الأديب والسياسي الأوزبكي إيركين وحيدوف
أ.د. محمد البخاري
تعود بي الذكريات لأول لقاء جمعني بالشاعر والأديب والسياسي الأوزبكي إيركين وحيدوف في ثمانينات القرن الماضي عندما كان رئيساً لتحرير مجلة "يوشليك" وزرته في مكتبه آنذاك وسلمته مادة كتبتها عن اتحاد شبيبة الثورة والشباب في سورية وأذكر الاستقبال الحار الذي لقيته منه ونشرت تلك المادة على صفحات المجلة الموجهة للشباب. وكان لقاءنا الثاني عندما أهديه نسخة من صحيفة البعث، التي نشرت لي مادة في عددها رقم 6371 الصادر عام 1984 تحت عنوان "مع الشاعر إركين وحيدوف" وتحدثت فيها عن الانطباعات التي تركتها عنده الزيارة التي قام بها لسورية في ذلك العام ونشرها في طشقند بعد عودته.
وتكررت لقاءاتنا في مناسبات عديدة بعد استقلال أوزبكستان، وكنت في كل مرة أجيب فيها على تساؤلاته الكثيرة عن الأوضاع في سورية ومتى ستفتح سفارتها في طشقند ؟ وأعبر خلال الأحاديث الشيقة معه عن رأيي بما نشرته الصحافة المحلية من أشعار، ومقالات سياسية كتبها. وفي لقاء جمعنا صدفة منذ مدة عند صديق مشترك أوجزت له الأوضاع الدقيقة التي تمر بها سورية وصمودها بقيادة الرئيس بشار الأسد، وأعربت له عن إعجابي بالطريقة التي يجمع فيها بين الكتابة وممارسة العمل السياسي خاصة وأنه يرأس لجنة الشؤون الدولية في البرلمان، وتساءلت عن كيفية توفيقه بين العمل السياسي والإبداع الأدبي ! فما كان منه إلا أن ابتسم وقال لي: نعم، أنا أعاني دائماً ومنذ تخرجي من الجامعة وعملي في دار النشر من ضيق الوقت، وكثرة الترحال والتنقل ولقاء الناس ولهذا تعودت على هذا الأسلوب المتعب للحياة وأشعر بنقص عندما يتغير هذا الأسلوب ولو لفترة قصيرة. ولا أخفيك أني كتبت أفضل أشعاري أثناء الطريق في أسفاري المتعددة، أو في ساعات الليل المتأخرة عندما أتفرغ لنفسي، ولا أبالغ إن قلت أن الإلهام الحقيقي أستمده من الناس اللذين ألتقيهم في كل مرة ومعايشتي لسعادتهم، وآلامهم، وإحباطاتهم، وآمالهم، وأعتبر كل إنسان ألتقيه معلماً لي آخذ منه الكثير ليكون جزءاً من وجداني وأعيد تلك الأحاسيس لقرائي من خلال كتاباتي.
وهنا ابتسمت وقلت له يعني أن الشعراء يولدون شعراء فهل هذا صحيح ؟ فبادلني الابتسامة وأردف قائلاً لا أعرف، ولكن على ما أعتقد أن الشعراء لا يحتاجون لدراسات جامعية عليا، ولا يمكن أن أتصور كيف يمكن إعطاء إلهام الكتابة لأحد، فعندما تكتب قصيدة عن الحب، فهي تعبير عن شعور ذاتي يتولد عندك لتكتب عن ذلك، ولا يمكن أن لا تكتب في مثل هذه الظروف، فعملية الإبداع نفسها، ليست صعوبة في الإبداع، ولكنها مجموعة من المشاعر تنتهي بك إلى الشعور بلذة الشعر، والشعر لا يكتب وإنما يسمع… وأنا سعيد جداً لأني أجد الوقت لكتابة الشعر دائماً ولو بشكل محدود.
والشعر بطبيعته هو ثورة، انتفاضة، وصراع عفوي، ضد الغضب، وضد الشعر المألوف، وضد أولئك الذين كانوا قبلك، الشعر يجب أن يتقدم، والأهم من ذلك يجب على الشاعر أن يثير إعجاب القراء وكل ظرف يحتاج لأصواته، ولشعرائه، والشاعر الحقيقي هو سلطان العقل، هذه الظاهرة ليست أدبية فقط، ولكنها ظاهرة شعبية، وهو ما أنتظره اليوم من الشعراء الشباب.
وفي خضم هذه الذروة عادت لذاكرتي أحاديث الطلاب أثناء دراستي الجامعية في جامعة طشقند الذين كانوا يثنون دائماً على قصيدة "أوزبيغيم" التي كتبها الأديب والسياسي إيركين وحيدوف في أيام الصحوة القومية التي عاشتها أوزبكستان خلال ستينات القرن الماضي، وكان الطلبة حتى ثمانينات القرن العشرين يتبادلونها مكتوبة بخط اليد، فتبادر في ذهني أن اسأله عن القصيدة التي جعلت منه محط أنظار الجميع آنذاك. وجاء رده بجدية شعرت بها من خلال تعابير قسمات وجهه، وقال: نعم القصيدة التي كتبتها عام 1968 وأهديتها لشعبي، لم تتضمن أي مداهنة، والأكثر من ذلك أنها حظيت بالشهرة مباشرة بعد كتابتها، ولحنت، وأضحت على كل لسان يرددها الجميع وهو ما أزعج الأجهزة المعروفة، التي سارعت للالتقاء بي، ولمناقشتي، ولمعرفة أسباب كتابة هذه القصيدة، ولمعرفة من أوحى لي بها، ومن ورطني في كتابتها، وسرعان ما تحولت القصيدة إلى "عمل بطولي"، وبعبارة أخرى كان بحثهم في أرض عارية لأنهم لم يبحثوا في الأحاسيس والمشاعر القومية. فتساءلت حينها لماذا لا يستطيع الشاعر أن يغني لوطنه، وأن يفخر بأنه أوزبكي الانتماء، وظلت هذه القصيدة الشعرية ولوقت طويل "رهن الاعتقال"، ورغم مرور سنوات طويلة على كتابتها لم أغير فيها أية كلمة من الكلمات التي كتبتها آنذاك. ورغم تبدل الظروف حتى الآن فأنا لا أشعر بالخجل من أي شطر شعري كتبته لأني كنت دائماً صادقاً فيما أكتب، ولا يوجد عندي أشعار جاءت بالصدفة، ولا توجد أشعار أجبرت على كتابتها، أو أشعار اختلقتها كرهاً عني فكل ما كتبته خرج من قلبي 99 % وحتى أشعاري التي نشرتها الصحف دخلت لاحقاً في مجموعاتي الشعرية، فالشاعر يكتب لشعبه ويعبر عن سعادته وآلامه، والشاعر يحمل أحاسيسه لسنوات طويلة ويقول كلمته في الوقت اللازم والمناسب.
والشعر فن، ولكل فن سر، وقلب الشاعر وأحاسيسه مليئة بالأصوات الخاصة به، وليس من الضروري أن تنقش الأشعار على ألواح محفورة، وليس من الضروري أن تحلل من خلال البحث في الشعر عن الفكرة أو المضمون، لأن كل ذلك هراء لا أكثر، بل يجب أن يترك الشعر لأسراره، ويجب أن تقيّم الكلمة، التي تجعلنا نسمو، وتصنع الناس، وعلينا أن نسعي دائماً لأن يكون الشعر في متناول الجميع، وأن يشغل الشعر مكانه المناسب في حياتنا.
فأنا أكتب باللغة التي تعلمتها من أمي "اللغة الأوزبكية" خاصة في ذلك الوقت الذي كادت فيه لغتي القومية أن تختفي، ولكن شعبنا ذواق للشعر ويقدر الكلمة القيمة، والفكر الصادق دائما، ويقدر ما يتضمنه الشعر العاطفي، والأغنية الجيدة، ولا أخفيك مدى ارتباكي والخلجات غير الطبيعية التي أحس بها عندما ألقي أشعاري أما جمع من الناس، وأنسى شطراً منها ليذكرني به الحضور من الصالة. وكم تكون حياتي مليئة بالسعادة لو كانت مشابهة لحياة رابندرانات طاغور، الشاعر العظيم والمفكر الذي جلب الشهرة لوطنه، ولكنه مع ذلك بقي ذلك الإنسان البسيط حتى نهاية حياته.
وأنا معجب بأعمال غوته، الذي كان يكتب شعراً عالمياً حتى سن متأخرة من حياته، وساهم في رفع الشعر إلى القمة ولم يفقد طوره أبداً بل بقي غوته كما كان وهو ما تساويه خاتمة "فاوست". وحياة الشعراء لا تقاس بالسنوات التي يعيشونها أو بالسنوات الطويلة التي يمكن أن تتحول إلى تراجيديا، وأعتقد هذا ما دفع فزنيسينسكي ليقول: تموتون في الوقت المحدد لكم، ولكن عندما يعجز الشاعر عن التعبير عن نفسه فعليه أن يغادر الحياة. ومن الصعب أن أتصور نفسي بدور العجوز الذي لا يرضى عن شيء، ولا يمكن أن أتصور ليرمانتوف وقد عاش حتى سن الشيخوخة، أو عبد الله توقاي، أو عثمان ناصر، أو تشولبان … فقد غادروا الحياة شباباً ولكنهم خالدون بفضل آثارهم الأدبية.
الإنسان مع الوقت يتغير، وأشعاري المبكرة كتبتها بتأثير من أشعار علي شير نوائي، وسعدي، وحافظ، وبوشكين، ويسينين، ومثل هذه المراحل يمر بها كل الشعراء، ولكن الوقت يملي علينا شروطه، ونحن ننصاع لتلك الشروط، والشاعر دائم البحث عن الأفضل والأكثر كمالاً.
وكان تطرقه لبعض الشعراء الشرقيين بمثابة دعوة عفوية لأطلب من الشاعر والأديب والسياسي الأوزبكي إيركين وحيدوف، التحدث عن موقفه من إبداعات شعراء الشرق الذي ينتمي إليه فأمثلته كانت مشبعة بالثقافة الروسية والأوروبية ! فما كان منه إلا أن أومأ قليلاً ثم تابع قائلاً يحزنني أنني لم أتعامل مع إبداعات شعراء الشرق لأني لم أستطع فهمها حتى النهاية من الترجمات والسبب أني أجهل اللغة العربية واللغة الفارسية التي كتبت بها تلك الأشعار ولا بد من إتقانها ليشعر المرء بإلهية وسحر شعر الشرق، وهذا لا يعني أن ترجمة الشعر غير ممكنة، وأنا نفسي مارست الترجمة، وترجمت لبوشكين، وبلوك، وغوته، وقسم من فاوست، ويسينين، والكثيرون يعتبرون أن ترجمتي ليسينين كانت أفضل من الأصل، لأني أقدر إبداعات هذا الشاعر، ووظفت أحاسيسي وحبي لأشعاره وترجمتها، وكتبتها بدقة، ومع ذلك أنا ترجمت أشعار ولم أكتبها بنفسي.
والشعر كالشطرنج، لأنها لعبة عادلة لا تعتمد على الحظ أبداً، فالشطرنج يربي الإنسان على الإيمان بالنصر، وكل خطوة لا تخضع لتفكير وحسابات دقيقة أو تنطلق من تأثيرات عاطفية نهايتها فاشلة، وحتى عندما تكون واثقاً بالنصر، يجب أن لا تنسى الهزيمة.
وعلى الشعراء المبتدئين أن يكونوا واثقين من أن الشعر يبدأ منهم، لأن للشباب دائماً أحلام وطموحات كبيرة وعليهم أن لا يخجلوا، لأن الأهداف والأحلام الكبيرة تصنع الشعراء الحقيقيين، وعليهم أن يتعلموا الكثير دون التخلي عن مشاعر الرحمة، ومشاعر احترام العلاقات الأسرية، وتربية الأطفال، والمشاعر الصادقة نحو الحي في المجتمع الشرقي، لأنك في الحي لا تشعر بأنك وحيد أبداً. ففي الحي الذي أسكنه هناك تاجر بنى لنفسه منزلاً من طابقين وكثيرون اعتقدوا أنه بيتي، رغم أني في سبعينات القرن الماضي كنت أول من اشترى سيارة في الحي ومع ذلك ولفترة طويلة لم أركبها، خجلاً من جيراني المعروفين والمحترمين، الذين يكدحون أكثر مني، ولم تكن عندهم سيارات فالقيم الحقيقة هي الضمير والسلوك الفعلي.
وما أخشاه اليوم الخلط بين التوجهات، ففي ذلك الحي نفسه يعيش اليوم أناس أغنياء وآخرون فقراء، أناس تربوا على علاقات عادلة في العمل ومن بينهم مدرسين، وعلماء، ومنتجين، وهبوا أنفسهم لعملهم، ولم يستطيعون التكيف مع متغيرات الوقت، ولم يتوجهوا للتجارة في الأسواق ولم يشتغلوا بالبيع والشراء، نعم ظهرت طبقة يسمونها اليوم بالتجار طبقة تتمتع بكل وسائل الراحة، يملكون البيوت الكبيرة، والسيارات المستوردة، ويقومون برحلات حول العالم. وهذه الطبقة من بشر لا يجدون الوقت حتى للتفكير بالحياة البسيطة، أو لقراءة كتاب، أو لزيارة متحف، في الوقت الذي أصبح فيه المدرس عاجزاً عن شراء ضروريات العمل من مراجع أدبية، وأعتقد أنها كلها صعوبات مؤقتة في طريقها للزوال، وما أتمناه للجميع الصبر، والعمل الجاد، والإيمان دائماً بمستقبل أفضل.
وأعود الآن لسؤالك الذي كان في بداية حديثنا وأعتقد أنه لا جواب عليه لأني أصبحت أكتب أقل من السابق، لماذا ؟ لأني ومنذ وقت طويل لا أجد الوقت لكتابة الشعر، ففي الآونة الأخيرة أصبحت أتحدث أكثر، وألقي كلمات، وأعطي مقابلات صحفية، وما أكتبه على الورق تدريجياً أصبح أقل، وهذا مؤلم، ولكن هناك أفكار كثيرة ومثيرة، ولكنها مجرد أفكار وقد ألحق لأنجز هذا أو ذاك ومن يدري !! وودعني مغادراً المكان الذي جمعنا صدفة.
والشاعر والأديب والسياسي الأوزبكي إيركين وحيدوف ولد بمنطقة ألتي أريق بولاية فرغانة عام 1936، وتخرج من كلية الآداب بجامعة طشقند الحكومية عام 1960، وعمل محرراً ورئيساً للتحرير في دار نشر "يوش غفارديا" التابعة للجنة المركزية لاتحاد الشباب الأوزبكي، وفي دار غفور غلام لنشر الآداب والفنون، وتولى رئاسة تحرير مجلة "يوشليك" (الشباب).
ومن مجموعاته الشعرية المنشورة: نفسات الفجر 1961؛ وإليكم أغنيتي 1962؛ والقلب والعقل 1963؛ والفجر 1963؛ ونجمتي 1964؛ ومن الصوت 1965؛ وأشعار عاطفية 1966؛ وديوان الشباب 1969؛ والقنديل 1970؛ والشباب الحالي 1971؛ والحب ، والكواكب الحية 1980، كما ونشرت له عدة أعمال مسرحية من بينها مسرحيته الكوميدية "الجدار الذهبي"، 1970 التي صور فيها حياة المعاصرين في أوزبكستان ولاقت قبولاً واسعاً لدى المخرجين وتم عرضها على مسارح أوزبكستان وبعض الدول الأجنبية.
ومارس الترجمة من اللغة الروسية إلى اللغة الأوزبكية ونشرت له مجموعات شعرية لسرغي يسينين، ومسرحية "فاوست" لغوته، وأشعار لبوشكين، وبلوك. كما وترجمت أشعار وقصائد الشاعر والأديب والسياسي الأوزبكي إيركين وحيدوف إلى اللغة الروسية وغيرها من لغات الاتحاد السوفييتي السابق. وحصل على وسام "شارة الشرف"، وميدالية "العمل المتميز"، وتقدير المجلس الأعلى (البرلمان) في أوزبكستان، وقرغيزيا، وبيلاروسيا. وعلى جائزة اتحاد الشباب، وحصل عام 1983 على جائزة حمزة في الأدب بجمهورية أوزبكستان. وتفرغ للعمل السياسي منذ الأيام الأولى لاستقلال بلاده جمهورية أوزبكستان في عام 1991 وانتخب لعضوية البرلمان منذ دورته الأولى وترأس فيه لجنة الشؤون الدولية منذ تأسيسه وحتى الآن.
طشقند في 23/12/2006
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق