الاثنين، 31 أغسطس 2009

المعلوماتية وأمن الموارد الإعلامية بين التخصص والاختصاص


المعلوماتية وأمن الموارد الإعلامية بين التخصص والاختصاص


أ.د. محمد البخاري: سوري مقيم في أوزبكستان. دكتوراه علوم DC في العلوم السياسية، ودكتوراه فلسفة في الأدب PhD صحافة، أستاذ التبادل الإعلامي الدولي بمعهد طشقند الحكومي العالي للدراسات الشرقية.
‏لا أعتقد أن أحداً يختلف معي بأن من محاسن تكنولوجيا الاستشعار عن بعد وشبكات الاتصال والمعلوماتية العالمية توفير الخدمات للمستخدمين في أي بقعة من بقاع العالم التي تملك تكنولوجيا وتقنيات الاتصال الحديثة وفرصة متابعة الأحداث التي تدخلها أطراف عملية التبادل الإعلامي الدولي في شبكات الاتصال وخاصة في شبكة الانترنيت العالمية التي يستفاد منها بالدرجة الأولى في موطنها الأصلي الولايات المتحدة الأمريكية وبعدها العالم المتقدم، وتوضع تلك المعلومات غير المشفرة والمفتوحة قيد التداول في موعدها دون تأخير مع إمكانية العودة إليها في أي وقت في حال عدم تعرضها لنشاطات تخريبية تنال محتويات شبكات الاتصال والمعلوماتية. وقد استفدت من هذه الميزة لمتابعة مستجدات المؤتمر الثاني لأمن المعلومات والاتصالات الذي اختتم فعالياته مؤخراً في دمشق وقام الزملاء أمير سبور، ومرشد ملوك، وبسام زيود من صحيفة الثورة بتغطية نشاطاته واطلعت عليها من خلال شبكة الانترنيت في طشقند التي تبعد آلاف الكيلومترات عن دمشق في وقت مبكر جداً من يوم صدور صحيفة الثورة آخذين بعين الاعتبار فارق الوقت بين المدينتين. واطلعت من خلالها على ما حملته شبكة الإنترنيت العالمية من التوصيات التي خرج بها المؤتمر وفق وجهة نظر الزملاء الصحفيين الذين أشاروا في استطلاعاتهم إلى أهمها وهي: أهمية أمن المعلومات وضرورة قيام كل من وزارة الاتصالات والتقانة والجمعيات الأهلية التخصصية والشركات بالاستمرار في نشر الوعي لدى مسؤولي ومستخدمي المعلومات وتعريفهم بالأخطار والتهديدات التي يمكن أن تتعرض لها تلك النظم وطرق حمايتها.‏ وكأن أولئك المسؤولين والمستًخْدِمين المختصين جاهلين تلك الأخطار والتهديدات ! وقامت القناة الفضائية السورية بإعادة مضمونها يوم 24/6/2006 وشاهدتها صباحاً بالتوقيت المحلي لمدينة طشقند.
ولاحظت أن تلك التوصيات ركزت على أهمية دعوة المدراء وأصحاب القرار لإيلاء موضوع امن المعلومات الأهمية المناسبة ورصد الميزانية اللازمة في موازنات مؤسساتهم لهذا الموضوع بالإضافة إلى دعم إجراء دورات خاصة بأمن المعلومات ودعم وتمويل إعداد نظام إدارة لأمن المعلومات في مؤسساتهم والاستعانة بالخبرات المحلية والأجنبية لإجراء عمليات تدقيق لأمن المنظومات بشكل دوري كل ستة أشهر وتحديد الثغرات الأمنية في المنظومة وأن تتضمن الإجراءات الأمنية اتخاذ إجراءات الحماية الفيزيائية للخدمات المركزية وتجهيزات الاتصالات والشبكات المحلية وضبط ومراقبة الدخول لمواقعها وحفظ وسائط التخزين في مواقع آمنة وتركيب تجهيزات وبرامج الحماية الأمنية والتشفير وكشف الاختراق والحماية منه في مكان تواجد النظم المعلوماتية وضمان استمرارية عملها في جميع الحالات العادية والطارئة وإجراء التحديثات الخاصة بأنظمة التشغيل بشكل دائم وكذلك تجهيزات الاتصالات وامن المعلومات والتأكد من تفعيل تشفير خدمات الاتصالات على الشبكة وإعداد التعليمات والنشرات الخاصة بالتوعية الأمنية للعاملين في هذا المجال.
وبصراحة فهمت من هذه التوصية أنها تركز على مطلب استباحة الإجراءات المتخذة لضمان أمن شبكات المعلومات الوطنية دورياً من قبل خبرات محلية وأجنبية دون التنبيه أو الإشارة لخطر تلك التوصية على المصالح الوطنية العليا ! رغم طلب المؤتمر من وزارة الاتصالات والتقانة والجمعيات الأهلية التخصصية دراسة هذا الموضوع بالتعاون مع الجهات القضائية بوزارة العدل لمعالجة الجرائم الالكترونية على الشبكة والانتهاكات الأمنية للمنظومات المعلوماتية وتحديد مسؤولية الأفراد العاملين في هذا الإطار والعقوبات التي ستفرض بحقهم بالإضافة إلى المساهمة في إعداد قانون يشرع استخدام الوثائق الالكترونية والتوقيع الالكتروني واعتماد جهات مصدرة لشهادات التوثيق الرقمي ومركز اعتماد trust center نظرا لأهميتها للتعاملات المصرفية ولأعمال التجارة الالكترونية والخدمات الحكومية الالكترونية والسعي لتعديل قانون التجارة ليأخذ بعين الاعتبار مواضيع التجارة الالكترونية والوثائق الالكترونية.‏ ولكني ومع الأسف الشديد وجدت تلك التوصيات غاية في السطحية ولا تعبر عن خبرة الخبراء الوطنيين المشاركين في المؤتمر ولمست بُعدها وتجاوزها للواقع الفعلي الذي بات يشكل حواجز فعلية في وجه تبادل المعلومات وأصبحت تحول دون جعل شبكاتها من قنوات تبادل المعلومات باتجاهين في عصر المعلوماتية الذي دخله القرن الحادي والعشرين معطياً أمثلة كثيرة عن نجاعة استخدام شبكات المعلوماتية والاستشعار عن بعد التي تملكها الدول المتقدمة في المجالات الاستكشافية العلمية والاقتصادية والسياسية والعسكرية، وتحول دون استفادة الدول الأخرى منها، وكمثال بسيط أذكر أن اعتقال المتهم بإلقاء قنبلة يدوية لم تنفجر على منصة الرئيس بوش الابن أثناء زيارته الأخيرة العام الماضي للعاصمة الجورجية تبليسي تم استناداً لصورة فوتوغرافية أخذت من على متن قمر التجسس الأمريكي الصنع الذي كان يتابع الزيارة عن بعد من الفضاء الكوني.
وجاءت تلك السطحية رغم انعقاد المؤتمر برعاية الدكتور عمرو سالم وزير الاتصالات والتقانة وهو ما أشار إلى أهمية انعقاد المؤتمر الثاني لأمن المعلومات والاتصالات على المستوى الرسمي. وعزائها أن ما تطرق إليه الزملاء الصحفيين من اعتراف السيد الوزير بأن الممارسات الخاصة بحماية المعلومات ما تزال تحبو خطواتها الأولى في الدول العربية بما فيها سورية معتبرا أن الإجراءات المطبقة حالياً في سورية لا تتسم بالأمان الكافي. وأن وزارة الاتصالات والتقانة قامت بوضع مسودة لإصدار تشريع خاص بالمعاملات التجارية والتوقيع الالكتروني والحكومة الالكترونية وهو قيد الدراسة والإصدار وفق الإجراءات الأصولية المتبعة موضحا أن امن المعلومات هو من أولويات الوزارة ومن المواضيع الأساسية في إستراتيجيتها.
ولم تتطرق كتابات الزملاء الصحفيين لا من بعيد ولا من قريب لهدف الجهة المنظمة "السلام للمؤتمرات والمعارض الدولية" من تنظيم المؤتمر في قصر النبلاء بدمشق.‏ رغم إشارتهم وباقتضاب للكلمات التي وجهت للمؤتمر بهدف عرض آخر ما توصلت إليه نتائج البحوث التطبيقية ومخابر التطوير في تقنيات امن المعلومات على المستوى العالمي ووضعها بين أيدي المختصين والعاملين في المعلوماتية وأصحاب القرار ونشر الوعي بأهمية امن المعلومات والأمن الالكتروني والالتقاء بالخبراء والمختصين محليا ودوليا لتبادل الخبرات والمعلومات من خلال المعرض التخصصي الذي رافق المؤتمر وشاركت فيه العديد من الجهات المحلية والدولية لعرض احدث ما لديها من تقنيات وأجهزة وبرمجيات مختصة في هذا المجال.
ومن خلال تلك التغطية الإعلامية التي قام بها الزملاء الصحفيين لفعاليات المؤتمر نلاحظ الزخم الرسمي والتجاري والعلمي المشارك في المؤتمر ولكن دون تطرقهم لأهداف تلك الجهات من المشاركة في المؤتمر أيضاً لتكون موضع حوار ومناقشة مع قراء الصحيفة إن كانوا يؤمنون بأن وسائل الإعلام اليوم أصبحت وسائل باتجاهين والحوار المباشر معها ممكن عبر وسائل الاتصال الحديثة إن رغبت ذلك، فالجهات الوطنية التي شملت الدكتور عمرو سالم وزير الاتصالات والتقانة، والدكتور نوار العوا عميد كلية الهندسة المعلوماتية في جامعة دمشق، والدكتور محي الدين مراد من كلية الهندسة المعلوماتية في جامعة دمشق، والدكتور عارف طرابيشي من كلية الهندسة المعلوماتية، والدكتور إباء عويشق مدير تراسل المعطيات في المؤسسة العامة للاتصالات، والمهندس رشيد النبي من السورية لأنظمة المعلومات، والمهندس محمد شربجي مدير شبكة الانترنت في الأولى مزود خدمة الانترنت في الجمعية العلمية السورية للمعلوماتية، والدكتور مروان زبيبي رئيس اللجنة العلمية للمؤتمر هي جهات وطنية مراميها معروفة. ولكن الجهات العربية والأجنبية التي شاركت في المؤتمر كان لها مرامي محددة لم يتطرق إليها الزملاء في تغطيتهم الإعلامية إلا ما ندر لوضعها أيضاً مثاراً للمناقشة من قبل القراء المختصين على الأقل وشملت شخصيات مثل: عامر قصار رئيس العلاقات العامة في شركة أريبا (مجهولة الهوية في التغطية الإعلامية)، وباسل الفقير مدير عام شركة الشبكة لتقنية المعلومات من دبي، والسيد أنس شبيب مدير عام الشركة التقنية الألمانية المتقدمة، والدكتور غونر سيبرت نائب الرئيس التنفيذي لشركة سيكود لأمن المعلومات في سويسرا، والدكتور نور بيك باشا إدريس مستشار امن المعلومات في الحكومة الماليزية، وبيتر شيفر من ألمانيا، وبوريس شاروف رئيس مجلس إدارة شركة دكتور ويب من روسيا الذي افترض في حديثه "أن سورية تتعرض اليوم إلى حصار تكنولوجي وهذا ينعكس سلبا على أنظمة المعلومات ونحن كمختصين في هذا المجال نحاول في شركتنا نقل تقنيات امن المعلومات إلى سورية لأننا نؤمن بأن امن أي بلد يتعرض إلى امن معلومات منخفض يسبب ذلك تهديدا وخطرا على امن المعلومات الدولي"، وأضاف "إن السعي في سورية يسير نحو مواكبة التطورات الحاصلة في هذا المجال" ولا أعتقد أن هذا يحتاج إلى تعليق، واوكتافينا اونسي من رومانيا.
ولكن استوقفتني مبادرة الدكتور باسل الخشي عضو اللجنة العلمية للمؤتمر الذي أشار إلى أهمية الموضوع المثار ودعا إلى تحويل مؤتمر العام القادم إلى ملتقى أو منتدى كي يعطي الموضوع حقه في مختلف المجالات معتبراً أن أهمية مؤتمر امن المعلومات تأتي من المشاركة الواسعة للشركات والأشخاص المختصين في القطاعين العام والخاص سواء كانت محلية أو عربية وحتى أجنبية ومن تابع المؤتمر وجد أن أوراق العمل المقدمة ليست أوراقا بحثية بالمعنى العلمي وإنما عرض ونقاش لتقنيات حديثة لأمن المعلومات وتم أيضا مناقشة تجارب بعض الدول المتقدمة مثل مشروع التوقيع والتصديق الالكتروني ومدى ملاءمة هذه التجربة لسورية وأشار إلى وجود عدة عقبات تواجه تطبيق وتنفيذ ما يسمى بأمن المعلومات في سورية أهمها:‏ ضرورة إصدار التشريعات القانونية اللازمة للانطلاق مثل قوانين التوقيع الالكتروني واستخدام الوثائق الالكترونية كوثائق رسمية إضافة إلى قوانين مكافحة الجرائم الالكترونية والعقوبات التي تفرض في هذا المجال حيث لا يوجد حتى الآن لدينا أي قانون أو تشريع سوري يعاقب مرتكب أي جريمة الكترونية مهما بلغ حجم الضرر منها.‏ متناسياً قانون العقوبات السوري الذي يعاقب جرائم النصب والاحتيال، والتدليس، والتزوير... الخ، وكأن سورية تعيش دون تشريعات وما يثبت وجهة نظري هذه أنه لم يشر إلى ضرورة أن ينال الفقه التشريعي المعاصر مثل تلك الجرائم المرتكبة في المجال المقصود ليأخذ طريقه نحو إدخال تعديلات تنال تعريف تلك الجرائم وطرق إثباتها ومعاقبتها في التشريعات المعمول بها في سورية بما يتلاءم وروح عصر المعلوماتية وفق الأصول المتبعة لدى السلطة التشريعية السورية دون اتهامها بالتقصير الناتج عن جهله لتلك الأمور.
أما المهندس محمد شربجي مدير شبكة الانترنت في الأولى مزود خدمة الانترنت في الجمعية العلمية السورية للمعلوماتية فقد أشار لأهمية المؤتمر والمحاضرات التي ألقيت خلاله واعتبر أنها ساهمت بإعطاء فكرة عامة عن ضرورة وأهمية امن المعلومات وأشار إلى أن الخبرات الدولية والإقليمية المتوفرة في هذا المجال فرصة غنية أمام كل المشاركين ويجب الاستفادة منها بشكل مثالي، وأكد على أن الحضور والمشاركة تتناسب مع نوعية ومستوى المحاضرات التي قدمت ويمكن أن تتسع قاعدة المهتمين بأمن المعلومات خلال السنوات القادمة نتيجة لزيادة نشر الوعي في هذا المجال. وأن سورية تعتمد في هذا المجال اليوم على خبرات جيدة وأن وجود الدراسات الدولية يساعد على تطوير امن المعلومات واعترف بأن عملية الأمن المعلوماتي هي في سباق مع الأشخاص الذين يهددون باختراق جدار الأمن المعلوماتي‏ وهو ما يشير إلى وضوح المشكلة عند أكثرية المختصين الوطنيين العاملين في هذا المجال وقدرتهم على مواجهتها.
وأعتقد أن الحل المطلوب لمواجهة المشكلة يقع على عاتق السلطة التنفيذية بالدرجة الأولى وحصراً لأنها وحدها المطالبة بحل المعضلات الناشئة عن التطور العلمي والتقني واستخداماته ولها حق مطالبة السلطة التشريعية عند اللزوم بمواجهة ما يستجد من أمور لتعديل وإصدار تشريعات جديدة ملزمة للجميع. ولا بد أن تبدأ تلك الإجراءات بتشكيل مجلس للأمن المعلوماتي الوطني يخضع لرئيس الجمهورية مباشرة ويضم الوزراء والخبراء والمختصين من الوزارات والجهات الحكومية والأمنية المعنية، وله أن يستعين عند الضرورة بمستشارين في مواضيع محددة تنتهي مهمتهم فور تقديم استشاراتهم حولها دون إمكانية التدخل في اتخاذ القرارات اللازمة بشأنها. وتمنح للمجلس صلاحيات تخصيص ترددات الموجات الإذاعية المستخدمة من قبل الجميع وتشمل حتى الإذاعة والتلفزيون وشبكات الانترنيت وأجهزة الهاتف المحمول في سورية، وحق اتخاذ الإجراءات الكفيلة لتشكيل الأجهزة اللازمة لمراقبة التقيد بقرارات المجلس وضمان سريتها.
لأن الاستقلال السياسي للعديد من دول العالم يمثل اليوم أحد خصائص النظام الدولي الجديد الآخذ بالتبلور منذ العقد التاسع من القرن العشرين ورغم ذلك فإن الظروف العالمية الراهنة تظهر اتجاه بعض الدول إلى تبني هيمنة وتأثير بعض الدول المعينة على هذا النظام الدولي الجديد الآخذ بالتبلور، بينما تتجه دول أخرى لرفض تلك الهيمنة والتأثير عليها، إضافة للسعي الحثيث للعديد من شعوب المناطق المضطربة والداخلة ضمن الحدود السياسية لبعض الدول، إلى الاستقلال السياسي عنها والتمتع بالسيادة القومية على أراضيها. وقد كان لمعادلة القوى تأثيرها على والأمن والتبادل الإعلامي الدولي، كنتيجة للتقدم التكنولوجي والعلمي في مجال تقنيات الاتصال، فقد أصبحت الدول أكثر ارتباطا وقرباً من بعضها البعض أكثر من ذي قبل، وأصبح للاتصال والتبادل الإعلامي الدولي دوراً متميزاً في العلاقات الدولية، خاصة فيما يتعلق بمكونات الشخصية القومية لمختلف شعوب العالم، وتشكيل وتوظيف السياسة الخارجية للدول، والسياسات الدولية بشكل عام، ويمثل عدم التوازن والتفاوت في توفير الاتصال وأمن التبادل الإعلامي الدولي بين مختلف دول العالم أحد الأبعاد الهامة في السياسة الدولية المعاصرة. وهذا يؤكد أن التدفق الحر للمعلومات لابد أن يكون أكثر من مجرد تدفق معلومات في اتجاه واحد. وليصبح التدفق حراً لابد من تحقيق شيء من التوازن الحقيقي بين الدول. وقد يحدث عدم التوازن داخل دورة التبادل الإعلامي الدولي بأشكال مختلفة، مثلاً: بين الدول المتقدمة والدول الأقل تقدماً والدول النامية؛ بين الدول ذات النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية المختلفة؛ وبين الدول المتقدمة المنتمية لنفس المنظومة السياسية، خاصة من حيث الإمكانيات، وبين الدول الكبيرة والدول الصغيرة؛ وبين الدول النامية نفسها بين الدول الفقيرة ذات الدخل المنخفض، والدول الغنية ذات الدخل المرتفع، من عائدات الموارد الطبيعية مثلاً؛ وبين الأنباء المشجعة والأنباء السيئة. وكل هذه الأشكال من حالة عدم التوازن، لا تقتصر فقط على التدفق الإعلامي والاتصال والتبادل الإعلامي الدولي وأمنه فقط، بل تتعداها إلى جمع وإعداد ونشر المعلومات لأغراض التطور العلمي، ونقل التكنولوجيا المتطورة الجديدة، وحاجات الاقتصاد الوطني ... الخ، وبالتالي يؤدي هذا إلى اتساع الفجوة بين الدول المرسلة، أي منابع التدفق الإعلامي الدولي، وبين الدول المستقبلة، أي المستهلكة للمادة الإعلامية الدولية.
وقد دعت الدول المنتسبة لبعض التكتلات الدولية، كمنظمة الدول غير المنحازة، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، والمنظمات الإقليمية كجامعة الدول العربية، ومنظمة الوحدة الإفريقية، ومنظمة التعاون الاقتصادي لدول وسط آسيا وغيرها من المنظمات، إلى استقلالية وسائل الإعلام الجماهيرية الدولية، وإلى تحقيق التوازن في تدفق الأنباء والتخفيف من آثارها السلبية، ونادت هذه الدول بإقامة نظام عالمي جديد للتبادل الإعلامي الدولي، ليحل مكان النظام القديم، من خلال بناء نظام دولي للاتصال أكثر أمناً وحرية ومرونة، وأكثر عدلاً وفاعلية وتوازناً، نظاماً جديداً مبنياً على أسس المبادئ الديمقراطية وتكافؤ الفرص بين مختلف دول العالم.
وترتبط مواضيع الأمن والتدفق الإعلامي، ونظم الاتصال والتبادل الإعلامي الدولي، بمفاهيم متداخلة مثل: (حرية الإعلام)، و(التدفق الحر للإعلام)، و(التدفق المتوازن للإعلام)، و(النمو الحر للوسائل الإعلامية). هذا إن لم نتعرض لبعض الصعوبات الناتجة عن التصرفات السياسية لبعض الدول التي تعيق حرية التبادل الإعلامي الدولي، والتي يمكن تداركها بسهولة لو توفرت النوايا الحسنة، مثل: حظر انتقال الصحف والمجلات والكتب ومنع استيرادها، أو تصديرها في بعض الأحيان من قبل الدول المتقدمة، خوفاً من تسرب التكنولوجيا المتطورة. وقد استخدم مبدأ التدفق الحر للإعلام كوسيلة سياسية واقتصادية من قبل الدول الغنية لتحقيق أهداف سياستها الخارجية في الدول النامية، ولهذا رأت الدول النامية في مبدأ التدفق الحر للإعلام، تأكيداً لسيطرة عدد قليل من الدول الصناعية المتقدمة على سيل المعلومات المتدفقة إلى الدول النامية، ورأت أن حرية الإعلام تعني أن يكون تدفق المعلومات باتجاهين تأكيداً للعدالة في التبادل الإعلامي الدولي. خاصة وأن مبدأ التدفق الحر للإعلام، أدى إلى تدفق أحادي الجانب للمعلومات والرسائل الإعلامية، والبرامج الإذاعية والتلفزيونية، وبرامج الكمبيوتر والمنتجات الثقافية من الدول المتطورة صناعياً إلى الدول الصغيرة والأقل تطوراً والدول النامية، مما عزز من سيطرة مراكز القوى في العالم، وأحكم سيطرتها على عملية التدفق الإعلامي من الشمال الغني إلى الجنوب الفقير.
والتدفق الإعلامي باتجاه واحد يعتمد على أنماط تاريخية وثقافية معينة، يؤثر حتى على بعض الدول الداخلة في إطار إقليم جغرافي واحد، إذ نرى في أوروبا أن بعض الدول تسيطر على سيل المعلومات المتدفقة من القارة الأوربية، وتجاهل وسائل إعلام تلك الدول المسيطرة للإنجازات الضخمة والنجاحات التي حققتها بعض الدول الأوربية الصغيرة، أثناء بثها للمعلومات من خلال عملية التبادل الإعلامي الدولي. وعلى هذا الأساس فإنه يمكننا الخروج بالاستنتاجات التالية: أنه هناك سيل جارف من المعلومات باتجاهين بين دول شمال القارة الأمريكية، والقارة الأوربية؛ وأنه هناك اتجاه واحد للتدفق الإعلامي يتركز من شمال الكرة الأرضية إلى جنوبها، يستقبل من خلاله العالم أكثر من 90 % من المواد الإعلامية عبر لندن وباريس ونيويورك، ويظهر هذا بوضوح في عدم التوازن في إنتاج الصحف والمجلات والكتب والبرامج الإذاعية والتلفزيونية، وغيرها من المواد الإعلامية، ونشرها وتوزيعها عبر الشبكات الدولية لوسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية، ويعكس في نفس الوقت الوضع الحقيقي للتبادل الإعلامي الدولي، وكانت ردة فعل الدول المتقدمة والمسيطرة على وسائل الاتصال والتدفق الإعلامي بشكل عام، غير مرضية على مساعي مجموعة الدول غير المنحازة لتقوية وضعها في عملية التبادل الإعلامي الدولي.
ومن الظواهر الواضحة في التبادل الإعلامي الدولي، بعد التطور الهائل في وسائل الاتصال الحديثة، طرح المعلومات كسلعة وخدمات تتمثل في نقل وحفظ واسترجاع البيانات والمعلومات، واحتلال الأنشطة التجارية حيزاً كبيراً من المساحة الإعلامية، وهو ما تظهره الصحف والمجلات والبرامج الإذاعية والتلفزيونية وبرامج الحاسب الآلي في القنوات والشبكات العالمية، مما يقلل من القيمة الثقافية والاجتماعية لوسائل الإعلام الجماهيرية الدولية، من ضمن عملية التبادل الإعلامي الدولي، ولمواجهة المشاكل التي خلقها التدفق الإعلامي الدولي للدول النامية، طالبت هذه الدول عبر المحافل الدولية، بإقامة نظام عالمي جديد للتبادل الإعلامي الدولي، ولتحقيق العدالة وتحسين وضع الدول النامية في عملية التدفق الإعلامي الدولي. وقد تحقق تحسن ملحوظ في إطار التدفق الإعلامي الدولي، بين الدول النامية والدول الصناعية المتقدمة، بعد ظهور بعض الأنظمة الإعلامية الجديدة، وإنشاء العديد من وكالات الأنباء التابعة للتجمعات الدولية والإقليمية.
وهنا يجب الإشارة إلى أن وسائل الإعلام الدولية تساعد على تكوين المواقف من القضايا المطروحة، أو تضخيمها وتلعب دوراً كبيراً في عملية التغيير السياسي والاجتماعي والثقافي والفكري، لدى القراء والمستمعين والمشاهدين وتساعد في تدعيم سلوك الجمهور الإعلامي من موقف معين، أو التشكيك به، أو رفضه، أو تغييره لصالح موقف جديد. وهذا متوقف على مدى تكثيف الحملات الإعلامية والوسائل المستخدمة فيها ومدى وضوح موقف مستقبل الرسالة الإعلامية للقائم بالاتصال، أو تعرض مستقبل الرسالة الإعلامية لموقف إعلامي غير متماسك أو لصور نمطية سبق لمستقبل الرسالة الإعلامية وتعرض لها، ومدى تحيزه لمضمون الرسالة الإعلامية بحد ذاتها.
ولكن الحديث عن الأمن الإعلامي الوطني لا بد من الإشارة إلى وظائف الدولة التي تنحصر عامة في ثلاث وظائف رئيسية، هي: حماية الاستقلال، وتأكيد سيادة الدولة، وحفظ الأمن الداخلي بمفهومه الواسع بما يتضمنه من وجود سلطات شرعية، تعمل على تحقيق الحياة الأفضل، أو تحقيق الرفاهية، وإشباع رغبات الأفراد في كافة المجالات. وسعي الدولة لتحقيق تلك الأهداف من خلال مجموعة من الخطط تتعلق كل منها بتحقيق واحدة من تلك الأهداف، ومحاولة إحداث التوازن والتكامل بين تلك الأهداف من خلال إستراتيجية واحدة تضعها في محاولة لأن يكون هناك تناسق بين تلك الأهداف وبين متطلبات تحقيقها على المستويين الداخلي والخارجي، ويتفق على أن هذه السياسة الواحدة هي سياسة الأمن القومي التي تهدف بشكل عام إلى دعم قوة الدولة في مواجهة غيرها من القوى والدول بما يمكنها من المحافظة على كيانها القومي ووحدة أراضيها، ولا تختلف الدول مهما تباعدت مصالحها في فهم وتطبيق الوظيفتين الأولى والثانية، ولكن عندما نأتي إلى الوظيفة الثالثة، أي تحقيق الحياة الأفضل لمواطنيها، تظهر خلافات ناتجة عن تباين الأنظمة والمصالح. وتحاول الدولة من خلال سياسة الأمن القومي، الدفاع عن كيانها اعتماداً على قدراتها الذاتية في مواجهة ما قد يتهددها من أخطار، فتخصص من الموارد والإمكانيات ما يتناسب مع حجم وطبيعة هذه الأخطار، واضعة نصب أعينها، عجز الأمم المتحدة عن القيام بمسؤولياتها كاملة، وتأثير الدول الكبرى على كل تحرك تقوم به الأمم المتحدة، ولذلك تحاول الدولة أن تقدر بطريقة موضوعية المخاطر التي تواجهها في الداخل، أو من الخارج، آخذة بعين الاعتبار ما لديها من مقدرات عسكرية، واقتصادية، وسياسية، وكيف يمكن استخدام تلك المقدرات استخداماً سليماً حينما يتطلب الأمر استخدامها، وبعبارة أخرى كيف توازن الدولة بين مواردها والغايات التي ترجوها.
وسياسة الأمن القومي تتضمن كافة الإجراءات التي تراها الدولة كفيلة بحماية كيانها، وتحقيق أمنها في مختلف المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية، وعادة تتولى هيئات متخصصة داخل الدول وضع تلك السياسات التي تشمل عادة ثلاثة مجالات رئيسية، هي:
المجال السياسي: الذي ينقسم بدوره إلى ثلاثة أقسام رئيسية، هي: السياسة الخارجية: إذ أدى تشابك المصالح بين الدول بفعل التقدم العلمي والتقني في مجال النقل والاتصال إلى إلغاء الحدود والمسافات بين الدول. لتصبح لكل دولة مجموعة من العلاقات المختلفة مع العديد من الدول بمختلف اتجاهاتها الإيديولوجية، وتتراوح السياسة الخارجية للدولة مع غيرها من الدول بين التعاون الكامل الذي يصل أحياناً إلى الوحدة أو الاتحاد بمختلف أشكاله، وبين الصراع واستخدام القوة المسلحة، أو اللجوء إلى الحرب الباردة، ومحاولة فرض السيطرة والنفوذ. والسياسة الداخلية: وهي كل ما يتعلق بسياسة الدولة الداخلية كنظام الحكم، كما تحدده دساتيرها وقوانينها وتشريعاتها المختلفة. ويدخل في ذلك الإطار خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية والعمل على توفير الأمن والنظام داخل الدولة. والعمل الدبلوماسي: إذ تتصل الدولة بغيرها من الدول بالطرق الدبلوماسية، وتعمل على تدعيم أجهزة هذا الاتصال ووسائله، حتى تتجنب الصدام المباشر مع الدول الأخرى عن طريق اللجوء إلى المفاوضات وإلى الإقناع، أو إبرام الاتفاقيات والدخول في تحالفات، وتعمل على الاستفادة من نظام الأمن الجماعي، في إطار منظمة الأمم المتحدة، لتحقيق أهدافها، وتهدف سياسة الأمن القومي في هذه الحالة تأكيد مكانة الدولة في المجتمع الدولي، ومحاولة التأثير وممارسة النفوذ على غيرها من الدول المجاورة والبعيدة.
المجال الاقتصادي: ويعد المجال الاقتصادي لسياسة الأمن القومي من الأهمية بمكان، لارتباطه أساساً بتوفير الاحتياجات الاقتصادية للدولة أو بقدراتها تجاه الدول الأخرى، وتشعر الدول باحتياجاتها الاقتصادية من الدول الأخرى، فهي تشعر أيضاً بأهمية ما تملكه من إمكانيات اقتصادية تستطيع استخدامها كورقة رابحة لتحقيق أمنها. وقد تتمثل تلك الإمكانيات فيما تملكه الدولة من رؤوس أموال، أو خبرة، أو منتجات مصنعة، أو مواد أولية، أو أسواق لامتصاص السلع التجارية ورؤوس الأموال، ولهذا تسعى الدول لزيادة قدراتها الصناعية، وتعمل على توفير المواد الخام والمواد الغذائية اللازمة، ورفع كفاءة العاملين في المجالات الصناعية، بالإضافة إلى دعم قدراتها المالية للوفاء بالتزاماتها المالية دون المساس باحتياجات الدولة الأساسية. ويشمل الجانب الاقتصادي في هذا النطاق مجالاً واسعاً يتجاوز إمكانيات الدولة الفعلية ومجموع نشاط الأفراد، ليشمل العلاقات الداخلية والخارجية، بما في ذلك تطوير إمكانيات التطور العلمي والتكنولوجي لوسائل الإنتاج وغيرها، عن طريق استغلال العوامل الاقتصادية لمباشرة النفوذ في ميدان العلاقات الدولية، من خلال أساليب معينة وفقاً لما تمليه عليها سياستها الخارجية. ونتيجة لأهمية تأثير الجانب الاقتصادي على سياسة الأمن القومي، فقد أصبح للمعلومات الاقتصادية أهمية قصوى جعلها تماثل أهمية المعلومات العسكرية والدبلوماسية، فهي تشمل كل ما يتعلق بمصالح الدولة الاقتصادية من مختلف جوانبها، سواء المتعلقة بمصالحها الذاتية أو بمصالحها مع مختلف دول العالم، أياً كانت درجة علاقاتها بها، ولذلك فإن المجال الاقتصادي يمثل جانباً هاماً لما له من تأثير على الأمن القومي.
المجال العسكري: ويهدف الجانب العسكري لسياسة الأمن القومي حماية استقلال الدولة، وسلامة ووحدة أراضيها ضد أي عدوان خارجي قد تتعرض له من الخارج، لذلك فهي تعمل على تدريب قواتها العسكرية، وتسليحها بالأسلحة الحديثة، وتهتم بخطط الدفاع سواء في أوقات النزاع المسلح، أو في أوقات السلم، وتقوم بإعداد الخطط الدفاعية، والدراسات اللازمة لمواجهة الأخطار المحتملة أو المتوقعة، كما تقوم الدولة في ذات الوقت بالارتباط بمجموعة من مواثيق الدفاع القادرة على ردع أي عدوان من أي نوع قد تتعرض له من الخارج. وعادة ما يكون الجانب العسكري في سياسة الأمن القومي للدول الصغرى مقتصراً على دعم قدرة الدولة دفاعاً عن النفس، في مواجهة ما يمكن أن تتعرض له من عدوان. أما الدول ذات السياسات التوسعية فتنمي قدراتها العسكرية لتهديد الدول الأخرى أو العدوان عليها، لذلك تسعى تلك الدول إلى زيادة نفوذها من خلال مجموعة من مواثيق الدفاع أو التحالفات العسكرية مع غيرها من الدول التي يكون الهدف المعلن عنها عادة الدفاع عن النفس. وتجدر الإشارة إلى أن أثر القدرة العسكرية للدولة لا يقتصر على المسائل المرتبطة بالدفاع عن الدولة فحسب، لأنه من الواضح لا يمكن إنكار أهمية ما تملكه الدولة من قوة عسكرية حتى في مجال المفاوضات السياسية، حيث تكون الدولة ذات القوة العسكرية في مركز القوة في مواجهة الدولة الأضعف تسليحاً. ولتحقيق الأمن القومي الحقيقي لابد من إيجاد توازن بين المصادر المتاحة، والأهداف المطلوب تحقيقها، وبمعنى آخر تقدير الموارد الاقتصادية والمالية المتاحة للدولة، مع الأخذ بعين الاعتبار القدر اللازم من الموارد لدعم قدرات الدولة العسكرية، والحد الأدنى الواجب الحفاظ عليه من أجل مواطني الدولة، ومدى قدرة البناء الاقتصادي للدولة على تحمل الأعباء الاقتصادية الناجمة عن تحقيق سياستيها الداخلية والخارجية.
إضافة للعوامل الأخرى التي تشكل بمجملها سياسة الأمن القومي الداخلية والخارجية وأسلوب تنفيذها. الذي ينبع أساساً من التصرفات البشرية والرغبات الجماعية والفردية التي تمارس على نطاق الدولة، مستمدة من خصائص مواطني تلك الدولة ومدى ثقافتهم، وشكل الحكومة التي تدير شؤونهم، والأحوال الاقتصادية والاجتماعية السائدة بين أفراد المجتمع، والزعامات الموجودة فيه في وقت معين، وكذلك النظريات والأفكار التي يتبناها الرأي العام داخل الدول. وبعبارة أخرى، القوة البشرية التي تمتلكها الدولة ومدى ما يمكن أن تقدمه هذه القوة من تضحيات من أجل سلامة الدولة، والتنظيم الاجتماعي السائد الذي ينظم الأوضاع الداخلية، ومصادر الثروة التي تمتلكها الجماعة، ومدى قوتها العسكرية وقدرتها على استخدامها، وكلها عوامل هامة وأساسية لنجاح سياسة الأمن القومي، وتحتاج قبل كل شيء للمعلومات. إذ لا يكفي أن تتمتع الدولة بنظام داخلي يحفظ لها تيسير علاقاتها الخارجية، بل يجب حتى تمارس الدولة علاقاتها الدولية بنجاح، أن يكون لديها الإمكانيات التي تيسر لها العلم بما يدور من حولها في أرجاء العالم المختلفة، والقدرة على تحليل المواقف والأشخاص، والزعامات القادرة على حسن التوجيه حتى تصل إلى تحقيق أهدافها القومية. وليس للمعلومات في ذاتها أهمية للدولة، ما لم تحسن استغلالها، ولذلك يتطلب الأمر وجود ثلاث أنواع من الأجهزة: الأول ويناط به جمع المعلومات وتوخي الدقة الكاملة قدر المستطاع؛ الثاني ويتولى تفسير المعلومات، وعادة ما تقوم به أجهزة فنية متخصصة تعمل على تحليل المعلومات وتصنيفها حسب أهميتها ودلالاتها؛ الثالث ويقوم بمراجعة هذه التحليلات واتخاذ القرارات النهائية بشأن المشاكل التي تواجهها الدولة. وقد أصبح من المتعارف عليه قيام الدول بجمع المعلومات اللازمة لها في مختلف المجالات، على الرغم من عدم وجود سند قانوني يبيح لها هذا العمل، ولم يأت القانون الدولي التقليدي صراحة بالتزامات، ولم ينص على منح الدول حقوقاً في مجال الحصول على المعلومات، أو تقديمها لغيرها من الدول، إلا إذا اعتبرنا حق الدولة في إرسال البعثات الدبلوماسية والتزامها باستقبالها، الأساس في تحقيق هذا الحق على ضوء ما هو معروف من أساليب المراقبة بهدف الحصول على المعلومات في نطاق القيود التي يفرضها القانون الدولي. والممارسة الفعلية لهذا الحق، هو أحد الوظائف الرئيسية للبعثات الدبلوماسية، ونتيجة لذلك يثير العمل الذي تقوم به البعثات الدبلوماسية كثيراً من الخلافات، خاصة وأن التفرقة بين العمل الدبلوماسي البحت، والعمل الدبلوماسي الذي يقوم أساساً، أو ينطوي على جمع للمعلومات، هو من الأمور الدقيقة التي يصعب وضع الحدود بينها، وتحديد ما يعتبر من المعلومات التي تدخل في إطار السرية، وتلك التي لا تدخل في هذا الإطار، هي مسألة معقدة، والحد الفاصل بين النوعين يكاد يكون متداخلاً. وتتزايد هذه المشكلة تعقيداً في عالم اليوم الذي يشهد ثورة معلوماتية، أصبح الحصول فيها على المعلومات أمراً هيناً بفعل التقدم العلمي المستمر في مجال رصد وتجميع ونقل المعلومات التي يسري عليها هذا القيد، فتدخل في إطار الأسرار التي تهدد أمن الدولة، وتلك التي تخرج عن دائرة السرية. ويثير قيام الدولة بجمع المعلومات اللازمة لها عن غيرها من الدول قضية هامة، لأن المعلومات التي قد تحصل عليها دولة، من دولة أخرى تؤثر على أمنها القومي، خاصة إذا تعلق الأمر بمعلومات تراها الدولة المعنية مرتبطة بأمنها وسلامتها، ومن ثم فإنه من الضروري التفرقة بين المعلومات التي يترتب على الحصول عليها مساس بأمن الدولة وسلامتها وتلك التي لا ينطبق عليها هذا الوصف.
ونظراً لأهمية المعلومات المتعلقة بأمن الدولة وسلامتها، جرت العادة على استبعاد مجموعة منها من نطاق المعاملات المباشرة، سواء في داخل الدولة أو خارجها، وتفرض عليها نطاقاً من السرية والكتمان، معتبرة أن محاولة الحصول عليها، أو الحصول عليها يدخل في دائرة التجريم وفقاً لتشريعاتها الجزائية. وتتعدد تلك المعلومات بتعدد المصالح المرتبطة بها، وهي تنحصر عادة في الأسرار السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية، التي هي بالنظر إلى طبيعتها يجب أن تبقى في طي الكتمان حرصاً على سلامة الدولة، أو التي يقتصر العلم بها على أشخاص محدودين بذاتهم، أو التي يترتب عن كشفها تقييم المقدرة الدفاعية للدولة في جوانبها السلبية والإيجابية. وتختلف الدول فيما بينها من حيث طبيعة هذه المعلومات أو الصفة التي تلحق بها، نظراً لارتباط هذا الموضوع بموضوعات أخرى كالحريات العامة، داخل الدولة نفسها، أمام مشكلة تحقيق التوازن بين مقتضيات أمنها، وبين ما ينشده الفرد من حماية لحقوقه وحرياته، فمن الأهمية بمكان إحداث التوازن والتوافق بين حق الدولة في الأمن وحقوق الأفراد في المعرفة، دون أن يطغى أحدهما على الآخر.
وذهبت تشريعات بعض الدول إلى تحديد طبيعة المعلومات التي تدخل في دائرة السرية. فقد تكون هذه المعلومات متعلقة بحماية إقليم الدولة وتأمينها كما في بلجيكا ولوكسمبورغ، وقد تكون معلومات تتعلق بحقوق الدولة تجاه الدول الأخرى كما في أيسلندا، أو الأمور التي يفترض أنها تهم أمن الدولة كما في هولندا، أو تلك التي تتعلق بمصالح الدفاع القومي، أو المتعلقة بالأسرار العسكرية والاقتصادية والسياسية كما في سويسرا، وفرنسا، ولم تتناول تشريعات دول أخرى كبلجيكا، ولوكسمبورغ، وهولندا، وسويسرا، وضع تعريف محدد للأسرار المتعلقة بأمنها والدفاع عنها باعتبارها فكرة واسعة تختلف وتتنوع إلى صور كثيرة، مما لا يجوز معه تقييدها بتعريف ضيق محدد. ويؤدي هذا الاتجاه إلى تخويل القضاء سلطات واسعة في تفسير النصوص القانونية، بينما حاولت دول أخرى التصدي لمحاولة وضع تعريف لأسرار الدفاع، وتعدادها في صيغ عامة، مثل التفرقة التي أقرها القانون الفرنسي، وقانون العقوبات الإيطالي.
ومن خبرات الدول النامية نرى أن المشرع المصري قد أخذ مجموعة الأسرار المرتبطة بالدفاع عن البلاد، بحكم طبيعتها لا يعلمها إلا الأشخاص الذين لهم صفة في ذلك، مع مراعاة أنه لمصلحة الدفاع عن البلاد، يجب أن تبقى سراً على ماعدا أولئك الأشخاص، وتشمل: المعلومات العسكرية: الحقائق التي تتعلق باستعداد البلاد العسكرية وكفايتها الدفاعية، ووسائل الدفاع عنها، وعملياتها الحربية في البر والبحر والجو، سواء في وقت السلم أم في وقت الحرب. كالمعلومات المتعلقة بسلاح سري، أو طرق الوقاية منه، والخطط العسكرية وتاريخ ومكان إجراء التجارب والتدريبات العسكرية، والتعليمات الصادرة من القيادة العسكرية لضباطها وجنودها؛ والمعلومات السياسية: وهي تتعلق بالسياسة الداخلية والخارجية المتبعة، أو التي تنوي الدولة السير عليها، متى كانت ترتبط بشؤون الدفاع عن البلاد، ولو بطرق غير مباشرة. فلا عبرة بالمعلومات التي تتعلق بسياسة الحكومة في السابق؛ والمعلومات الدبلوماسية: الحقائق المتعلقة بعلاقة الدولة دبلوماسياً مع غيرها من الدول، مثال: اعتزام الدولة قطع علاقاتها السياسية بدولة معينة، أو الاعتراف بهيئة ثورية تناهض الحكومة، والاتصالات الدبلوماسية بين الدولة ودولة أجنبية أخرى للتوسط في حل نزاع دولي يمس أمن الدولة؛ والمعلومات الاقتصادية: وهي ليست إلا نوعاً من المعلومات الاقتصادية التي ترتبط بالمجهود الصناعي للدولة، ولا يقتصر الأمر على الإنتاج الصناعي للدولة، بل يمتد إلى الشركات الخاصة التي تفيد الدولة في إنتاجها في الدفاع عن البلاد، مثال: ما تورده إحدى الشركات من إنتاج للقوات المسلحة، لاستعمالها الخاص في العتاد الحربي.
ولا ينبغي أن يفهم أن جمع المعلومات العسكرية أو السياسية أو الدبلوماسية أو الاقتصادية تعد متعلقة بأسرار الدفاع عن البلاد، بل يجب توافر شرطين لذلك: الأول: أن تكون المعلومات متعلقة بالدفاع عن البلاد، أي تتعلق بسلامة الدولة وسيادتها، ووسائل الدفاع عنها وعن كيانها في شتى الميادين في زمن السلم وفي زمن الحرب. والثاني: أن تكون هذه المعلومات بطبيعتها من الأسرار التي لا يعلمها إلا الأشخاص الذين لهم صفة في ذلك، ومن ثم لا يقتصر معنى الدفاع عن البلاد على المدلول العسكري وحده، بل يتسع لكل ما يتعلق بأمن الدولة الخارجي، من النواحي العسكرية والسياسية والدبلوماسية والاقتصادية في زمن السلم أو في زمن الحرب بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وعلى ذلك، فالسرية ليست صفة لصيقة بالمعلومات، ولكنها صفة تخلعها عليها الدولة من زاوية معينة، فهي طبيعة اعتبارية للمعلومات، وهي مسألة نسبية، فما يعتبر سراً في فترة معينة، لا يعتبر سراً بعد مرور فترة زمنية معينة، والسرية صفة تلحق بالمعلومات في لحظة معينة تمليها سلامة الدولة في تلك اللحظة. ولهذا على المتخصصين بالمعلوماتية والإعلام والمراسلين الأجانب والمستشارين والملحقين الإعلاميين المعتمدين في أي دولة أن يتعرفوا على مضمون ليس القوانين الناظمة للعمل الصحفي في البلاد المعتمدين فيها وحسب، بل والتعرف على مضمون قوانين العقوبات فيها، وخاصة ما يمس منها العمل الإعلامي والمعلوماتي.
وهناك طائفة أخرى من المشكلات التي ترتبط بقيام دولة ما بالحصول على المعلومات عن غيرها من الدول، بغير الطرق المشروعة أو العلنية، وهي مشكلة نتجت عن التقدم العلمي في مجال المعلومات ونقلها، فالصورة التقليدية للحصول على المعلومات هي عبارة عن علاقة مباشرة بين دولة وأحد الأفراد الذين ينتمون إليها، أو من رعايا دولة أخرى، يقوم بنقل المعلومات إليها، أو قيام مواطن دولة محايدة بجمع المعلومات لصالح إحدى الدول، ولكن الصورة التقليدية تغيرت وأصبحت العلاقة مباشرة بين دولتين دون طرف آخر، يتوسط عملية نقل المعلومات، وذلك نتيجة لحصول الدولة على المعلومات اللازمة لها بصورة مباشرة عن طريق الاستشعار عن بعد بواسطة الأقمار الصناعية أو طائرات التجسس والوسائل الإلكترونية الأخرى، وكان الهدف أو الغاية، فيما مضى هما اللذان يحددان طبيعة الفعل، ثم حدث تطور بظهور العنصر العام للدولة في هذه العلاقة فأصبحت الوسيلة هي التي تحدد طبيعة الفعل، وترتبط بذلك أيضاً، مشكلة أخرى يثيرها الحصول على المعلومات عن طريق الأقمار الصناعية، أو طائرات التجسس أو الاستشعار عن بعد بواسطة دولة معينة، ولا تكون الدولة صاحبة الشأن على علم بذلك. وهو ما يطرح بدوره تساؤلات عن مدى التزام الدولة التي حصلت على هذه المعلومات باطلاع الدولة صاحبة الشأن عليها، أم أن لها أن تبقيها كورقة رابحة تستخدمها في مجال الضغوط السياسية ! وما مدى مسؤولية الدولة التي حصلت على هذه المعلومات، إذا قامت بتزويد دولة ثالثة بما حصلت عليه من معلومات ؟
وقد حاولت منظمة الأمم المتحدة منذ عام 1960 من خلال اللجان المتخصصة، ولجنة الأمم المتحدة لاستخدام الفضاء الخارجي، البحث عن إطار قانوني يحدد هذه العلاقة، بالإضافة إلى تنظيم اكتشاف ثروات الأرض عن طريق الاستشعار عن بعد والمشكلات الأخرى المترتبة على الثورة في مجال نقل المعلومات أو ما يمكن أن يطلق عليه النظام الدولي الجديد للاتصالات والمعلومات New Word Information and Communication Order واحتمالات تأثير هذا المجال الجديد على سيادة الدولة وأمنها القومي، وقدرتها الاقتصادية والصناعية وغيرها، وكررت منظمة الأمم المتحدة محاولة التصدي للمشكلات الناتجة عن الحصول على المعلومات بواسطة الأقمار الصناعية في أعوام 1979، 1980، 1981. ولكن جهود اللجان الفرعية ومجموعات العمل الفنية، باءت بالفشل بسبب الخلاف على المصالح القومية للدول، وعلى وجه التحديد بين الدول المتقدمة في هذا المجال وتلك التي لم تنل حظها منه بعد. وبمعنى آخر خلاف الدول التي تستطيع الحصول على المعلومات وتلك التي تتلقى المعلومات فقط، وهو صراع بين حرية نقل المعلومات والتمسك بالسيادة القومية، بما في ذلك مصادر الثروة الطبيعية وأية معلومات عنها، فالدول المتقدمة ترى أن المادة 19 من اتفاقية الأمم المتحدة للحقوق السياسية والمدنية، قد نصت على مبدأ حرية نقل المعلومات، في الوقت الذي تمسكت فيه الدول الأخرى بالفقرة 3/ب من نفس المادة التي قيدت هذا الحق بمقتضيات الأمن القومي والنظام العام والصحة العامة والأخلاقيات.
وتبلور خلاف بين فريقين: الأول: ويضم الدول الصناعية المتقدمة؛ والثاني: ويضم الدول التي تدافع عن النظام الاقتصادي الدولي الجديد، الذي نص عليه قرار منظمة الأمم المتحدة لعام 1974. وبمعنى آخر الخلاف بين دول الشمال، ودول الجنوب. وقد توصلت المناقشات التي تمت بين أعضاء اللجان الفرعية الفنية إلى ضرورة أن يكون هناك تنسيق بين الدول في حالات الكوارث الطبيعية، وبضرورة إبلاغ الدول المعنية بأية معلومات قد تتوافر في هذا الشأن. أما بالنسبة للمعلومات الأخرى، التي يتم الحصول عليها بواسطة الأقمار الصناعية فكان هناك نوع من الاتفاق على بعض الموضوعات الخلافية، ومنها: أن تمتنع الدولة التي تقوم بالاستشعار عن بعد دون موافقة الدول التي يتم تصوير أراضيها، عن تقديم المعلومات لدولة أخرى أو منظمة دولية أو المؤسسات العامة أو الخاصة. وقد أيدت غالبية الدول النامية هذا الاتجاه في حين عارضته الدول المتقدمة؛ وأن يكون الاستشعار عن بعد بما يتفق مع حق الدولة المعنية في التصرف في مصادرها الطبيعية بما في ذلك المعلومات المتاحة عنها، ولكن في ظل القواعد القانونية غير الواضحة لا يزال المجتمع الدولي بعيداً عن وضع قواعد لتنظيم نقل المعلومات والحصول عليها عن طريق الأقمار الصناعية، مما يدعو إلى وضع بعض القواعد العامة التي يمكن أن يسترشد بها في هذا المجال. أولها: تقييد حرية الفضاء الخارجي باعتبارات الأمن للدولة صاحبة الشأن؛ وثانيها: حق جميع الدول في الحصول على المعلومات التي تتعلق بأراضيها وثرواتها؛ وثالثها: ضرورة التعاون الدولي من أجل مساعدة جميع الدول على الحصول والاستفادة من المعلومات التي يتوصل إليها. هذا مع الإبقاء على حق الدولة المعنية في إثارة المسؤولية الدولية ضد الدولة التي تحصل على معلومات عنها، وأن تطالبها بتقديم هذه المعلومات مع اعتبار أن ما قامت به يشكل عملاً غير مشروع.
والحل يبقى في التعاون الدولي، وفي النوايا الحسنة بين الدول. لأن الصراع غير ملائم لعالم اليوم، ويؤدي إلى تشتيت الجهود الدولية التي يمكن أن توجه إلى ما فيه صالح المجتمع الدولي نفسه. خاصة في ظل التقدم العلمي والتكنولوجي الهائل في مجالات النقل والاتصال التي عملت على تقريب المسافات بين أجزاء العالم المختلفة، وأصبح العالم معها اليوم أكثر ترابطاً من ذي قبل، وهو ما يؤكد أن تحقيق الأمن القومي لا يتم من خلال الصراع بين الدول بل من خلال التعاون الوثيق بينها. ولا ريب في أن تخلي الدول عن سياسة القوة، والتزامها بمبادئ القانون الدولي وقواعده، بروح من التضامن والإخاء، لن يؤتي ثماره بتحقيق الأمن لدولة بعينها فحسب، بل سوف يحقق الأمن لكافة الدول في العالم، ويجنب البشرية ويلات الحروب المدمرة، التي ضاعف من خطورتها التطور التكنولوجي الهائل في كل ميادين الحياة ومن بينها ميدان صناعة وإنتاج أسلحة التدمير الشامل الفتاكة والمدمرة. وأن تصب جهود التعاون الدولي في مجال مواجهة الآثار الناجمة عن المخاطر الاقتصادية داخل الدول، وأن تسعى الدول إلى توفير الغذاء ورفع المستوى الثقافي والاقتصادي لمواطنيها، وأن تعيد البناء الاجتماعي داخل الدولة، بما يحقق تنمية حقيقية، بدلاً من إضاعة الوقت والجهود في الصراع من أجل تركيز القوة للمواجهة مع الغير. خاصة وأن الاكتشافات العلمية في مجال النقل والاتصالات ونقل المعلومات عبر الأقمار الصناعية وقنوات الاتصال ونقل المعلومات الأخرى، قد أحدثت تغييراً شاملاً في مفهوم السيادة، وأصبحت الممارسة الفعلية لمظاهر السيادة تتحقق بقدر ما تحوزه الدولة أو ما يتيسر لها من إمكانيات يوفرها التقدم العلمي في شتى المجالات. لأن الإطار الجديد للتنافس بين الدول في العالم قد أصبح اقتصادياً، وأصبح تحقيق التفوق أو التقدم الاقتصادي يعادل القوة العسكرية، كما أن التقدم الإنتاجي يعادل تطوير الأسلحة الفتاكة، وأن اقتحام الأسواق العالمية الذي تسانده الدولة، لا يقل أهمية عن القواعد العسكرية في أراضي الدول الأجنبية، ولا يقل أهمية عن النفوذ الدبلوماسي في تلك الدول.
وكانت منظمة الأمم المتحدة دائماً السباقة في دراسة مشاكل التدفق الحر للمعلومات منذ تأسيسها وحتى اليوم. ولهذا لم يكن غريباً أن تتضمن الوثائق الهامة التي صدرت عن الدورة 54 للهيئة العامة لمنظمة الأمم المتحدة، وثيقة حملت في مضمونها أبعاداً سياسية وإنسانية عميقة، تناولت موضوع "العولمة الإعلامية" واستقرار إستراتيجية العمل السياسي والدبلوماسي في القرن الحادي والعشرين، بعد أن اعترف المجتمع الدولي وللمرة الأولى بوجود مشكلة الأمن الإعلامي الدولي كنتيجة حتمية لـ"العولمة الإعلامية"، على أنها مشكلة تهدد المجتمع الإنساني في المرحلة التالية للقرن النووي. وجاء هذا الاعتراف من خلال القرار 54/49 الذي تناول مشكلة "تحقيق الأمن الدولي في الإعلام والاتصالات المسموعة والمرئية"، وقد برزت تلك المشكلة بحدة بعد التقدم الهائل في تكنولوجيا المعلوماتية ووسائلها المختلفة، وخلق هذا التقدم إلى جانب النواحي الإيجابية التي حملها للبشرية التي تنتظر منه الكثير في المستقبل، مجالاً جديداً تماماً من التهديد تمثل في خطر استخدام منجزات التقدم التكنولوجي في الإعلام والاتصال والاستشعار عن بعد لأغراض تتعارض والمهام المنتظرة منها في دعم وتعزيز التفاهم والأمن والاستقرار الدولي. ومشكلة الأخطار التي تهدد الأمن الإعلامي للدول الأقل تطوراً، ولم تعد مشكلة منتظرة بل حقيقة قائمة خلقت نوعاً من التبعية الواقعية للدول الأكثر تطوراً في كل مجالات النشاط الإنساني داخل المجتمعات المحلية في الدول ذات السيادة، وشملت كل النواحي الاقتصادية والسياسية والعلمية، والثقافية، والإعلامية، وأصبحت الحاجة معها ملحة لتأمين نوع من الأمن القومي داخل المصالح الدولية المتشابكة بفعل "العولمة الإعلامية" وابتعاد التبادل الإعلامي الدولي عن دوره الطبيعي، وابتعاد استخدام شبكات المعلومات الدولية وشبكات الاتصالات المرئية والمسموعة العالمية، وتقنياتها ووسائلها عن أداء وظيفتها الإيجابية المنتظرة منها.
فالتقدم الهائل في تقنيات وتكنولوجيا الاتصال والإعلام الجماهيري أصبح اليوم يعادل في خطره، خطر السلاح النووي الذي كان سمة من سمات القرن العشرين، وأصبح فرعاً من فروع سباق التسلح، الذي أصبح مرة أخرى يستنزف موارد ضخمة، كان يجب أن توجه لخير البشرية وليس لتهديدها. خاصة وأن أكثر دول العالم غير مهيأة حالياً وغير مستعدة، أو غير قادرة على إقامة أو تحديث وسائلها المعلوماتية المؤثرة، رغم أن الكثير منها بدأت بالميل نحو شراء وامتلاك مثل تلك الوسائل، من الدول المتقدمة التي أصبحت مسيطرة تماماً على الأشكال الجديدة من أسلحة الدمار الشامل ومن بينها السلاح المعلوماتي، ولم يقتصر الأمر على الدول فقط، بل اتسع ليشمل القوى السياسية المختلفة المتصارعة، والتنظيمات الإرهابية وعصابات الجريمة المنظمة، مما خلق نوعاً جديداً وسوقاً مربحة لتجارة الأسلحة الجديدة التي أصبحت تتضمن قوائمها تقنيات وتكنولوجيا وبرامج الحاسب الآلي ووسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية.
وفي ظروف "العولمة الإعلامية" وتشابك الحياة على الكرة الأرضية، وظهور وتشكل شبكات وبنى معلوماتية دولية فوق الدول، أصبحت بما لا يدع المجال لأي شك تستخدم كسلاح معلوماتي مؤثر على العقول والمواقف، ووسيلة لشن حروب واسعة النطاق تطال الإنسان أينما كان، بفاعلية يمكن أن تؤدي نتائجها بل وتعادل قوتها وتأثيرها التدميري وتتفوق في بعض الظروف على أسلحة الدمار الشامل التقليدية المعروفة، وليس عبثاً أن ترصد بعض الدول المتقدمة في ميزانياتها مخصصات للأمن المعلوماتي تعادل بمستواها المخصصات التي ترصد لمواجهة أخطار استخدام أسلحة الدمار الشامل التقليدية، رغم اختلاف استخدام السلاح المعلوماتي في الحرب عن الأشكال التقليدية من أسلحة الدمار الشامل، لأن تأثيرها يمكن أن يطال الجبهة الداخلية في الصميم. مع إمكانية استخدام الأسلحة المعلوماتية الدولية التي تتميز بالقدرة المؤثرة الكبيرة ضد الأهداف المدنية، كوسيلة من وسائل الصراع على السلطة، وفي الصراعات القومية والعرقية والدينية. والأمثلة على ذلك في عالم اليوم كثيرة، ولا ينحصر تهديدها الواقعي على القوى البشرية فقط، بل اتسع ليشمل الأنظمة المعلوماتية التي تملكها الدول، والمنظمات والهيئات الدولية، من قبل دول معادية أو قوى الإرهاب والإجرام المنظم على السواء، مما أعطى لطابع تأثيرها طبيعة كارثية من خلال ليس التسلل لداخل تلك الأنظمة وحسب، بل وفي تخريب تلك الأنظمة، والتأثير على محتوياتها من معلومات وإتلافها، وهو ما كان الدافع على ما أعتقد لاتخاذ القرار 54/49 أثناء الدورة 54 للهيئة العامة للأمم المتحدة في الأول من كانون أول/ديسمبر 1999.
وكان من الطبيعي أن تتوصل الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة للتفاهم حول موضوع هام يمس البشرية بأسرها في ظل "العولمة الإعلامية". سبق ونوقش في أيار/مايو 1996 أثناء المؤتمر الدولي للعولمة في المجتمع الإعلامي الذي انعقد في ميدراند بجنوب إفريقيا. واستعرض بجدية موضوع التهديدات الجديدة للعولمة، وأسفر عن نتائج واستجابة عاصفة من قبل كل المشاركين في المؤتمر، مما رفع من مستوى القضية لتصبح من بين القضايا الملحة التي تنتظر الحل من قبل المجتمع الدولي، وتتطلب إيجاد حل ملائم لها قبل أن تتفاقم وتصبح مستعصية كغيرها من المشاكل العالقة في إطار الدبلوماسية الدولية حتى اليوم، وقد تبلورت المشكلة أكثر أثناء التحضيرات التي جرت للإعداد للقاء القمة بين رئيس الولايات المتحدة الأمريكية والرئيس الروسي في أيلول/سبتمبر 1998. فقد اقترح الجانب الروسي مشروع بيان مشترك للقاء القمة تناول مشكلة الأمن الإعلامي. لكن الأمريكيون اكتفوا بالإطلاع على المشروع، وامتنعوا عن مناقشته. ورغم ذلك فقد تضمن البيان الختامي للقاء القمة، إشارة صريحة للتهديدات العامة للأمن على عتبة القرن الحادي والعشرين، حيث أعلن الجانبان أنهما: وافقا على "تنشيط الجهود المشتركة للتصدي للتهديدات عبر القوميات في الاقتصاد والأمن للبلدين، بما فيها تلك التي تعتبر جرائم عن طريق استخدام تكنولوجيا الحاسب الآلي وغيرها من الوسائل التكنولوجية المتقدمة"؛ واعترفا "بأهمية الجهود الإيجابية المشتركة لإضعاف التأثيرات السلبية الجارية الآن نتيجة لثورة تكنولوجيا الاتصال، التي تعتبر مهمة وجادة في الجهود الرامية لحماية مصالح الأمن الإستراتيجي للبلدين في المستقبل". وأصبح بعد ذلك عزم روسيا واضحاً لإثارة المشكلة أبعد من ذلك، فقام وزير الخارجية الروسي إيفانوف بتوجيه رسالة خاصة إلى الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة في 23 أيلول/سبتمبر 1998 تضمنت اقتراحا بإدراج مشكلة الأمن الإعلامي الدولي بين مواضيع عمل المنظمة الدولية، والنظر في مشروع قرار خاص حول هذا الموضوع. وأعلن في كلمته من على منبر الدورة 53 للهيئة العامة للأمم المتحدة، بأن جوهر الاقتراح الروسي يتضمن الاقتراح على الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة، التوصل لمفهوم محدد حول التهديد في مجال الأمن الإعلامي، وأن تقدم كل دولة تقديراتها الخاصة للمشكلة، بما في ذلك إعداد مبادئ دولية توفر الأمن في ظروف عولمة منظومات المعلوماتية الدولية، وأن تتضمن تلك التقييمات التي تقدمها الدول الأعضاء في المنظمة إلى الأمين العام للأمم المتحدة، إلزامه بتقديم تقرير خاص عن المشكلة يبحث خلال الدورة التالية للهيئة العامة لمنظمة الأمم المتحدة. بشكل تتوضح معه جوانب الصراع المبدئي حول موضوع التهديد باستخدام المنجزات العلمية والتقنية والتكنولوجية الحديثة في أغراض تتعارض مع أهداف تعزيز الأمن والاستقرار العالمي. وجاء القرار الذي استند على الاقتراح الروسي خلال الدورة 53 للجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة 53/70 عن "المنجزات في مجال الإعلام والاتصالات المرئية في إطار الأمن الدولي" في 4 كانون أول/ديسمبر 1998، بشكل ملطف عن المشروع الروسي حيث اختفت من القرار الكثير من المقترحات التي حددت الإجراءات اللازمة حسب التصور الروسي، لتنظيم عملية التصدي لإمكانية استخدام تكنولوجيا المعلوماتية في الحرب، وشرح خطر تطوير السلاح المعلوماتي، وإشعال الحروب المعلوماتية. وبذلك يكون المجتمع الدولي قد اعترف من خلال منظمة الأمم المتحدة ولأول مرة بوجود الحرب المعلوماتية على المستوى الدولي، واعتبر هذا الإنجاز تقدماً سياسياً هاماً رغم عدم استعداد أكثرية الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة لتقبل القضية كمشكلة من كل جوانبها، وعاد المجتمع الدولي وغير من موقفه من المشكلة خلال الدورة 54 للجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة.
فالمعارك للسيطرة على عقول الكثير من الشخصيات السياسية في موقع القرار وتوجيهها هي "حرب غير مرئية" على الرغم من أنها أخذت خطاً واقعياً، وأصبحت بالتدريج تهدد جوهر الصراع من أجل السيطرة على وعي صاحب القرار، ولتحد من إمكانيات أي مواجهة جادة للأخطار الخارجية، إضافة لأخطار التأثير والتخريب المتعمد للموارد المعلوماتية المتاحة لكل دولة، ووسائل الحصول عليها وحفظها ونشرها واستعادتها والتعامل معها. مما دفع ببعض الدول إلى الشروع بتطبيق برامج حكومية طويلة المدى على المستوى القومي، الهدف منها تأمين الأمن المعلوماتي القومي وسلامة البنى التحتية لنظم الإعلام الوطنية. في نفس الوقت الذي بدأت فيه بالتعامل مع "العولمة الإعلامية" وآثار التشابك المتبادل بين المجالين الإعلاميين الوطني والدولي. واضطرت مجبرة على الاعتراف بأن نجاح الجهود الوطنية للحفاظ على الموارد المعلوماتية الخاصة بكل دولة، ليست في النهاية سوى جهود حثيثة لرفع مستوى "المناعة السلمية" للنظام الإعلامي الوطني في مواجهة الساحات الإعلامية للدول الأخرى التي أصبحت تشمل دولاً بعيدة عنها جغرافياً، وليس بالضرورة أن تكون تلك الدول مجاورة، ولكن يكفي أن تكون متشابكة معها من خلال شبكات الاتصال الدولية وفي الموارد الإعلامية بشكل موضوعي ومتشعب يصعب فصله.
ومشكلة "السلاح الإعلامي" و"الحرب الإعلامية" أصبحت مثاراً للمناقشة من قبل المتخصصين بشكل واسع، منذ بداية الـتسعينات من القرن العشرين، ومنذ ذلك الوقت بدأت تظهر أعداداً كبيرة من المقالات والدراسات حول هذا الموضوع الهام في العديد من الصحف والمجلات. وبدأ يناقش ضمن موضوعات الكثير من المؤتمرات واللقاءات العلمية الوطنية والإقليمية والدولية، التي صبت اهتمامها بمعظمها على مواضيع الأبحاث التي لا تتفق ومبادئ السلام العالمي، وبرامج تطوير التكنولوجيا الخاصة بطرق حماية الموارد المعلوماتية من التأثير الخارجي. ولكن كل تلك المناقشات والمقالات والدراسات المنشورة حملت طابع المحلية، وكانت بعيدة كل البعد عن المناقشات الدولية التي كان يجب أن تتناول مشاكل "العولمة الإعلامية، والأمن الإعلامي". رغم أن المشكلة حظيت ليس باهتمام المتخصصين وحسب، بل واستحوذت على اهتمام عدد كبير من غير المتخصصين وقادة الرأي، ولهذا يمكننا اعتبار صدور القرار 53/70 عن منظمة الأمم المتحدة بمثابة إنذار يشير بجدية للخطر الجاثم، الذي وقعت فيه البشرية ويهدد صميم النظم الإعلامية الوطنية، ويهدد الإنسانية في القرن الحادي والعشرين، بعد أن ظهر جلياً للمجتمع الدولي بما لا يدع مجالاً للشك، أنه أصبح متوفراً لدى العديد من الدول المتقدمة تكنولوجيا معلوماتية متطورة، ونتائج أبحاث جاهزة وهامة يمكن استخدامها في التأثير على الموارد الإعلامية للغير. وحقائق لا تقبل الجدل من أن نتائج الأبحاث تلك أدت إلى صنع وسائل تستخدم في الأغراض العسكرية البحتة، حتى ولو لم يتم تسميتها بالأسلحة الإعلامية.
وأصبح واضحاً أيضاً بعد توفر معلومات كافية، تتحدث عن شروع العديد من الدول الصناعية المتقدمة في إجراء أبحاث للحصول على تقنيات وتكنولوجيا متطورة في مجال الاتصال، وإعداد تكنولوجيا متطورة وتقنيات وطرق لاستخدامها بهدف السيطرة المباشرة على الموارد المعلوماتية للخصم، والتأثير المباشر عليه، حيث أشارت بعض المصادر إلى أن أكثر من 120 دولة من دول العالم وصلت وفي مستويات مختلفة لنتائج ملموسة في هذا المجال الذي لا يقل خطورة عن السلاح النووي، بينما تجرى أبحاثاً لتطوير السلاح النووي في 20 دولة فقط من دول العالم تقريباً. وتذكر بعض المصادر أن بعض الدول أصبحت تملك وسائل جاهزة للدفاع ضد أخطار السلاح المعلوماتي ضد العدو المتوقع في ظروف الصراعات العسكرية على مختلف المجالات والمستويات، حتى في زمن السلم. ويشمل الإطارين الإستراتيجي والعملياتي التكتيكي، وصولاً إلى أرض المعركة كما أثبتته القوات الأمريكية خلال حربها ضد العراق. وأن الاهتمام منصب الآن على مواضيع تتعلق بحماية المجال المعلوماتي الخاص بتلك الدول من تأثير استخدام السلاح المعلوماتي من قبل دول معادية، تفادياً لتأثير الحرب غير المعلنة في المجال المعلوماتي. كما وبات معروفاً أيضاً من أن بعض الدول التي تقوم فعلاً بشن الحرب المعلوماتية، أو شنتها قد أدخلت السلاح المعلوماتي فعلاً في نظمها العسكرية وتقوم بإعداد وحدات عسكرية مدربة خاصة ومدعومة بالمتخصصين في هذا المجال الهام، للقيام بالعمليات الإعلامية الهجومية كأداة من أدوات الصراع الأخرى لتحقيق النصر العسكري الحاسم على العدو. ويعتبر المهتمون بالمشكلة أن الستار قد انكشف فعلاً عن استخدام السلاح المعلوماتي عملياً في الحروب الأهلية الجارية هنا وهناك، وفي الصراع على السلطة في معظم دول العالم، وفي الصراعات القومية والعرقية والدينية. وأن الأسلحة المعلوماتية أظهرت مقدراتها الفريدة على أرض المعركة وتأثيرها النفسي والمادي والمعنوي سواء في وقت السلم أو في وقت الحرب، وتجاوزها عملياً لكافة الحدود الوطنية والسياسية والجغرافية بتجاهل تام لاستقلال وسيادة تلك الدول.
وأكتشف المراقبون أن معظم الصراعات الداخلية الأخيرة والهامة تتم بمساعدة ودعم كبيرين من الخارج وهو ما نفهم منه أن تلك الصراعات لم تنجو من استخدام بعض الوسائل الحديثة في الصراع ضمن المجال المعلوماتي، والتي يمكن اعتبارها أسلحة معلوماتية، ليصبح واضحاً: أن وقت الأشكال التقليدية من "التخريب الإيديولوجي" و"عمليات الاختراق الفكري" و"الحرب النفسية" قد ذهبت، لتحل محلها الوسائل الحديثة، وعلى مستوى جديد من التأثير، وأن مستوى استخدام تلك الوسائل قد أرتفع بشكل لا يوصف. إذ لا يمكن مقارنة الخطابة أمام حشد من الجمهور يمكن تفريقه، أو مقالة في صحيفة يمكن مصادرتها، أو برنامج إذاعي مسموع أو مرئي يمكن التشويش عليه، بسرعة انتشار المعلومات في كل أنحاء العالم، أو اختفاء تلك المعلومات مباشرة وبسرعة هائلة من كل أنحاء العالم، عبر شبكات الحاسب الآلي وأشهرها شبكة "الانترنيت" العالمية، وهي معلومات أصبحت اليوم مزودة بالصورة الثابتة والمتحركة، والتسجيلات المرئية والمسموعة. ويمكن أن تعادل بفعاليتها الأسلحة المعلوماتية، التي يهدف من استخدامها أن تكون فوق القوميات، وفوق الدول، وثبت عملياً أن في كل أنواع "الحروب المعلوماتية الأهلية" وبشكل غير مباشر هناك قوة ثالثة، وضعت ضمن أهدافها الحيوية الاختراق وتخطي الحدود لداخل ضمير تلك المجتمعات الضحية. وظهر ذلك جلياً خلال الأعوام الماضية عندما استخدمت أراض الغير لإدارة هذا النوع من الصراعات كما حدث في العراق (قبل وأثناء وبعد حرب تحرير الكويت عام 1991، واجتياح العراق عام 2003)، وإندونيسيا (أثناء انفصال تيمور الشرقية)، وجمهورية إشكيريا (الشيشان) في حربها المستمرة من أجل الاستقلال، والحرب التي خاضتها وتخوضها بعض دول الاتحاد اليوغوسلافي السابق من أجل الاستقلال، وقيام إسرائيل بالاستيلاء حتى على الأقراص المدمجة لأجهزة الكمبيوتر خلال حملاتها العسكرية في الأرضي الفلسطينية المحتلة.
فعلى مثال يوغوسلافيا انكشفت محاولات توريط الاتحاد الدولي للاتصالات الإلكترونية من خلال مبادرة الأمم المتحدة في كوسفو، وقرار تحديد نهايات الأقنية المستقلة للاتصالات التلفونية والاستيلاء على الرمز الدولي لتلك الدولة، وكان من الممكن أن يبقى ذلك الإجراء شبه مجهول لو لم يعلن عنه. ومثل تلك الخطوة يمكن اعتبارها بالكامل جهوداً إضافية، الهدف منها عزل الأقنية الإعلامية للخصم وبالتالي الحد من تأثيرها وإخراجها من معادلة الصراع. ومثال أدوات الصراع من أجل استقلال تيمور الشرقية، قيام منظمة "East Timor campaign" مباشرة بعد الاقتراع على استقلال المحافظة الإندونيسية السابقة تلك، ومن أراضي إسبانيا والبرتغال وفرنسا بهجوم كاسح استهدف المواقع الحكومية الإندونيسية في شبكة الانترنيت العالمية، خربت بنتيجتها صفحاتWEB الخاصة ليس بالحكومة وحدها، بل وصفحات المنظمات الإندونيسية، وأطلقت فيروسات كمبيوتر جديدة، بدأت بالعمل مباشرة للقضاء على المواقع الإعلامية الإندونيسية في شبكات الكمبيوتر العالمية. ولا يمكن أن تعتبر تلك العملية المعلوماتية المنفذة من أراضي دول أوروبية بعيدة جداً عن جنوب شرق آسيا، إلا حقيقة تثبت "لا حدودية" استخدام الأسلحة المعلوماتية، ومثال لاستخدامات الأسلحة المعلوماتية بشكل مباشر من أجل الوصول إلى أهداف سياسية داخلية محددة رغم البعد الجغرافي الشاسع بين المؤثر والمتأثر من استخدام السلاح المعلوماتي.
وفي الحالة العراقية عندما وضعت بعض المواقع العراقية تحت المراقبة المستمرة من قبل أجهزة مراقبة متطورة ثبتتها فيها فرق التفتيش الدولية، وعندما أجبرت الحكومة العراقية على إغلاق مواقعها في الانترنيت بعد أن تم التسلل إليها، وتغيير مضمونها لصالح المعارضة العراقية، وفقاً للنبأ الذي أذاعته إذاعة صوت العراق الحر من براغ يوم 3/6/2000، وعندما سيطرت القوات الأمريكية على الساحة الإعلامية العراقية تماماً قبل وأثناء وبعد دخول قوات التحالف الدولي للأراضي العراقية للقضاء على نظام حكم الرئيس العراقي السابق صدام حسين عام 2003 وانتهت باحتلال العراق.
هذا إن لم نتحدث عن العزل الإعلامي والتعتيم الإعلامي شبه الكامل، من قبل أكثرية وسائل الإعلام الدولية المؤثرة والتي هي فوق الدول، لرأي الجانب العربي في الصراع الدائر من أجل تحقيق سلام عادل وحقيقي بين العرب وإسرائيل، والاستعاضة عنه بإبراز رأي الجانب الإسرائيلي فقط وبشكل سافر، وزج الإسلام بأحداث لا علاقة له بها (وخاصة بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة الأمريكية)، تحدث هنا وهناك في أنحاء مختلفة من العالم عن طريق تشويه الحقائق بشكل مقصود، مما يوحي بخلق رأي عام دولي متحيز أحادي الجانب يشوه الحقائق وينصر المعتدي على الضحية، ويؤدي إلى حرمان المعتدى عليه ضمن إطار هذا الوضع غير الطبيعي من التعبير عن رأيه وتوضيح الحقائق أمام الرأي العام العالمي. ناهيك عن الحرب الإعلامية غير المعلنة من الخارج لإشعال نار الفتنة وتفعيل الخلافات العربية العربية، والعربية مع دول الجوار الإقليمي، والإسلامية الإسلامية. وهي أحادية الجانب لا تواجه أية مقاومة تذكر لضعف أدوات وفعاليات الإعلام العربي والإسلامي الموجه نحو الساحة الدولية حالياً على الأقل.
ولابد أن تلك الصورة هي التي أثرت بشكل نهائي على تقدير المشكلة بالكامل من قبل دول العالم الأقل تطوراً وهي التي أدت إلى تغيير مواقف الكثير منها بشكل جذري عما كان في السابق. وظهر هذا من خلال مؤتمر جنيف حول الأمن الإعلامي الذي انعقد في آب/أغسطس 1999، والذي نظمه معهد الأمم المتحدة لمشاكل نزع السلاح (يونيدير)، وإدارة قضية نزع السلاح في الأمانة العامة لمنظمة الأمم المتحدة، من ضمن إطار إجراءات تطبيق القرار 53/70 للهيئة العامة للأمم المتحدة وشارك في المؤتمر ممثلين عن أكثر من 50 بلداً، من بينهم كل اللاعبين الأساسيين على أرض تكنولوجيا المعلوماتية الدولية المتقدمة، مما سمح برفع مستوى نتائجه، ولو في إثارة المشكلة على المستوى العالمي على الأقل، بعد أن كانت حصراً بلقاءات المتخصصين وحدهم. ولا أخفيكم أني كنت أنتظر أن يناقش المؤتمر الثاني لأمن المعلومات والاتصالات الذي عقد في دمشق خلال حزيران/يونيه الماضي بعضاً منها ضمن إطار الجهود الرسمية والشعبية العاملة على مواجهة الظروف الإعلامية والمعلوماتية الصعبة التي تحيط بسورية الصامدة قيادة وشعباً في وجه الضغوط والتحديات الخارجية.
طشقند في 25/6/2006
للمزيد أنظر:
1. صحيفة الثورة العددين الصادرين بتاريخ 13 و14/6/2006م
2. أ.د. محمد الخاري: التفاعلات السياسية في وسائل الإعلام الجماهيرية. مقرر جامعي. معهد طشقند الحكومي العالي للدراسات الشرقية، 2006. (باللغة الروسية)
3. أ.د. محمد البخاري: التبادل الإعلامي الدولي والعلاقات الدولية. مقرر جامعي. معهد طشقند الحكومي العالي للدراسات الشرقية، 2006. (باللغة الروسية)
4. أ.د. محمد البخاري: مبادئ الصحافة الدولية في إطار العلاقات الدولية. مقرر جامعي. معهد طشقند الحكومي العالي للدراسات الشرقية، 2006. (باللغة الروسية)
5. أ.د. محمد البخاري: قضايا التبادل الإعلامي الدولي في ظروف العلاقات الدولية المعاصرة. مقرر جامعي. معهد طشقند الحكومي العالي للدراسات الشرقية، طشقند: مطبعة "بصمة" 2004. (باللغة الروسية)
6. العلاقات العامة والتبادل الإعلامي الدولي. مقرر لطلاب الدراسات العليا (الماجستير)، معهد طشقند الحكومي العالي للدراسات الشرقية، 2001. (باللغة الروسية)
7. أ.د. محمد البخاري: العلاقات العامة الدولية كهدف من أهداف التبادل الإعلامي الدولي. مقرر لطلاب الدراسات العليا (الماجستير)، معهد طشقند الحكومي العالي للدراسات الشرقية. طشقند 2000. (باللغة الروسية)
8. أ.د. محمد البخاري: وكالات الأنباء والصحافة الدولية في إطار التبادل الإعلامي الدولي. معهد طشقند الحكومي العالي للدراسات الشرقية. طشقند 2000. (باللغة العربية)
9. أ.د. محمد البخاري: وكالات الأنباء الدولية والصحافة الدولية في إطار التبادل الإعلامي الدولي. معهد طشقند الحكومي العالي للدراسات الشرقية. طشقند 2000. مقرر لطلاب العلاقات دولية، والعلاقات الاقتصادية الدولية، وتاريخ الدول الأجنبية. (باللغة الروسية)
10. أ.د. محمد البخاري: مبادئ الصحافة الدولية والتبادل الإعلامي الدولي. معهد طشقند الحكومي العالي للدراسات الشرقية. طشقند 2000. مقرر لطلاب العلاقات الدولية، والعلاقات الاقتصادية الدولية، وتاريخ الدول الأجنبية. (باللغة الروسية)
11. أ.د. محمد البخاري: العولمة والتبادل الإعلامي الدولي. بالاشتراك مع الدكتور صابر فلحوط. دار علاء الدين للنشر، دمشق 1999. (باللغة العربية)
12. أ.د. محمد البخاري: مبادئ الصحافة الدولية والتبادل الإعلامي الدولي. معهد طشقند الحكومي العالي للدراسات الشرقية. طشقند 1999. مقرر لطلاب السنة الثالثة علاقات دولية. (باللغة العربية)
13. أ.د. محمد البخاري: مبادئ الصحافة الدولية والتبادل الإعلامي الدولي. جامعة ميرزة أولوغ بيك الحكومية، طشقند 1997. مقرر لطلاب السنة الثالثة صحافة. (باللغة العربية)
14. أ.د. محمد البخاري: مبادئ الصحافة الدولية والتبادل الإعلامي الدولي. دار إحياء الفنون الإسلامية، دمشق 1997.صال والإعلام

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق