الأربعاء، 26 أغسطس 2009

العلاقات الدولية في ظروف الثورة المعلوماتية

العلاقات الدولية في ظروف الثورة المعلوماتية
أ.د. محمد البخاري[1]
العولمة والثورة المعلوماتية أصبحت في الآونة الأخيرة من أهم المواضيع حساسية في إطار الحوار الدولي الجاري لتحليل تأثيرات الثورة المعلوماتية المختلفة وطرق التحكم بتطور الأحداث على الساحة الدولية. ويجري هذا في الوقت الذي يشكك فيه البعض بإيجابيات العولمة على الجوانب المالية والاقتصادية، والسياسية، والثقافية والأيديولوجية والإعلامية والاتصالية في العلاقات الدولية المعاصرة. في الوقت الذي يصور صندوق النقد الدولي العولمة بأنها: "مستوى متصاعد من التكامل الحثيث للأسواق السلعية والخدمية ورؤوس الأموال". وأشار ي.س. إيفانوف وزير الخارجية الروسي في كتابه "السياسة الخارجية الروسية في عصر العولمة" إلى بعض العناصر الرئيسية لعملية العولمة، السياسية والاقتصادية والعلمية والتكنولوجية وحاول تحليلها من وجهة النظر الروسية، وذكر أنها فجرت الحياة الحضارية وغيرت صورة الإنسانية.
[2]
بينما يعتبر أكثر المتخصصون أن مصطلح "العولمة" يعني مرحلة حديثة من التطور الرأسمالي الدولي، أو أنها تمثل المرحلة الأخيرة للإمبريالية. والتعريف الأكثر وضوحاً جاء على لسان الأكاديمي الروسي المعروف أ.ي. أوتكين الذي قال أن "العولمة فرضت نفسها بعد انتهاء الحرب الباردة، وأفرزت نظاماً عالمياً يوحد الاقتصادات الوطنية لدول العالم ويجعلها تعتمد على حرية تنقل رؤوس الأموال، والاعتماد على الانفتاح الإعلامي الدولي، وعلى التجدد السريع للتكنولوجيا، وتخفيض الحواجز الجمركية وإطلاق حركة البضائع ورؤوس الأموال، وزيادة التقارب الاتصالي بين الدول الذي هو من ميزات الثورة العلمية التي ترافقها حركة اجتماعية دولية أصبحت تستخدم أشكال جديدة من وسائل النقل وتكنولوجيا الاتصال المرئية، وخلقت نوعاً من التعليم الأممي".
[3]
ولكن الآراء اختلفت عند التحدث عن بدايات العولمة فالبعض يعتبر بداياتها من عصر الفاتحين الغربيين الأوائل أمثال: ماركو بولو، وماجيلان، وكولومبوس. في الوقت الذي يعتبر البعض الآخر أن نصف العالم كان معولماً منذ العصر الروماني القديم، وعصر الإسكندر المقدوني، وعصر جينغيز خان، متجاهلين تماماً العولمة التي نتجت عن ما قدمته الحضارة العربية والإسلامية للإنسانية في عصر ازدهارها عندما كانت أوروبا تسبح في غياهب الظلمات. بينما اعتبر بعض الباحثين أن التاريخ المعاصر كان المرحلة الأولى للعولمة، وتلتها المرحلة الثانية التي نعيشها اليوم. ويقولون بأن الأولى بدأت خلال المرحلة الانتقالية التي امتدت خلال القرنين التاسع عشر، والقرن العشرين أي فترة حروب التوسع الاستعمارية الغربية التي اجتاحت قارات آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، والحربين العالميتين الأولى والثانية وما رافقهما من منجزات تكنولوجية وعلمية حديثة سرعان ما تطورت بشكل هائل أثر مباشرة في الاقتصاد الوطني والدولي، ورافقه ظهور وسائل اتصال جماهيرية متطورة دخلت عالم التجارة العالمية، وانتقال رؤوس الأموال والأشخاص بشكل واسع. وأدت إلى تشابك المصالح الاقتصادية والتجارية الداخلية والخارجية لتصبح معها المصالح المتبادلة بين الدول الكبرى الأهم وتبعد معها خطر الحروب بين تلك الدول حتى تصبح شبه مستحيلة، ولم ينسوا طبعاً الإشارة إلى أن ذلك التوجه لم يستطع إبعاد شبح الحرب وأشعل نيران حربين عالميتين خلال أقل من نصف قرن هي: الحرب العالمية الأولى التي انتهت بالقضاء على الدولة العثمانية وتثبيت السيطرة الاستعمارية واقتسام معظم مناطق العالم. والحرب العالمية الثانية، التي استخدمت فيها الولايات المتحدة الأمريكية ولأول مرة القنبلة الذرية أشد أسلحة الدمار الشامل فتكاً مرتين وبشكل متعمد ضد الشعب الياباني، ولم تستطع أية علاقات اقتصادية أو تجارية منعها بل على العكس كانت سبباً لها.
واعتبر بعض الباحثين أن الأرضية التي انطلقت منها المرحلة الثانية للعولمة كانت العقود الأخيرة من القرن العشرين، عندما أشاعوا أن المسيرة نحو العولمة بدأت في الغرب. وكانت في البداية تستخدم كمصطلح "الترابط المشترك"، ولكن الحركة الفعلية باتجاهها بدأت بالفعل مع حملات العلاقات العامة الدولية خلال أربعينات وخمسينات القرن العشرين،
[4] لتبدو العولمة وكأنه مخطط لها ودخلت حيز التنفيذ من قبل الأوساط المهيمنة في عالم المال والاقتصاد في الدول الغربية وحكومات تلك الدول والبنك الدولي للإنشاء والتنمية، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية.
وأصبحت بعض إيجابيات التطور الإنساني في ظروف العولمة مرئية حتى لضيقي الأفق، وأدت إلى ارتفاع المستوى المعيشي للناس، ووفرت وسائل اتصال وإعلام دولية تجتاز الحدود السياسية للدول بسهولة بالغة. وحققت لبعض الدول قفزات اقتصادية متقدمة كما حدث في دول آسيان "النمور الآسيوية" وشملت جنوب كوريا، وسنغافورة، وماليزيا وغيرها من الدول الآسيوية، وأصبحت الهند منتجة للصناعات الإلكترونية الغربية، وتحولت إلى واحدة من كبار مصدري المنتجات الإلكترونية وبرامج الكمبيوتر إلى العالم. وأدت العولمة بالتدريج إلى نمو حركة تدفق رؤوس الأموال حتى أصبح حجم التعامل المالي الدولي اليومي يبلغ حوالي (1.5) تريليون دولار أمريكي لتصبح عبارة "التصدير يحكم العالم" حقيقة ملموسة. فمع بدايات خمسينات القرن الماضي كانت الصادرات العالمية تقدر بـ (53) مليار دولار أمريكي، أما اليوم فتشير بعض المراجع إلى أنه بلغ حوالي (7) تريليون دولار أمريكي. وأخذت تظهر جزر كاملة للتكنولوجيا المتطورة في الدول النامية كـ: سان باولو في البرازيل، والشريط الحدودي من مصانع التجميع في شمال المكسيك، ومدن كاملة في الهند، وكل تايوان وغيرها من الدول.
وسهلت العولمة انتقال القوى العاملة والسياح، إذ تشير معطيات البنك الدولي إلى أن العمال المهاجرين يحولون من الدول الغنية التي تستخدمهم إلى أسرهم في الدول الفقيرة حوالي (70) مليار دولار أمريكي في السنة، وهذا الرقم يفوق بكثير الأرقام الرسمية للمساعدات التي تمنحها الدول المتطورة للدول النامية، وأن مئات الآلاف من العائلات تعيش معتمدة على تلك الأموال ولا تعرف أي شيء عن مصطلح "العولمة". وأن تطور السياحة الدولية يعتبر من الظواهر الإيجابية للعولمة حيث وصل عدد السياح في العالم إلى (500) مليون سائح في السنة. وأن الإنسان العادي يصطدم يومياً في حياته اليومية العادية بمظاهر العولمة بكل أشكالها من شراء البضائع، ومشاهدة البرامج التلفزيونية، واستعمال أجهزة الاتصال المحمولة، وغيرها. حتى أن البعض أصبحوا يقولون أن العولمة وفرت السبل من أجل مشاركة عشرات الدول والشعوب بالتقدم المالي والاقتصادي والعلمي المشترك.
وحتى الآن لم تعلن أية دولة في خطها السياسي الرسمي على الأقل معاداتها للعولمة، وأن الجميع يتقبلون العولمة كمؤشر إيجابي ولكن بوجهات نظر متفاوتة.
سلبيات وأخطار العولمة
ولكن في حال اعترافنا بحتمية الانتقال إلى العولمة الشاملة من الضروري الإشارة إلى السلبيات والظواهر القاتلة والأخطار التي تفرضها العولمة على الإنسانية والموجودة فعلاً، ومنها: خطر خضوع العالم للشركات متعددة الجنسيات الغربية؛ وأخطار فرض مفاهيم وأسلوب التفكير والحياة الأمريكية على العالم؛ وخطر تعميق الهوة بين الدول الغنية والدول الفقيرة في العالم (دول الشمال الغنية ودول الجنوب الفقيرة)؛ وخطر اتساع ظاهرة إضعاف دور الدول القومية، وعولمة الإرهاب، والتضييق على الثقافات واللغات القومية ومحاولة القضاء عليها، وإثارة الفتن في الدول متعددة القوميات.
والنتائج السلبية للظاهرة الأولى قد تحصل على المدى البعيد نتيجة لزيادة هيمنة الشركات متعددة الجنسيات الكبرى على إدارة الاقتصاد العالمي وتحويلها إلى أداة دفع أيديولوجية للعولمة، لتجني من خلال دورها العالمي أرباحاً خيالية تدعم من قدراتها وإمكانياتها المالية والاقتصادية بشكل يفوق قدرات وإمكانيات بعض الدول في عالم اليوم، وهو ما تشير إليها بعض المصادر التي تقول أن حوالي (160) دولة عضوه في منظمة الأمم المتحدة تقل إمكانياتها وقدراتها عن إمكانيات وقدرات الشركات متعددة الجنسيات. وتنبأ البعض أنه في حال استمرار ظواهر العولمة أنفة الذكر فإنها ستؤدي حتماً إلى سيادة الشركات متعددة الجنسيات في الولايات المتحدة الأمريكية وغرب أوروبا واليابان وحكومات تلك الدول على الواقع الاقتصادي والمالي والتجاري في العالم ومن ثم السيطرة التامة عليه وعلى تفاعلات العلاقات الدولية. الأمر الذي يثير موجة احتجاجات واسعة من قبل الذين يعتبرون العولمة هي محاولة لفرض نمط الحياة الأمريكية على العالم من خلال (50) شركة أمريكية متعددة الجنسيات. ويرون أن الولايات المتحدة الأمريكية في الواقع مستمرة بتقدمها متجاوزة مصالح كل الدول الأجنبية، وحتى حلفائها المقربين، في المجالات العلمية والتكنولوجية، والتكنولوجيا العسكرية، لأنها تصرف ما يقارب الـ(400) مليار دولار على شؤون الدفاع في السنة، وأن هذا الرقم يشكل نصف الميزانيات المخصصة في دول العالم للشؤون العسكرية. لأن حجم الإنفاق على مشاريع تطوير التكنولوجية العسكرية المتطورة في الولايات المتحدة الأمريكية يفوق بكثير ما تخصصه الدول السائرة في ركب الولايات المتحدة الأمريكية من الدول الأعضاء السبع الأخرى في مجموعة الدول "الثمانية" الكبرى مجتمعة. ولا يخفي القادة الأمريكيون سعيهم الحثيث لتوظيف كل القدرات الاقتصادية والمالية، والعلمية والتكنولوجية والعسكرية والسياسية من أجل فرض السيطرة الأمريكية على العالم في القرن الحادي والعشرين.
وتتمثل الهيمنة الأمريكية اليوم من خلال تحويل اللغة الإنكليزية باللهجة الأمريكية إلى لغة وحيدة لعولمة وسائل الاتصال والتبادل الإعلامي الدولي والعلاقات الدولية. وهو ما أشار إليه كتاب البريطاني د. كريستال "اللغة الإنكليزية لغة العولمة"، وكتابه "موت اللغات"، حيث أشار إلى أنه في نفس الوقت الذي يتسع فيه استخدام اللغة الإنكليزية تنقرض كل أسبوعين لغة من اللغات النادرة في العالم.
[5] وأشار بعض المتخصصين إلى أن أكثر اللغات جماهيرية على الكرة الأرضية ليست اللغة الإنكليزية بل اللغة الصينية التي يتحدث بها أكثر من 1.4 مليار إنسان، ولكنهم جميعاً خلف سور الصين العظيم، وفي جنوب شرق آسيا، وفي الأحياء الصينية المنتشرة في بعض بلدان العالم. عكس اللغة الإنكليزية التي يتحدث بها الجميع في كل مكان حتى أن الصين ألزمت مدارسها الابتدائية بتعليم اللغة الإنكليزية، ويتعلمها هناك في الوقت الحاضر عشرات الملايين من الصينيين الصغار والشباب والكبار. مما دفع بالكثيرين في الولايات المتحدة الأمريكية لاعتبار العولمة على الطريقة الأمريكية الطريق لوضع البشرية في خدمة المصالح الأمريكية والشعب الأمريكي الذي اختاره الله ! ؟
أما خطر تعميق الهوة بين الدول الغنية والدول الفقيرة في العالم فيتمثل بالتفاعل الذي لا يؤدي إلى تسوية الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للإنسانية، بل على العكس يؤدي إلى تعميق الهوة بين الأغنياء والفقراء. والهوة تلك موجودة فعلاً داخل أكثر دول العالم، وحتى داخل الدول الغنية، ففي الوقت الذي يعاني فيه أكثر من (3) مليار إنسان من سوء التغذية، نرى أن الولايات المتحدة الأمريكية تنفق أكثر من (100) مليار دولار أمريكي في السنة لمكافحة أمراض التخمة التي يعاني منها مواطنيها. في الوقت الذي يعيش فيه أكثر من (1.3) مليار إنسان على أقل من دولار واحد في اليوم، ووجود أكثر من مليار إنسان متعطلين عن العمل. وهو ما يعمق الآثار السلبية للعولمة وأشار إليها حتى التقرير الذي تعده منظمة الأمم المتحدة عن "تأثير العولمة على التطور الاجتماعي" حيث قدر المتخصصين العاملين على إعداده بأنه لا أمل خلال السنوات الخمسين القادمة للتقريب بين الدول الفقيرة والغنية من حيث مستوى الدخل وهو ما ينذر باشتداد المواجهة بينهما.
أما خطر اتساع ظاهرة إضعاف دور الدولة القومية، وعولمة الإرهاب، والتضييق على الثقافات واللغات القومية ومحاولة القضاء عليها، وغيرها من الظواهر فيتمثل بنمو وانتشار الجريمة المنظمة متعددة القوميات، والتي تنمو سنوياً بمعدل 5 % في الوقت الذي يبلغ فيه معدل نمو سكان العالم 1 %، وأشارت بعض المصادر إلى نمو الجريمة المنظمة الدولية بمعدل أربع مرات خلال السنوات العشر الأخيرة، وأن (450) مليون جريمة سجلت في عام 2001. وأدت العولمة إلى فتح الحدود أمام تدفق الأموال، والمعلومات، وملايين الناس، مما ساعد على نمو الجريمة متعددة القوميات، وأدت بدورها إلى تسارع نمو نوعين من الجريمة وهي: التجارة العالمية للمخدرات ليزيد عدد المدمنين على المخدرات في العالم حتى الـ(180) مليون مدمناً، وليبلغ حجم تجارة المخدرات (800) مليار دولار أمريكي، مع اتساع جرائم أخرى كغسيل "الأموال"، حيث أشارت معطيات صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، إلى غسل 1.5 تريليون دولار أمريكي سنوياً في العالم، وهذا يعادل 5 % من الدخل العالمي.
ولا أحد ينكر أن العولمة ساعدت على انتشار الإرهاب الدولي الذي تحول بالتدريج إلى ظاهرة عالمية يحاول البعض وبإصرار ربطها بالعالم الإسلامي قبل وبعد الأعمال الإرهابية التي جرت في الولايات المتحدة الأمريكية في 11 سبتمبر/أيلول 2001، وأعقبتها أعمالاً إرهابية شملت الكثير من دول العالم كإسبانيا، وبريطانيا، وروسيا، ومصر، والمملكة العربية السعودية، وتركيا، وإندونيسيا، وباكستان، والهند، وسورية، والأردن وغيرها من دول العالم وكلها تثبت العلاقة بين الإرهاب والعولمة، مما دفع بالملتقى الدولي الذي عقد في كرواتيا خلال نوفمبر/تشرين ثاني 2002 لمناقشة مشاكل الدبلوماسية العلنية، ووسائل الإعلام الجماهيرية والإرهاب. وتكرار ذلك من خلال المناقشات التي دارت أكثر من مرة وأظهرت حقيقة جديدة مفادها أنه لو لا عولمة البث التلفزيوني لما كان الإرهاب. لأن الهدف الرئيسي للإرهاب كما أشار البعض ، ليس قتل بضع مئات أو حتى آلاف الناس، بل إخافة ملايين البشر، ولنكون أكثر دقة دب الخوف في قلوب (2) مليار مشاهد تلفزيوني تقريباً في كل دول العالم يشاهدون عادة الأخبار الرئيسية التي يبثها التلفزيون. هذا إن لم نشر إلى دخول المنظمات الإرهابية والجريمة المنظمة نفسها عالم استخدام وسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية لتصعيد مشكلة الإرهاب في عالم اليوم أي عولمة هذا الشر عبر وسائل الاتصال الجماهيرية الإلكترونية الحديثة.
الثورة المعلوماتية
وتعتبر ثورة تكنولوجيا الاتصالات والمعلوماتية التي بدأت أولى خطواتها مع غزو الإنسان للفضاء الكوني بعد إطلاق الاتحاد السوفييتي السابق لأول قمر صناعي تابع للأرض عام 1957 لتصبح تلك الخطوة من القوى الرئيسية الدافعة للعولمة، تتمة لمراحل النجاحات الاقتصادية في تاريخ البشرية منذ الثورة الصناعية التي لم نزل نعيش نجاحاتها كل يوم، إلى أن أحدثت اكتشافات ثورية في مجال الاتصالات والمعلوماتية فاقت بقدراتها اختراع التلغراف في أواسط القرن التاسع عشر، واختراع التلفون السلكي، والراديو، والسينماغراف في نهاية القرن التاسع عشر، ليجيء بعدها اختراع التلفزيون الذي أصبح شعار القرن العشرين للعمل على التطوير النوعي والكمي لوسائل الاتصال والإعلام الجماهيرية، وهكذا تمكنت البشرية مع نهاية القرن العشرين من امتلاك أكثر من (2.5) مليار جهاز استقبال إذاعي، وأكثر من (2) مليار جهاز استقبال تلفزيوني، وأكثر من (10) آلاف صحيفة يومية .. إلخ. وأخذ العالم بالفعل بالتحول حسبما توقع م. ماكلوهين، إلى "قرية عالمية"،
[6] وأصبح كل سكان العالم تقريباً يتلقونً في نفس الوقت نفس المعلومة. حتى تمكن (3.6) مليار مشاهد، في نفس الوقت من مشاهدة افتتاح الألعاب الأولمبية في سيدني عام 2000، والهجمات الإرهابية على الولايات المتحدة الأمريكية عام 2001 عبر شاشات التلفزيون، وهذا الرقم يمثل عملياً كل البالغين من سكان الأرض. وحتى أن حوالي (2) مليار مشاهد من محبي كرة القدم أصبح بإمكانهم متابعة نهائيات كأس العالم بكرة القدم من مختلف عواصم العالم.
وتدريجياً تحسنت نوعية المصادر المعلوماتية ووسائل نقل المعلومات وحفظها واسترجاعها، وشهدت الحقبة الأخيرة من القرن العشرين ولادة عشرات شبكات البث التلفزيوني الدولية كشبكة سي إن إن العالمية وغيرها، وشهدت ولوج شبكة الانترنيت العالمية حيز الاستخدام الفعلي واسع النطاق. وتحول البث التلفزيوني إلى أداة من أدوات العولمة. وأصبحت شبكة الانترنيت العالمية أشد تأثيراً في عالم اليوم، وبعد أن كان عدد مستخدمي شبكة الإنترنيت في العالم عام 1993 حوالي (90) ألف مستخدم قفز هذا الرقم ليصبح (580) مليون مستخدم في عام 2004 ليتنبأ البعض بأن يصل هذا الرقم إلى مليار خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وهذا النمو السريع لم تشهده أية وسيلة اتصال وإعلام جماهيرية في تاريخ الإنسانية أبداً، واتجه التفاؤل نحو وسائل الاتصال الجماهيرية بعد أن أصبح عدد الهواتف المحمولة يقدر بحوالي (800) مليون جهاز في العالم، إضافة لمئات ملايين الهواتف العادية وكلها متصلة بشبكة الانترنيت عملياً. ومع اتساع استخدام وسائل الإعلام الجماهيرية التقليدية لوسائل النشر الإلكترونية الحديثة، مثل شبكة الانترنيت، زاد إلى حد كبير إشباع الإنسان أينما وجد بالمعلومات، وهو ما أصطلح على تسميته بمجتمع المعلومات أي دخول المعلومات والمعرفة عصر العولمة، الأمر الذي ضاعف كمية المعارف الإنسانية في سبعينات القرن العشرين، ولم تزل تلك الزيادة مستمرة حتى اليوم، ويطالب البعض بالقيام بعمليات كثيرة من أجل تحقيق المهام المتعلقة بنشاطات الإنسانية، الاقتصادية، والعلمية، والفضائية، والطبية، وغيرها، رغم أن الآلة في الوقت الحاضر أمست تكمل يد الإنسان، والكمبيوتر أمسى مكملاً لعقل الإنسان. ورغم أن العقل الإنساني هو أرقى مخلوقات الله، وحسب بعض المعطيات العلمية يتضمن 10 مليار نيرون، كل منها لها تقريباً ألف ارتباط مع غيرها من النيرونات ويمكنها القيام تقريباً بمأتي عملية في الثانية. ورغم أن المعادن نصف الناقلة لا تستطيع أن تسبق العقل البشري فقد ظهرت إمكانيات لصنع أنواع جديدة من الخلايا الخازنة للكمبيوتر تفوق مليون مرة العقل البشري من وجهة نظر التعامل والإمكانيات. وكان من المتوقع الانتهاء في عام 2003 من صنع كمبيوتر يفوق بحجمه حجم ثلاجتين منزليتين تبلغ سرعته ألف تريليون عملية في الثانية ويتفوق خمسة عشر مرة على 500 حاسب من أقوى الحاسبات الآلية لعام 2000.
وفي الوقت الذي تجهز الدول المتقدمة في العالم نفسها للانتقال إلى المجتمع المعلوماتي، نرى أن الاتحاد الأوروبي أعد في عام 1999 إستراتيجية "الرابطة المعلوماتية الأوروبية"، من أجل تجاوز التخلف عن الولايات المتحدة الأمريكية في هذا المجال. إلى جانب النجاح الهائل الذي حققته اليابان في هذا المجال، مما مكنها من أن تصبح في الطليعة في هذا المجال (لأن مصطلح "المجتمع المعلوماتي" ولد في اليابان أصلاً)، وأنهت سنغافورة برنامجاً لتعميم استخدام الكمبيوتر في كل أنحاء البلاد لتتحول إلى "جزيرة المعرفة"، وهو ما نجده في السياسة القومية للصين، والهند، وجميع الدول المتقدمة. وحتى أن الولايات المتحدة الأمريكية وضعت أمامها مهمة الانتقال إلى مرحلة ما بعد المجتمع الصناعي إلى مرحلة المجتمع المعلوماتي حتى عام 2020. عند ذلك سيشتغل 17 % من سكانها فقط في مجال الإنتاج المادي والباقي في مجال المعلوماتية، والتعليم، والخدمات. وأن عمل 17 % من السكان سيؤمن الرخاء لكل الشعب الأمريكي، لتتفوق الولايات المتحدة الأمريكية في العالم في كل المجالات. وفي نفس الوقت يعتبر المجتمع المعلوماتي نقطة تحضيرية للانتقال إلى عصر جديد، وهو مجتمع عصر الفضاء الكوني.
وأوصل التقدم الحثيث لتكنولوجيا المعلومات المتقدمة في السنوات الأخيرة إلى ظهور مستقبل آخر للأخطار التي تواجهها البشرية وحصلت على تسمية "الهوة الرقمية"، والحديث هنا يدور عن زيادة الهوة بين الأمم الغنية والأمم الفقيرة من حيث توفر وسائل الاتصال والمعلوماتية. و"الهوة الرقمية" عرفت من خلال تواجد من (250) مليون كمبيوتر على الكرة الأرضية اليوم، 40 % منها في الولايات المتحدة الأمريكية، ونفس الكمية تقريباً في الدول "السبع الكبرى" الأخرى، و20 % فقط هي حصة (5.5) مليار إنسان. فحوالي ثلث مستخدمي الإنترنت في العالم اليوم يعيشون في الولايات المتحدة الأمريكية، ونفس الكمية في أوروبا، وأقل قليلاً في اليابان، وجنوب كوريا، وجنوب شرق آسيا، وأقل من 10 % في دول العالم الأخرى. وللمقارنة في الولايات المتحدة الأمريكية والسويد (600) هاتف لكل ألف نسمة، بينما في تشاد تلفون واحد لكل ألف نسمة وهذا يظهر عملياً أن كامل المعلومات وكل الاكتشافات في هذا المجال متمركز في الدول التي يعيش فيها 15 % من سكان الأرض (وهذا يعني "المليار الذهبي")؛ في الوقت الذي يستطيع استخدامها 50 % من السكان، ليبقى 35 % (يعني 2 مليار إنسان) خارج هذه العملية. وأن عدم توفر شبكات الهاتف يفسر أسباب عدم تمكن أكثر من نصف الكرة الأرضية من إجراء اتصال هاتفي عام 2000. والتفوق الهائل للغرب في هذا المجال يشكل تهديداً ليس بتعميق الهوة بين الأغنياء والفقراء في العالم ، بل ويمهد لإساءة استخدام الساحة المعلوماتية من أجل العدوان، من خلال تحكم الغرب وتوجيهه للحملات الإعلامية لتحقيق أهداف محددة له، وخير مثال على ذلك أن قصف أفغانستان، وقصف العراق، وقصف يوغسلافيا، وقصف لبنان، وقصف فلسطين، بدأ والأمريكيين والأوروبيين يتابعون تلك الأحداث باهتمام على شاشات التلفزيون، وكأنها ألعاب كمبيوتر لا غير.
مستقبل العلاقات الدولية
في مقارنة قام بها بعض المؤرخين للتنبؤات التي وضعها السياسيين عام 1900 وما حدث فعلاً خلال قرن من الزمن ظهر أنهم لم يتوقعوا من خلال تنبؤاتهم بالأحداث الهامة التي جرت خلال القرن العشرين، لا الحربين العالميتين، ولا ثورة أكتوبر البلشفية في روسيا، ولا تشكل الدول الاشتراكية، ولا انهيار النظم الاستعمارية العالمية، ليثبت أن التنبؤ في مجال التطور العالمي صعب جداً، وهو أصعب بكثير من التنبؤ في مجال برامج الاستنساخ الطبية أو في مجال غزو الفضاء وانتقال البشر إلى الكواكب الأخرى، ومع ذلك فقد حاول البعض وضع سيناريوهات ممكنة للمستقبل منطلقين من حقائق العصر، منها:
أنه من الممكن توقع مستقبل انفراد الولايات المتحدة الأمريكية في مسعاها لفرض هيمنتها على العالم خلال السنوات العشرين القادمة. لأن هذه الدولة مستمرة في المضي على طريق زيادة الهوة بينها وبين المجتمع الدولي في مجالات العلاقات المالية والاقتصادية والعلمية والتكنولوجية والحربية والسياسية وغيرها، وخلال سنوات الفترة الرئاسية الأولى من حكم كلينتون (1992 – 1996) للولايات المتحدة الأمريكية، ارتفع المؤشر الاقتصادي للدخل القومي بحوالي 4 % سنوياً، وهو ما حدث للدخل القومي الألماني، وخلال الفترة الرئاسية الثانية لكلينتون (1996 - 200) زاد الدخل القومي الياباني، وتحدث الكثيرون عن "المعجزات الاقتصادية" الأخرى، وفي الواقع أن المعجزة جرت في الولايات المتحدة الأمريكية نفسها. لأن العولمة في ظروف القطب العالمي الواحد تضيق على الدول المستقلة الكبرى الأخرى، ولا تدعهم يسلمون بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية للعولمة. ولا يستبعد أن واشنطن كقائد ستقوم بتنفيذ خطط إستراتيجية لإضعاف أو إنهاك تلك الدول. وهنا لابد من التذكير بما كتبه س. هنتنجتون: من أن "النظام أحادى القطبية يبشر بقيام دولة عظمى واحدة، وغياب الدول العظمى الأخرى وعدد كبير من الدول الصغيرة".
[7] لنستنتج أن دولاً كبيرة مثل روسيا، والصين، والهند غير مرغوب بها للولايات المتحدة الأمريكية ليبرز سؤال مهم إلى متى ستستمر حالة عالم القطب الواحد هذه ؟
وهو ما حاول الإجابة عنه الأكاديمي الروسي ن. مويسييف معتمداً على قوانين الرياضيات مؤكداً عدم إمكانية الاحتفاظ بهذا الوضع لفترة طويلة، لأن التاريخ أثبت أنه في كل مرة أدارت فيها قوة عظمى واحدة العالم دون أن يكون لها قوة معادلة انهارت كروما والإمبراطوريات الأخرى التي سيطرت على العالم القديم منفردة، وشبه هذا الوضع بكرسي يستند على ساق واحدة. وذكر أنه: "بعد التدمير الإجرامي لمركز القوة الثاني (الاتحاد السوفييتي السابق)، الذي قامت به جماعة صغيرة انهار التوازن السلمي لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، ودمرت طبيعة تطور الأحداث في عملية التفاعل الكوني، وأصبح كل شيء مرتبط بشكل جديد من أشكال القوة العسكرية"
[8] وبدأت تظهر مساعي واشنطن التي تعلم أنه لا يمكنها الصمود طويلاً وحيدة، للحصول على مساندة غرب أوروبا لتكون الشريك الاستراتيجي الأصغر. في الوقت الذي أخذت فيه بعض الدعوات بالظهور تدعوا الغرب بالسعي لبناء تحالف أمريكي أطلسي من أجل تحقيق الاستقرار في العالم.
وأدى تركيز مراكز القوى المالية والاقتصادية والتجارية إلى تحول شرق وجنوب شرق آسيا إلى مركز لنصف الاقتصاد العالمي المالي والتجاري والسكاني. وتوقع البعض أن تملك الصين حتى عام 2020 أكبر اقتصاد عالمي، مشيرين إلى أن هذا لا يعني وزنها العسكري والسياسي بل بمستوى الحياة في الصين نفسها الذي سيتفوق على نظيره في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، وأن الصين لن تترك واشنطن تتحكم بالعالم وحدها. وأن الهند بسكانها الـ 1.2 مليار نسمة ستصبح الدولة الرابعة في عالم الاقتصاد، ووفق توقعات البنك الدولي، ستبقى ثلاث دول غربية هي الولايات المتحدة الأمريكية، وألمانيا، والبرازيل؛ ضمن الدول العشر الأكثر تتطوراً اقتصادياً في العالم حتى عام 2020 والسبع الباقية في آسيا. رغم أن التأثير المباشر على العلاقات الدولية خلال العشر سنوات القادمة سيبقى كما في السابق متركزاً في ثلاثة مراكز للقوة هي الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد الأوروبي، واليابان، ومن المتوقع أن تنضم إليهم الصين والهند وأن تلعب روسيا وحلفائها دور مركز الثقل على تطور الأحداث العالمية.
ومن تحليل لتوقعات المتخصصين الأجانب، يمكن أن نجد أن العولمة: عززت التشابك الاقتصادي والأمني لمختلف الدول، وتغيرت إلى حد بعيد الأجندة السياسية الدولية، ورافقها تغيير لأفضليات مصالح الدول على الساحة الدولية وتبدلت إمكانيات وسائل تنفيذ سياستهم الخارجية؛ وأن مفهوم "قوة الدولة" تغير من الاعتماد على القوة العسكرية إلى الاعتماد على تطوير الموارد المالية والاقتصادية والمعلوماتية والفكرية للدولة؛ وأن دور اللاعبين الرئيسيين على الساحة الدولية تبدل من التحالفات والاتحادات العسكرية والسياسية، إلى التحالفات والاتحادات التجارية والاقتصادية الإقليمية، والدولية مثال: الاتحاد الأوروبي، والاتحاد الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادي، والرابطة الاقتصادية "أوروآسيا"، ومجلس تعاون دول الخليج العربية، وغيرها لتبقى في مقدمتها مجموعة "دول الثمانية الكبرى"، وهو ما يعني تحول السياسة العالمية والدبلوماسية نحو الاقتصاد؛ وأن العولمة كانت السبب في ارتفاع نسبة الوعي القومي بين سكان الكرة الأرضية، ويمكن أن تؤدي إلى ارتفاع عدد الدول المستقلة. خاصة وأن عدد الدول المستقلة كان (50) دولة بعد الحرب العالمية الثانية، وأن منظمة الأمم المتحدة تضم في عضويتها الآن 192 دولة، مع إمكانية زيادة هذا العدد خلال السنوات القادمة، بسبب وجود أقليات عرقية في أكثر من (100) دولة ويزيد عدد أفراد كل جالية عن المليون نسمة، مع إمكانية انهيار تلك الدول وانقسامها إلى دول مستقلة، كما حدث في الاتحاد السوفييتي السابق الذي انقسم إلى خمسة عشر دولة مستقلة، ويوغوسلافيا التي انقسمت إلى عدة دول لم يزل الصراع قائماً بينها حتى الآن، وتشيكوسلوفاكيا التي انقسمت إلى دولتين مستقلتين، وإثيوبيا التي انقسمت إلى دولتين مستقلتين. وفي أحسن الظروف يمكن قيام فيدراليات شبه مستقل ذاتياً في بعض تلك الدول متعددة القوميات، وهو ما تسعى إليه الدول العظمى وفي طليعتها الولايات المتحدة الأمريكية في الوقت الحاضر، مثال الحالة العراقية، والحالة السودانية، والحالة الروسية، وغيرها؛
[9] وأن ارتفاع عدد الدول قد يؤدي إلى تراجع دور تلك الدول وشخصيتها ضمن الحدود الدولية المعترف بها (كما يجري الآن في غرب أوروبا)؛ وأنه من المرجح زيادة عدد الصراعات العرقية والحدودية. وإعلان أكثر من (50) منطقة مناطق نزاع، بالإضافة إلى أكثر من (150) صراعاً على الحدود البحرية، وأكثر من (30) جزيرة تقع ضمن مناطق النزاعات؛ وتوقع انهيار دور المنظمات الدولية الحكومية بداية من منظمة الأمم المتحدة، وازدياد تأثير المنظمات غير الحكومية، مثل: الخضر، وأطباء بلا حدود، وغيرهم؛ ومطالبة أغلبية الدول النامية بحق تقرير المصير مما سيعرض مبدأ عدم المساس بحدود الدولة ووحدة أراضيها إلى خطر كبير، ولنتصور ماذا سيحدث لو أعلنت التيبت، ومنغوليا الداخلية، وسينزيان حق تقرير المصير في جمهورية الصين الشعبية، أو إذا أعلنت كشمير حق تقرير مصيرها في جمهورية الهند، أو إعلان السكان السود واللاتينيين في الولايات المتحدة الأمريكية حق تقرير مصيرهم ؟؛ وزيادة خطر انتشار السلاح النووي وغيره من أسلحة الدمار الشامل، وزيادة عدد الدول التي تملك السلاح النووي بعد انضمام إسرائيل والهند وباكستان لتلك الدول إضافة لعشرات الدول القريبة من امتلاك السلاح النووي؛ وتأثير العولمة على العلاقات الدولية والعمل الدبلوماسي منذ بداية القرن الحادي والعشرين حيث أخذت تظهر على الخط الأول مسائل عسكرية وسياسية، رافقتها أزمات عسكرية، ولقاءات قمة، غلبت عليها مسائل التجارة الخارجية، والمالية، وحماية البيئة، والتبادل الإعلامي الدولي وغيرها؛ وظهور هنتيجتون س. الذي تحدث في كتابه "تصادم الحضارات" عن الصراع بين سبع حضارات قائمة حالياً في العالم، وبجيزينسكي ز. الذي دعى في كتابه "رقعة الشطرنج العظمى" إلى هيمنة الولايات المتحدة على أوروبا وآسيا.
وبقيت المشكلة أمام روسيا (القطب المنافس السابق للولايات المتحدة الأمريكية قبل انهيار الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية) تدور حول التعامل مع العولمة، دون خلق مشكلة منها. والعمل على أن تتكامل روسيا مع العولمة دون إلحاق خسائر بمصالحها القومية، خاصة وأنها تشغل المركز 15 في العالم من حيث عدد أجهزة الكمبيوتر المستخدمة فعلاً، إضافة لتخلفها عن الدول الأوروبية بـ 8 مرات تقريباً من حيث حصة الفرد من عدد أجهزة الكمبيوتر لكل ألف نسمة من السكان، ونسبة المشتغلين في إنتاج تكنولوجيا المعلوماتية وخدماتها التي لا تزيد في روسيا عن 1 %، بينما هي أكثر من 20 % في الدول المتقدمة.
في الوقت الذي يدعو فيه المتفائلون إلى عدم التخوف، مذكرين بالإمكانيات الضخمة التي تملكها روسيا من ثروات طبيعية وبشرية يمكنها إخراج روسيا من أزمتها الراهنة. وهو ما أعلنه رئيس الحكومة الروسية م. كاسيانوف في المؤتمر الدولي لمنظمة الأمم المتحدة للتنمية الذي عقد في جوهانسبرج بجنوب إفريقيا وذكر أن روسيا تملك 25 % من احتياطي الثروات الباطنية (12 % من الفحم، و13 % من النفط، و20 % من المياه الصالحة للشرب، و20 % من الكوبالت، و27 % من الحديد، و30 % من النيكل، و35 % من الغاز، و40 % من البلاتين)، ولكنها كلها خامات، والأسواق الدولية تنتظر المنتجات المتطورة الجاهزة، التي تنتج وتباع وهي غير كافية في روسيا. بالإضافة لمواجهتها بمنافسة شديدة على صعيد الاقتصاد والتجارة الدولية. الأمر الذي يدفعها وبإصرار للانضمام إلى منظمة التجارة العالمية وهو ما لم يتحقق لها بعد، لتسهل خروجها إلى الأسواق الخارجية، وتبديل هياكل صادراتها. وسعيها من خلال برنامج العشر سنوات للدخول في حلبة التقدم العلمي الاقتصادي الذي تفرضه العولمة.
وعلى الرغم من امتلاك روسيا لصواريخ ذرية قوية عابرة للقارات، والعضوية الدائمة في مجلس الأمن بمنظمة الأمم المتحدة، ومشاركتها في مؤتمرات قمة الدول "الثمانية" المتطورة في العالم، ومشاركتها في مؤتمرات الاتحاد الأوروبي، والاتحاد الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ، والرابطة الاقتصادية "أوروآسيا"، وغيرها إلا أنه هناك محاولات حثيثة للتضييق عليها على صعيد السياسة الدولية، من أجل تهميش مصالحها الوطنية. حتى أن عضو أكاديمية العلوم الروسية مويسييف ن. كان مضطراً للإعلان عن: أن الهدف الاستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية في السنوات القريبة التالية هو التضييق على روسيا لإخراجها من بحر البلطيق (عن طريق قبول دول البلطيق في حلف الناتو) وإخراجها من البحر الأسود (عن طريق استدراج أوكرانيا إلى حلف الناتو) وحصرها في المحيط المتجمد الشمالي، وتحويلها إلى دولة بحرية شمالية. أو كما كتب بجيزينسكي ز. إلى دولة هامشية. وأن هذا الهدف مخفي تحت عبارات براقة عن الشراكة، وعن العلاقات الجديدة بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو.
بينما نرى أن الدبلوماسيين، يفهمون أن العولمة غيرت جوهر جداول أعمال السياسة الدولية، وأفضلياتها، ووسعت من إمكانيات العمل المشترك لمختلف الدول، وفتحت الآفاق أمام المجتمع الدولي للتعاون متعدد الأطراف. وأبرزت وزن "الدبلوماسية الاقتصادية"، التي رافقتها "الدبلوماسية البيئية"، مع ازدياد أهمية "الدبلوماسية الشعبية"، و"دبلوماسية التنمية" لحل مشاكل دول الجنوب الفقيرة. الأمر الذي يدعو العالم إلى تشكيل منظومة عالمية لمواجهة التهديدات والأخطار الجديدة، الناتجة عن العولمة في القرن الحادي والعشرين. وهو ما دعى إليه مجلس وزراء خارجية منظمة الأمن والتعاون في أوروبا بجلسته التي عقدها بمدينة بورتو في بداية ديسمبر/كانون أول 2002 بمشاركة روسيا من خلال إصدار قرار لإعداد إستراتيجية تتعامل من خلالها المنظمة مع التهديدات الجديدة للأمن والاستقرار في القرن الحادي والعشرين. وتبعته موافقة الهيئة العامة لمنظمة الأمم المتحدة في منتصف ديسمبر/كانون أول 2002 على مشروع القرار الروسي "للتعامل مع تهديدات وأخطار العولمة"، والنظر في إمكانية تشكيل نظام عالمي لمواجهة تلك التهديدات والأخطار، على أن يتم دراستها وتقديم تقرير عنها للدورة التالية للهيئة العامة لمنظمة الأمم المتحدة.
العرب والساحة الإعلامية الدولية
وهذا في دولة عظمى سابقة بينما الوضع في الوطن العربي حالياً هو أشد قسوة ويعيش نكبة ليست أقل من نكبة فلسطين عام 1948 عندما قامت القوات الأمريكية و‏البريطانية بتدمير البنية التحتية للعراق واحتلاله، وهو الذي كان مهداً للحضارة العلمية والفنية والأدبية للإنسانية في عصر بابل وحمورابي،‏ وهو الذي كان في العصر الإسلامي العباسي مركز العالم ومنارته وأداة تقدمه العلمية والثقافية والحضارية،‏ وهو الذي كان أحد أعمدة الوطن العربي المعاصر، وأحد أهم البلدان النامية في حقبة ما بعد التحرر من الاستعمار الأوروبي‏.‏ والاجتياحات البربرية التي تستبيح من خلالها القوات الإسرائيلية بدعم كبير من الولايات المتحدة الأمريكية وتدمر البنية التحتية لفلسطين ولبنان وتعمل القتل والتشريد واقتلاع شعبين من مساكنهم وأرضهم على مرأى ومسمع من دول العالم دون أن يحرك ساكناً. حتى أن مؤتمر روما في تموز/يوليو 2006 خرج بما معناه تفويض لإسرائيل يطلق يدها لإبادة ما تستطيع من الشعبين الفلسطيني واللبناني واستكمال تدمير بنيتيهما التحتيتين وتدمير اقتصادهما بالكامل. ليشهد العالم ميلاد الشرق الأوسط الجديد الذي يريدونه دون أي مراعاة لمصالح شعوب المنطقة.
وهذه النكبة ليست عربية فقط وإنما هي نكبة للإنسانية وللنظام الدولي وللمنظمة الدولية التي تعتبر عنوانا له وهي الأمم المتحدة التي لم تعبأ بها لا الولايات المتحدة الأمريكية ولا إسرائيل الخارجة على النظام الدولي بحماية ودعم الولايات المتحدة الأمريكية في الشأن الفلسطيني واللبناني والعراقي،‏ وبقرارات الأمم المتحدة بشأنهم، ‏حتى وصلت الأمور إلى قصف المقرات التابعة لهذه المنظمة الدولية في العراق ولبنان بالصواريخ، وهدم تلك المقرات وقتل وجرح من كانوا فيها بما في ذلك الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في العراق‏ لا لشيء إلا لتصريحه بأن الاحتلال الأمريكي للعراق مذل وجارح للعراقيين،‏ ولابد أن الهدف الأساسي من اجتياح العراق كان تحطيم البنية الأساسية لقطاع البحث العلمي العراقي واعتقال كبار علمائه‏.‏ ووقف الاختراق العلمي الذي حققه العراق ويمكن أن يضمن القوة والمنعة للدول العربية‏ ويضمن لها التقدم العلمي والتكنولوجي والاقتصادي والقدرة علي المنافسة في الأسواق الدولية التي يتزايد انفتاحها بشكل تدريجي‏ في ظروف العولمة.‏
وللمقارنة نرى أن إسرائيل خصصت خلال الفترة الممتدة من عام 1989 وحتى عام 2000 نحو ‏2.38%‏، من دخلها القومي الإجمالي للبحث والتطوير العلمي في الوقت الذي خصصت فيه مصر أقل من ‏0.2%‏ من ناتجها القومي للبحث والتطوير العلمي، وسورية 0.18%، والإمارات العربية المتحدة 0.45%‏، والكويت 0.2%، والأردن 0.26%، أما بقية الدول العربية فلم يكن هناك أية مؤشرات عن إنفاقها على البحث والتطوير العلمي،
[10] وهذا أقل بكثير من المعدلات الدولية المخصصة للإنفاق في هذا المجال، وأقل بكثير مما تنفقه إسرائيل العدو المصيري للعرب التي أنفقت (3.8) مليار دولار أمريكي علي البحث والتطوير العلمي في عام ‏2002 فقط وهذا ضعف ما أنفقته الدول العربية مجتمعة في هذا المجال،[11] بالإضافة إلى ترهل الأجهزة الإدارية المشرفة على البحث العلمي التي تستنزف القسم الأكبر من المخصصات الموجهة للبحث العلمي في موازنة الدولة في أغلب الدول العربية.
ومن مقارنة بسيطة ليس لثمار البحث العلمي التطبيقية بل في مجال نشر المقالات والدراسات العلمية في مجال التقدم العلمي والتكنولوجي والتقني نرى أن الدول العربية مجتمعة نشرت خلال عام 1999 حوالي (3416) مقالة وبحثاً علمياً، بينما نشرت إسرائيل وحدها (5025) بحثاً ومقالة علمية وهو ما يساعدها على تبادل نتائج البحث العلمي المتكافئ نوعاً ما لتبادل المصالح في مجال التطوير العلمي مع الدول المتقدمة، خاصة وأن إسرائيل استطاعت خلال عام 2001 تصدير منتجات عالية التقنية بلغت قيمتها (7456) مليون دولار أمريكي، بينما بلغت صادرات مصر من تلك المنتجات في ذلك العام نحو (12) مليون دولار أمريكي، وتونس (154) مليون دولار أمريكي، واستوردت الدول العربية مجتمعة منتجات عالية التقنية بقيمة (314) مليون دولار أمريكي،
[12] وهذا يعني وبكل بساطة أن الدول العربية ليست منتجة وليست مستهلكة لمنتجات التقنية العالية وهذا الأمر لا يحتاج لأي تعليق. ولكن لا بد من القول أن الدول العربية مجتمعة دون استثناء بحاجة لتطوير مداخلها وتوجهاتها نحو البحث والتطوير العلمي والتكنولوجي ودخول عالم التكنولوجيا المتقدمة التي يفرضها دخول عالم اليوم عصر العولمة الشاملة وتتطلب تفعيل مراكز البحث العلمي القائمة وترشيد عملها وإيجاد الناقص منها لتكامل دائرة التعليم والإعلام والبحث العلمي وإنتاج واستهلاك التكنولوجيا المتقدمة وتنسيق الجهود على صعيد الوطن العربي.
وكمثال أورد الإعلام الذي يعتبره البعض متفوقاً على الساحة العربية دون أي إشارة لمدى الخروقات الغربية للساحة الإعلامية العربية، وعجز الإعلام العربي عن مخاطبة الساحة الإعلامية الدولية وعجزه عن إيصال الخبر والصورة في موعدها دون تأخير وفق منطق ومفهوم وتفوق وسائل الاتصال والتقنيات الرقمية المتطورة عبر الأقمار الصناعية التي استخدمتها بنجاح كبير وسائل الإعلام الأمريكية لتغطية أخبار الأحداث الإرهابية التي وقعت عام 2001 في الولايات المتحدة الأمريكية والحرب التي يخوضها الجيش الأمريكي حتى الآن في أفغانستان والعراق. وشهدت عمليات التغطية الإعلامية تطورات هائلة في القرن الحادي والعشرين، وأصبحت لا تعترف لا بالحدود الجغرافية ولا بالحدود السياسية لدول العالم. هذا إن لم نتطرق لبنوك المعلومات وطرق التعامل معها بعد تدشين مواقع إعلامية جديدة اعتبرها البعض من أولى المواقع العربية المتخصصة في مجال الإعلام الجديد يجري تحديثها بصفة دورية بهدف تزويد الإعلاميين العرب بكل ما يحتاجون معرفته عن الإعلام الجديد New Media، والتكنولوجيا المرتبطة به ومدى تأثيرها على الصناعة التي يعملون بها سواء كانت إعلاماً مقروءاً أو مرئياً أو مسموعاً، ولكن تلك المصادر (حسنة النية) لم تشر ولو بالتلميح لا لمصادر تمويل تلك المواقع ولا لمصادر معلوماتها التي ستلبي وجهة نظر مموليها لتمريرها عبر المواقع الإعلامية الجديدة، ولا لتوجهات تلك المصادر التي سيكون لها تأثير كبير دون شك على الوعي العربي وخاصة وعي الإعلاميين البسطاء الذين سينقلون عن تلك المواقع الإعلامية الجديدة عن حسن نية.
مراجع البحث:
1. أحمد السيد النجار: على ضوء خبرات نكبة العراق‏:‏ التقدم العلمي ضرورة للاستقلال والمنعة والتطور الاقتصادي. ملفات الأهرام. // القاهرة: الأهرام، 22/8/2003.
2. أوتكين أ.ي.: العولمة: التفاعل والجوهر. موسكو: 2001. (باللغة الروسية)
3. الإعلام الجديد // الكويت: صحيفة القبس، 19 مايو 2003.
4. إيفانوف ي.س.: السياسة الخارجية لروسيا في عصر العولمة. مقالات وكلمات. موسكو: 2002. (باللغة الروسية)
5. كاشليف يوري باريسوفيتش: العلاقات الدولية والثورة المعلوماتية. موسكو: العلاقات الدولية، 1/2003. (باللغة الروسية)
6. أ.د. محمد البخاري: المجتمع المعلوماتي وتداعيات العولمة. دمشق: دار الدلفين للنشر الإلكتروني (DarDolphin (TM) Publishers and Animation Cartoons)، 21/7/2006.
http://www.dardolphin.org/
7. أ.د. محمد البخاري: التبادل الإعلامي الدولي والعلاقات الدولية. مقرر جامعي. معهد طشقند الحكومي العالي للدراسات الشرقية، 2006. (باللغة الروسية)
8. أ.د. محمد البخاري: التفاعلات السياسية في وسائل الإعلام الجماهيرية. مقرر جامعي. معهد طشقند الحكومي العالي للدراسات الشرقية، 2006. (باللغة الروسية)
9. أ.د. محمد البخاري: قضايا التبادل الإعلامي الدولي في ظروف العلاقات الدولية المعاصرة. مقرر جامعي. معهد طشقند الحكومي العالي للدراسات الشرقية، طشقند: مطبعة "بصمة" 2004. (باللغة الروسية)
10. مويسييف ن.ن.: أونيفيرسوم. المعلوماتية. المجتمع. موسكو: 2001. (باللغة الروسية)
11. Huntington S., The Lonely Superpower. // “Foreign Affairs”, March/April 1999.
12. WorldBank, WorldDevelopmentIndicators2003,Table.5.12.
انتهى البحث بتاريخ 5/8/2006
هوامش:
[1] أ.د. محمد البخاري: دكتوراه علوم في العلوم السياسية DC، تخصص: الثقافة السياسية والأيديولوجية؛ والمشاكل السياسية للنظم العالمية والتطور العالمي. ودكتوراه فلسفة في الأدب PhD تخصص صحافة. بروفيسور قسم العلاقات الدولية والعلوم السياسية والقانون، معهد طشقند الحكومي العالي للدراسات الشرقية.[2] للمزيد أنظر: إيفانوف ي.س.: السياسة الخارجية لروسيا في عصر العولمة. مقالات وكلمات. موسكو: 2002. ص 5 – 6. (باللغة الروسية)[3] للمزيد أنظر: أوتكين أ.ي.: العولمة: التفاعل والجوهر. موسكو: 2001. ص 9. (باللغة الروسية)[4] للمزيد أنظر: د. محمد البخاري: قضايا التبادل الإعلامي الدولي في ظروف العلاقات الدولية المعاصرة. مقرر جامعي. معهد طشقند الحكومي العالي للدراسات الشرقية، طشقند: مطبعة "بصمة" 2004. ص 225. (باللغة الروسية)[5] للمزيد أنظر: كاشليف يو.:العلاقات الدولية والثورة المعلوماتية. // موسكو: العلاقات الدولية، 1/2003. ص121.[6] للمزيد أنظر: د. محمد البخاري: قضايا التبادل الإعلامي الدولي في ظروف العلاقات الدولية المعاصرة. مقرر جامعي. معهد طشقند الحكومي العالي للدراسات الشرقية، طشقند: مطبعة "بصمة" 2004. (باللغة الروسية)[7] Huntington S., The Lonely Superpower. // “Foreign Affairs”, March/April 1999, p. 35.[8] للمزيد أنظر: مويسييف ن.ن.: أونيفيرسوم. المعلوماتية. المجتمع. موسكو: 2001. ص 130. (باللغة الروسية)[9] للمزيد أنظر: الخارطـة الجديدة للشـرق الأوســط. صحيفة الوطن، 22/7/2006. عن موقع مجلة القوة العسكرية تموز 2006.[10] WorldBank,WorldDevelopmentIndicators2003,Table.5.12[11] للمزيد أنظر: أحمد السيد النجار: على ضوء خبرات نكبة العراق‏:‏ التقدم العلمي ضرورة للاستقلال والمنعة والتطور الاقتصادي. ملفات الأهرام. القاهرة: الأهرام، 22/8/2003.[12] نفس المصدر السابق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق