التبادل
الإعلامي من وجهة نظر الأمن القومي
بقلم:
أ.د. محمد البخاري: دكتوراه علوم في العلوم السياسية، اختصاص: الثقافة
السياسية والأيديولوجية، والقضايا السياسية للنظم الدولية وتطور العولمة. ودكتوراه
فلسفة في الأدب PhD اختصاص: صحافة. بروفيسور قسم العلاقات الدولية والعلوم السياسية
والقانون بمعهد طشقند الحكومي العالي للدراسات الشرقية.
تنحصر
وظائف الدولة بشكل عام بثلاث وظائف رئيسية، هي: حماية الاستقلال الوطني؛ وتأكيد
سيادة الدولة؛ وحفظ الأمن الداخلي، بمفهومها الواسع، بما يتضمنه من وجود سلطات
شرعية، تعمل على تحقيق الحياة الأفضل، وتحقيق الرفاهية، وتعمل على إشباع رغبات
الأفراد في كافة المجالات. وتسعى الدولة لتحقيق هذه الأهداف من خلال مجموعة من
الخطط تتعلق كل منها بتحقيق واحدة من تلك الأهداف، وتحاول أيضاً إحداث توازن
وتكامل بين تلك الأهداف، من خلال إستراتيجية واحدة تضعها في محاولة للتنسيق، بين
تلك الأهداف وبين متطلبات تحقيقها على المستويين الداخلي والخارجي، وهذه السياسة
الواحدة هي سياسة الأمن القومي التي تهدف بشكل عام دعم قوة الدولة في مواجهة غيرها
من الدول بما يمكنها من المحافظة على استقلال كيانها الوطني ووحدة أراضيها، ولا
تختلف الدول مهما تباعدت مصالحها في فهم وتطبيق الوظيفتين الأولى والثانية، ولكن
عندما نأتي إلى الوظيفة الثالثة، أي تحقيق الحياة الأفضل لمواطنيها، تظهر لنا
الخلافات الناتجة عن تباين الأنظمة والمصالح. وكان الخلاف أكثر وضوحاً بين الدول
التي أخذت بالأفكار الرأسمالية، والتي أخذت بالأفكار الاشتراكية أو الشيوعية، قبل
انهيار المنظومة الاشتراكية، والإتحاد السوفييتي السابق. وتحاول الدولة من خلال
سياسة الأمن القومي، الدفاع عن كيانها اعتماداً على قدراتها الذاتية في مواجهة ما
قد يتهددها من أخطار، فتخصص من الموارد والإمكانيات ما يتناسب مع حجم وطبيعة هذه
الأخطار، واضعة نصب أعينها، عجز الأمم المتحدة عن القيام بمسؤولياتها كاملة.
وتأثير الدول الكبرى وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية على كل تحرك تقوم به الأمم
المتحدة. ولذلك تحاول الدول أن تقدر بطريقة موضوعية المخاطر التي تواجهها في
الداخل، أو من الخارج، آخذة بعين الاعتبار ما لديها من مقدرات عسكرية واقتصادية
وسياسية، وكيف يمكن استخدام هذه المقدرات استخداماً سليماً، حينما يتطلب الأمر
استخدامها، وبعبارة أخرى كيف توازن بين مواردها والغايات التي ترجوها.
وسياسة
الأمن القومي تتضمن كافة الإجراءات التي تراها الدولة كفيلة بحماية كيانها، وتحقيق
أمنها في مختلف المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية. وتتولى عادة هيئات
متخصصة داخل الدولة وضع تلك السياسات التي تشمل عادة ثلاثة مجالات رئيسية، وهي:
المجال
السياسي:
وينقسم إلى ثلاثة أقسام رئيسية، تشمل:
السياسة
الخارجية:
إذ أدى تشابك المصالح بين الدول بفعل التقدم العلمي والتقني في مجالات النقل
والاتصال، إلى إلغاء الحدود والمسافات بين الدول، وأصبح لكل دولة مجموعة من
العلاقات المتنوعة مع العديد من دول العالم بمختلف توجهاتها الإيديولوجية. وقد
تتراوح السياسة الخارجية للدولة مع غيرها من الدول، بين التعاون الكامل الذي يصل
أحياناً إلى الوحدة، أو الإتحاد بمختلف أشكاله، وبين الصراع باستخدام القوة
المسلحة أو التهديد باستخدامها، أو اللجوء إلى حالة من اللا حرب واللا سلم، أو
اللجوء إلى الحرب الباردة، ومحاولة فرض السيطرة والنفوذ.
والسياسة
الداخلية:
وهي كل ما يتعلق بسياسة الدولة الداخلية، كنظام الحكم، وفق ما يحدده الدستور
والقوانين والتشريعات النافذة، وتدخل ضمن هذا الإطار خطط التنمية الاقتصادية
والاجتماعية، والعمل على توفير الأمن والنظام والاستقرار داخل الدولة.
والنشاط
الدبلوماسي للدولة:
لأن كل دولة تتصل بغيرها من الدول بالطرق الدبلوماسية، وتعمل على تدعيم أجهزة
ووسائل الاتصال بتلك الدول، لتتجنب الصدام المباشر وغير المباشر مع الدول الأخرى
عن طريق اللجوء إلى التفاوض والإقناع، أو إبرام المعاهدات والاتفاقيات، أو الدخول
في تحالفات إقليمية ودولية، والعمل على الاستفادة من نظام الأمن الجماعي، في إطار
منظمة الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية والإقليمية لتحقيق أمنها وأهداف
سياستيها الداخلية والخارجية. لأن سياسة الأمن القومي تهدف إلى التأكيد على مكانة
الدولة في المجتمع الدولي، ومحاولة التأثير، وممارسة النفوذ على غيرها من الدول
المجاورة وغير المجاورة.
والمجال
الاقتصادي:
ويعد الجانب الاقتصادي لسياسة الأمن القومي مهماً جداً لارتباطه أساساً بتوفير
الاحتياجات الاقتصادية للدولة، وضمان قدراتها حيال الدول الأخرى، واستشفاف
احتياجاتها الاقتصادية من الدول الأخرى، واستخدام ما تملكه الدولة من إمكانيات
اقتصادية لتحقيق أمنها. وقد تكون تلك الإمكانيات رؤوس أموال تملكها الدولة، أو
خبرات تتوفر لديها، أو منتجات صناعية جاهزة، أو ثروات باطنية ومواد أولية هامة، أو
أسواق تستوعب النشاطات التجارية، أو استثمارية تستوعب رؤوس الأموال. ولهذا تسعى
الدول لزيادة قدراتها الصناعية المتطورة، وتعمل على توفير المواد الأولية والمواد
الغذائية اللازمة لاحتياجاتها. وترفع كفاءة العاملين في المجالات الصناعية
والاقتصادية، وتدعم قدراتها المالية للوفاء بالتزاماتها دون المساس بالاحتياجات
الأساسية للدولة. ويشمل الجانب الاقتصادي في هذا النطاق أيضاً، مجالاً واسعاً
يتجاوز إمكانيات الدولة الفعلية، ومجموع نشاط مواطنيها، ليشمل العلاقات الداخلية
والخارجية، وتطوير إمكانيات التطور العلمي والتقني لوسائل الإنتاج ومستلزماتها،
والاستفادة من العوامل الاقتصادية لممارسة النفوذ من خلال العلاقات الدولية، وفق
أساليب معينة تمليها سياستها الخارجية. ونتيجة لأهمية تأثير الجانب الاقتصادي على
سياسة الأمن القومي، فقد أصبح للمعلومات الاقتصادية أهمية قصوى جعلها تماثل أهمية
المعلومات العسكرية والدبلوماسية، فهي تشمل كل ما يتعلق بمصالح الدولة الاقتصادية
من مختلف جوانبها، سواء المتعلقة بمصالحها الذاتية أو بمصالحها مع مختلف دول
العالم، أياً كانت درجة علاقاتها بها، ولذلك فإن المجال الاقتصادي يمثل جانباً
هاماً لما له من تأثير على الأمن القومي للدولة.
والمجال
العسكري:
ويهدف الجانب العسكري لسياسة الأمن القومي، حماية استقلال الدولة وسيادتها، وسلامة
أراضيها ضد أي عدوان خارجي قد تتعرض له من الخارج، لذلك فهي تعمل على تدريب قواتها
العسكرية، وتسليحها بالأسلحة الحديثة، وتهتم بخططها الدفاعية سواء في أوقات
النزاعات المسلحة أو الحرب، أو في أوقات السلم، وتقوم بإعداد الخطط الدفاعية،
والدراسات اللازمة لمواجهة الأخطار المحتملة أو المتوقعة، كما وتقوم الدولة في ذات
الوقت بالارتباط بمجموعة من مواثيق الدفاع القادرة على ردع أي عدوان من أي نوع قد
تتعرض له من الخارج. وعادة يكون الجانب العسكري في سياسة الأمن القومي للدول الصغيرة
مقتصراً على دعم قدرة الدولة دفاعاً عن النفس، في مواجهة ما يمكن أن تتعرض له من
عدوان، أما الدول ذات السياسات التوسعية فتستخدم قدراتها العسكرية لتهديد الدول
الأخرى أو العدوان عليها. لذلك تسعى الدول إلى زيادة نفوذها من خلال مجموعة من
مواثيق الدفاع أو التحالفات العسكرية مع غيرها من الدول التي يكون الهدف المعلن
عنها عادة الدفاع عن النفس. وتجدر الإشارة إلى أن أثر القدرة العسكرية للدولة لا
يقتصر على المسائل المرتبطة بالدفاع عن الدولة فحسب، رغم عدم إمكانية إنكار أهمية
ما تملكه الدولة من قوة عسكرية حتى في مجال المفاوضات السياسية، لأن الدولة التي
تملك قوة عسكرية هي في مركز قوة حيال الدول الأضعف عسكرياً.
ولتحقيق
الأمن القومي الحقيقي والواقعي لابد من إيجاد التوازن بين المصادر المتاحة،
والأهداف المراد تحقيقها، أي تقدير الموارد الاقتصادية والمالية المتاحة للدولة،
آخذة بعين الاعتبار الحجم المطلوب من الموارد لدعم القدرات العسكرية للدولة، والحد
الأدنى المطلوب لتلبية احتياجات الدولة ومواطنيها في الداخل والخارج، ومدى قدرة
البنية الاقتصادية للدولة على تحمل الأعباء الاقتصادية الناجمة عن تحقيق سياستيها
الداخلية والخارجية، إضافة لعوامل أخرى تشكل بمجملها سياسة الأمن القومي الداخلية
والخارجية، وأسلوب تنفيذها، الذي ينبع أساساً من التصرفات البشرية، والرغبات
الجماعية والفردية التي تمارس على نطاق الدولة بالكامل، وتستمد في نفس الوقت من
خصائص مواطني تلك الدولة وقدراتهم ومستواهم الثقافي والعلمي، وشكل الحكومة التي
تدير شؤونهم، والحالة الاقتصادية والاجتماعية السائدة في المجتمع، والزعامات
الموجودة داخل المجتمع في أوقات محددة، والنظريات والأفكار التي يتبناها الرأي
العام داخل الدولة المعنية. ويرتبط نجاح سياسة الأمن القومي بالقوة البشرية التي تمتلكها
الدولة، ومدى ما يمكن أن تقدمه من تضحيات من أجل أمن وسلامة الدولة، وشكل التنظيم
السائد الذي ينظم الأوضاع الداخلية في المجتمع، ومصادر الثروة التي يملكها
المجتمع، ومدى القوة العسكرية التي تملكها الدولة، وقدرتها على استخدامها. لأنها
كلها عوامل حيوية وهامة وأساسية لنجاح أية سياسة للأمن القومي، وتحتاج وقبل كل شيء
للمعلومات. فتمتع الدولة بنظام داخلي متين يتيح لها تيسير علاقاتها الخارجية لا
يكفي وحده، بل لابد أن يكون للدولة الإمكانيات التي تيسر لها الاضطلاع على ما يدور
حولها في أنحاء العالم المختلفة، وأن تملك القدرة على تحليل الموقف العام، ومواقف
الأشخاص والزعامات القادرة على التوجيه والتأثير، لتصل إلى أهداف سياسة الأمن
القومي المرجوة. والمعلومات بحد ذاتها لا تتمتع بأية أهمية للدولة ما لم يحسن
استغلالها والتصرف بها. ولهذا لابد من تواجد ثلاث أنواع من الأجهزة العاملة في
مجال المعلومات، وهي: الجهاز الذي يناط به مهمة جمع المعلومات، وتوخي الدقة
الكاملة قدر المستطاع؛ والجهاز الذي يتولى تفسير المعلومات التي وصلته من الجهاز
الأول وغيره من مصادر المعلومات، وعادة ما يكون هذا الجهاز عبارة عن مجموعة من
الأجهزة الفنية البحتة المتخصصة في مجالات محددة، ويعمل كل منها على دراسة وتحليل
المعلومات الواردة، وتصنيفها حسب أهميتها ودلالاتها ومؤشراتها؛ والجهاز الذي يقوم
بمراجعة تلك الدراسات والتحليلات، واتخاذ القرارات النهائية بشأنها، على ضوء
المشاكل التي تواجه الدولة في سبيل تحقيق أهداف سياسة الأمن القومي بشقيها الداخلي
والخارجي.
وقد
أصبح من المتعارف عليه، قيام الدول بجمع المعلومات اللازمة لها في كافة المجالات
الاقتصادية والعسكرية والسياسية والعلمية والصناعية والثقافية والاجتماعية
والبشرية، على الرغم من عدم وجود سند قانوني يبيح لها هذا العمل، لأنه لم يأتي في
القانون الدولي التقليدي ما ينص صراحة بالتزامات، ولم ينص على منح الدول حقوقاً في
مجال جمع المعلومات أو الحصول عليها، أو تقديمها لغيرها من الدول. إلا إذا اعتبرنا
ما منح للدول من حقوق في إرسال البعثات الدبلوماسية المعتمدة، والالتزام باستقبال
تلك البعثات، أساساً لحق جمع المعلومات والحصول عليها، على ضوء ما هو معروف من
أساليب المراقبة بهدف الحصول على المعلومات، في نطاق القيود التي يفرضها القانون
الدولي. وتعتبر الممارسة الفعلية لهذا الحق من الوظائف الأساسية للبعثات
الدبلوماسية المعتمدة في دولة المقر، ونتيجة لذلك يثير ما تقوم به البعثات
الدبلوماسية المعتمدة من مراقبة وجمع للمعلومات الكثير من الخلاف، لأن التفرقة بين
العمل الدبلوماسي البحت، والعمل الدبلوماسي الذي يقوم أساساً أو ينطوي على جمع
للمعلومات هو من الأمور الدقيقة التي يصعب تحديدها والتفريق بينها. ومن الأمثلة
على الخلافات الناتجة عن ذلك، ما شهدته الولايات المتحدة الأمريكية من انقسام في
الرأي حول نشاطات أجهزة الأمن السوفييتية التي عملت داخل الولايات المتحدة
الأمريكية قبل انهيار الإتحاد السوفييتي السابق، فالمسؤولين في وزارة الخارجية
الأمريكية أبدو تململاً من الإجراءات الشديدة التي اتخذتها وزارة العدل ضدهم، ولا
تتفق مع "القواعد العرفية غير المكتوبة" بين الدولتين في مجال الأمن،
ولكنها تتعلق بمن يتمتع بالحصانة الدبلوماسية المنصوص عنها في الاتفاقيات الدولية
والقانون الدولي. ومن الأمثلة الأخرى ما أعلن في أيار/مايو 1996 عن قيام مجموعة من
الدبلوماسيين البريطانيين المعتمدين في موسكو بالتجسس، عن طريق قيامهم بالتحقق من
شراء عملاء للجيش الجمهوري الإرلندي لأسلحة ومواد نووية من عصابات المافيا
الروسية. مما دعى الحكومة الروسية إلى طرد أربعة من الدبلوماسيين البريطانيين
المعتمدين من الأراضي الروسية بتهمة التجسس، وهو ما ردده جهاز المخابرات
البريطانية M16، وتبعه قيام بريطانيا بإجراء مماثل.
ومن
أوجه النقد الجدية التي توجه للحصانة الدبلوماسية، أنها قد تستخدم كغطاء لأعمال
غير دبلوماسية، لأن الحصانة الدبلوماسية تستوجب الموائمة بين اعتبارين اثنين، هما:
الاعتبار الأول أمن وسلامة الدولة المستقبلة؛ والاعتبار الثاني دواعي الأمن التي
يتطلبها العمل الدبلوماسي، من حصانة دبلوماسية للبعثات الدبلوماسية المعتمدة
والعاملين فيها، من تسهيلات التنقل والمواصلات والإعفاء من الرقابة البريدية
والبرقية والهاتفية، الخ، ولكن تبقى المشكلة في تحديد ما يعتبر من المعلومات التي
تدخل في إطار السرية، وتلك التي هي خارج إطار السرية، وهي عملية شائكة ومعقدة بحد
ذاتها، لأن الحد الفاصل بين النوعين من المعلومات يكاد يكون متداخلاً جداً.
وتتزايد هذه المشكلة وتتعقد كل يوم على ضوء الثورة المعلوماتية الهائلة التي
يشهدها العالم منذ العقود الأخيرة من القرن العشرين، حيث أصبحت المعلومات نتيجة
لتلك الثورة سهلة الحصول وفي متناول قاصدها، بعد أن أتاحها له التقدم العلمي
المستمر في مجال جمع وتخزين ونقل واسترجاع المعلومات، بما فيها تلك المعلومات التي
تقع تحت طائلة "الأسرار" التي تهدد أمن الدولة واستقرارها. ويثير قيام
الدول بجمع المعلومات اللازمة لها عن غيرها من الدول قضية هامة وحساسة، وهي أن
المعلومات التي قد تحصل عليها دولة ما بالطرق المباشرة أو عن طريق الغير من الدول،
أي عن طريق دولة أخرى تؤثر على أمنها القومي، وخاصة إذا تعلق الأمر بمعلومات تراها
الدولة المعنية مرتبطة بأمنها القومي وسلامتها كدولة، ومن ثم فمن الضروري التفرقة
بين المعلومات التي يترتب عن الحصول عليها مساس بأمن الدولة وسلامتها، وتلك
المعلومات التي لا ينطبق عليها هذا الوصف. ونظراً لأهمية المعلومات المتعلقة بأمن
وسلامة الدولة، جرت العادة على استبعاد مجموعة منها، من نطاق المعاملات المباشرة،
سواء داخل الدولة أو خارجها، وفرضت عليها نطاقاً من السرية والكتمان كفيل بحفظها
من الأخطار، واعتبرت الدولة المعنية أن محاولة الحصول على هذه المعلومات، أو
الحصول عليها، جريمة تعاقب عليها التشريعات الجنائية النافذة لديها. وتتعدد تلك
المعلومات بتعدد المصالح المترتبة عليها، وهي تنحصر عادة في إطار الأسرار السياسية
والدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية، التي بطبيعتها يجب أن تبقى طي الكتمان، حرصاً
على سلامة وأمن الدولة، ويقتصر العلم بها على أشخاص معينين، وخاصة تلك المعلومات
التي يترتب عن كشفها تقييم المقدرات الاقتصادية والعسكرية والدفاعية للدولة من
كافة جوانبها السلبية والإيجابية على السواء. وتختلف الدول من حيث طبيعة تلك
المعلومات، وفي الصفة التي تضفيها عليها، لارتباط هذا الموضوع بنواح أخرى كالحريات
العامة داخل الدولة ذاتها، ومشكلة تحقيق التوازن بين مقتضيات أمن الدولة، وما
ينشده الفرد من حماية لحقوقه وحرياته، مما ينتج عنه من أهمية قيام الدولة بتحقيق
التوازن والتوافق بين حقها في الأمن والاستقرار، وحقوق مواطنيها في المعرفة
والإطلاع بشكل لا يطغى أي منهما على الآخر.
ونجد
في تشريعات بعض الدول أنها ذهبت إلى تحديد طبيعة المعلومات التي تدخل في دائرة
السرية، وهي التي قد تكون متعلقة بحماية الدولة إقليمياً وتأمين أمنها كما في
بلجيكا ولكسمبورغ. أو أ، تكون معلومات تتعلق بحقوق الدولة اتجاه دول أخرى كما في
أيسلندا، أو الأمور التي يفترض بأنها تهم أمن الدولة كما في هولندا، أو التي تتعلق
بمصالح الدفاع القومي، أو المتعلقة بالأسرار العسكرية والاقتصادية والسياسية كم في
سويسرا وفرنسا، بينما لم تتناول تشريعات دول أخرى كبلجيكا ولوكسمبورغ وهولندا
وسويسرا، وضع تعريف محدد للأسرار المتعلقة بالأمن والدفاع على اعتبار أنها فكرة
واسعة تختلف وتتنوع إلى أشكال كثيرة، مما لا يجوز معه تقييدها بتعريف ضيق محدد.
ويؤدي هذا الاتجاه عادة إلى تخويل القضاء بسلطات واسعة في تفسير النصوص القانونية،
بينما حاولت دول أخرى تعريف أسرار الأمن والدفاع وعددتها في صيغ عامة، كالتفرقة
بين الأسرار وطبيعتها التي أقرها القانون الفرنسي في المادة 78/1/2، والقانون
الإيطالي في المادة 257 من قانون العقوبات، تبعاً للطبيعة السرية للموضوع ذاته أو
بناءاً على أوامر من السلطات المختصة. وراح المشرع الفرنسي أبعد من ذلك حيث لم
يقتصر بحماية الأسرار المتعلقة بالدفاع والأمن القومي الفرنسي وحده، بل وسعها
بالمرسوم الصادر في تموز/يوليو 1952 لتشمل أسرار الدول الأعضاء في حلف شمال
الأطلسي.
ومن
الخبرات التشريعية للدول النامية نرى أن القانون المصري قد أخذ مجموعة الأسرار
المرتبطة بالدفاع عن البلاد بحكم طبيعتها. فنصت الفقرة 1 من المادة 52 من قانون
العقوبات المصري على أنه "يعتبر من أسرار الدفاع عن البلاد، المعلومات
الحربية والسياسية والاقتصادية والصناعية التي بحكم صفتها لا يعلمها إلا الأشخاص
الذين لهم صفة في ذلك، وتوجب مراعاة أنه من مصلحة الدفاع عن البلاد، يجب أن تبقى
سراً على ماعدا أولئك الأشخاص". وأوضحها الدكتور ممدوح شوقي السفير بوزارة
الخارجية المصرية، في مقالته "الأمن القومي والعلاقات الدولية" المنشورة
في مجلة السياسة الدولية، على الشكل التالي:
المعلومات
الحربية: وهي الحقائق التي تتعلق باستعداد البلاد العسكري وكفايتها الحربية،
ووسائل الدفاع عنها، وعملياتها الحربية في البر والبحر والجو، سواء في وقت السلم
أم في وقت الحرب، كالمعلومات المتعلقة بسلاح سري، أو طرق الوقاية منه، والخطط العسكرية
وتاريخ ومكان إجراء التجارب العسكرية، والتعليمات الصادرة من القيادة العسكرية
لضباطها وجنودها.
والمعلومات
السياسية: وتتعلق بالسياسة الداخلية والخارجية المتبعة، أو التي تنوي الدولة السير
عليها، متى كانت ترتبط بشؤون الدفاع عن البلاد، ولو بطرق غير مباشرة. فلا عبرة
بالمعلومات التي تتعلق بسياسة الحكومة في السابق.
والمعلومات
الدبلوماسية: وهي الحقائق المتعلقة بعلاقة الدولة دبلوماسياً مع غيرها من الدول،
مثال: اعتزام الدولة قطع علاقاتها السياسية بدولة معينة، أو الاعتراف بهيئة ثورية
تناهض الحكومة والاتصالات الدبلوماسية بين الدولة، ودولة أخرى أجنبية للتوسط في حل
نزاع دولي يمس أمن الدولة. والمعلومات الاقتصادية: وهي ليست إلا نوعاً من
المعلومات الاقتصادية التي ترتبط بالمجهود الصناعي للدولة، ولا يقتصر الأمر على
الإنتاج الصناعي للدولة، بل يمتد إلى الشركات الخاصة التي تفيد الدولة في إنتاجها
للدفاع عن البلاد، مثال: ما تورده إحدى الشركات من إنتاج للقوات المسلحة،
لاستعمالها الخاص في العتاد الحربي. ولا ينبغي أن يفهم أن جمع المعلومات الحربية
أو السياسية أو الدبلوماسية أو الاقتصادية، تعد متعلقة بأسرار الدفاع عن البلاد،
بل يجب توفر شرطين لذلك: أن تكون المعلومات متعلقة بالدفاع عن البلاد، أي تتعلق
بسلامة الدولة وسيادتها، ووسائل الدفاع عنها وعن كيانها في شتى الميادين في زمن
السلم وفي زمن الحرب، وأن تكون هذه المعلومات بطبيعتها من الأسرار التي لا يعلمها
إلا الأشخاص الذين لهم صفة بذلك، ومن ثم لا يقتصر معنى الدفاع عن البلاد على
المدلول العسكري وحده، بل يتسع لكل ما يتعلق بأمن الدولة الخارجي، من النواحي
العسكرية والسياسية والدبلوماسية والاقتصادية في زمن السلم وفي زمن الحرب بطريقة
مباشرة أو غير مباشرة.
وعلى
ذلك فالسرية ليست صفة لصيقة بالمعلومات ولكنها صفة تخلعها الدولة عليها من زاوية
معينة، فهي طبيعة اعتبارية للمعلومات، وهي مسألة نسبية، فما يعتبر سراً في فترة
معينة، لا يعتبر سراً بعد مرور فترة زمنية معينة، فالسرية صفة تلحق بالمعلومات في
لحظة معينة تمليها سلامة الدولة في تلك اللحظة. ولهذا على المراسلين الأجانب
والمستشارين والملحقين الإعلاميين المعتمدين في أي دولة من دول العالم أن يتعرفوا
على مضمون ليس القوانين الناظمة للعمل الصحفي في البلاد المعتمدين فيها وحسب، بل
والتعرف على مضمون قوانين العقوبات فيها، وخاصة ما يمس منها العمل الصحفي، رغم الحصانة
الدبلوماسية التي يتمتعون بها. وهناك جملة أخرى من المشكلات التي ترتبط بقيام دولة
ما، بالحصول على المعلومات عن غيرها من الدول بغير الطرق المشروعة أو العلنية. وهي
مشكلة نتجت عن التقدم العلمي في مجال جمع وتخزين ونقل المعلومات، فالصورة
التقليدية للحصول على المعلومات هي عبارة عن علاقة مباشرة بين دولة وأحد الأفراد
الذين ينتمون إليها، أو من رعايا دولة أخرى، يقوم بنقل المعلومات إليها، أو قيام
مواطن دولة محايدة بالتجسس لصالح إحدى الدول، ولكن الصورة التقليدية تغيرت اليوم،
وأصبحت العلاقة مباشرة بين دولتين دون طرف آخر، يتوسط عملية نقل المعلومات، وذلك
نتيجة لحصول الدولة على المعلومات اللازمة لها بصورة مباشرة بالاستشعار عن بعد عن
طريق الأقمار الصناعية أو طائرات التجسس، وكان الهدف أو الغاية، فيما مضى هما
اللذان يحددان طبيعة الفعل، ثم حدث تطور بظهور العنصر العام للدولة في هذه العلاقة
فأصبحت الوسيلة هي التي تحدد طبيعة الفعل. وترتبط بذلك أيضاً، مشكلة أخرى يثيرها
الحصول على المعلومات عن طريق الأقمار الصناعية، أو طائرات التجسس أو الاستشعار عن
بعد بواسطة دولة معينة، دون علم الدولة صاحبة الشأن بذلك، وهو ما يطرح بدوره
تساؤلات عن مدى التزام الدولة التي حصلت على تلك المعلومات، بإطلاع الدولة صاحبة
الشأن عليها، أم أن لها أن تبقيها كورقة رابحة، تستخدمها في مجال الضغوط السياسية
! ومدى مسؤولية الدولة التي حصلت على هذه المعلومات، إذا قامت بتزويد دولة ثالثة
بتلك المعلومات التي حصلت عليها. وقد حاولت منظمة الأمم المتحدة منذ عام 1960 من
خلال اللجان المتخصصة ولجنة الأمم المتحدة لاستخدام الفضاء الخارجي، البحث عن إطار
قانوني يحدد هذه العلاقة، بالإضافة إلى تنظيم اكتشاف ثروات الأرض عن طريق
الاستشعار عن بعد، والمشكلات الأخرى المترتبة عن ثورة نقل المعلومات، أو ما يمكن
أن يطلق عليه النظام الدولي الجديد للاتصالات والمعلومات والاستشعار عن بعد،
واحتمالات تأثير هذا المجال الجديد على سيادة الدولة، وأمنها القومي، وقدرتها
الاقتصادية والصناعية وغيرها. وكررت منظمة الأمم المتحدة محاولة التصدي للمشكلات
الناتجة عن الحصول على المعلومات بواسطة الأقمار الصناعية في أعوام 1979، 1980،
1981. ولكن الجهود التي بذلتها اللجان الفرعية ومجموعات العمل الفنية، باءت بالفشل
بسبب الخلاف على المصالح القومية للدول، وعلى وجه التحديد بين الدول المتقدمة في
هذا المجال، وتلك التي لم تنل حظها من التقدم بعد، أي الخلاف بين الدول التي
تستطيع الحصول على المعلومات وتلك التي تتلقى المعلومات من الغير فقط. وهو صراع
بين حرية نقل المعلومات، والتمسك بالسيادة القومية، بما في ذلك الثروة الطبيعية
وأية معلومات عنها، والدول المتقدمة ترى أن المادة 19 من اتفاقية الأمم المتحدة
للحقوق السياسية والمدنية نصت على مبدأ حرية نقل المعلومات في الوقت الذي تمسكت
الدول الأخرى بالفقرة 3/ب من نفس المادة التي قيدت هذا الحق بمقتضيات الأمن القومي
والنظام العام والصحة العامة والأخلاقيات.
وتبلور
الخلاف بين فريقين: الأول: ويضم الدول الصناعية المتقدمة؛ والثاني: ويضم الدول
التي تدافع عن النظام الاقتصادي الدولي الجديد، الذي نص عليه قرار منظمة الأمم
المتحدة عام 1974. وبمعنى آخر الخلاف بين دول الشمال، ودول الجنوب. وقد توصلت
المناقشات التي تمت بين أعضاء اللجان الفرعية الفنية إلى ضرورة أن يكون هناك تنسيق
بين الدول في حالات الكوارث الطبيعية، وبضرورة إبلاغ الدول المعنية بأية معلومات
قد تتوافر في هذا الشأن. أما بالنسبة للمعلومات الأخرى التي يتم الحصول عليها
بواسطة الأقمار الصناعية، فكان هناك نوع من الاتفاق على بعض الموضوعات الخلافية،
ومنها: أن تمتنع الدولة التي تقوم بالاستشعار عن بعد، دون موافقة الدول التي يتم
تصوير أراضيها وكشف أسرارها، عن تقديم المعلومات لدولة أخرى، أو منظمة دولية أو
المؤسسات العامة أو الخاصة. وقد أيدت غالبية الدول النامية هذا الاتجاه في حين
عارضته الدول المتقدمة؛ وأن يكون الاستشعار عن بعد بما يتفق مع حق الدولة المعنية
في التصرف بمواردها الطبيعية، بما في ذلك المعلومات المتاحة عنها، ولا يزال
المجتمع الدولي في ظل قواعد قانونية دولية غير واضحة، ولم يزل بعيداً عن وضع مثل
تلك القواعد، لتنظيم الحصول على المعلومات ونقلها عن طريق الاستشعار عن بعد
بالأقمار الصناعية. وهذا يدعو المجتمع الدولي ودول العالم داخل المنظمة الدولية
إلى وضع بعض القواعد العامة التي يمكن أن يسترشد بها في هذا المجال، وأولها: تقييد
حرية الفضاء الكوني باعتبارات الأمن للدولة صاحبة الشأن؛ وثانيها: حق جميع الدول
في الحصول على المعلومات التي تتعلق بأراضيها وثرواتها؛ وثالثها: ضرورة التعاون
الدولي من أجل مساعدة جميع الدول على الحصول والاستفادة من المعلومات التي يتوصل
إليها. مع الإبقاء على حق الدولة المعنية في إثارة المسؤولية الدولية ضد الدولة
التي تحصل على معلومات عنها، وأن تطالبها بتقديم تلك المعلومات مع اعتبار أن ما
قامت به يشكل عملاً غير مشروع.
ويبقى
الحل في التعاون الدولي، وفي النوايا الحسنة بين الدول. لأن الصراع غير ملائم
لعالم اليوم، ويؤدي إلى تشتيت الجهود الدولية التي يمكن أن توجه إلى ما فيه صالح
المجتمع الدولي نفسه، وإلى حل المشاكل التي تهدد البيئة البشرية بأسرها، وخاصة في
ظل التقدم العلمي والتكنولوجي الهائل في مجالات النقل والاتصال، التي عملت على
إلغاء الحواجز الجغرافية وتقريب المسافات بين أجزاء العالم المختلفة، ليصبح العالم
معها اليوم أكثر ترابطاً من ذي قبل، وهو ما يؤكد على أن تحقيق الأمن القومي لا يتم
من خلال الصراع بين الدول، بل من خلال التعاون الوثيق بينها. ولا ريب في أن تخلي
الدول عن سياسة استخدام القوة أو التهديد باستخدامها، والتزامها بمبادئ القانون
الدولي وقواعده، بروح من التضامن والإخاء والثقة المتبادلة، لن يؤتي ثماره بتحقيق
الأمن لدولة بعينها وحسب، بل سوف يحقق الأمن لكافة الدول في العالم. ويجنب البشرية
ويلات الحروب المدمرة، التي ضاعف التطور العلمي والتكنولوجي الهائل في كل ميادين
الحياة من خطورتها، ومن بينها ميدان صناعة وإنتاج أسلحة التدمير الشامل الفتاكة والمدمرة.
ولابد من أن تصب جهود التعاون الدولي في مجال مواجهة الآثار الناجمة عن المخاطر
الاقتصادية داخل الدولة، وأن تسعى الدول إلى توفير الغذاء ورفع المستوى الثقافي
والعلمي والاقتصادي لمواطنيها، وأن تعيد البناء الاجتماعي داخل الدولة، بما يحقق
تنمية شاملة حقيقية، بدلاً من إضاعة الوقت والجهود في الصراع من أجل تركيز القوة
للمواجهة مع الغير. خاصة وأن الاكتشافات العلمية في مجال النقل والاتصالات ونقل
المعلومات عبر الأقمار الصناعية وقنوات الاتصال ونقل المعلومات، قد أحدثت تغييراً
شاملاً في مفهوم سيادة الدولة، وأصبحت الممارسة الفعلية لمظاهر السيادة، تتحقق
بقدر ما تحوزه الدولة، أو يتيسر لها من إمكانيات يوفرها التقدم العلمي في شتى
مجالات الحياة. وأصبحت ممارسة السيادة كاملة لدى بعض الدول، ومحدودة لدى البعض
الآخر، وأصبح كمال السيادة ونقصانها، من الناحية السياسية مرتبط بما لدى الدولة من
إمكانيات علمية وتقنية متقدمة، تتيح لها فرصة معرفة ما يدور في منطقتها، بل وفي
مناطق العالم الأخرى، وأصبح لبعض الدول معلومات تزيد كثيراً في بعض الأحيان عما
يتوفر من معلومات لدى الدولة صاحبة الشأن. ولم تعد الحدود السياسية والموانع
الجغرافية صعبة الاختراق، بل وأصبحت أقل صموداً أمام التقدم التكنولوجي، وعلى سبيل
المثال: فإن موجات الإذاعتين المسموعة والمرئية، أصبحت تدخل حدود الدولة السياسية
دون إذن منها، ولا تستطيع أية دولة حيالها شيئاً، إلا من خلال سن تشريعات تحظر هذا
أو ذاك، أو بث موجات مضادة، أو الدخول في منافسة تكون غير متكافئة في أكثر
الأحيان. وأصبح الإطار الجديد للتنافس بين الدول في العالم، اقتصاديا وإعلامياً،
وأصبح التفوق أو التقدم الاقتصادي يعادل القوة العسكرية، كما أن التقدم الإنتاجي
يعادل تطوير الأسلحة الفتاكة، وأن اقتحام الأسواق والساحات الإعلامية العالمية
التي تساندها الحكومات، لا يقل أهمية عن إقامة القواعد العسكرية في أراضي الدول
الأجنبية، ولا يقل عن النفوذ الدبلوماسي في تلك الدول.
التخطيط
الإعلامي من شروط نجاح الحملات الإعلامية
لاقتحام
الساحات الإعلامية شروط على ضوء التقدم العلمي والتكنولوجي الهائل في مجال وسائل
الاتصال الجماهيرية، التقدم الذي أحدث آثاراً بالغة أحدث تغييرات جوهرية في
العلاقات الدولية المعاصرة وهي التي أثرت بدورها على دور الدولة التي كانت تحتكر
في السابق السياسة الدولية، وأضعفت من دورها، عندما تخلت الدولة عن بعض وظائفها
لمؤسسات أخرى داخل المجتمع الواحد، ولم يعد هناك مجال للتحدث عن السيادة الإعلامية
للدولة، أو التحكم شبه الكامل أو شبه المطلق بعملية التدفق الإعلامي إلى داخل
الدول خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين، وأصبح شبه المستحيل السيطرة التامة
على نوع وكمية المعلومات التي تتدفق إلى عقول الناس، بعد ظهور شبكة شبكات
المعلوماتية العالمية "الإنترنيت" وغيرها من القنوات والتقنيات الحديثة
للاتصال عن بعد. وساهمت شبكات الاتصال الجماهيرية الحديثة إلى حد كبير في تخطي
حاجزي الزمان والمكان. بعد أن أصبح عدد هائل من الأشخاص مرتبطين فيما بينهم، من
خلال أجهزة الكمبيوتر الشخصية المرتبطة بشبكة اتصال عالمية عبر الأقمار الصناعية
وهو ما زاد من تفاعل المجتمعات الدولية، لتصبح عملية التبادل الإعلامي الدولي أكثر
يسراً وسهولة، مما زاد من أهمية تخطيط العمل الإعلامي، ومن أهمية التنسيق بين جهود
مختلف الجهات على الساحتين المحلية والدولية. ويعتبر تخطيط العمل الإعلامي من
أساسيات التبادل الإعلامي الدولي، ويتم عادة من خلال تحديد الأهداف العامة للخطة
الإعلامية التي يجب أن تراعي متطلبات الأمن الوطني والسياستين الداخلية والخارجية
للدولة، وحشد الإمكانيات المادية والتقنية والبشرية وتصنيفها، وتحديد الوسائل
والفترة الزمنية اللازمة لتنفيذها، مع مراعاة دقيقة للمصاريف، والجدوى الاقتصادية
والسياسية من الخطة الإعلامية.
ولتخطيط
العمل الإعلامي عادة إطارين أساسيين هما: الإطار النظري للخطة الإعلامية، ويشمل:
الأهداف المحددة، والغايات الواضحة، والعناصر المكونة؛ والأهداف المرنة، التي لا
تحتوي على درجة كبيرة من التحديد ويمكن تطويرها وتكييفها مع الظروف أثناء التطبيق
العملي. وتشمل عملية التخطيط عادة: مشاكل اختيار وسائل تحقيق أهداف الخطة
الإعلامية من بين البدائل المتعددة؛ ومشاكل التدابير والإجراءات اللازمة لتحقيق
أهداف الخطة؛ ومشاكل التطبيق والتنفيذ الفعلي، للوصول إلى أهداف الخطة المرسومة.
وعند وضع أي خطة إعلامية لابد من تحديد إطارها العام من أرقام ومؤشرات ليتم
معالجتها مع المشاكل المحتملة عند التنفيذ الفعلي للخطة المرسومة وبعد الانتهاء من
تحديد الإطار العام للخطة الإعلامية، تبدأ عملية تحديد الإطار التفصيلي للخطة
الإعلامية، عن طريق دراسة تفاصيل الخطة، وتحويل الأهداف العامة، إلى أهداف
تفصيلية، مع تحديد الوسائل انطلاقاً من الإمكانيات المتاحة، والمدة الزمنية
اللازمة للتنفيذ بدقة.
وكما
هو متعارف عليه من الناحية الزمنية للخطة الإعلامية، فهناك خططاً: سنوية؛ وخططاً
متوسطة الأمد، تتراوح عادة مابين الأربع والسبع سنوات سنوات، ولكنها في أكثر
الحالات هي خطط خمسيه، أي لمدة خمس سنوات؛ وخططاً طويلة الأمد، وهي الخطط التي
تزيد عن السبع سنوات. وتقسم الخطط متوسطة الأمد، والخطط طويلة الأمد إلى خطط سنوية
متكاملة، للاستفادة من إمكانية التجربة، وإجراء الإصلاحات على خطط الفترات الزمنية
اللاحقة لزيادة فاعليتها وفقاً لمعطيات تنفيذ خطط السنوات السابقة. ومن المتعارف
عليه أيضاً في الخطط الإعلامية تقسيم الخطط السنوية إلى خطط ربع سنوية، يطلق عليها
عادة في وسائل الإعلام المسموعة والمرئية تسمية الدورة الإذاعية أو التلفزيونية،
وهكذا، وهنا يجب على المخططين الإعلاميين أن يدركوا دائماً أن تخطيط العمل
الإعلامي الدولي، ما هو إلا شكل من أشكال التخطيط السياسي، ويدخل في إطار العلاقات
الدولية، ومن أجل تحقيق أهداف السياستين الداخلية والخارجية للدولة، اللتان لا
يجوز تخطيهما أبداً. ومن أجل ذلك عليهم إدراك أن ضمان التنفيذ الناجح لأي خطة
كانت، مرتبط بمدى تحديد الأساليب الممكنة والملائمة لتحقيق الأهداف الموضوعة
انطلاقاً من الإمكانيات الفعلية والمتاحة. وأن الأهداف الواقعية والواضحة، تسهل
عملية التنفيذ، وبالتالي الوصول للأهداف المرتقبة، وأن من عوامل النجاح الأخرى،
التقدير السليم للوسائل والإمكانيات والغايات، وبقدر ما تكون متناسقة، والغايات
متوافقة مع الإمكانيات، بقدر ما يكون التنفيذ أكثر نجاحاً، ولهذا لا بد من دراسة
صلاحية الأهداف، من وجهة نظر احتمالات تحقيقها من خلال الإمكانيات المتاحة، وتقييم
احتمالات تحقيق الهدف مع متغيرات الإمكانيات المتاحة. وبعد الانتهاء من دراسة
صلاحية الأهداف، يتم الانتقال إلى عملية اختيار الأساليب من خلال البدائل المتاحة،
وبعد دراسة تلك البدائل من كافة الجوانب، يتم اختيار الأساليب الناجعة والملائمة
من بين تلك البدائل، تمهيداً للانتقال إلى المرحلة التالية، وهي وضع تفاصيل الخطة
الإعلامية، والتي يجب أن تراعى فيها الخطوات العشر التالية: تحديد الأهداف؛ ومضمون
الرسالة الإعلامية؛ والأساليب؛ ومستقبل الرسائل الإعلامية؛ والإمكانيات المادية
والبشرية؛ وتحديد مجالات التنفيذ؛ والمسؤول عن التنفيذ؛ والمسؤول عن متابعة
التنفيذ؛ وتقييم الفاعلية؛ والمدة الزمنية؛ ووضع نظام لمتابعة التنفيذ. وعلى
المخططين الإعلاميين أن يأخذوا في اعتبارهم: قوة وإمكانيات الإعلام المضاد،
ومحاولة الاحتفاظ بزمام المبادرة قدر الإمكان؛ وأن يبنوا خططهم على قدر كبير من
المعلومات عن المستهدفين من الخطة الإعلامية الدولية؛ والاستعانة بفريق عمل من
المتخصصين في مجالات التخطيط، وخبراء في الاقتصاد والسياسة الخارجية، والعلاقات
الدولية، والتبادل الإعلامي الدولي، ووسائل الإعلام الجماهيرية الدولية، والنظم
السياسية، وتكنولوجيا وسائل الاتصال الدولية، وغيرها من التخصصات حسبما تقتضي
الظروف؛ وتوخي نتائج الخطط السابقة، والتجارب المحلية والإقليمية والعالمية في
موضوع الخطة الإعلامية التي يعدونها؛ والأخذ بآراء الممارسين للعمل الإعلامي
الدولي فعلاً، لأن في ملاحظاتهم الكثير مما يمكن أن يفيد نجاح تنفيذ الخطة
الإعلامية، ووصولها لأهدافها المرسومة.
ويأتي
الإطار التطبيقي للخطة الإعلامية تلبية للمبادئ والأهداف التي تضمنتها خطة العمل
الإعلامي الدولي، ومن أهم مبادئها الأساسية التنسيق بين الأجهزة والوسائل
المختلفة، للوصول إلى أفضل تنفيذ للخطة الإعلامية، وأعلى درجة من الفاعلية من خلال
المعادلة التالية: من يخاطب من ؟ والدبلوماسية الرسمية المعتمدة في الخارج،
والدبلوماسية الشعبية (العلاقات العامة الدولية)، والزيارات الرسمية والشخصية
والإطلاعية والسياحية، والمعارض والمهرجانات الثقافية والفنية والرياضية،
واللقاءات والمؤتمرات الدولية، ووسائل الإعلام الجماهيرية وغيرها، تعتبر كلها من
وسائل تنفيذ الخطة الإعلامية. من خلال مخاطبتها للقطاعات المستهدفة من الخطة الإعلامية
الدولية، وهذه القطاعات يمكن أن تكون: قيادات حاكمة؛ أو قيادات وأعضاء في
البرلمان، أو معارضة برلمانية؛ أو قيادات الأحزاب السياسية، سواء أكانت داخل
السلطة أم في صفوف المعارضة؛ أو قيادات المنظمات الجماهيرية والمهنية والاجتماعية؛
أو قيادات إعلامية؛ أو رجال أعمال؛ أو أقليات أو تجمعات دينية، أو عرقية، أو
ثقافية، أو قومية؛ أو الجاليات المقيمة في الخارج؛ أو هيئات ثقافية، أو دينية؛ أو
مشاركين في المهرجانات الثقافية والفنية؛ أو مشاركين في اللقاءات الرياضية؛ أو
مشاركين في المؤتمرات واللقاءات السياسية والاقتصادية والعلمية الدولية؛ أو زوار
لمعارض اقتصادية أو تجارية أو صناعية أو سياحية أو إعلامية أو فنية دولية؛ أو
جماهير عريضة عبر وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية المتاحة.
ومن
خلال متابعة مراحل تنفيذ الخطة الإعلامية الدولية من المفيد جداً دراسة المتغيرات
على الساحة التي ينشطون فيها. وتشمل: الوجود الإعلامي الصديق والمحايد والمضاد في
تلك الساحة؛ ومجال التأثير الإعلامي على الفئات والقطاعات المستهدفة، من خلال
المفاهيم المتكونة مسبقاً لديها؛ وتزويد الجهات المسؤولة بالمعلومات عن تنفيذ
مراحل الخطة الإعلامية الدولية. ومتابعة تلك المعلومات تباعاً، من أجل: المساعدة
على تحديد المجموعات والفئات والقطاعات التي يجب مخاطبتها أكثر من غيرها؛ وتكييف
القواعد التي يجب أن يلتزم بها كل المشاركين في تنفيذ الخطة الإعلامية الدولية؛
وإعداد المواد الإعلامية الرئيسية من معلومات وأخبار وملفات إعلامية تفيد في إنجاح
تنفيذ الخطة الإعلامية الدولية، وتساعد على الوصول لأقصى قدر ممكن من الفاعلية
والتأثير. ومحاكاة أداء محطات مثل "الحرة" الأميركية، والخدمة العربية
"فرنسا 24" و"روسيا اليوم"، وهيئة الإذاعة البريطانية (BBC)
العريقة في العمل على الساحة الإعلامية العربية والذي يعود لثلاثينات القرن
العشرين.
طشقند
في 15/1/2008
المراجع:
1.
أحمد صوان: أوراق ثقافية .. عن الإعلام وعيد الصحفيين. // دمشق: تشرين،
19/8/2007.
2.
أندريه بوفر: مدخل إلى الإستراتيجية العسكرية. ترجمة: الهيثم الأيوبي.
بيروت: دار الطليعة، 1968.
3.
د. بطرس بطرس غالي: حقوق الإنسان في 30 عاماً. // القاهرة: مجلة السياسة
الدولية، يناير/ 1979.
4.
صفات سلامة: الإعلام العلمي العربي: الواقع.. والمأمول. // الرياض: الشرق
الأوسط، 21/8/2007.
5.
عاطف الغمري: الأسلحة الجديدة في ترسانة الهجوم الاقتصادي العالمي. // القاهرة:
الأهرام 30/1/1996.
6.
عمر الجويلي: العلاقات الدولية في عصر المعلومات. // القاهرة: السياسة
الدولية، العدد 123/1996.
7.
ليدل هارت: الإستراتيجية وتاريخها في العالم. ترجمة: الهيثم الأيوبي.
بيروت: دار الطليعة، 1967.
8.
د. محمد البخاري: التدفق الإعلامي الدولي وتكوين وجهات النظر. دمشق: دار
الدلفين للنشر الإلكتروني، 2007. http://www.dardolphin.org؛/
- العولمة وقضايا التبادل الإعلامي الدولي. // دمشق: المعرفة، العدد 521/
شباط/فبراير 2007؛ - العلاقات الدولية في ظروف الثورة المعلوماتية. // دمشق:
المعرفة، العدد 519 كانون أول/2006؛ - التبادل الإعلامي الدولي والعلاقات الدولية.
طشقند: مقرر جامعي. معهد طشقند الحكومي العالي للدراسات الشرقية، 2006. (باللغة
الروسية)؛ - التفاعلات السياسية في وسائل الإعلام الجماهيرية. طشقند: مقرر جامعي.
معهد طشقند الحكومي العالي للدراسات الشرقية، 2006. (باللغة الروسية)؛ - مبادئ
الصحافة الدولية في إطار العلاقات الدولية. طشقند: مقرر جامعي. معهد طشقند الحكومي
العالي للدراسات الشرقية، 2006. (باللغة الروسية)؛ - "العولمة وقضايا التبادل
الإعلامي الدولي في ظروف العلاقات الدولية المعاصرة" أطروحة للحصول على درجة
دكتوراه علوم في العلوم السياسيةDC ، من أكاديمية بناء الدولة والمجتمع، الاختصاص: الثقافة السياسية
والأيديولوجيا؛ المشاكل السياسية للنظم العالمية والتطور العالمي". طشقند:
2005. (باللغة الروسية، بحث غير منشور)؛ - الإعلام التقليدي في ظروف العولمة
والمجتمع المعلوماتي. // جدة: مجلة المنهل، العدد 592/أكتوبر ونوفمبر 2004؛ -
قضايا التبادل الإعلامي الدولي في ظروف العلاقات الدولية المعاصرة. طشقند: مقرر
جامعي. معهد طشقند الحكومي العالي للدراسات الشرقية، طشقند: مطبعة
"بصمة" 2004. (باللغة الروسية)؛ - العولمة والأمن الإعلامي الوطني
والدولي. // الرياض: مجلة الدراسات الدبلوماسية، العدد 18، 1424هـ، 2003م؛ -
المعلوماتية والعلاقات الدولية في عصر العولمة. // الرياض: مجلة
"الفيصل"، العدد 320 صفر 1424 هـ/أبريل 2003؛ - العلاقات العامة
والتبادل الإعلامي الدولي. طشقند: مقرر لطلاب الدراسات العليا (الماجستير)، معهد
طشقند الحكومي العالي للدراسات الشرقية، 2001. (باللغة الروسية)؛ - العلاقات
الدولية في ظروف الثورة المعلوماتية. // دمشق: مجلة "المعرفة"، العدد
519/ كانون أول/ديسمبر 2006؛ - المجتمع المعلوماتي - تداعيات العولمة. // دمشق:
دار الدلفين للنشر الإلكتروني، 21/7/2006. http://www.dardolphin.org/؛
- العولمة وطريق الدول النامية إلى المجتمع المعلوماتي. أبو ظبي: الاتحاد، أكتوبر
2001؛ - الحرب الإعلامية والأمن الإعلامي الوطني. أبو ظبي: الاتحاد، الثلاثاء 23
يناير 2001؛ - الأمن الإعلامي الوطني في ظل العولمة. // أبو ظبي: الاتحاد، الاثنين
22 يناير 2001؛ - العولمة والأمن الإعلامي الدولي. // دمشق: مجلة "معلومات
دولية" العدد 65/ صيف 2000؛ - أهمية البحوث الميدانية في نجاح السياسات
الإعلامية العربية. // صنعاء: صحيفة الثورة، العدد 9335/1990؛ - التخطيط الإعلامي
السليم شرط أساسي للإعلام الناجح، والبحوث الميدانية من أولوياته. صنعاء: صحيفة 26
سبتمبر، العدد 407/1990؛ - العلم والتعليم والتطبيق العملي فقرات لسلسة واحدة. //
طشقند: مجلة كريسباندينت، العدد 5/1989. (باللغة الروسية).
9.
د. محمد علي العويني: الإعلام الدولي بين النظرية والتطبيق. مكتبة الأنجلو
المصرية، القاهرة 1990.
10.
د. محمد سامي عبد الحميد: أصول القانون الدولي العام. القاهرة: 1979.
11.
د. محمد محمود الإمام: التخطيط من أجل التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
معهد الدراسات العربية العالية. جامعة الدول العربية، 1962.
12.
د. ممدوح شوقي: الأمن القومي والعلاقات الدولية. // القاهرة: مجلة السياسة
الدولية العدد 127/1997.
13.
فيصل عباس: مدير قسم الأخبار الدولية في الـ «BBC»: لا
نسعى لمجاراة «العربية» و«الجزيرة». // الرياض: الشرق الأوسط، 19/8/2007.
14.
B.E. Goetz, Management, Planning and control, Mc
Grow-Hill Book Co., 1949.
15.
Edward N. Luttwak, The Global Setting of U.S. Military
Power-Washington. 1996.
16.
Habil Erhart Knauthe, Industrialization, Planning,
financing in Developing Countries, Wdition Leipzig, German Democratic Republic,
1970.
17.
Hans Morganthue, Political Nations, Calcutta,
Scientific Book Agency, 1965, Chap. 28.
18.
J. Argenti, Corporate Planning, A practical Guide
Edinburgh, G. Allen and Lenwin Ltd., 1968.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق