قماش الصاية الدمشقي
في خمسينات
القرن الماضي بحي الصالحية القديم الذي كانت أسرتنا تسكنه على سفح جبل قاسيون في
دمشق الحب، كان هناك مبنى من طابقين شيد من الطين والخشب يطلق عليه اسم "خان
العمشة" نسبة لمالكه، ركبت في غرفه الكبيرة الأنوال اليدوية لحياكة أقمشة
الصاية الحريرية زاهية الألوان. وكان من بين أبناء الحي من يجهز مواسير الخيوط،
لتركيبها في مكوك الحياكة، ومنهم من يجهز خيوط الصاية قبل تركيبها على النول
لحياكتها (السديه). وكان النساجون يجلسون على دف عريض مركب في أول النول يغيرون
موضع شبكات الخيوط بواسطة الدعس بالأقدام على قضبان خشبية ربطت بالحبال في أسفل
النول تسمى (الدوسة)، ويحركون المكوك يميناً وشمالاً بواسطة حبل ربط فوق النول بضرب
المكوك عن طريق شد الحبل إلى الأسفل بقوة وتركه ليعود إلى وضعه الأول، وفي اليد
الأخرى يجذبون نحوهم ويدفعون بالعكس أداة النسيج الرئيسية وهي عبارة عن أداة
مستطيلة إطارها خشبي ثبت في وسطها أسلاك معدنية تمر من خلالها خيوط السديه للصق
خيط المكوك ببن طبقات خيوط السديه قبل تبديل حركة خيوطها للأسفل والأعلى. وفي
طفولتي كنت مولعاً بمرافقة ابن الجيران إلى الخان لمشاهدة والده وهو يصنع الصاية
بمهارة خاصة. وبين أبناء الحي كان أيضاً تجاراً يمارسون تجارة الصاية بمحلاتهم
التجارية في الحريقة بدمشق الحب وفي بيروت ويصدرونه لخارج سورية. ولم أزل أذكر شكل
قماش الصاية الجميل في الصدرية والقنباز والجلابية التي كان يرتديها البعض في الحارة
وخاصة أبو حمود شيخ الحارة رحمه الله.
ولا غرابة في
أن الصاية كانت تعد صناعة دمشقية بحتة منذ مئات السنين، إذ كانت الزي المفضل لشيوخ
ووجهاء العشائر، إضافة إلى رجال الدين، واشتهرت دمشق وحلب بصناعتها قبل أن تنتقل
إلى المحافظات السورية، ومنها إلى أصقاع العالم
.
وهي صناعة حرفية يدوية صعبة
وتحتاج لمخيلة هندسية واسعة ودقة في العمل، وتصنع من الحرير والقطن، وكانت قديماً
بلونين فقط، وتصنع من سديه القطن والحدف، ومن الحرير النباتي لحاء الأشجار، والحرير
الطبيعي، ويفصل منها القنباز، والجلابيات للرجال، والصداري (جاكيت دون قبة وأكمام)
والجواكيت، وبعد غسله يرق النسيج مباشرة فيصير أكثر طراوة، وهو نسيج يتميز بجودته
ومتانته وألوانه الزاهية ووجود نقوش وزخارف عليه، وحرص البعض على تزيينه بالنقوش
والزخارف بطريقة يدوية.
وتذكر بعض المصادر أنه تم
تطوير استعمالات الصاية وصنعت منها أغطية طاولات السفرة، بألوان بسيطة كـالسكري
والأبيض وبخطوط عريضة، وسماكة أكبر وأعرض من الصاية العادية وبتسميات خاصة مثل
البلورية، وصممت كل نقشة مستخدمة فيه لتعطي المعنى الحقيقي لاسمها، منها مثلاً:
نقشة الناعورة، نسبة لنواعير حماة، وكانت تصنع من لون واحد، لكنها مع التطور صارت
تصمم من مجموعة من الألوان الزاهية، وهناك أيضاً نقشة المزيكة، حيث تتداخل الألوان
مع التغطيس بالصبغ اليدوي، وحسب عدد الألوان مع مبدأ التربيط، حتى تخرج القطعة
كأنها لوحة فنية، وهذه لا تنجز إلا بالنول اليدوي، فهي تحتاج جهداً كبيراً من قبل
الحرفي الماهر، وإبداعاً لا يمكن أن تصنعه الآلة.
*****
من ذكريات أ.د. محمد
البخاري. طشقند، 11/1/2015
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق