كعادتها تحتفل تركيا كل عام في الـ 10 من نوفمبر/تشرين ثاني بذكرى
وفاة مؤسس الجمهورية التركية، وقائد حركة التحرر القومية التركية مصطفى كمال "أتاتورك"
الذي توفي عن 57 عاماً ودفن في ضريح بمدينة أنقرة.
وبالذكرى الـ 74 لوفاة مؤسس الجمهورية التركية، وقف حميد
بائع الأغنام التركي هذه المرة على زاوية أحد شوارع الإستمبولية يغني "مين
ياشا، بيش ياشا، مصطفى كمال باشا". وكما جرت عليه العادة يترك الجميع
أعمالهم ويقفون على أصوات الصافرات التي تصدح في كل أنحاء تركيا في تمام الساعة
09:05 من الـ 10 من نوفمبر/تشرين ثاني كل عام على شرف الذكرى السنوية الدورية
لوفاة أتاتورك. ومعها يقف المارة في الشوارع إحياءاً لهذه الذكرى، ويشاركهم
فيها تلاميذ المدارس وربات البيوت والبائعين في الأسواق وبائعي السجاد وعمال
البناء وسائقي حافلات نقل الركاب البحرية وحافلات نقل الركاب الكهربائية وقطارات
الأنفاق التي تتوقف عرباتها تماماً في الأنفاق المظلمة لمدة خمس دقائق. وفي هذا
اليوم اجتمع نحو عشرة آلاف إنسان، في قصر دولما باختشا في استمبول حيث توفي القائد
التركي السابق، من أجل إحياء ذكراه ووضع باقات الورود البيضاء إلى جانب سريره وهو
اللون الذي أحبه أتاتورك في حياته.
الأساطير التي يتشبعها أطفال المدارس عن
أتاتورك
وهذه
المرة تحدثت عن هذه المناسبة تلميذة إحدى مدارس استمبول ذات الـ 13 ربيعاً عائشة
أرمان التي جاءت مع أهلها إلى مكان الإحتفال، وقالت "كان أتاتورك
عسكرياً محترفاً، درس في سالونيك، وتخرج من أكاديمية القيادة. وأثناء الحرب
العالمية الأولى التي أدت إلى انهيار الإمبراطورية العثمانية، قاد حركة التحرر
القومية التركية ضد الدول المنتصرة: إنكلترا وفرنسا وإيطاليا واليونان". ومن
المعروف أن الحرب انتهت بإعلان إستقلال الدولة التركية. وألغى أتاتورك
التقويم الإسلامي، وأدخل القانون المدني الذي ساوى بين الجنسين، وفصل الدين عن
الدولة، وأدخل استعمال الحروف الهجائية الجديدة في اللغة التركية، وأصدر دستور
الجمهورية التركية.
ومنذ
قيام الجمهورية التركية، اخترعت آلة الدعاية سيرة حياة للقائد التركي وفق تصورها،
وشملت هذه السيرة حتى الأساطير غير الواقعية، وعملت آلة الدعاية التركية على
تلقينها لتلاميذ المدارس من المرحلة الإبتدائية ليتشبعوا بها منذ طفولتهم. ولعل
فيما قالته تلميذة المدرسة الأستمبولية البالغة من العمر 10 سنوات في اللقاء الذي
أجرته معها القناة التلفزيونية СNN Turk خير مثال على ذلك
فقد قالت وبعفوية الطفولة أن "أتاتورك أحب الزهور والأطفال، وذات مرة
اضطر للإختفاء عن الأعداء في صحراء مثلجة، ولعدة أيام لم يأكل شيئاً، وارتجف من
البرد القارص، ولم يستطع أن يهتدي على الطريق، ولكن نسراً طار وأرشده إلى الطريق
الصحيح".
ويعتبر
المتخصصون والخبراء أن المعلومات الصحيحة عن الحياة الخاصة للقائد لم تزل حتى الآن
موجودة ولكنها سرية وتحفظ في أرشيف سري. ورغم أن تفاصيل حياة مؤسس الجمهورية
التركية يعرفها كل تلميذ تركي، إلا أن أتاتورك بقي حتى الآن شخصية مغلقة لا
يحق للمجتمع التركي تناولها بالبحث والتقصي. لماذا ؟ لأن ذكرى مؤسس تركيا مقدسة،
وقانون خاص يحمي شخصية وشرف ومكانة القائد السابق. وأي إشارة لا تحترم القائد
التركي بشكل كاف في مكان عام يعاقب مرتكبها بالسجن لفترة طويلة.
أتاتورك
بين الأسطورة والواقع
وفي
مقابلة أجرتها وكالة أنباء REGNUM قال أحد المتحدثين أن "المجتمع التركي غير مستعد لتقبل
أتاتورك كما كان بالفعل". وأورد مثالاً عن تلك الحقيقة الرسائل التي نشرت
في تركيا منذ عدة سنوات وتحدثت ولأول مرة عن مذكرات وذكريات لطيفة، الزوجة
السابقة للقائد التركي، والتي عاشت معه لسنوات عديدة وانتهت بالطلاق. وشكلت هذه
الرسائل صدمة حقيقية للمجتمع التركي، حتى أن بعض الشخصيات المثقفة التركية البارزة
دعت لتوقيف كتبة تلك الرسائل وإرسالهم إلى السجن.
ومؤلفي
تلك الرسائل كانت مجموعة من المؤرخين والعلماء الأتراك الذين أشاروا إلى أن "لطيفة
كانت ابنة تاجر كبير من إزمير، وكانت إمرأة تعتمد على نفسها، ذكية ومستقلة
ومتعلمة، ولكنها لم تستطع تحمل الأخلاق الشاذة كثيراً للقائد، ولم تتحمل غيرته
وتهوره، ولم تستطع التأقلم مع أسلوب حياته". لماذا ؟ لأن أتاتورك كان
خلال السنوات الأخيرة من حياتهما المشتركة يتعاطى الخمور بكثرة ويقيم حفلات ماجنة
مع أصدقائه. وكان مثابراً على زيارة الأحياء الأوروبية، ويحب المجتمعات النسائية
المتحررة المنفتحة، وكان يلتقي بالمهاجرين القادمين من روسيا، ويحب الرقص، ويتعاطى
المشروبات الكحولية كثيراً، وخاصة المشروب الكحولي القوي "راكي"، ولهذا
كان يطلق عليه بالسر لقب السكير، بسبب تعاطيه المشروبات الكحولية بكميات كبيرة.
ووفق المعلومات الرسمية كانت المشروبات الكحولية سبباً لوفاة القائد التركي. وشخص
الأطباء إصابته بتآكل الكبد، ولكن معلومات تشريح جثته بقيت تحت قيد السرية التامة،
الأمر الذي سمح بانتشار شائعات كثيرة لم يزل الكثير منها منتشر حتى الآن.
المحفل
اليهودي الماسوني هو من قتل أتاتورك
وتشير
بعض المصادر إلى أن عدد من المؤرخين أكدوا على أن أتاتورك مات مقتولاً،
بأيدي القوى المعادية لنهضة تركيا والراغبة بالقضاء عليها، وخاصة أعضاء المحفل اليهودي
الماسوني، الذي كان يتمتع خلال تلك السنوات بقوة كبيرة في تركيا، حتى أن بعض
المؤرخين أشاروا لانتماء مصطفى كمال لذلك المحفل اليهودي الماسوني. ولكن
الحقائق تشير إلى أن التآمر على حياة القائد التركي كان أثناء حياته. لأن الكثيرين
من أنصار أتاتورك كانوا ضد حكمه الفردي. و في نهاية عام 1926 جرت في
إستنبول محاكمات صورية لبعض مرافقيه بتهمة التخطيط لقتله. وتوقع البعض أن تكون
الممثلة السينمائية الأمريكية زازا غابور متورطة في قتله. والمعروف عن زازا
غابور أنها كانت نجمة اشتهرت بأدوارها السينمائية وغرامياتها وتعدد مرات
زواجها. حتى أن البعض كانوا يطلقون عليها لقب "أغلى عاهرة منذ أيام مدام
دي بومبادور". وتزوجت زازا غابور أيام صباها في ثلاثينات
القرن الماضي من دبلوماسي تركي وجاءت معه إلى تركيا حيث كانت تلتقي سراً مع
أتاتورك، وربطت بينهما علاقة غرامية، وغادرتها سراً إلى أمريكا بعد وفاته.
وتوقع
الباحث التركي علي كوزو، مؤلف كتاب "من قتل أتاتورك ؟"،
أن "يكون القائد التركي قد مات مسموماً بمادة قوية مسيلة للبول تحتوي على
الزئبق وخطرة جداً في حال استخدامها لفترة طويلة. وأورد أنه عندما جاءت لمعالجة
أتاتورك مجموعة من المتخصصين الفرنسيين
تحسنت صحته، وبعد مغادرتهم تولى أطباء أتراك معالجته وسرعان ما تردت صحته مرة
أخرى".
نتائج
تشريح جثة القائد لم تزل قيد السرية التامة
وعلى
أعتاب الذكرى السنوية الدورية لوفاة أتاتورك صرح مؤرخ فن التصوير وهاوي جمع
الصور محمد يوكتشي أثناء مقابلة صحفية أجرتها معه القناة التلفزيونية
التركية NTV بأن "عندي صور لأحد الأطباء الذين شرحوا جثة أتاتورك،
الذي يبدو جسده في الصورة مسجى على شريحة بلاستيكية، وجرى تشريح الجثه بالكامل.
وأن تشريح جثة القائد تمت بعد يومين من وفاته، وقامت بتشريح جثة القائد مجموعة من
الأطباء الأتراك المشهورين من بينهم: عقيل مختار، ومهميد كاميل، وثريا
خيدو. وأعلن الأطباء حينها أنهم لم يستطيعوا حتى أخذ عينات من دم القائد. ورغم
أن العالم كله اطلع على وصوفات التشريح، إلا أنه في الواقع لا يعرف أحد شيئاً عما
جرى بالفعل في المشرحة. وكل المتوفر حتى الآن هو قسم من وثيقة غابت عنها تفاصيل
عملية التشريح. وكل ما عرف أنه بعد الوفاة حنطت جثة أتاتورك ونقلت بسرعة
إلى متحف السلالات البشرية، وبعدها تم دفنها في ضريح بأنقرة. ولكن الخبراء يؤكدون
أن معلومات تشريح جثة أتاتورك موجودة، ولكنها تحت قيد السرية التامة حتى الآن
ومحفوظة في الأرشيف الحكومي.
وفي
أحد أعدادها أكدت صحيفة "سيجدو" التركية المعارضة على أن أتاتورك
مات مسموماً مثله مثل الرئيس التركي السابق تورغوت أوزال، الذي توفي عام
1993، وأخرجت بقايا جثته من القبر في بداية أكتوبر/تشرين أول من عام 2012، وأشارت
إلى أن الأنسجة التي أخذت من جثة الرئيس السابق أوزال أظهرت وجود سم
ستريخنين القوي، وتوقعت أن يكون هذا السم قد أضيف إلى طعامه وشرابه. بينما دأبت
السلطات الرسمية على نفي تلك المعلومات. ونعتقد أن سبب وفاته المفاجئة كانت بسبب جهوده
الحثيثة التي قام بها منذ انهيار الإتحاد السوفييتي لخلق رابطة تجمع بين الشعوب
التركية ووزياراته المكوكية للدول المستقلة في وسط آسيا والقوقاز.
وفي
إحدى مقالاته أشار الصحفي التركي المشهور مهميت علي بيراند، إلى أننا
"نحن حتى الآن نخاف كثيراً من أتاتورك، ولم يزل يثير لدينا الإعجاب
والخوف الذي تكون لدينا منذ الطفولة، ومن المقاعد المدرسية. ونفس هذه الأحاسيس
كانت في عيون أمهاتنا وأجدادنا الذين حدثونا في الليالي عن تاريخه وبطولاته
الشجاعة. ونفس هذه الأحاسيس شعرت بها أيضاً أثناء خدمتي في الجيش، وفي كل مرة كان
يرفع بها العلم التركي. وحتى الآن نحن لا نعرف الحقيقة، والأفضل لنا أن نعيش مع
الأساطير التي قدمت لنا منذ الطفولة، ولا نريد أن نفارق أحلام الطفولة".
ومن المعروف أيضاً
أن
مساعي أتاتورك الإصلاحية التي قام بها منذ إعلان الجمهورية التركية كانت
موجهة نحو الإندماج التام في المجتمع الأوروبي وهو النهج الذي سار عليه من تولوا
الحكم من بعده. وبالفعل تقدّمت تركيا ولأول مرة بطلب للانضمام إلى عضوية الاتحاد
الأوروبي في عام 1963. ومنذ 14 عاماً فقط جرى الاعتراف رسمياً بتركيا كمرشح لعضوية
الاتحاد الأوروبي خلال القمة التي عقدها الاتحاد الأوروبي بمدينة هيلسنكي عام
1999، أي بعد أكثر من نصف قرن من تقديم الطلب. وستتبع هذه الخطوة عملية بدء
مفاوضات طويلة لقبول تركيا في عضوية الاتحاد، ومن الممكن أن تمتد فترة المفاوضات
لقبول تركيا في عضوية الاتحاد لفترة توقع الخبراء آنذاك أن تمتد ما بين الـ 5 والـ
10 سنوات، وتوقعوا أن تنتهي في عام 2015 والذي حدث أن تلك الفترة مضت ولم تزل
المفاوضات دائرة بين أخذ ورد حتى الآن. وعلى ما نعتقد أنهم ينتظرون أن تدفع تركيا
ثمن عضويتها في الاتحاد، ونعتقد أنه يجري بشكل فعال من خلال تورطها بالأحداث
الجارية في بلاد الشام، والأحداث التي جرت في العراق وفي ليبيا، وفي الأحداث
المتوقع حدوثها مستقبلاً في العالمين العربي والإسلامي.
وتتفق آراء الكثير من المراقبين
حول أن يتم النظر بطلب تركيا القديم والقائم للانضمام إلى عضوية الاتحاد الأوروبي
من خلال المساعي الكبيرة التي تبذلها حكومة أردوغان، ومن المستبعد أن تغلق
أوروبا الباب في وجه تركيا. خاصة وأن زعماء كل من بريطانيا وألمانيا وإيطاليا قد
أعلنوا عن تأييدهم لانضمام تركيا إلى عضوية الاتحاد الأوروبي. ويبدو أن الأتراك
يحظون أيضاً بدعم دول أخرى وحتى تلك التي تتولى الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي.
بحث كتبه: أ.د.
محمد البخاري: مواطن عربي سوري مقيم في أوزبكستان،
أستاذ جامعي متقاعد. طشقند في 13/1/2013.
المصادر:
- أنيسة مخالدي:
الماسونية في فرنسا تكشف عن أسرارها وتلعب
بورقة الشفافية لتلميع صورتها واستقطاب الأتباع, // لندن: الشرق
الأوسط، 10/7/2011.
- الصفحة الإلكترونية مركز آسيا،
في الإنترنيت 11/11/2012.
- صفحة وكالة أنباء REGNUM، في
الإنترنيت 10/11/2012.
- عبد الله مبشر
الطرازي: اهتمام
الأتراك باللغة العربية وأثرها في اللغة التركية. // الرياض: صحيفة المدينة
الأربعاء 04/05/2011.
- علي كوزو:
"من قتل أتاتورك ؟".
- أ.د. محمد البخاري: إنهيار الدولة العثمانية كما رآه المفكرون
الروس. // الرياض: مجلة الفيصل، العدد 399/400 سبتمبر/أكتوبر 2009. ص 78-85.
- نادي
الماسونية "الروتاري" // لندن: «الشرق الأوسط» 10/1/2013.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق