محمود محمد جانوف اللون للتعبير في منمنماته، أنه استخدم مختلف الأساليب التي تعتمد على لغة الغرافيك، ووزع فيها بمهارة كبيرة وبشكل متوازن من حيث القيمة الفنية بين اللون والمساحة. وهو ما نلمسه في لوحته "سدي إسكندري" المستمدة من قصيدة علي شير نوائي التي تحمل نفس الاسم. حيث استطاع من خلال استخدام الأساليب الفنية لفن الغرافيك زيادة عمق التعبير عن الأحاسيس، وتحديد الفرصة المناسبة لزيادة التأثير السريع، مما ساعده على الولوج في المحيط الحقيقي للموضوع داخل التكوين العام للوحة. واستخدم كل الإمكانيات المتاحة في التفاصيل الأساسية للتكوين، دون إغفال التقاليد التي سارت عليها المنمنمات الإسلامية في القرون الوسطى، ومراعاة مبادئ لغة التعبير الفنية الحديثة، مشكلاً بذلك أسلوبه الفني المتميز الخاص به. ولكننا مع ذلك نلاحظ في بعض أعمال هذا الفنان غياب طيف الظل، وعدم مراعاته للتقيد بالتناسب الحجمي في التركيب بشكل عام في بعض الحالات. فنراه يبني التكوين من خلال بقع لونية استخدم فيها مجموعة محدودة من الألوان انطلاقاً من العلاقة المشتركة والأساس المشترك بينها. بحيث يستحوذ أي لون منها على مجموعة الألوان المستخدمة. وينفرد شاه محمود محمد جانوف بتركيزه على تركيبة ألوان متساوية عند تبادل الخطوط الدافئة والباردة في اللوحة، وبدقة متناهية نراها تقتصر على اللون الأزرق الغامق أو على المحيط الأبيض، الذي يمكن أن يكون تحت تأثير أسلوب أستاذه الكبير الراحل تشنغيز أحماروف. ويذهب شاه محمود محمد جانوف في استخدام الألوان بعيداً من خلال الاستعانة بالإمكانيات الفنية الغنية لخطوط الغرافيك من أجل إعطاء أعماله قوة كبيرة وتأثير أكبر. وهو ما نستطيع أن نراه بوضوح في لوحته "رستام والأسد" (1982) المستمدة من قصيدة الفردوسي "شاه نامة"، فالألوان هنا ساعدته على رفع مستوى طبيعة الأحاسيس المصورة في اللوحة، حيث تشير الخطوط لمحيط مستمد من فن الغرافيك، نفذه بسهولة ونعومة، زادت من تعبير الألوان المستخدمة في اللوحة. وكلها تعبر عن أسلوب تميز به في أعماله التي عكست إمكانيات تصويرية كبيرة.
ولا يجوز هنا أن لا نشير إلى أنه كان دائماً يستخدم في تكويناته أفكاراً ومخططات مستمدة من المنمنمات الإسلامية في تركيا وإيران وباكستان والهند. وعلى سبيل المثال: نرى في لوحاته التي تصور الطبيعية، محيط حاد الشكل من الرسوم المحيطة الموشاة بالعقد النباتية أو الأزهار، استخدم فيها ببراعة الألوان الذهبية الرقيقة لتصوير السماء، والغيوم، وعبر عن المحيط بخصل مجعدة من الألوان. ولو أن هذا المنظر الطبيعي بحد ذاته سهل، ولكنه يصادف أشكالاً مجردة متشابكة مع الفراغ، ولا تمثل أجسام معينة، ولكنها على خلفية محايدة تماماً. وهو ما يمكن اكتشافه في لوحة "قايومارس مع ابنه خوشانغ" (1982) المستمدة من قصيدة الفردوسي "شاه نامة". وبشكل عام نرى في كل تكويناته ندرة تصوير المباني من الخارج أو من الداخل، مستبدلاً إياها بخلفية تصور القمر والطبيعة. وهذه الطبيعة الخاصة في أسلوبه نراها تتكرر في لوحاته "أوف" الصيد (1983)، و"بازيم" الاحتفال (1983)، حيث صب الفنان جل اهتمامه نحو الطبيعة، والتعابير المميزة لشخصيات اللوحة. وفي الأعمال الأخرى أخذت الرسومات الطابع التزييني فيها، وحاول الفنان من خلالها استخدام الألوان على سطح اللوحة بطبقات متساوية يختفي فيها ظلال الألوان، وتغيب عنها التفاصيل، وتركز على الأسلوب المميز للفنان بمهارة استخدم الألوان الخاصة به، والمخلوطة بصفار البيض بكثافات مختلفة، بحيث تحتوي الطبقة الأكثر انسياباً على الألوان المائية الشفافة، وبينما تذكرنا الطبقة الكثيفة بالطلاء. فطريقة شاه محمود محمد جانوف في المزج بين الطبقات الشفافة والطبقات الكثيفة أوصلته إلى تعبيره اللوني الخاص. ففي تكويناته لا نصادف تفاصيل تزيينية زائدة، قد تصرف الانتباه عن الشخصيات الرئيسية في اللوحة، وبالتالي يمكن أن تفرغ التعبير من مضمونه. لهذا نرى أن الفنان دائماً حرص على اكتشاف مضمون الموضوع الأكثر عادية وبريقاً. وهذا على ما نعتقد سر الأعمال التصويرية في لوحاته التي تظهر من خلال تكوينات سميكة وكثيفة تستعير من الرمزية الأشكال التي نستشف منها مدى مواهب الفنان وإمكانياته الفذة في الربط العضوي بين الأشكال الخيالية والأشكال الواقعية الحقيقة، التي تضفي على منمنماته طابعاً خاصاً، ولحناً خاصاً تتميز به. وعلى سبيل المثال نورد الرسوم المنفذة بأسلوب المنمنمات لصفحات قصائد "شاه نامة" للفردوسي، و"طاهر وزهرة" لعلي شير نوائي، التي نفذها الفنان عام (1983)، فنرى أنها تتميز من حيث الأسلوب الفني الخاص في طريقة رسم الأجزاء الجانبية للتكوينات، وفي الحواشي والأطواق لصفحات الكتب المخطوطة، التي زينت بتقنية "زرفشان" (بقع ذهبية متناثرة)، فالنقوش تتكرر لتتابع موضوع القسم الرئيسي من اللوحة. وهذا الأسلوب وكما هو واضح جاء من الأعمال التي تطورت في أعمال رسامي المنمنمات القديمة لمدارس المنمنمات في حواضر العالم الإسلامي تبريز، وهيرات، وسمرقند، وخاصة مظفر علي، ومحمود مذهب، وغيرهم من فناني العالم الإسلامي. وهذا الأسلوب بحد ذاته يظهر وكأنه يعكس جوهر الموضوع. وتمكن شاه محمود محمد جانوف مرة أخرى من اكتشافها وإعادتها للحياة عن طريق اكتشافه للتقنيات القديمة لأسلوب "زرفشان"، واستخدامه في بعض الأحيان من خلال النقوش والحواشي، المستمدة من التفاصيل السحرية القديمة، المعبرة، بالرمز الأسطوري.
وهذه المبادئ استعارها فنانون آخرون في رسومهم المنفذة بأسلوب المنمنمات. ولم تكن تقليداً أعمى للرسوم القديمة، لأن الاستعارة فيها انحصرت في المخططات التكوينية للوحة فقط. وهذا ما تؤكده أعمال شاه محمود محمد جانوف المتميزة بأسلوبه الخاص في رسم الأجسام الإنسانية والحيوانية، وجزئياً في رسم الخلفيات الطبيعية وفي بعض الحالات الخاصة. فهو دائماً يصور الخيول بلون أخضر غامق، ومقاطع الصخور بالألوان البنفسجية أو البنفسجية الفاتحة، والمرتفعات باللون الأزرق، والسماء بالألوان الذهبية. وبهذا تضفي الألوان على الرسوم بالتشابه وكأنها نسخاً أصلية للأعمال المنمنمة الإسلامية القديمة. وهذه الاستعارة في أعمال الفنان من بعض وسائل التعبير الفني للرسامين في وسط آسيا خلال الفترة الممتدة من القرن الـ 15 وحتى القرن الـ 18 الميلادي، والمتمثلة بالألوان الزرقاء القوية للسماء، وتصوير الغيوم مجعدة، على خلفية كثيفة، ومحدودة، بل وندرة تصويره للأجسام الحية في التكوين، والتركيز على النمط التركي في اللون الأسود. كلها ساعدته على الوصول إلى التعبير الفني، وأعطت منمنماته مسحة سحرية متميزة، وخاصة في تلك المواضيع التي صورت مواقف غرامية، نشاهدها في أعمال شاه محمود محمد جانوف "فرهاد وشيرين" (1983)، و"ليلى ومجنون في الصحراء" (1983)، والمستمدة من قصائد على شير نوائي، و"موت هرموز" (1984) المستمدة من "شاه نامة" للفردوسي. حيث اختار الفنان الوضع الملائم على مساحة اللوحة، كما في الرسوم الإيضاحية، التي رسمها عام 1983 وفق تقاليد المنمنمات الإسلامية في القرون الوسطى، كلوحته "معركة رستام مع التنين" التي رسمها عام (1984) والمستوحاة من قصائد "شاه نامة" للفردوسي. وصورت أشخاصاً يراقبون الأحداث من وراء التلال، ويلاحظ هنا اختلافهم عن التكوين العام للوحة من حيث الحجم عن سائر التفاصيل العامة المكونة للوحة. فاستخدام مثل هذه المساحة المتباينة في العمل ساعدته إلى حد كبير على تصوير الجو العام في اللوحة، والانطلاق من الجو العام للموضوع ذاته. وعن انتشار هذه الطريقة عند رسامي المنمنمات الإسلامية القدامى في وسط آسيا كتب مؤرخون ونقاد فنيون أذكر منهم: بوغاتشينكوفا إ.، وريمبل ل.، اللذان أشارا إلى أن ".. المنظر الجانبي للناس والحيوانات ظاهر بوضوح بالمقارنة مع أجزاء المناظر الطبيعية والمباني، والمنحدرات الصخرية، والأنهار، والقصور، والخيام صغيرة الحجم بالمقارنة مع الأجسام البشرية، وكأنها موضوعة بالقرب من الخط الثاني أو الخلفي للوحة. ولكن كل من دخل في روعة المنمنمات الشرقية، لا تثيره هذه المقاييس، بالمقارنة مع التلاحم العضوي في الجزء الرئيسي لأسلوب المنمنمات. وأن هذا الأسلوب يعبر عن أجزاء في النظام المحدد للأشكال المعالجة، والتي تتضمن مجموعة من الأساليب الفنية المحددة، وتعكس بالكامل نمط التفكير الفني عند شعوب الشرق الأوسط".
[10]
وأعمال شاه محمود محمد جانوف تعتبر مقدمة لظاهرة جديدة، شكلت اتجاهاً كاملاً في الفنون الجميلة بجمهورية أوزبكستان، وتتمتع بجذور عميقة، مبنية على رؤية حديثة، وحُرَفية فنية متجددة. وأعماله كلها نفذت بأسلوب فن منمنمات المخطوطات الإسلامية في القرون الوسطى، أو أسلوب التصوير المطلي، ومن خصائص هذا الأسلوب البساطة والفرادة، التي جمعت بين دقة الرسوم، والحركة المعبرة، وقوة الألوان وبناء التكوين بتعبير فكري وفلسفي.
ومن الفنانين الذين حرصوا على متابعة تقاليد الرسم المنمنم الذي سار عليه أساتذة الرسم القدماء، في الفن التشكيلي الحديث، الفنان التشكيلي الموهوب نياز علي خالماتوف. الذي تميزت تجربته في البحث عن أشكال فنية واضحة من خلال استخدامه المتوازن للألوان الدافئة والباردة. والألوان الصافية في الرسومات المنفذة بأسلوب فن المنمنمات عنده نشاهدها دائماً سميكة ومنصبة ومحاطة بالورنيش، بسيطة وصارمة. وفي نفس الوقت نرى أن تكويناته متواضعة بكتابات خالية من أي سواد. إضافة للتكوينات المعبرة، المبنية على الإيجاز في التصوير. ونرى أن نياز علي خالماتوف كان يفرط بتقيده بالموضوع، ويصب جل اهتمامه دائماً على طريقة عرض الموضوع. فنراه يكرر المنظر الطبيعي في رسومه وأعماله ويهتم بالدقائق الثانوية التي كثيراً ما يكررها، وتظهر معها عناصر التكوين التي تلعب دوراً معيناً في الإطار العام للوحة (الجبال، الأنهار، البحيرات، الأزهار.. الخ)، ومع ذلك تميزت لوحاته بأسلوب خاص عكس من خلاله ملامح الوجه، في سعي منه لتحديد صورة معينة للأبطال الذين يرسمهم، ولو أنه اختصر عدد الشخصيات المشاركة في التكوين العام. ونلاحظ تركيزه على الأجسام من حيث توزيعها على المساحة مع تفاوت شديد بين الأشكال وطبيعتها. وفيما يتعلق بالأسلوب الفني لنياز علي خالماتوف نراه يتميز بالدمج السريع بين الحركة الواسعة والكبيرة التي تضفي الشجاعة على ملامح أبطاله، وكلها تعكس من خلال الأوضاع المميزة التي اختارها لشخصياته، وبأسلوب مميز انفعالات أبطاله وأحاسيسهم، بالحزن، والسعادة، والأهوال، والبهجة، والخيبة كما نراها في لوحاته ("الاحتفال الشعبي"، و"إحراق الحجاب" وغيرها (عام 1982).
وتظهر محاولات خالماتوف لبعث أساليب وأشكال الرسوم المنمنمة في القرون الوسطى، وفي نفس الوقت نراه يركز على تحريك الأفكار لتعكسها لوحته من كل الجوانب الإبداعية. وهو ما نستطيع مشاهدته في أعماله الجدارية، التي أبدع فيها وبروح من المعاصرة من خلال إضافاته وأسلوبه الفني وابتكاراته الجديدة التي أخذت مكاناً لها في تقاليد فنون المنمنمات القومية المعاصرة، إضافة لنجاحه بتقديم حلول جريئة عرضها في تجاربه التقنية المختلفة. وهي التي مكنته منها على ما نعتقد أحاسيسه الفنية الرقيقة، وسعيه الدائم للمعرفة واكتشاف الجديد في أعماله الصعبة وغير المألوفة للناقد المحلي، والمميزة بالرموز الملونة، والأشكال المستعارة التي ساعدته دائماً على اكتشاف العمق الفلسفي للتكوين. وهو ما ساعده على تكوين الأسلوب الخاص المتميز لأعماله الفنية التي عكست بشكل خاص روح الفكاهة الشعبية، وأساليب حياة الناس، والعادات المحلية. ونستطيع أن نراها كلها في أعماله "عيد الحصاد"، و"به زاد"، و"عازف الدوتار"، و"عازف السورناي"، و"ضارب الدف"، و"نصر الدين أفندي"،
[11] وغيرها من اللوحات الجميلة التي رسمها خلال الأعوام مابين عام 1982 وعام 1985، وانعكست فيها الألوان بشكل معبر تحاكي الأجسام البشرية، وتعكس كلها الألوان الزاهية والطبيعة البشرية، المتميزة في الفنون التطبيقية القومية الأوزبكستانية.
ومن الفنانين التشكيليين غير الأوزبك الذين تناولوا فنون المنمنمات الشرقية في أوزبكستان فالنتين لوغوفسكي، الذي جاءت تجربته الفنية مغايرة تماماً لتجارب الفنانين الأوزبك. وحاول من خلالها عكس الموضوع العام من خلال تكوينات محددة تسعى لتصوير مواضيع حياتية وتاريخية معينة، فنراه يصور شخصيات لوحاته بملابس شرقية تصور ذلك العصر، ضمن محيط من العناصر والآثار التاريخية والمواضيع والمواقف التي تتماشى والمرحلة التاريخية التي يصورها في لوحته، وهو ما نراه في أعماله "فرهاد في اليونان" المستمدة من قصيدة علي شير نوائي "فرهاد وشيرين" (1983) و"حديث فرهاد والوزير" (1983). وفي كل التكوينات المميزة للوحاته نرى ضخامة الملامح المميزة لوجوه شخصياته المعبر عنها والتي توحي إلينا وكأنها مكبرة عن عمد بواسطة العدسة المكبرة. ومن النواحي المميزة للوحات فالنتين لوغوفسكي استخدامه للألوان الصافية البراقة غير الممزوجة، كاللون الزمردي، المتداخل بقوة مع اللون الأبيض واللون الأزرق، واهتمامه الكبير بتكويناته الدقيقة للخلفية المعمارية، وخطوطه الدقيقة المعبرة عن جمالية الزخارف التي تغطيها، وتمثل خطوطاً هندسية مربعة مكسوة بالفريسك الزاهي للوحاته الجدارية الداخلية. ومن التكوينات المميزة لأعماله: المباني المبنية من الآجر، والأحواض ونوافير المياه، وأشجار السرو الرشيقة، وأشجار الشينار المعمرة، والسرادق المفتوحة. وهو ما نستطيع ملاحظته بشكل كامل في أعماله "معركة فرهاد مع الأرخيمان" (1983)، التي حرص فيها فالنتين لوغوفسكي على إظهار مدى استيعابه للتقاليد الفنية لمدارس فنون المنمنمات في وسط آسيا خلال النصف الأول من القرن السادس عشر، واكتشافه للخصائص المميزة للتكوين المعبر في أسلوب منمنمات القرون الوسطى، التي سعى من خلالها لتصوير الأجسام البشرية وكأنها تضيع مع الطبيعة بخلفياتها وحركتها الانسيابية، وهو الأمر الذي يوحي إلينا وكأنه عن عمد كان يضخم شخصيات لوحاته، ليلفت الاهتمام نحو تكوين شكل الوجوه في لوحاته.
ولم تقتصر أعمال الفنانين التشكيليين الأوزبك في ثمانينات القرن العشرين على المواضيع التقليدية المستمدة من مؤلفات شعراء العالم الإسلامي الكلاسيكيين، بل راحت أبعد من ذلك، وأخذت منمنماتهم تصور مواضيع مستمدة من حياة شخصيات معاصرة. وهو ما نراه في أعمال الفنان التشكيلي أ. ألداشوف "طشقند في عام 2000"، وخالماتوف "العيد الشعبي" (1982)، و"فرغانة عروسة أوزبكستان" (1982)، وغيرهم من الفنانين التشكيليين، الذين يميلون في أعمالهم لتقنيات الفنون التشكيلية التقليدية. وهو ما نلاحظه أيضاً في أعمال الفنانين التشكيليين الأوزبكستانيين التي عرضت عام 1985 بمناسبة مرور 40 عاماً على انتصار العالم على الفاشية، وضمت من بينها أعمال الفنانين التشكيليين د. إيمينوفا، و ف. لوغوفسكي، المنفذة بأسلوب المنمنمات الكلاسيكية، وكان من بينها الثلاثية الجدارية "سنوات 1941-1945" (1985)، التي صورت خلفية الحياة في القرية الأوزبكستانية خلال تلك الحقبة من التاريخ. واستخدما في تنفيذها تقنيات فنون وأساليب المنمنمات الكلاسيكية، وجاءت الثلاثية كتعبير متكامل في التكوين الذي شمل الطبيعة والعناصر المحيطة بكل تفاصيل الموضوع الرئيسي للوحة، والخصائص المحلية للألوان، التي تراعي العلاقة بين الألوان أثناء تحميلها على المساحة لتحقق أكبر قدر من التواتر في التباين اللوني، بين الألوان المستخدمة من الأزرق، إلى الأخضر، إلى الأحمر إلى البني، إلى الأسود كما هو متبع في لوحات المنمنمات القديمة، والتي تشكل مجموعة الألوان أساساً لها، مضيفة إليها الشفافية الحرة التي تميز الأشكال وتقلل من تعقيد التفاصيل الانتقالية، وكل تلك الألوان كما نعتقد ساعدت على خلق انطباع معين عند المشاهد، وزادت من قدرة اللوحة على محاكاة الرسوم المنمنمة القديمة.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن من مميزات المنمنمات الحديثة الامتناع المتعمد عن التقيد بمبادئ زخرفة الفراغات واستبدالها بخلفية من البقع الملونة، مع إدخال بعض أساليب فن الغرافيك والأرابسك في تداخل الرسوم مع الخطوط المارة عبر المحيط العام للوحة لتمثل الشخصيات والمواضيع المعبر عنها في اللوحة. وببساطة يمكن القول أن ريشة الفنان تعطي لمسة سحرية للشخصيات من حيث الحجم والحركة، بعمل دقيق يعكس التفاصيل ويعبر عنه من خلال الألوان الجميلة، باستخدام الخطوط الذهبية بكثرة من أجل تصوير الخلفية، مع زخارف الملابس بما يشبه أعمال الرسامين القدامى. وهذا الأسلوب نراه واضحاً في لوحة أ. ألداشوف "طشقند في عام 2000"، التي استخدم فيها الزخارف للوصول إلى أبعد الحدود في التعبير.
ومن الفنانين التشكيليين الأوزبك الذين يعتبرون فن المنمنمات عنصراً رئيسياً في التراث الفني الشعبي الأوزبكي، عبد الواسط كمباروف الذي تعمد تصوير شخصياته ضمن تكوين معين ومواضيع مرتبطة بالأدب والشعر والتراث الشعبي في لوحاته، واستمد من أجل تصوير المشهد الدرامي في اللوحة مواضيع من الشعر الأوزبكي الكلاسيكي، ولكن بأسلوب جمالي خاص مشبع بالألوان الطبيعية المتميزة. وأكثر مواضيعه استمدها من الشخصيات الرئيسية في قصائد علي شير نوائي، مثل لوحته "فرهاد وشيرين"، التي رسمها عام 1983 وصور فيها شيرين كـ"ملكة للفرسان"، دون أن يفقدها ملامحها الأنثوية، وعبر في نفس الوقت عن الدهشة البادية على ملامح وجه فرهاد. وقد حاول كمباروف من خلال هذا التكوين إعطاء ملامح تعبيرية خاصة لكل شخصية من شخصيات اللوحة، فخص فرهاد بملابس جميلة، وشيرين وهي تمتطي جواداً مزيناً بمختلف الزخارف، وإلى جانبها خادمتين تحملان مظلات تظللها، وخلف فرهاد فتاتين جميلتين. ونعتقد أن كمباروف تعمد وضع شيرين وحصانها في مركز التكوين لتكون قريبة من المشاهد، ووضع فرهاد وهو يفتح الماء للشعب بعيدة بعض الشيء وفق الأسلوب الأوروبي في بناء تكوين اللوحة وخلق الأبعاد اللازمة للتكوين. مما يجعلنا نستنتج أنه تعمد الدمج ما بين مبادئ المنمنمات الشرقية التقليدية، وأسلوب الأيقونة، وهو من أجل ذلك تعمد تضخيم حجوم الشخصيات الرئيسية في اللوحة، في الوقت الذي عكس الدهشة والاضطراب على وجوه الشخصيات الثانوية وهم يراقبون العمل الخارق الذي قام به فرهاد ضمن إطار التكوين العام للوحة.
ومن الفنانين التشكيليين الذين تأثروا بأساليب فنون المنمنمات الإسلامية، وأساليب فن الغرافيك في تصويرهم لمواضيع شعرية تراثية تلامس تقاليد الفنون الشعبية القديمة بالتاباييف، وبوريخانوف، وزايتوف، وعسكر حجاييف. التي تعتبر أعمالهم أقرب منها إلى الغرافيك من المنمنمات، رغم أسلوبها الذي حاولوا من خلاله محاكاة أساليب فن المنمنمات التقليدي. ولهذا يمكننا أن نقول أن فناني هذه المجموعة وجهوا جل اهتمامهم نحو التعبير الانطباعي، وزيادة النقوش والزخارف مع التركيز على التفاصيل المعمارية وتفاصيل الملابس في التكوين العام للوحة. وانحصر دور الألوان في إطار بناء الحجوم والأشكال والتعبير عن الحدث العام وتفاعلاته ضمن إطار اللوحة. ويظهر هذا الأسلوب في لوحات بالتاباييف، وعسكر حجاييف، ونذيروف. بينما تختلف عنها في رسوم ساطي بالدييفا التي تعكس الأسلوب الواقعي في التصوير بمهارة بالغة تتناسق معها الأشكال التقليدية لفنون المنمنمات الكلاسيكية، من حيث الألوان الجميلة، والزخارف الجميلة، وحركة انتقال المتضادات، في الألوان المحلية من ناحية، وفي التصوير الواقعي للأشكال والمناظر الطبيعية من ناحية ثانية. إضافة للتعبير السلوكي من خلال سمات وجوه شخصيات اللوحة. وهي كلها من خصائص الأعمال الفنية الجيدة. كما هي الحال في لوحات "عيد الحصاد"، و"استراحة في الحديقة"، و"العاطفة"، و"الربيع" (1982-1983)، التي استمدتها كلها من مواضيع تراثية شعبية.
بينما نلاحظ أن أكثر الفنانين التشكيليين الشباب الأوزبكستانيين خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين صبوا اهتمامهم بشكل واضح على مواضيع معروفة مستمدة من مؤلفات الأدباء والشعراء الكلاسيكيين الأوزبك. وأنها وفي أكثر الحالات انطلقت في تكويناتها من الملامح المميزة لكل فنان تشكيلي، ومن أساليب جديدة للتعبير عن مواضيع معروفة كقصيدة "يوسف وزليخة"، و"ليلى ومجنون"، و"فرهاد وشيرين" التي كتبها الشاعر الخالد علي شير نوائي، ويعتبرها الشعب الأوزبكي قمة للأدب العاطفي. إضافة لقصائد شعراء القرون الوسطى في العالم الإسلامي. ويلاحظ أنهم نفذوا لوحاتهم في هذه المرحلة انطلاقاً من تفكير فلسفي واضح يعبر عن حياة الإنسان. وأن الإنسان وحياته وأحاسيسه ومشاعره كانت على الدوام مصدراً للإلهام الإبداعي لمختلف أجيال الفنانين التشكيليين في أوزبكستان.
وعند الحديث عن الجداريات المنفذة بتقنية وأساليب فنون المنمنمات الكلاسيكية نرى استخدام الفنانين التشكيليين للألوان المائية في عام 1984، عندما نفذ الفنان التشكيلي نياز علي خال ماتوف رسوماً جدارية في مسرح عالم حجاييف في مدينة غولستان بولاية سرداريا (أوزبكستان)، مستخدماً فيها أسلوباً غير مألوف من قبل. فقد استخدم خال ماتوف في لوحاته: الألوان المائية، ونشارة الخشب، والورنيش، وتطلب العمل منه الرجوع إلى مراجع مختلفة، وتجربة خلطات ألوان مبتكرة، مستفيداً من نصائح أستاذه الفنان التشكيلي الراحل تشينغيز أحماروف. وكل ذلك تم أثناء الأعمال التحضيرية، وقبل أن يبدأ بإعداد مخططاته اللازمة لتنفيذ مشروعه الجريء، الذي اعتمد فيه قبل كل شيء على التراث الشعبي الفني وعلى تقاليد وتقنيات فن المنمنمات التي أبدعها الفنانون الكلاسيكيون. وهنا لا بد من الإشارة إلى أنه نجح في ابتكار أسلوب جديد، استوعب فيه كل تقنيات المنمنمات الكلاسيكية، ووصل بها إلى مدخل فريد يعتمد لغة الفن التشكيلي الحديث للتعبير، الذي اكتشفه أثناء دراسته للتجارب الفنية السابقة.
والتكوين العام للوحة كان عبارة عن أربع مربعات للوحة جدارية واحدة، تؤدي وظيفة هامة ضمن الديكور العام للمسرح، وتشكل حاجز صناعي وجدار متحرك على خلفية المسرح. ولهذا لم تتوقف أبحاثه عند التقنيات، بل تعدتها إلى دراسة تاريخ مدينة غولستان وواقعها المعاصر، ونماذج كثيرة تتحدث عن تقاليد المسرح الشعبي الأوزبكي واكسسواراته، والفنون الشعبية الأوزبكية، وخاصة منها الفنون الاستعراضية الشعبية. إلى أن تمكن أخيراً من الوصول لتصميم يعكس الأصالة في التكوين نفذه على خلفية فن التطريز والسجاد القومي. ليبدوا التكوين بعد تنفيذه وكأنه ينبع من خلفيات نباتية مزخرفة. وقسم مساحة كل لوحة جدارية إلى ثلاث أجزاء رئيسية، عكست كل منها صورة من صور حياة ومعيشة الشعب الأوزبكستاني، مع مراعاة أن يكون كل تكوين منها وكأنه لوحة مستقلة، على الخلفية المستمدة من الموضوع العام والتي توحدها اللغة التشكيلية التي نفذت اللوحة الجدارية من خلالها ومكنته من العثور على مبدأ شامل لاستخدام الألوان في كل اللوحات الجدارية الأربعة، لتكمل بعضها بعضاً، وتمنع التضارب بين الألوان المستخدمة وديكورات خلفية المسرح، ولتصبح جزءاً أساسياً منها.
وأطلق على لوحته الجدارية الأولى اسم "أغنيات عن الأرض" وقسمها إلى تكوينات متشابهة خصص كل منها لموضوع معين "تحرير النساء"، و"تعليم الأميين"، و"الأرض". ولتقسيم المساحة بالمنظور إلى ثلاثة أقسام، صور الفنان في الوسط آلتي كارناي
[12] مرفوعتين إلى أعلى، ليبعث الانطباع وكأن صوت الموسيقى، الصادر عن الكارناي، عند افتتاح العرض المسرحي يتحول إلى حزمة من الأضواء. وهي خلفية تتكرر دائماً في الرسوم المنمنمة الكلاسيكية، إضافة لرسمه سجادة معلقة تتفق وتقاليد وأساليب فنون المنمنمات في ما وراء النهر. ولكن التطوير جاء عن طريق تعمده تثبيت الشخصيات الرئيسية على الخلفية، كي تعبر عن الحركة الجارية بإتباع أسلوب الجهد المتباين للألوان الباردة والدافئة، اللون الأحمر، والأزرق، والأخضر، التي تخيل للمشاهد صورة العصر الذي يعيشه.
وأطلق على اللوحة الجدارية الثانية اسم "أغنيات عن الماء" وتألفت أيضاً من ثلاثة أجزاء، التكوين المركزي وفيه ثلاثة رجال بملابس قومية وكأنهم يمسكون الشمس في أيديهم، والأشعة البرونزية الحارقة، تجفف الأرض، وتحولها إلى صحراء قاحلة، والقيظ والرمل يقاومان الماء التي تحمي الأرض وتعطي الحياة لكل المخلوقات. ونرى في هذا التكوين تداخل مضامين مستمدة من قصائد "فرهاد وشيرين" لعلي شير نوائي، مع عروض مستوحاة من حكايات الفلاحين الذين شقوا قناة فرغانة للري في النصف الأول من القرن العشرين. والتكوين مرة أخرى يقسم اللوحة إلى ثلاثة أقسام، تختلط أطياف ألوانها مع الموسيقى لتضفي عليها بهجة خاصة.
أما اللوحة الجدارية الثالثة التي حملت اسم "المسرح الشعبي"، فيصور فيها المهرجين في مسرح "مسخرة باظ" في المركز ضمن حلبات السيرك الشعبي. وهنا يخرج الفنان عن الموضوع العام للوحة ويدخل مضامين جديدة منها رمزي المسرح قناعي الدراما والكوميديا، وحيوانات مقنعة ترقص، و"داربوز"
[13] وهو يمشي على الحبل يعرض مهارته مما يوحي وكأنه من خلال المنظر العام يربط كل عناصر اللوحة ببعضها البعض، مستخدماً في ذلك كل إمكانيات اللون الأخضر.
واللوحة الجدارية الرابعة والأخيرة أطلق عليها اسم "أغنيات عن السعادة" وتكمل في موضوعها المواضيع الأخرى في التكوين العام. وتمكن الفنان من خلالها عرض سخاء الأرض الخصبة التي تدفئها أيدي الفلاح الوفي. وفي مركز التكوين صور رجلاً مسناً يجلس على خلفية شروق الشمس، وأمامه سفرة طعام غنية، مليئة بالثمار، وإلى جانبيه فتى وفتاة وكأن الرجل المسن يسلمهم أمانة الحياة، ويدعوهما للحفاظ على أرضهم ويحثهما على حبها والسهر على خدمتها. نفذها كلها بالألوان الزاهية التي استخدم فيها اللونين الأبيض والأزرق، وصور على خلفيتها شخصياته بألوان زاهية واثقة ومتناسقة. وكلها جاءت بحس قومي أصيل استمده من مدرسة هيرات للمنمنمات، وفن التطريز القومي "سوزاني"، وعكس من خلالها أصالة الشعب الأوزبكي وجمال أرضه وخصبها، وأدخل من خلال رباعيته تلك أسلوباً جديداً من أساليب المنمنمات في الفن التشكيلي الأوزبكستاني المعاصر.
كما ونفذ الفنان التشكيلي خال ماتوف وبالاشتراك مع الفنان التشكيلي كمالوف مجموعة لوحات جدارية في صالتين من صالات مطعم "أوزبكستان" بموسكو عام 1984، وفق التقاليد واللغة التعبيرية لفن المنمنمات المطلية. وضمت كل صالة سبع لوحات جدارية استمدت مواضيعها من قصائد الشاعر علي شير نوائي، ومن نوادر الشخصية المحبوبة في الأدب الشعبي الشفهي حجي نصر الدين، داخل إطارات أعدت خصيصاً لتلك اللوحات ضمن السياق العام لجدران الصالة التي غشيت بنقوش الـ"غانتش"
[14]. وضمت الصالة الأولى سبع لوحات جدارية بيضاوية الشكل، حوت كل منها تكوين لفتاة رائعة من الفتيات اللاتي تغزل بهن الشاعر علي شير نوائي في قصيدته "السبع الجميلات". قام بتنفيذها كمالوف بألوان زرقاء زمردية، تجمعها الوسائل التعبيرية التي تعلمها عند أستاذه الراحل تشنغيز أحماروف.
وفي الصالة الثانية نفذ خال ماتوف لوحات جدارية داخل حزم من النقوش على شكل مثمنات، متكررة بتقنية نقوش "الغانتش". وتضمنت مواضيع مستمدة من نوادر حجي نصر الدين أفندي. صورها وفق أسلوبه الخاص المستمد من فنون المنمنمات الكلاسيكية مستخدماً المساحة دون بناء محدد للعناصر، ولكن بتصوير يميز الأشكال الرقيقة والجميلة لكل لوحة، مع توجيه عناية خاصة للزخارف التي تضمنت عناصر من نقوش الأرابسك، وزخارف الملابس، والإكسسوارات التي وزعت على كل مساحة اللوحة كعامل مشترك بين أجزاء التكوين لتكمل بعضها بعضاً. ونستطيع القول هنا أن خال ماتوف استطاع في لوحاته الجدارية إبراز الشخصية الشعبية نصر الدين أفندي بتعبير أكثر مما هو وارد في النص المقروء من نوادر تلك الشخصية الفلكلورية ذائعة الانتشار في العالم الإسلامي. واستطاع بمهارة تصوير بطله الشعبي بحيله، وخداعه، وفكاهاته، وابتساماته، وضحكاته، جعلها تمر كلها أمام أعين المشاهدين كشريط متكامل على خلفيات محدودة ساعدت على التعبير بدقة عن التغييرات السريعة للأحداث المعبر عنها في كل لوحة، وعن الطبيعة الإنسانية في آن معاً.
وفي عام 1985 نفذ خال ماتوف وزميله اللوحات الجدارية للصالة الرئيسية في مطعم "أوزبكستان" بموسكو، واستخدما مرة أخرى تقنيات فن المنمنمات للتعبير عن أوزبكستان بالكامل. وأنجزا ثلاث لوحات كبيرة كل منها قائمة بحد ذاتها، تحت اسم مشترك هو "الخلفية الأبدية"، وتكمل بعضها البعض من حيث المضمون والتعبير والأسلوب الفني، حملت اللوحة الأولى اسم "الولادة"، والثانية "الشباب"، والثالثة "الخصوبة"، تميزت كلها ببهجة الألوان، ودقة التعبير الذي انفرد فيه أسلوب الفنانين التشكيليين المميز عن غيرهما.
وقسمت اللوحة الأولى "الولادة" إلى خمس أجزاء جدارية منفصلة يوحدها الموضوع، حاول من خلالها التعبير عن الشعور الذي يحدثه الإيقاع الموسيقى على الإنسان. وتضمن الجزء اليساري من أسفل اللوحة تكوين فيه شابين يحمل كل منهما آلة موسيقية يعزف عليها، بتعبير وكأنهما يكشفان جمال وروعة الحياة من خلال الموسيقى. ومن اليمين فتيات يعزفن على آلات موسيقية أيضاً. وإلى الأعلى من اليسار امرأة جالسة إلى جانب مهد طفلها. وإلى اليمين مجموعة من الشبان حول معلمهم. وكل تلك الأشكال نفذت بإبداع جمالي وكأنها تمثل الزمن داخل فضاء خيالي من الحجوم الهندسية الدقيقة، تعلوه من الوسط دائرة ذهبية تعبر عن الشمس على خلفية من براعم الورد الهابطة من الأعلى إلى أسفل اللوحة.
واللوحة الثانية "الشباب"، نفذها الفنانان التشكيليان بمسحة فلسفية رومانسية مختلطة بمشاعر النشوة والسعادة، ويصور التكوين شابين في حديقة مزهرة، وفتاة مرحة تحمل كتاب وتشير إليهما بحركة إيمائية تعبر عن منتهى الجمال وخالص الحب، في حديقة تملأها أشجار السرو وتحركها الطيور المحلقة وتزيدها أشعة الشمس بهجة وضياء.
أما اللوحة الثالثة "الخصوبة"، فقد قسمت إلى خمسة أجزاء تكمل بعضها البعض من خلال الموضوع المشترك، وتوحي بمضمون الفكرة الأساسية لثلاثي "الخلفية الأبدية". فنرى الرومانسية والشاعرية وإشراقة الحب على وجوه الفتيات والفتيان وهم مقبلون على حياة جديدة، حالمون بالأفق المضيء والسعادة. التنفيذ الحر لهذا التكوين تعبر عنه الشمس المشرقة الساطعة، والملامح الرومانسية لشخصيات اللوحة، التي جاءت على خلفية تضم منظراً طبيعياً من الريف الأوزبكستاني بشاعرية خاصة عبرت عنها أطياف الألوان في فنون المنمنمات الكلاسيكية التي حملت معها معان كثيرة مستوحاة من التراث الشعبي الأوزبكي لزوار المطعم في موسكو.
وعند الحديث عن طيف الألوان الذي استعاره الفنانون التشكيليون الأوزبك المعاصرون من فنون المنمنمات الإسلامية الكلاسيكية بشكل عام، لا بد أن نتوقف عند الأداء الرائع لريشة الفنانين التشكيليين التي ركزت على اللونين الذهبي والأزرق لخلق التكوين العام للوحة، وتصوير شخصيات اللوحة المستوحاة من الحياة في القرون الوسطى بلمسة سحرية مزجت بين البارد والدافئ لتميز بين الأحداث الجارية في حياة البشر آنذاك. ولكنهما تمكنا من التوصل لحلول إيجابية أخفت التناقض، باستخدامهما للون الأبيض في تصوير الشخصيات. وهذا على ما يبدوا أوجد بعداً فلسفياً لا نهاية له في الاستعارة لتصوير صراع المتضادات، وإظهار قيمة الحياة للإنسان، وإظهار الأفكار الرومانسية التي تعبر عن الطهارة الروحية للإنسان والأمل. وعبرت عنها وبصدق كل العناصر في التكوين العام للوحات من زركشة الملابس، إلى طبقات اللون في الخلفية إلى الخطوط الانسيابية التي حملت معها بعداً موسيقياً عاطفياً أضفى نوعاً من العاطفة والدفء والصفاء والحركة الدائمة. فتارة كانت الخطوط الانسيابية أقواس متكررة، ضمت بين حناياها الأرابسك في إيقاع موسيقي خاص بلوحة "الولادة"، وفي "الشباب" ضاعت الخطوط ببقع شفافة لتصور غيمه تحمل الخير والعطاء، وأجسام طائرة تعبر عن اتساع الفضاء والحرية، وفي اللوحة الأخيرة "الخصوبة" تحولت إلى ثمار ناضجة من الرمان، رمز الخصوبة والسعادة في التراث الشعبي الأوزبكي.
وكل ذلك يوضح مدى تأثر الفنانين التشكيليين بأستاذهما الكبير تشنغيز أحماروف، وأسلوبه الخاص في توحيد عناصر اللوحة من خلال التقاليد العريقة لأساتذة فن المنمنمات عبر تاريخه الطويل، مع التأكيد على ارتباطه العضوي بخصائص الفن الشعبي التعبيري المتجدد على أيدي فنانين عرفوا تراث أجدادهم وتفهموا بعمق خصائص فن المنمنمات الإسلامية الكلاسيكية العريقة، وأغنوا بأساليبهم المبتكرة النقوش الجديدة التي أصبحت تغشي التكوين المعاصر بشاعرية خاصة، وإبداع روحي متميز مفعم بالعواطف الفياضة، وتتقبل الحياة المعاصرة بتقنيات حديثة استمدت من فن المنمنمات العريق في العالم الإسلامي.
ومن هذا العرض السريع نكون قد تعرفنا على صورة من الصور الأصيلة التي تمثل اتجاهاً متميزاً من بين اتجاهات الفنون الجميلة المعاصرة في جمهورية أوزبكستان، وعلى مدرسة فنية وقف على رأسها الفنان الراحل تشنغيز أحماروف، وفنانين لم يتخلوا في بحثهم الفني والتقني الدائم عن تراثهم الشعبي الأصيل الذي خلفه أجدادهم العظام، ولا عن الوجه القومي المميز للفن الأصيل الذي يميز الثقافة الفنية في وسط آسيا والعالم الإسلامي، أمثال الفنانين التشكيليين محمد جانوف، وخال ماتوف، ولوغوفسكي، وآداشوف، وكمالوف، وكمباروف، ويولداشوف، وساطي بالدييفا، الذين كانوا النواة لقيام مؤسسة مصور لتطوير الفنون الجميلة الشعبية الأصيلة في جمهورية أوزبكستان.
ومن دون شك يمكن القول أن نجاح هذا الاتجاه، يكمن في بعث الإبداع الفريد الذي انطلق من إحدى ورشات الفن الشعبي الأصيل في أوزبكستان، وهي ورشة رابطة أسطى وعملت على بعث ألوان من فنون المنمنمات الكلاسيكية التي حوتها الكتب المخطوطة الإسلامية التي كتبت وزخرفت في القرون الوسطى، وضمنت ألواناً بديعة وفريدة من فنون الخط العربي، والتشكيل الفني على الجلد. وفي أعمالهم التي نستشف منها الفرادة والإبداعية لفن الخط العربي، والتقنية الحرفية الرفيعة في الرسوم الدقيقة، ودقة الألوان الغنية، والعمليات اليدوية الفريدة والصعبة، ومن ضمنها يأتي أيضاً صنع الورق، والألوان .. وغيرها كصدى لماض عريق يتحدث عنه تاريخ الفنون الجميلة الإسلامية التي كادت أن تندثر في دول وسط آسيا لولا أولئك الرواد المخلصين الذين أخذوا على عاتقهم واجب الحفاظ على تلك الفنون الرائعة الجميلة وإحيائها.
وتستمر مسيرة الخير والعطاء وتتفتح كل يوم أزهاراً جديدة على أغصان شجرة الفنون الجميلة في جمهورية أوزبكستان بعد استقلالها، ويزهر كل يوم غصن جديد، في رحاب معهد بيغ زاد للفنون الجميلة، وأكاديمية الفنون الجميلة، ومؤسسات التعليم العالي والمتوسطة الفنية الأخرى في أوزبكستان، والتي ومن دون أدنى شك، ستغني، وتلون، وتأتي بثمار ناضجة جديدة تسهم بدورها في الحفاظ على الثقافة الفنية الأصيلة والعريقة والفتية في جمهورية أوزبكستان، وتصب في النهاية بمحيط الثقافة الإنسانية الخيرة، أخذاً وعطاءً في آن معاً.
وهو ما أشار إليه معرض " ما عرف وما لم يعرف عن الفنان التشكيلي تشنغيز أحماروف " الذي نظمه مركز الفنون القومية التابع لأكاديمية الفنون الجميلة الأوزبكستانية عام 2009 والذي اكتظ بالزوار وضم أكثر من 100 عملاً فنياً وغرافك لأحد ألمع أساتذة ريشة الفنون الجميلة في أوزبكستان، وتضمن عرض الكثير من الأشياء التي تصور حياته الإبداعية الرائعة والخاصة، وكانت المفاجأة التي لم أكن أتوقعها أن أشاهد بين المعروضات اسكيز صغير رسمه ويحمل توقيع الفنان التشكيلي العربي السوري د. محمد غنوم الذي أهداه له أثناء زيارته لمرسمه في مطلع تسعينات القرن الماضي، وأعادت هذه الصدفة لذاكرتي مجريات ذلك اللقاء الذي حضرته واستمعت من خلاله لتقييم وحب هذا الفنان الكبير لتراث الفنون الجميلة والمنمنمات العربية الإسلامية التي ازدهرت في القرون الوسطى. وأشار إلى أن إسهام تشنغيز أحماروف في تطوير فن المنمنمات والفنون الجميلة الأوزبكية كان عظيماً وتميز بعدم التكرار وإلى دعوته للفنانين الأوزبك للابتعاد عن تقاليد المدارس الأوروبية والعودة لجذورهم الفنية. وكان له الفضل الأكبر في بعث فنون المنمنمات الإسلامية، وإحياء تقاليد مدرسة كمال الدين بهزاد الرائعة. وكانت أفكاره تلك جريئة جداً في تلك المرحلة وكان على علم بما يحيط به من أخطار في مواجهة ما اعتاد المسؤولين في السلطات السوفييتية فرضه على الفنون من قيود، وكان يمكن وبكل سهولة أن يدفع مستقبله وشهرة إبداعه ثمناً لها. ولكنها كانت فكرة فنان شجاع حملها معه وبثبات طيلة حياته.
وكانت حياة تشنغيز أحماروف مليئة بالنجاحات وحظي بألقاب رفيعة. واستحق جائزة الدولة من الدرجة الأولى لقاء رسومه ونقوشه البديعة التي تزين حتى اليوم جدران صالات مسرح علي شير نوائي الأكاديمي الكبير للأوبرا والباليه في طشقند. وكان حينها لا يتجاوز الخامسة والثلاثين عاماً من عمره، ومع ذلك لم يصب بالغرور واستمر بإبداعاته، وأنجز الكثير من الأعمال الفنية التذكارية الضخمة التي تزين الأماكن العامة ليس في أوزبكستان بل وفي خارجها.. ونقوشه النافرة ورسومه البديعة تزين اليوم جدران محطة "كييفسكايا" في مترو موسكو، ومصحة "أوزبكستان" في كيسلافودسك، ومطعم "يولدوز" في سمرقند، وقصر أبو علي بن سينا الثقافي في بخارى، ومحطة علي شير نوائي للمترو في طشقند والكثير غيرها. ورسومه البديعة المحفوظة في العديد من المتاحف والمجموعات الخاصة ومن بينها مجموعة الفنان د. محمد غنوم في دمشق.
وشملت أعماله البديعة خلال حياته الكثير من الصور، ولوحات رسمها لمعاصريه وللأجداد العظام للشعب الأوزبكي، يصعب حصرها اليوم وكلها تحمل ميزة واحدة عدم تكرار خصوصيتها في أي لوحة من لوحاته أو أي عمل من أعماله، وعند تصفح أي ألبوم من ألبومات معارضه لا نجد أي تشابه بين أي عمل من أعماله الكثيرة لا في تفاصيل الجزئيات ولا حتى في الأقراط التي تزين أذان شخوص لوحاته ولا في حلى الزينة النسائية المرسومة في لوحاته وكلها تحمل طابع أحماروف المتميز. واذكر ما عرضه على ضيفه السوري من عشرات النماذج التي رسمها ليختار منها بعد جهد جهيد الأنسب والأفضل لإنتاج عمله الفني المبدع بشكله النهائي، وهو الذي تمتع بإمكانيات موسوعية وفلسفية وتاريخية ومعمارية وموسيقية، وأحاسيس مرهفة عكسها في لوحاته ورسومه عبر الحركات الإيقاعية للراقصات والراقصين وفي الفنون الشعبية الأخرى وما عرف عن حفظه عن ظهر قلب لمؤلفات العديد من شعراء الشرق. وعن دعوته من قبل أبرز المخرجين للتشاور قبل البدء في تنفيذ أي عمل سينمائي تاريخي. والخبرة الضخمة التي كونها خلال حياته ولم يبخل بها وأعطاها لتلاميذه الذين يعدون اليوم بالمئات لأنه أحبهم كأب ومع ذلك كان في أعماق قلبه شاباً، وكان يحب أن يدعوه تلاميذه لجلسات سمرهم، وكان يحب المزاح والنكات والكلمات النقدية الحادة كما أشار لي تلامذته الذين التقيتهم خلال معرض أستاذهم الكبير. حتى أن أحدهم وهو فنان معروف قال لي: أحماروف لم يدخر أبداً النقود، والقسم الأكبر من عائدات أعماله الفنية كان يوزعها على تلاميذه، الذين درسوا الفنون الجميلة في مؤسسات التعليم العالي الروسية، لأن أستاذنا عرف أن المقدرات الإبداعية الفكرية والقيم المعنوية هي أغلى من المادة. وكان له في حياته مذاق الانتصارات الحلوة، وطعم الضياع والخسارة المرة. ولكنه لم يكن يحب التحدث عنها أبداً.
وهكذا اقتنعت بأنه رغم مضى 12 عاماً على وفاة فنان الشعب الأوزبكي تشنغيز أحماروف بقيت ذكراه الطيبة ولم تزل محفوظة لدى الكثيرين من تلاميذه والمعجبين بفنونه الجميلة وفي أعماله الكثيرة الموزعة في المتاحف والأماكن العامة التي يشاهدها عشرات الألوف يومياً.
المراجع:
1. اسماعيلوف إ.: فن ديكور آسيا الوسطى للكتب المخطوطة للقرنين 18-19. طشقند، 1982. (باللغة الروسية)
2. بوغاتشينكوفا غ. أ.، ريمبيل ل. ي.: تاريخ الفنون في أوزبكستان. موسكو 1965. (باللغة الروسية)
3. دولينسكايا ف.: فن المنمنمات بآسيا الوسطى. مجلة زفيزدا فاستوكا (نجمة الشرق)، 1958/ العدد 7. (باللغة الروسية)
4. غانييفا لولا: فنان الشعب الأوزبكستاني تشينغيز أحماروف. طشقند: مجلة تياتر، 2003 العدد 3. (باللغة الروسية)
5. قازييف أ. يو.: المواد التقنية الفنية ومصطلحات القرون الوسطى لفن رسوم الكتب، والخطوط والتجليد. باكو، 1966. (باللغة الروسية)
6. أ.د. محمد البخاري: الفنون القومية هوية لا تموت. طشقند: صحيفة أوزبكستان أدبياتي وصنعتي، العدد 16(3845) / 21/4/2006. ص 1. (باللغة الأوزبكية)
7. أ.د. محمد البخاري: رواد النهضة الحديثة في أوزبكستان شعارهم هوية لا تموت. الكويت: جريدة الفنون، العدد 51 آذار/مارس 2005. ص 8-15.
8. محمد البخاري: الفنون الجميلة الأوزبكية. دمشق: مجلة الحياة التشكيلية، العدد 17-18/1985.
9. فيمارن ب. ف.: فن الدول العربية وإيران في القرون 12 -17. موسكو 1974. (باللغة الروسية)

نشرت تحت عنوان "رواد النهضة المعاصرة للتراث الفني التشكيلي في جمهورية أوزبكستان في" // الكويت: جريدة الفنون، العدد 51 آذار/مارس 2005. ص 8-15.
هوامش
[1] غانييفا لولا: فنان الشعب الأوزبكستاني تشينغيز أحماروف. // طشقند: مجلة تياتر، 2003 العدد 3. ص 27.[2] "طاش قاغاز": الورق المقوى.[3] جمهوريات وسط آسيا هي: أوزبكستان، وقازاقستان، وقرغيزستان، وطاجيكستان، وتركمانستان.[4] الإدارة الدينية لمسلمي آسيا الوسطى وقازاقستان السوفييتية خلال فترة الحكم السوفييتية.[5] دولينسكايا ف.: فن المنمنمات بآسيا الوسطى. // طشقند: مجلة زفيزدا فاستوكا (نجمة الشرق)، 1958/ العدد 7. ص 153.[6] اسماعيلوف إ.: فن ديكور آسيا الوسطى للكتب المخطوطة للقرنين 18-19. طشقند، 1982. ص 30.[7] قازييف أ. يو.: المواد التقنية الفنية ومصطلحات القرون الوسطى لفن رسوم الكتب، والخطوط والتجليد. باكو: 1966؛ ومخطوط جواهر الصنعة. المحفوظ في معهد أبو ريحان البيروني للاستشراق بأكاديمية العلوم الأوزبكستانية، رقم 3377/1.[8] مجموعة قصص مخطوطة باللغة العربية من القرن الـ 8 الميلادي محفوظة في مكتبة المخطوطات بمعهد أبو ريحان البيروني.[9] فيمارن ب. ف.: فن الدول العربية وإيران في القرون 12 -17. موسكو: 1974.[10] بوغاتشينكوفا غ. أ.، ريمبيل ل. ي.: تاريخ الفنون في أوزبكستان. موسكو: 1965. ص317.[11] نصر الدين أفندي: شخصية فريدة في الأدب الشعبي لشعوب آسيا المركزية، تشبه إلى حد بعيد شخصية جحا في الأدب الشعبي العربي.[12] كارناي آلة موسيقية تعمل بالنفخ تشبه البوق ولكنها أطول منه كثيراً.[13] داربوز: فنان السيرك الشعبي في آسيا المركزية.[14] غانتش: نقوش وزخارف قومية تنفذ على الجبصين (جبس) الأبيض.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق